خطب ومحاضرات
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
هذه الليلة ليلة الخميس العاشر من ذي القعدة من سنة ألف وأربعمائة واثنتين وعشرين للهجرة وسيكون موضوعنا اليوم إعادة لآخر درس شرحناه وهو باب محظورات الإحرام، وذلك لأنني استمعت إلى الشريط المتعلق بمحظورات الإحرام، فوجدت أن فيه شيئاً من التشويش والارتباك، وأيضاً فيه مسائل لم تستكمل بحثها، فرأيت أن يكون هناك نوع من الإعادة لها.
وقد ذكرنا فيما سبق وهو ما نعيده اليوم أن المصنف رحمه الله قال: باب محظورات الإحرام.
محظورات الإحرام هي جمع محظور، والمحظور هو صفة لموصوف محذوف تقديره: الأفعال أو الخصال المحظورة حال الإحرام.
والحظر في اللغة هو: المنع، ومنه يقال: الحظار وهو معروف عند الفلاحين وأهل القرى، ويقصد بالحظار البيت الذي يصنع من الخوص أو السعف؛ لأنه يسمع حظاراً، مثلما تسمى الحجرة لأنه حجر عليها فكذلك الحظار.
ومنه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت له امرأة أنه مات لها ثلاثة من الولد، فقال: ( لقد احتظرت بحظار شديد من النار )، يعني: امتنعت منه.
ومن العبارات العصرية التي يستخدمونها الآن يقال: حظر التجول، ما المقصود به؟ يعني: منع التجول بسبب ظروف أمنية طارئة في بلد من البلدان، فيمنع التجول مطلقاً أو في ساعات معينة من الليل، أو ما شابه ذلك.
فهذا هو معنى الحظر.
والمحظورات هي الأشياء الممنوعة حال الإحرام.
والأشياء الممنوعة حال الإحرام تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول منها: ما هو محظور في كل الظروف وفي كل الأحوال للمحرم وغيره من المحرمات التي نهى الله تبارك وتعالى عنها، فإن جميع الذنوب والمعاصي محرمة على المسلم، وفي حال تلبسه بالعبادة يتأكد منعها، كما إذا كان صائماً، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم ).
مع أن السب والشتم والمقاتلة ممنوع على المسلم بكل حال، لكن يتأكد منعه للصائم، وكذلك حال الإحرام فإن هذه الأشياء من السباب والشتام والجدال والفسوق ممنوعة؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197].
والرفث هو الجماع ودواعيه كما ذكر ابن عباس وغيره، وهذا يعده الفقهاء من محظورات الإحرام أو لا يعدونه؟
يعدونه قطعاً بل هو أشد المحظورات، كما سوف يأتي الإشارة إليه بعد قليل.
وأيضاً يقولون في الجماع: إنه لا يفسد الحج بشيء من مقارفة أو ممارسة المحظورات إلا بالجماع، كما ذكره ابن المنذر إجماعاً، قال: أجمعوا على أنه لا يفسد الحج بفعل شيء من المحظورات إلا بالجماع، يعني: وطء الرجل زوجته، هذا جانب. إذاً: الجماع يذكرونه في المحظورات كما سوف يأتي بعد قليل.
لكن الفسوق وهو الذنوب والمعاصي، وقال بعضهم: هو الكذب، وقال بعضهم: هو السباب، وهذا من باب المثال، وإلا فإن الفسوق يدخل فيه كل معصية، ولذلك لما يقول العلماء: هذا فسق أو فسوق، يقصدون به أنه خروج عن الطاعة، كما يقال: فسقت النواة أي: خرجت من التمرة، فالفسوق هو المعاصي كلها، ولذلك كان قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197] نهياً وحثاً للمسلم على تجنب المعاصي كلها حال الإحرام؛ لتلبسه بالمعصية فيكون في ذلك نهي بعد نهي، وتأكيد بعد تأكيد.
وكذلك قوله تعالى: وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] والمقصود فيه الجدال بالباطل، قال بعضهم: مثل أن يقول: لا والله وبلى والله، وهذا أيضاً مثال، وهو مثال صغير كما في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، فهذا من صغير الجدل، أن تقول: لا والله، وبلا والله، لكن يمتد الجدل إلى ما وراء ذلك مما يقارفه الإنسان، وقد يقع بالحاج نوع حاجة إلى مثل ذلك؛ ولهذا تأكد النهي عن الجدل بغير حق، وأشد منه الجدل بالباطل، مثل أن يجادل الحاج لنصرة قول باطل، أو للإصرار على رأي خطأ، أو لظلم أحد، أو للبغي على أحد، فإن هذا كله من الممنوع، وهو من محظورات الإحرام، وليس فيه كفارة، وإن كان نقل عن الأوزاعي رحمه الله أنه رأى في ذلك الفدية، ولكن لا أحد من أهل العلم وافقه على ذلك، أو قال: إن في مثل هذه المحظورات التي هي محرمة أصلاً أن فيها فدية، وإنما يتأكد على الحاج تجنبها والبعد عنها، هذا نوع.
وهل يدخل في ذلك المكروهات، الأقرب أنها لا تدخل في الحظر؛ لأن الحظر غالباً إنما يطلق على المنع كما ذكرنا، والمكروه ليس بممنوع بالإطلاق وإن كان مرغوباً عنه، والأفضل للمؤمن تركه، ولكنه لا يدخل في معنى الحظر والله أعلم إلا على سبيل التورع والتقوى وبابها واسع.
النوع الثاني من المحظورات، هي المحظورات التي يذكرها الفقهاء ويعدونها، وهي الأشياء التي تكون مباحة في غير الإحرام، وتكون محرمة حال الإحرام، مثلها في ذلك مثل مفطرات الصائم، فإن الصائم لو اغتاب أو سب وهو صائم هل يفسد صومه؟ لا يفسد، لكن لو أنه أكل أو شرب مع أن الأكل والشرب في غير الصيام مباح، فلو أكل أو شرب عامداً ذاكراً لصومه فسد صومه، كما سبق في كتاب الصيام.
إذاً: القسم الثاني من المحظورات: هي الأشياء التي تمنع حال الإحرام، أو يمنع منها المحرم حال تلبسه بالإحرام، وتجوز في غيره، وهي تسع مسائل أو تسع خصال ذكرها المصنف وغيره.
لكن لابد من التقدمة لها بمقدمة لطيفة، وهي أنه من الملاحظ أن الحج إنما شرعه الله تبارك وتعالى لعباده ليتربوا على ترك الترفه والتوسع في المباحات؛ ولهذا شرع للإنسان أن يتخفف من ثيابه، حتى إنه لا يلبس إلا إزاراً ورداءً مجردين، ليس فيهما تكلف في الزينة ومبالغة في إظهار الحسن أو الغنى أو الجمال أو الرفاهية أو ما شابه ذلك.
وهذا مشهور معروف أن الحج من خصاله وأسراره تذكير الإنسان بالموت والآخرة والخروج من الدنيا وبالاستعداد للقاء الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك لا يلبس إلا ما ذكرنا ولا يتطيب ولا يقص أظافره ولا يحلق شعره ولا يمارس شيئاً مما يدخل في هذا الباب، وكذلك لا يقرب زوجته بالجماع ولا بدواعي الجماع ومقدماته، على ما سوف يأتي تفصيله.
ولكن مع ذلك فإن هناك سعة جعلها الله سبحانه وتعالى في الحج ربما لم توجد في غيره من العبادات، فإننا نجد مثلاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج كان لا يسأل يوم العيد عن شيء قدم ولا أخر من أفعال يوم العيد التي هي: الرمي والنحر والحلق والطواف، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الصحيحين لا يسأل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ( افعل ولا حرج )، فهذه توسعة ربما لا توجد في غيرها من العبادات؛ لأننا في الصلاة لو أنه قدم الركوع على السجود أو قدم القعود على القيام هل يجوز له ذلك؟ هل تصح صلاته؟ كلا. فهذه توسعة في الحج لا توجد في غيره.
وكذلك نجد أن الحج له رخصة فيما يتعلق بالنية وهي من أعظم مقاصد العبادة، فالحاج قد ينوي حجه نفلاً فينقلب حجه إلى فرض، والعكس قد ينوي الحج فريضة فينقلب إلى نافلة متى يكون هذا؟
مثلاً: لو أنه لم يحج من قبل وقال: المرة هذه أريد أن أحج نافلة حتى أتدرب والعام القادم أحج فريضة، فإن حجه يقع فرضاً، والعكس لو أنه حج العام الماضي لكنه حج مع قوم سفهاء، ويقول: فرطنا وضيعنا وجهلنا وهذا العام أريد أن أجعل حجي فريضة وحجة العام الماضي أقلبها إلى نافلة، فإن حجه يقع نافلة ولو نواه هو فريضة.
وكذلك قد ينوي الحج عن غيره فيقع لنفسه مثل لو نواه عن فلان، مثل الحديث الوارد: ( لبيك عن
وقد يحرم بنسك مبهم كما أحرم علي رضي الله عنه، وقال: لبيك بما أحرم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عرف أن النبي عليه الصلاة والسلام أحرم بالقران؛ لأنه كان ساق الهدي، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، وأمر علياً أن يكون قارناً مثل النبي عليه الصلاة والسلام.
فنجد في الحج توسعة كثيرة من هذا القبيل، بل إننا نجد في المحظورات نفسها أن من محظورات الإحرام حلق الرأس، وهذا كما سوف يأتي إثباته في الكتاب والسنة والإجماع، ومع هذا فإن في هذا المحظور توسعة بحيث إذا احتاج الإنسان إلى حلق رأسه جاز له ذلك وأن يفدي كما في قصة كعب بن عجرة وسوف أشير إليها بعد قليل.
الأمر الآخر: أن ثمة أشياء كثيرة جداً مما قد يذكره بعض الفقهاء أو يتورع عنه بعض الناس وليس لهم في ذلك دليل، من الأشياء التي يتركونها ويتجنبها حال الإحرام، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يغتسلون حال الإحرام كما نقل عن بعضهم أنه قال: إنني اغتسلت في إحرامي في يوم واحد سبع مرات، وكان عمر رضي الله عنه يسأل يعلى يقول: أأغسل رأسي بالماء؟ قال: أنت أعلم يا أمير المؤمنين، قال عمر : اغسله فإن الماء لا يزيده إلا شعثاً، يعني: غسل الرأس بالماء ليس فيه شيء، ليس فيه طيب ولا شيء من هذا القبيل، وإنما هو تنظيف محض.
ومثل ذلك أيضاً أن عمر رضي الله عنه -كما في سنن البيهقي والدارقطني وذكره ابن حزم وغيره- كان يترامس هو وابن عباس أو يتباقون في الماء، يغوصون في الماء أيهم أكثر بقاءً داخل الماء دون أن يتنفس، وهذه فيها نوع من الدعابة، وفيها نوع من التبسط، وعمر الخليفة الفاروق يقوم بهذا العمل مع شاب كـابن عباس، من أجل المباسطة والتسهيل، وأيضاً القرب من مشاعر الشباب وعواطفهم وأحاسيسهم وتكوينهم ورغبتهم في مثل هذه الأمور.
وهذا دليل على ما جبل عليه عمر رضي الله عنه من الحصافة والفقه والمعرفة، وفعله ذلك في حال الإحرام هو دليل أيضاً على التوسعة في مثل هذه الأمور.
وكذلك ورد أنه اختلف ابن عباس رضي الله عنه والمسور بن مخرمة في مسألة الاغتسال وغسل المحرم رأسه، فكان ابن عباس يقول: يغسل، والمسور يقول: لا يغسل، فأرسلوا عبد الله بن حنين إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدوه يغتسل، فأخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل رأسه أو ما أشبه ذلك.
فالمقصود أن مثل هذه الأشياء كلها من التوسعة، وأيضاً نقل عن العباس رضي الله عنه أنه كان يقول: (لا بأس أن يشم المحرم الريحان، وأن ينظر في المرآة، وأن يدخل الحمام) وبعض الفقهاء ينصون على النهي عن مثل هذه الأمور ولا دليل عليها.
بل إن من جميل السجع [أن عثمان رضي الله عنه سئل: أيدخل المحرم البستان؟ قال: نعم، ويشم الريحان] فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: (ماذا يصنع الله بأذاكم أو بوسخكم) لا مانع أن يدخل الإنسان الحمام وهو المكان الحار الذي يزيل فيه شعثه، ويزيل فيه الوسخ عن بدنه، وأن يغتسل ويتنظف فيه. فهذه الأشياء كلها مما لا بأس به.
ومثله أيضاً التبرد: سواء كان بالماء البارد أو بالمكيف أو بغيرها أو بالمروحة، ومثله أيضاً الاستظلال سواء كان بشجرة أو بسيارة أو بسقف بيت أو بشمسية أو بغيرها، أو حتى لو وضع على رأسه شيئاً ليس بقصد التغطية ولكن لأنه يريد أن يحمله، فكل هذا مما وسع الله تعالى فيه.
ولعل من الطريف الذي ذكرناه سابقاً أن الشعبي سأله رجل قال: أيحك المحرم جلده؟ قال: نعم، قال: إلى أين؟ قال: إلى أن يبلغ العظم, وكان رجلاً معروفاً بالدعابة رحمه الله.
إذاً: هذه الأشياء كلها مما لا بأس فيها.
ننتقل إلى المحظورات، المحظورات تسعة، والفقهاء اختلفوا في طريقة تنظيم أو تقسيم هذه المحظورات، وهو اختلاف كبير جداً؛ لكن من أسهلها وأبسطها أن من الفقهاء من قسم المحظورات إلى قسمين:
القسم الأول: ما يفسد به الحج وهو: الجماع.
القسم الثاني: ما لا يفسد به الحج وهو الباقي.
وقسموا هذه الأشياء إلى أربعة أصناف: منها ما يرجع إلى اللباس، كتجنب المخيط مثلاً وتجنب لبس العمامة، ومنها ما يرجع إلى الطيب وما يجري مجراه من إزالة التفث، فيدخل في ذلك ترك الطيب، ويدخل فيه ترك الحلق مثلاً، ومنها ما يرجع إلى توابع الجماع كمقدمات الجماع مثل القبلة والضم، وأيضاً العقد حال الإحرام، ومنها ما يرجع إلى قتل الصيد، فهي تنقسم إذاً إلى أربعة أقسام.
الجماع
الحالة الأولى: أن يكون قبل الوقوف بـعرفة، وهذا مفسد للحج عند جميع العلماء، عند الأئمة الأربعة، عند ابن حزم وهو المنقول عن السلف، وثبت فيه آثار عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كـعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس، وهو المنقول عن جمهور السلف، بل ما نقل عن السلف إلا هذا: أن الجماع قبل الوقوف بـعرفة مفسد للحج.
الحالة الثانية: أن يكون الجماع بعد الوقوف بـعرفة وقبل التحلل الأول، وذكرنا أن التحلل الأول قد يحصل برمي جمرة العقبة على أحد الأقوال، وهو القول الذي اخترناه لقوة دليله، فمعناه: لو أن إنساناً بعدما وقف بـعرفة وقع على امرأته قبل أن يرمي جمرة العقبة، يعني: ليلة مزدلفة مثلاً، ففي هذه الحالة الجمهور أيضاً على أنه يفسد حجه وهو مذهب الثلاثة: أحمد ومالك والشافعي خلافاً لـأبي حنيفة، فإنه يرى أنه لا يفسد حجه بذلك، بماذا احتج أبو حنيفة ؟ احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحج عرفة ) فقال: إنه ما دام أدى الحج ووقف بـعرفة فإنه تجاوز ولا يفسد حجه، وله حجة ثانية وهي في تقديري أنها قوية وجيدة، قال: إن الإنسان إذا وقف بـعرفة أمن فوات الحج، فكذلك إذا أمن الفوات فإنه يأمن الفساد، وبناءً عليه نقول: إن الجماع بعد الوقوف بـعرفة لاشك في تحريمه وعليه فدية عند جميع الأئمة الأربعة لكنه لا يفسد به الحج.
الحالة الثالثة: هي أن يجامع بعد التحلل الأول أياً كان الأمر الذي يحصل به هذا التحلل، وهذا لا يفسد به الحج عند جميعهم، وإن كانوا يوجبون عليه به فدية.
إذاً هذا التقسيم مهم فيما يتعلق بأمر الجماع.
ما هي الفدية الواجبة على من جامع وهو محرم؟
الفدية الواجبة عند الأئمة الثلاثة الذين هم أحمد وأبو حنيفة والشافعي يقولون: إن حجه يفسد أولاً، وعليه المضي في هذا الحج الفاسد، وعليه بدنة، وعليه أن يحج من العام المقبل هو وزوجته، وزاد علي رضي الله عنه وابن عباس في رواية: (إنه في حج العام المقبل عليهما أن يتفرقا إلى أن ينتهيا من حجهما).
فهذه خمسة أشياء أوجبها هؤلاء الأئمة، والدليل على ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، ذكره النووي في المجموع، ونسبه إلى البيهقي، والبيهقي قال: منقطع فلا يصح المرفوع، وأيضاً جاء عن عمر رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب، وجاء عن ابن عباس وابن عمر وابن عمرو بن العاص في أثر من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وهذه الآثار يشد بعضها بعضاً عند هؤلاء الأئمة، وبموجبها قالوا: بأن عليه الالتزام بهذه التكاليف أو الواجبات الخمسة المذكورة فيما مضى، هذا مذهب جمهور العلماء.
وهناك رواية أخرى في هذه المسألة أو قول آخر أو حتى مجموعة أقوال، منها: أن ابن حزم رحمه الله في المحلى نقل عن جماعة أقوالاً مختلفة، مثلاً: نقل عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سئل عن ذلك؟ فقال للسائل: أف لا أفتيك بشيء، وهذا لا يدل بالضرورة على أن جبيراً يخالف هؤلاء، لكن قد يدل على أنه متوقف في هذه المسألة، أو ليس عنده فيها خبر أو توقيف.
وكذلك نقل ابن حزم عن مجاهد وطاوس رضي الله عنهما أنهما يقولان: يصير حجه عمرة، يعني: يقلب حجه إلى عمرة، وعليه حج من قابل، وعليه بدنة، لكنهم نازعوا هنا في كونه يمضي في الحج الفاسد، وقالوا: يقلبه إلى عمرة، وهذا أيضاً منقول عن الحسن البصري كما ذكره صاحب المغني، وذكره أيضاً صاحب الإنصاف، بل من الجيد أنه رواية في مذهب الإمام أحمد، وهو أيضاً قول مالك على ما ذكره صاحب المغني وصاحب الإنصاف، وهذه من الأشياء الجيدة التي تظهر بالبحث، فإنه نقل قولاً لـمالك ورواية عن الإمام أحمد، وهو قول من ذكرنا أنه يقلب حجه إلى عمرة، وهذا أسهل من كونه يمضي في الحج الفاسد، ولم يذكر بعض هؤلاء أن عليه حجاً من قابل. كذلك قتادة قال: (يرجعان إلى الميقات ويهلان بعمرة) فيما رواه عنه ابن حزم، وذكرنا بعض هذه الأقوال.
أيضاً الإمام أحمد رحمه الله يقول: أحب إلي أن يعتمر من التنعيم، يعني: من أتى أهله وهو محرم، وقال: يجعل الحج عمرة، ولا يقيم على حجة فاسدة.
إذاً: المسألة فيها أقوال، أيضاً عكرمة روي عنه أنه يقول ولا أظنه إلا عن ابن عباس أنه قال في الذي يصيب أهله قبل أن يفيض، يعني: قبل أن يطوف طواف الإفاضة، قال: [ يعتمر ويهدي ] وهذا رواه النجاد عن عكرمة عن ابن عباس .
إذاً: المسألة ليس فيها إجماع كما قد يبدو، بل فيها خلاف وخلاف قوي، وليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون ما أفتى به هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم على سبيل الزجر والتأديب والتعزير، وليس على سبيل التقرير والتشريع العام لكل الناس، وقد يكون اجتهاداً أو رأياً لهم، والدليل على ذلك أنه لما سأل ابن عمر رضي الله عنه الرجل الذي وقع على امرأته، أتى إلى ابن عمر فسأله، قال: اذهب إلى عبد الله بن عباس فاسأله، فسأل ابن عباس ورجع إليه، ثم سأل عبد الله بن عمرو بن العاص ورجع إليه، فقال له: أقول مثل قولهم، مما يدل على أنه لم يكن عنده تأكيد في هذه المسألة وإنما هي نوع من المباحثة والمذاكرة فيما بينهم على هذا، وقد نقلنا أن من السلف من نازع في ذلك.
وهكذا داود الظاهري منقول عنه أنه لا يلزمه بشيء في ذلك، وهو مذهب ابن حزم فيما يظهر، ولهذا أقول: إن القول المختار والله تبارك وتعالى أعلم فيمن وقع على أهله قبل أن يقف بـعرفة أن نقول: إن المسألة فيها أقوال، قول الجمهور: أنه يلزمه خمسة أشياء: فساد حجه، المضي في فاسده، أن يهدي بدنة، أن يحج من العام القابل، أن يتفرق مع زوجته، وإن كان هناك خلاف في هذه المسألة في التفرق، منهم من قال بها وجوباً، ومنهم من قال بها استحباباً، بل إن النووي رحمه الله قال: لو أنه أفسد حجته الثانية من العام القابل لوجب عليه أن يقضي الحجة الأولى إلى مائة حجة، يعني لو حج مائة مرة وكل مرة يفسد الحجة نقول: يجب عليه أن يحج الحجة الأولى.
وهذا طبعاً فيه شيء من الافتراض، لكن هذا هو قول الجمهور.
القول الثاني وهو ما نسب إلى مالك كما ذكرناه نقلاً عن الإنصاف ونقلاً عن المغني وإن كنت حقيقة لم أجد في كتب المالكية ولم أستقصي البحث، لكن لم أجد شيئاً واضحاً في هذا، أنه يقلب حجه عمرة ويقولون عليه في ذلك فدية، عليه بدنة، والبدنة المقصود بها الناقة.
طبعاً لو أفسد حجه بعد الوقوف بـعرفة، طبعاً الأحناف يوجبون عليه بدنة أيضاً، لكنهم عندهم قبل عرفة عليه شاة، وهذا غريب في القياس؛ لأنهم يقولون: قبل عرفة عليه شاة، وبعد عرفة عليه بدنة لماذا؟ المفترض أنه يزيد وليس ينقص، قالوا: لأنه قبل عرفة فسد حجه فيكون عليه شاة فقط، أما بعد عرفة فهم عوضوا أن حجه صحيح، وبالمقابل جعلوا عليه تبعة أنه يهدي بدنة، أما إذا كان بعد التحلل الأول فعليه شاة عند الجمهور.
هذا ما يتعلق بمسألة الجماع، وهي من المسائل العويصة.
حلق الشعر للمحرم
قال: [ ففي ثلاثة منها دم، وفي كل واحد مما دونه ] يعني الصواب: [ وفي كل واحد فما دونه ] فلتصحح، [ مد طعام وهو ربع الصاع، وإن خرج في عينه شعر فقلعه أو نزل شعره فغطى عينه، أو انكسر ظفره فقصه فلا شيء عليه ].
هذا هو المحظور الأول والثاني وهو حلق الشعر، أما حلق الشعر فهو من المحظورات بالكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب فأين الدليل فيه؟ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، وأما السنة فما في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة قال: ( أتي بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: لعله آذاك هوام رأسك؟ فقلت: نعم يا رسول الله، فأمرني أن أحلق رأسي، وأن أنسك شاة، أو أصوم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين )، فهذه هي الفدية.
فمن حلق رأسه حتى لو كان لعذر كما في قصة كعب بن عجرة، فإنه تلزمه في ذلك الفدية، ولذلك فإن قول المصنف رحمه الله: [ ففي ثلاثة منها دم ]، فيه شيء من التسامح والصواب أن يقول: فيها الفدية، وليس بلازم أن تكون الفدية دماً، قد تكون دماً أو صياماً أو إطعاماً، فأما ذبح شاة فهذا معروف، وهي على التخيير، لذلك يقول العلماء في هذه الفدية: إنها مخيرة مقدرة، فأما كونها مخيرة فإن الخصال الثلاث كلها على سبيل التخيير وليست على سبيل الترتيب كما في كفارة الوطء في نهار رمضان، أو كفارة الظهار، وإنما هي على سبيل التخيير.
الأمر الثالث: أنها مقدرة، بمعنى أنه إذا انتقل من خصلة إلى التي تليها فإنه ينتقل إلى خصلة أيضاً محددة لا تزيد ولا تنقص، فالخصلة الأولى هي أن يذبح شاة، فإذا ترك هذه الخصلة حتى مع قدرته عليها فبإمكانه أن يصوم ثلاثة أيام، فإذا ترك هذه الخصلة مع القدرة عليها فبإمكانه أن يطعم ستة مساكين، وما قدر الإطعام؟
جاء في صحيح مسلم أنه يطعم فرقاً، والفرق ثلاثة أصواع، يعني: يطعم كل مسكين نصف صاع، وقد ذكرنا سابقاً أن الصاع أربعة أمداد، والمد هو بقدر الكفين المعتدلتين، وقدرنا الصاع بالجرامات أكثر من مرة تقريباً، وذكرنا أنه ألفان وسبعمائة جرام، وهذا نقلناه عن الشيخ رحمه الله.
إذاً: الأمر الثاني هو موضوع حلق الشعر.
ولو أن الإنسان حلق شعره، حلق ثلاث شعرات، في المذهب بعضهم يقول: عليه دم، لأنه أقل الجمع، وفي رواية: أربع؛ قال: لأن الأربع كثير، الثلاث هي أقل الجمع لكنها قليل، أما الأربع فهي كثير، وبعضهم يقول: خمس، لأن الخمس قياساً على الأظفار، الأظفار إذا الواحدة خمسة وفيها دم عندهم، فقالوا: كذلك خمس شعرات فيها دم.
وكل هذه الأقوال هي تحريات ليس فيها نصوص شرعية ولا أقوال عن الأصحاب رضي الله عنهم وليس عليها إجماع، ولذلك قال كثير من الفقهاء: إن عليه في الثنتين وعليه في الثلاث وفي الأربع وفي الخمس أن يتصدق مثلاً بدينار أو أن يطعم مسكيناً أو يتصدق بشيء؛ لأنه ليس فيها حد محدود، وقد يتجه أن يقال: إنه ليس عليه في شيء من ذلك كفارة؛ لأن هذا لم يرد نص فيه، ولا يقال لمن قلع شعرة: إنه قد حلق رأسه، وإنما الحلق يكون بحلق الرأس كله أو بقصه أيضاً، لو قص رأسه كله.
وهل يلحق بشعر الرأس شعر البدن؟ كشعر الإبطين أو شعر العانة أو الصدر أو الفخذين أو غيرهما؟
المؤلف رحمه الله عنده لفظان في الكتاب، في بعضها يقول: [حلق الشعر]، وفي بعضها: [حلق الرأس]، فإذا قال: حلق الرأس فمعنى ذلك أنه لا يدخل حلق بقية البدن فيه، لكن إذا قال: حلق الشعر، دخل فيه حلق الرأس وغيره، والأقرب أنه يدخل في ذلك فيكون ممنوعاً منه، لكن الفدية المنصوصة هي على من حلق شعر رأسه. طيب هذا واحد.
تقليم الأظافر والخلاف فيه
وهذا مثل ما ذكره المصنف فيمن خرج من عينه شعر فقلعه فليس عليه في ذلك فدية، حتى عند من يوجبون الفدية، ومثله أيضاً لو نزل شعره على عينه فقصه لئلا يؤذيه أو يمنعه من النظر، فليس عليه في ذلك فدية، وهكذا قال: إذا انكسر ظفره فقصه فليس عليه في ذلك شيء.
الفدية المتعلقة لمن ارتكب محظوراً
فقالوا: كذلك الشأن في بقية المحظورات، لكن بعض العلماء كالظاهرية، داود الظاهري وابن حزم، وهو منقول عن جماعة من السلف كما نقل عن بعضهم، وكذلك اختاره الشوكاني وغيره قالوا: إنه ليس عليه شيء إلا ما ورد النص فيه، ومما يعزز هذا القول أنهم قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل في الحديث: ( ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد خفين فليلبس النعلين ).
ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإنسان الذي لم يجد لم يأمره بالفدية، ولا أوجب عليه صياماً، ولا إطعاماً، ولا نسكاً، فهذا دليل على أنه ليس عليه في ذلك شيء، فليس على من لبس السراويل لأنه لا يجد غيرها شيء، ولا على من لبس الخفين لأنه لم يجد نعلين شيء.
فقالوا: هذه التوسعة أولى بالاتباع وأن تقاس عليها بقية المحظورات لمن فعلها جاهلاً أو فعلها ناسياً أو فعلها محتاجاً إليها، أولى من قياسها على من حلق شعر رأسه.
قال بعض الفقهاء: بينهما فرق؛ لأن حلق شعر الرأس لا يحتاج إليه إلا قليل من الناس، يعني: كم واحد يكون في رأسه قمل أو يكون في رأسه مرض يؤذيه ويؤلمه فيحتاج إلى حلقه، هذا قليل جداً، بينما قالوا فيما يتعلق بلبس السراويل خصوصاً في وقت مضى، فإن هذا تكثر الحاجة إليه، ولهذا وسع الشرع فيه.
فنقول: هذا التفريق جيد، ولكن يقابل ذلك فرقاً آخر وهو أن ما يتعلق بشعر الرأس هناك ما يدعو إلى اعتبار الفدية فيه، وهو أن حلق الشعر من المناسك، فإن المحرم يوم العيد يرمي جمرة العقبة ثم ينحر ثم يحلق رأسه ثم يطوف بالبيت، فكان حلق الرأس من المناسك عند كثير من الفقهاء، وحتى الذين يقولون: ليس نسكاً ولكنه إذن بالخروج من النسك، فحلق الرأس علامة على الخروج من النسك أيضاً.
فهذا يدل على أن حلق شعر الرأس له تعلق بالنسك، فكان تقديم الإنسان له وحلقه وهو محرم لأنه محتاج إليه لوجود القمل أو وجود مرض في رأسه أو ما أشبه ذلك موجباً لحصول الكفارة، بخلاف ما يتعلق باللبس فإنه ليس له شيء من ذلك؛ ولهذا لو ظل المحرم على لباس الإحرام، فإن هذا لا يغير من الأمر شيئاً ولا تعلق له بإحرامه، بل كثير من الناس ربما في بعض الأمصار إلى وقت قريب كان لباسهم يشبه لباس الإحرام الذي يلبسه الناس حال الإحرام.
فهذا يدل على أن مسألة إيجاب الفدية فيها شيء من النظر، ونحن نقول: إن جمهور العلماء على إيجاب الفدية على من فعل محظوراً، على تفصيل بينهم سوف يأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
لكننا نقول: ينبغي أن يكون في ذلك نوع من التوسعة، فمن أوجب الفدية من الفقهاء والعلماء والمفتين فإنه لم يأت بقول فائل ولا بقول خاطئ ولا بقول مخالف لما نقل عن الأئمة وإنما هو قول مأثور مشهور معروف متوارث، وكتب الفقه تزدحم بمثل هذا القول وتفيض به، بل هو المنقول عن عامة أهل العلم، وينبغي أن يكون هذا القول متقبلاً معروفاً مقراً به، وأن لا يكون هناك ضيق أو تبرم على من يفتي بمثل هذا. ومسائل الفروع قد لا توجد أدلة واضحة ظاهرة لكل تفاصيلها، هذا جانب.
ومن الجانب الآخر ينبغي أن يكون للمفتي نوع من الرعاية لحال الحاج، فكثير من الحجاج يكونون جهلة وغرباء وفقراء وضعفة وأحوالهم صعبة، وقد يقع الواحد منهم في عدة محظورات، فربما أتى إلى عالم فسأله أو فقيه أو طالب علم ربما أفتاه بأربعة دماء أو خمسة دماء دون أن يكون هذا الرجل مراعياً لحاله، مع أنك إذا تأملت وجدت أن في أقوال الفقهاء إساءة كبيرة جداً في مثل هذا، في تفاصيل المسائل كما سوف يرد الإشارة إلى شيء منها.
فينبغي رعاية حال الإنسان، ولهذا نقل عن عطاء حتى في مسألة من جامع زوجته أنه قال: [ يهدي بدنة إن كان ذا ميسرة ] فأشار أو راعى حال الإنسان إن كان غنياً لا يهمه، بل بعض الناس ربما أسعد له أن تقول له بالفدية حتى يخرج من تأنيب أو شعور بالخطأ أو الذنب، أو قد تكون هذه حجة الإسلام، وربما لا يحج غيرها فأحب عليه، وربما لو قلت: ليس عليك إلا أن تتوب أو تستغفر لقال: أنا أحب أن أقدم شيئاً.
ثم إننا نقول أيضاً: إن الصدقة مشروعة بكل حال، وهي من المحرم أيضاً مطلوبة، زد على ذلك أن من المعروف أن هناك أعمالاً من المحظورات جاء فيها ذكر الصدقة وجاء فيها ذكر الفدية، فإلحاق غيرها بها ليس أمراً غريباً أو منكراً، لكن ينبغي رعاية حال الحاج وحال الإنسان فيه، فإن وجد الحاج عالماً أو وجده متجرئاً أو وجده غنياً أو وجده رغماً في ذلك حثه عليه وشجعه، وإن وجد أموره بخلاف ذلك أو كان فعله بسبب جهالة أو بسبب إكراه أو بسبب ضرورة أو نسيان أو ما أشبه ذلك، فليس عليه في هذا شيء إن شاء الله تعالى.
طبعاً فيما يتعلق بقص الأظفار مثلاً، قلنا: ليس فيه نص، وأيضاً من الفقهاء من قال: إنه ليس من محظورات الإحرام، وهذا نوع من التوسعة، يعني جاءك إنسان وقال: أنا قصصت ظفري فلا تقل: عليك شاة أو حتى قص ظفر أو ظفرين، وإنما تقول: تب واستغفر ولا تعد؛ لأن المسألة أصلاً لا تخلو من خلاف، وأصل موضوع الفدية أيضاً فيه شيء من الغموض في وجه إيجابه ودليله.
فمسألة قص الأظفار ليس فيها نص كما ذكرنا، وليس فيها إجماع، بل ابن حزم لا يراها من المحظورات، والإمام أحمد له في ذلك رواية.
لبس المخيط للمحرم
والمقصود بالمخيط: هو ما يخاط على هيئة وقدر البدن أو عضو من أعضاء البدن، كالثوب مثلاً أو الفنيلة أو السراويل أو الطاقية أو نحوها، وفي السابق كانت العمامة أو القباء أو القلنسوة أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي تخاط؛ ولذلك بعض الفقهاء يقول: المخيط المحيط.
وهذه الكلمة لبس المخيط لم ترد في القرآن ولا في السنة بهذا الاصطلاح، وإنما الفقهاء استخدموها من باب التسهيل والتقريب للناس فوقع بسببها لبس عند بعض الطلبة، وظنوا أن كل مخيط فإنه لا يلبس، وأن العلة هي في الخياط، وهذا غلط، ولذلك لو انشق الإزار الذي يلبسه فخاطه جاز له أن يلبسه باتفاقهم ولا شيء عليه في ذلك، وكذلك الرداء لو انشق فخاطه.
وإنما المقصود بالمخيط: الثوب المعتاد الذي يلبسه الإنسان عادة في غير الإحرام كما مثلنا، فإن هذا لا يجوز للإنسان لبسه؛ ولذلك نقول: إن الثياب التي يلبسها بعض الناس الآن وتكون مخيطة من الوسط بجمع طرفيها وقد يوضع فيها تكة وقد يلحق بعضهم بها، يعني: أن يجعل فيها جيباً يضع فيه نفقته أو جواله أو ساعته أو متاعه أو ما أشبه ذلك أن هذا لا بأس بأن يلبسه الإنسان؛ لأنه لا يدخل في المخيط هذا يسمى إزاراً، والبخاري رحمه الله بوب على هذا بلبس الإزار.
ولعل أكثر الناس في الماضي كانوا يلبسون مثل هذا؛ لأنه في عهد الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا والله أعلم متيسراً عندهم أن يجدوا قطعاً من القماش كما نجد نحن الآن ما يسمى بالإحرام، فيلفون على أسفل أبدانهم نوعاً ويلفون على أعلاه النوع الآخر، لم يكن هذا موجوداً ولا متيسراً بالضرورة، بل يعرف الإنسان الذي يقرأ سيرهم أنهم كانوا قل ما يجدون من اللباس، والذي يجدونه في الغالب أنه قد يكون مخيطاً، ولكن هناك توسعة وإذن شرعي بلبس المخيط الذي يكون إزاراً في أسفل البدن بخلاف الرداء. فما كان يسمى إزاراً أو أزرة أو نسميه نحن وزرة فإنه يجوز للإنسان لبسه حال الإحرام.
وهناك فتوى لـابن تيمية رحمه الله، يقول فيها في شرح العمدة، وتقريباً هي نص في المسألة، يقول: إن خيط أو وصل لا ليحيط بالعضو ويكون على قدره مثل الإزار والرداء الموصل والمرقع ونحو ذلك فلا بأس به، فإن مناط الحكم هو اللباس المصنوع على قدر الأعضاء، وهو اللباس المحيط بالأعضاء واللباس المعتاد.
إذاً: كلام ابن تيمية رحمه الله يشير إلى هذه المسألة، وأن العلة ليست في الخياط وإنما العلة في كونه مصنوعاً على قدر البدن؛ ولهذا ورد النهي عن السراويل، ومن لم يجد هذا المخيط جاز له كما في الحديث الثالث أن يلبس السراويل على هيئتها وليس عليه في ذلك فدية. وكذلك من لم يجد نعلين فإنه يلبس الخفين وليس عليه شيء.
وهل يلزمه أن يقطع الخفين حتى يكون أسفل من الكعبين؟ في ذلك روايتان وقولان للفقهاء: أصحهما أنه لا يلزمه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث ابن عباس وهو كان يوم عرفة قال: ( من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ) ولم يأمرهم بالقطع، ومن المعلوم أن الذين حضروا معه بـعرفة كانوا خلقاً كثيراً، وكثير منهم لم يكن يعلم أصلاً أن لبس الخفين ممنوع وأن لبس الإزار ممنوع إلا لما أخبرهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرهم بالقطع، وجاء الأمر بالقطع في حديث ابن عمر الذي كان عند الإحرام، فكان هذا هو آخر الأمرين من الرسول صلى الله عليه وسلم: ترك الأمر بالقطع، بل قال عطاء : إن القطع ربما يكون فيه نوع من إفساد هذه الخفاف.
لا بأس أن نبدأ بالأول منها؛ لأنه ربما فيه شيء من الكلام الذي يحتاج إلى تفصيل وهو ما يتعلق بالجماع، والمؤلف أخر هذا وربما كان كلامه في الجماع هو الأخير فيما أعتقد أو ما قبل الأخير، المؤلف جعل الجماع هو التاسع، فقال: [الوطء في الفرج]، ونحن لا بأس أن نبدأ به كما ذكرت لأهمية البحث في الموضوع، ففيما يتعلق بالجماع فهو من المحظورات بإجماع العلماء واتفاقهم، بل اتفق العلماء وأجمعوا على أن الجماع قبل الوقوف بـعرفة مفسد للحج لا خلاف بينهم في ذلك، ولكن لا بأس أن نقول: إن الجماع يكون في ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون قبل الوقوف بـعرفة، وهذا مفسد للحج عند جميع العلماء، عند الأئمة الأربعة، عند ابن حزم وهو المنقول عن السلف، وثبت فيه آثار عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كـعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس، وهو المنقول عن جمهور السلف، بل ما نقل عن السلف إلا هذا: أن الجماع قبل الوقوف بـعرفة مفسد للحج.
الحالة الثانية: أن يكون الجماع بعد الوقوف بـعرفة وقبل التحلل الأول، وذكرنا أن التحلل الأول قد يحصل برمي جمرة العقبة على أحد الأقوال، وهو القول الذي اخترناه لقوة دليله، فمعناه: لو أن إنساناً بعدما وقف بـعرفة وقع على امرأته قبل أن يرمي جمرة العقبة، يعني: ليلة مزدلفة مثلاً، ففي هذه الحالة الجمهور أيضاً على أنه يفسد حجه وهو مذهب الثلاثة: أحمد ومالك والشافعي خلافاً لـأبي حنيفة، فإنه يرى أنه لا يفسد حجه بذلك، بماذا احتج أبو حنيفة ؟ احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحج عرفة ) فقال: إنه ما دام أدى الحج ووقف بـعرفة فإنه تجاوز ولا يفسد حجه، وله حجة ثانية وهي في تقديري أنها قوية وجيدة، قال: إن الإنسان إذا وقف بـعرفة أمن فوات الحج، فكذلك إذا أمن الفوات فإنه يأمن الفساد، وبناءً عليه نقول: إن الجماع بعد الوقوف بـعرفة لاشك في تحريمه وعليه فدية عند جميع الأئمة الأربعة لكنه لا يفسد به الحج.
الحالة الثالثة: هي أن يجامع بعد التحلل الأول أياً كان الأمر الذي يحصل به هذا التحلل، وهذا لا يفسد به الحج عند جميعهم، وإن كانوا يوجبون عليه به فدية.
إذاً هذا التقسيم مهم فيما يتعلق بأمر الجماع.
ما هي الفدية الواجبة على من جامع وهو محرم؟
الفدية الواجبة عند الأئمة الثلاثة الذين هم أحمد وأبو حنيفة والشافعي يقولون: إن حجه يفسد أولاً، وعليه المضي في هذا الحج الفاسد، وعليه بدنة، وعليه أن يحج من العام المقبل هو وزوجته، وزاد علي رضي الله عنه وابن عباس في رواية: (إنه في حج العام المقبل عليهما أن يتفرقا إلى أن ينتهيا من حجهما).
فهذه خمسة أشياء أوجبها هؤلاء الأئمة، والدليل على ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، ذكره النووي في المجموع، ونسبه إلى البيهقي، والبيهقي قال: منقطع فلا يصح المرفوع، وأيضاً جاء عن عمر رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب، وجاء عن ابن عباس وابن عمر وابن عمرو بن العاص في أثر من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وهذه الآثار يشد بعضها بعضاً عند هؤلاء الأئمة، وبموجبها قالوا: بأن عليه الالتزام بهذه التكاليف أو الواجبات الخمسة المذكورة فيما مضى، هذا مذهب جمهور العلماء.
وهناك رواية أخرى في هذه المسألة أو قول آخر أو حتى مجموعة أقوال، منها: أن ابن حزم رحمه الله في المحلى نقل عن جماعة أقوالاً مختلفة، مثلاً: نقل عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سئل عن ذلك؟ فقال للسائل: أف لا أفتيك بشيء، وهذا لا يدل بالضرورة على أن جبيراً يخالف هؤلاء، لكن قد يدل على أنه متوقف في هذه المسألة، أو ليس عنده فيها خبر أو توقيف.
وكذلك نقل ابن حزم عن مجاهد وطاوس رضي الله عنهما أنهما يقولان: يصير حجه عمرة، يعني: يقلب حجه إلى عمرة، وعليه حج من قابل، وعليه بدنة، لكنهم نازعوا هنا في كونه يمضي في الحج الفاسد، وقالوا: يقلبه إلى عمرة، وهذا أيضاً منقول عن الحسن البصري كما ذكره صاحب المغني، وذكره أيضاً صاحب الإنصاف، بل من الجيد أنه رواية في مذهب الإمام أحمد، وهو أيضاً قول مالك على ما ذكره صاحب المغني وصاحب الإنصاف، وهذه من الأشياء الجيدة التي تظهر بالبحث، فإنه نقل قولاً لـمالك ورواية عن الإمام أحمد، وهو قول من ذكرنا أنه يقلب حجه إلى عمرة، وهذا أسهل من كونه يمضي في الحج الفاسد، ولم يذكر بعض هؤلاء أن عليه حجاً من قابل. كذلك قتادة قال: (يرجعان إلى الميقات ويهلان بعمرة) فيما رواه عنه ابن حزم، وذكرنا بعض هذه الأقوال.
أيضاً الإمام أحمد رحمه الله يقول: أحب إلي أن يعتمر من التنعيم، يعني: من أتى أهله وهو محرم، وقال: يجعل الحج عمرة، ولا يقيم على حجة فاسدة.
إذاً: المسألة فيها أقوال، أيضاً عكرمة روي عنه أنه يقول ولا أظنه إلا عن ابن عباس أنه قال في الذي يصيب أهله قبل أن يفيض، يعني: قبل أن يطوف طواف الإفاضة، قال: [ يعتمر ويهدي ] وهذا رواه النجاد عن عكرمة عن ابن عباس .
إذاً: المسألة ليس فيها إجماع كما قد يبدو، بل فيها خلاف وخلاف قوي، وليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون ما أفتى به هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم على سبيل الزجر والتأديب والتعزير، وليس على سبيل التقرير والتشريع العام لكل الناس، وقد يكون اجتهاداً أو رأياً لهم، والدليل على ذلك أنه لما سأل ابن عمر رضي الله عنه الرجل الذي وقع على امرأته، أتى إلى ابن عمر فسأله، قال: اذهب إلى عبد الله بن عباس فاسأله، فسأل ابن عباس ورجع إليه، ثم سأل عبد الله بن عمرو بن العاص ورجع إليه، فقال له: أقول مثل قولهم، مما يدل على أنه لم يكن عنده تأكيد في هذه المسألة وإنما هي نوع من المباحثة والمذاكرة فيما بينهم على هذا، وقد نقلنا أن من السلف من نازع في ذلك.
وهكذا داود الظاهري منقول عنه أنه لا يلزمه بشيء في ذلك، وهو مذهب ابن حزم فيما يظهر، ولهذا أقول: إن القول المختار والله تبارك وتعالى أعلم فيمن وقع على أهله قبل أن يقف بـعرفة أن نقول: إن المسألة فيها أقوال، قول الجمهور: أنه يلزمه خمسة أشياء: فساد حجه، المضي في فاسده، أن يهدي بدنة، أن يحج من العام القابل، أن يتفرق مع زوجته، وإن كان هناك خلاف في هذه المسألة في التفرق، منهم من قال بها وجوباً، ومنهم من قال بها استحباباً، بل إن النووي رحمه الله قال: لو أنه أفسد حجته الثانية من العام القابل لوجب عليه أن يقضي الحجة الأولى إلى مائة حجة، يعني لو حج مائة مرة وكل مرة يفسد الحجة نقول: يجب عليه أن يحج الحجة الأولى.
وهذا طبعاً فيه شيء من الافتراض، لكن هذا هو قول الجمهور.
القول الثاني وهو ما نسب إلى مالك كما ذكرناه نقلاً عن الإنصاف ونقلاً عن المغني وإن كنت حقيقة لم أجد في كتب المالكية ولم أستقصي البحث، لكن لم أجد شيئاً واضحاً في هذا، أنه يقلب حجه عمرة ويقولون عليه في ذلك فدية، عليه بدنة، والبدنة المقصود بها الناقة.
طبعاً لو أفسد حجه بعد الوقوف بـعرفة، طبعاً الأحناف يوجبون عليه بدنة أيضاً، لكنهم عندهم قبل عرفة عليه شاة، وهذا غريب في القياس؛ لأنهم يقولون: قبل عرفة عليه شاة، وبعد عرفة عليه بدنة لماذا؟ المفترض أنه يزيد وليس ينقص، قالوا: لأنه قبل عرفة فسد حجه فيكون عليه شاة فقط، أما بعد عرفة فهم عوضوا أن حجه صحيح، وبالمقابل جعلوا عليه تبعة أنه يهدي بدنة، أما إذا كان بعد التحلل الأول فعليه شاة عند الجمهور.
هذا ما يتعلق بمسألة الجماع، وهي من المسائل العويصة.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية | 3986 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 | 3925 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة | 3854 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض | 3845 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين | 3672 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض | 3615 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع | 3552 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج | 3516 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها | 3444 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب الوضوء -1 | 3388 استماع |