شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب الوضوء -1


الحلقة مفرغة

الوضوء: مأخوذ في اللغة من الوضاءة، وهي الحسن والجمال، يقال: رجل وضيء وامرأة وضيئة.

وهو في الشرع: غسل أعضاء مخصوصة بنية.

قال المصنف رحمه الله تعالى في المسألة الأولى: [ لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات إلا أن ينويه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) ]، هذا الحديث رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله في صحيحيهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو حديث غريب صحيح كما هو معروف، وهو أصل في اشتراط النية في الأعمال التعبدية كلها، وأنه لا يجزي عمل منها إلا أن ينويه.

و النية في اللغة: هي القصد، والمقصود بالنية في الوضوء: ألا يكون وضوءه مثلاً لتعليم جاهل، أو أن يكون وصل الماء إلى أعضائه دون إرادة منه، ويكفي في النية أن يعلم أنه سيغسل هذه الأعضاء لرفع حدث واستباحة صلاة وما أشبه ذلك .

أما ما يقع من بعض الموسوسين الذين يشكون في النية، فيطيلون في ذلك، ثم يبدأ أحدهم في الوضوء ثم يعود ظناً أنه لم ينو وهكذا، فهذا من التنطع في دين الله عز وجل؛ لأن مجرد كون الإنسان وقف أمام الماء وفتح الصنبور وعرض يديه للغسل هذا كاف في الدلالة على أن الإنسان قد نوى الوضوء، بل إن دفع النية في هذه الحالة أمر صعب جداً، ولو كلفنا الشارع بدفع النية وإزالتها في هذا الموضع وقطعها لما أمكن ذلك؛ لأنها في تلك الحال ضرورة لا يستطيع الإنسان دفعها، فلا يحتاج الإنسان إلى أن يستحضر نية أو أن يستصحبها خلال الوضوء؛ لأن دفعها أصلاً أمر شاق، بل متعذر، إنما لو أن الإنسان توضأ ليعلم شخصاً، ولم يكن في باله أن يرفع الحدث، أو أن الماء أصاب أعضاءه دون قصد، ففي مثل تلك الحال يحتاج الإنسان إلى أن يعيد الوضوء لا غير.

قال المصنف في المسألة الثانية: [ ثم يقول : بسم الله ]، وذكر اسم الله تعالى في بداية الوضوء مشروع جاء فيه ما يزيد على عشرة أحاديث عن جماعة من الصحابة كـأبي هريرة وأبي سعيد وعائشة وأنس وغيرهم، وهذه الأحاديث كلها ضعيفة وإن صححها كثير من أهل العلم إجمالاً، فأما الذين قالوا بضعفها فلا إشكال عندهم، أما الذين أثبتوا هذه الأحاديث فقد ذهب كثير منهم إلى الوجوب، والحديث: ( لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه )، هذه الأحاديث إن لم تكن صحيحة فلا إشكال، وإن كانت صحيحة فهي مصروفة عن الوجوب -وجوب التسمية- بصوارف عدة:

من هذه الصوارف: أن ذكر اسم الله تعالى في الوضوء لم يذكر في القرآن الكريم، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] ولم يذكر التسمية فهذا هو الصارف الأول عن الوجوب.

الصارف الثاني: أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه أنه كان يذكر اسم الله تعالى، وقد نقل الصحابة صفة الوضوء؛ نقل ذلك عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعائشة وغيرهم، ولم يذكر أحد منهم قط أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ وضوءه بذكر اسم الله تعالى.

الصارف الثالث: أن ذلك لم ينقل في الغسل مطلقاً، ومن المعلوم أن الغسل يجزئ عن الوضوء.

والصارف الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم الأعرابي الذي سأله كيف الوضوء؟ علّمه الوضوء وكان في مقام التفصيل والبيان والتوضيح لهذا الأعرابي الذي لم يكن يعرف صفة الوضوء، ومع ذلك لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم التسمية على الوضوء، وإنما قال له في آخره: ( هذا الوضوء فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم )، فدل على أن التسمية على الوضوء ليست بواجب؛ لأنها لو كانت واجباً لعلمها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي.

والقول بأن التسمية سنة ليست بواجب هو مذهب الجمهور، وهو رواية صحيحة عن الإمام أحمد، حيث روي عنه لما سئل عن تلك الأحاديث أنه قال: لا أعلم في التسمية حديثاً له إسناد جيد، وقال ذلك غيره من أهل العلم.

إذاً: التسمية سنة على الصحيح من أقوال أهل العلم، وقال بعضهم وهي رواية في المذهب اختارها الأكثرون من الفقهاء: إن التسمية واجبة، ولو تركها عمداً أعاد الوضوء، ولو تركها سهواً أجزأه الوضوء، وقال بعضهم: لا تسقط سهواً ولا عمداً. والصواب: أن التسمية على الوضوء سنة لما سبق.

المسألة الثالثة: قال: [ويغسل كفيه ثلاثاً]، يعني: في أول الوضوء، وغسل الكفين له حالتان:

الحال الأولى: غسل الكفين إذا استيقظ من نوم الليل، وهذا جاء فيه حديث صحيح متفق عليه: رواه أبو هريرة : ( إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده )، وهذا الحديث أخذ منه بعضهم أنه يجب على من استيقظ من نوم الليل أن يغسل كفيه، وجمهور أهل العلم وهي رواية في مذهب الإمام أحمد اختارها بعض المحققين من المتقدمين والمتأخرين أن غسل اليدين إذا استيقظ من نوم الليل سنة وليس بواجب، واستدلوا لذلك بأدلة منها:

قوله: ( فليغسل يديه ثلاثاً ) ولم يقل أحد فيما نعلم بوجوب الغسل ثلاثاً، فقالوا: لما لم يقل أحد بوجوب الغسل ثلاثاً اطرد ذلك في أصل الوجوب أنه لا يقال بوجوبه، بل يقال باستحباب الغسل، هذا دليل.

الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا استيقظ أحدكم فليستنثر ثلاثاً )، ومع ذلك لا قائل بوجوب الاستنثار، بل حكي الإجماع على عدم الوجوب، ويعكر على هذا أن الظاهرية يقولون بوجوب الاستنثار.

الصارف الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم علل بقوله: ( فإنه لا يدري أين باتت يده )، ومن المعلوم أن الأصل في الأشياء الطهارة، والتعليل بأمر مشكوك فيه: ( فإنه لا يدري أين باتت يده ) يدل على عدم الوجوب، وقال بعضهم: العلة تعبدية.

والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه لا يجب على القائم من نوم الليل أن يغسل كفيه، وهو مذهب الثلاثة: مالك والشافعي وأبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد اختارها بعض المحققين كما أسلفت، والدليل يدل عليه فيما ظهر لي، ولذلك نقول: يستحب للقائم من نوم الليل أن يغسل كفيه ثلاثاً قبل أن يدخلها في الإناء للحديث، لكن لا يجب ذلك.

هذه هي الحال الأولى حال المستيقظ من نوم الليل.

الحال الثانية: حال الإنسان العادي، فيستحب له أيضاً أن يغسل كفيه ثلاثاً؛ لأن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حديث حمران عن عثمان رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه دعا بماء فغسل كفيه ثلاثاً )، وحديث عثمان متفق عليه، وغسل الكفين ثلاثاً عند أول الوضوء لغير القائم من النوم سنة بإجماع أهل العلم، ولا قائل بوجوبه إلا الزيدية، والصواب أنه سنة كما سبق.

المسألة الرابعة: قال المصنف رحمه الله: [ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً يجمع بينها بغرفة واحدة أو ثلاث]، وفي بعض النسخ: وثلاث، وينبغي أن يعدل هذا؛ لأن الثلاث بدل عن الغرفة الواحدة، يجمع بينها بغرفة واحدة أو ثلاث.

حكم المضمضة والاستنشاق

أما قوله: (ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً)، فهذا دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق، وهي رواية في المذهب أنه يجب على المتوضئ أن يتمضمض ويستنشق، واستدلوا لذلك بأدلة منها:

أولاً: أن المضمضة والاستنشاق من الوجه، فالأنف والفم من الوجه ظاهراً، وقال بعض الفقهاء: هما من الوجه لخمسة أحكام:

أولاً: لو وضع الخمر في فمه لم يجب عليه الحد بذلك إذا بزقه وأخرجه، فلا يجب عليه الحد إلا إذا شربه.

ثانياً: أنه لا يحرم الرضاع، فلو رضع الصبي فكان اللبن في فمه ثم أخرجه ولم يصل إلى جوفه فإنه لا ينشر الحرمة في بدنه.

ثالثاً: أنه لو كان في فمه أو أنفه نجاسة وجب إزالتها، والنجاسة الباطنة لا تجب إزالتها.

الرابع: لو أن الصائم استدعى ما في جوفه -تقيأ- فوصل القيء إلى فمه فإنه يفطر بذلك.

الخامس: لو وضع في فمه ماء أو غيره فلا يفطر به.

فقالوا: هذه أحكام خمسة يدل اطرادها على أن الفم والأنف من الوجه، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، قالوا: فالأنف والفم من الوجه فوجب غسلهما بالمضمضة والاستنشاق، هذا دليل على الوجوب.

ومن الأدلة على الوجوب أيضاً فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه كان يمضمض ويستنشق إذا توضأ ولم ينقل عنه خلاف ذلك، بل نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأمر بالمضمضة والاستنشاق كما في حديث لقيط بن صبرة قد رواه أهل السنن وهو حديث صحيح، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا توضأت فمضمض ) كما عند أبي داود، وفي الرواية الأخرى المشهورة: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )، فهو دليل على وجوب المضمضة، وهو أيضاً دليل على وجوب الاستنشاق وهذا هو الظاهر: أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل، وواجبان في الوضوء، فإذا وجبا في الوضوء ففي الغسل من باب الأولى؛ لأنه يجب في الغسل ما لا يجب في الوضوء كإيصال الماء إلى منابت الشعر وما أشبه ذلك.

والرواية الثانية: أنهما مستحبان فيهما، وقيل: واجبان في الوضوء، وليسا بواجبين في الغسل إلى أقوال أخرى.

والذي يظهر أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء لما سبق من الأدلة، وواجبان في الغسل أيضاً.

تثليث المضمضة والاستنشاق

قوله: (ثلاثاً).. (يتمضمض ويستنشق ثلاثاً)، هذا على سبيل الاستحباب، وقد ثبت ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومرتين مرتين، ومرة مرة )، وفي حديث عثمان السابق: ( أنه تمضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه وبقية أعضائه ثلاثاً ثلاثاً )، فالتثليث في الوضوء سنة باتفاق أهل العلم ولا قائل بوجوبه، إنما يستحب أن يغسل أعضاءه ثلاثاً.

كيفيات المضمضة والاستنشاق

قال: (يجمع بينهما بغرفة واحدة)، يجمع بينهما يعني: بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة.

إذاً: المضمضة والاستنشاق تتصور بعدة أحوال:

الحال الأولى: أن يتمضمض ويستنشق ثلاثاً ثلاثاً بغرفة واحدة، يعني: يأخذ غرفة واحدة ويتمضمض ويستنشق ثم يستنثر بيده اليسرى، ثم يفعل ذلك من نفس الغرفة الأولى ثم مرة ثالثة، وهذا ممكن لبعض الناس إذا اعتاد عليه، فتكون المضمضة والاستنشاق ثلاثاً ثلاثاً من غرفة واحدة فقط، وهذا يحتمله الحديث الوارد؛ حديث عبد الله بن زيد وحديث ابن عباس، حديث ابن عباس : ( أنه صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق من كف واحدة )، ومثله حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في الوضوء: ( أنه تمضمض واستنشق من كف واحدة ).

الحال الثانية: أن يأخذ كفاً ويتمضمض ويستنشق منها، ثم يأخذ أخرى ثم يأخذ ثالثة، ولهذا قال المصنف: (بغرفة واحدة أو ثلاث)، فبغرفة واحدة يعني تمضمض واستنشق ثلاث مرات من غرفة واحدة، (أو ثلاث) يعني: تمضمض واستنشق من غرفة، ثم تمضمض واستنشق من أخرى، ثم تمضمض واستنشق من غرفة ثالثة.

ويجوز أيضاً أن يتمضمض من غرفة ويستنشق من غرفة أخرى فيكون مجمل الغرفات للمضمضة والاستنشاق ستاً، وقد ثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الإمام عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند وسنده لا بأس به إن شاء الله تعالى، فهذا كله جائز ولا حرج فيه.

أما قوله: (ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً)، فهذا دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق، وهي رواية في المذهب أنه يجب على المتوضئ أن يتمضمض ويستنشق، واستدلوا لذلك بأدلة منها:

أولاً: أن المضمضة والاستنشاق من الوجه، فالأنف والفم من الوجه ظاهراً، وقال بعض الفقهاء: هما من الوجه لخمسة أحكام:

أولاً: لو وضع الخمر في فمه لم يجب عليه الحد بذلك إذا بزقه وأخرجه، فلا يجب عليه الحد إلا إذا شربه.

ثانياً: أنه لا يحرم الرضاع، فلو رضع الصبي فكان اللبن في فمه ثم أخرجه ولم يصل إلى جوفه فإنه لا ينشر الحرمة في بدنه.

ثالثاً: أنه لو كان في فمه أو أنفه نجاسة وجب إزالتها، والنجاسة الباطنة لا تجب إزالتها.

الرابع: لو أن الصائم استدعى ما في جوفه -تقيأ- فوصل القيء إلى فمه فإنه يفطر بذلك.

الخامس: لو وضع في فمه ماء أو غيره فلا يفطر به.

فقالوا: هذه أحكام خمسة يدل اطرادها على أن الفم والأنف من الوجه، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، قالوا: فالأنف والفم من الوجه فوجب غسلهما بالمضمضة والاستنشاق، هذا دليل على الوجوب.

ومن الأدلة على الوجوب أيضاً فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه كان يمضمض ويستنشق إذا توضأ ولم ينقل عنه خلاف ذلك، بل نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأمر بالمضمضة والاستنشاق كما في حديث لقيط بن صبرة قد رواه أهل السنن وهو حديث صحيح، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا توضأت فمضمض ) كما عند أبي داود، وفي الرواية الأخرى المشهورة: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )، فهو دليل على وجوب المضمضة، وهو أيضاً دليل على وجوب الاستنشاق وهذا هو الظاهر: أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل، وواجبان في الوضوء، فإذا وجبا في الوضوء ففي الغسل من باب الأولى؛ لأنه يجب في الغسل ما لا يجب في الوضوء كإيصال الماء إلى منابت الشعر وما أشبه ذلك.

والرواية الثانية: أنهما مستحبان فيهما، وقيل: واجبان في الوضوء، وليسا بواجبين في الغسل إلى أقوال أخرى.

والذي يظهر أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء لما سبق من الأدلة، وواجبان في الغسل أيضاً.

قوله: (ثلاثاً).. (يتمضمض ويستنشق ثلاثاً)، هذا على سبيل الاستحباب، وقد ثبت ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومرتين مرتين، ومرة مرة )، وفي حديث عثمان السابق: ( أنه تمضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه وبقية أعضائه ثلاثاً ثلاثاً )، فالتثليث في الوضوء سنة باتفاق أهل العلم ولا قائل بوجوبه، إنما يستحب أن يغسل أعضاءه ثلاثاً.

قال: (يجمع بينهما بغرفة واحدة)، يجمع بينهما يعني: بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة.

إذاً: المضمضة والاستنشاق تتصور بعدة أحوال:

الحال الأولى: أن يتمضمض ويستنشق ثلاثاً ثلاثاً بغرفة واحدة، يعني: يأخذ غرفة واحدة ويتمضمض ويستنشق ثم يستنثر بيده اليسرى، ثم يفعل ذلك من نفس الغرفة الأولى ثم مرة ثالثة، وهذا ممكن لبعض الناس إذا اعتاد عليه، فتكون المضمضة والاستنشاق ثلاثاً ثلاثاً من غرفة واحدة فقط، وهذا يحتمله الحديث الوارد؛ حديث عبد الله بن زيد وحديث ابن عباس، حديث ابن عباس : ( أنه صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق من كف واحدة )، ومثله حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في الوضوء: ( أنه تمضمض واستنشق من كف واحدة ).

الحال الثانية: أن يأخذ كفاً ويتمضمض ويستنشق منها، ثم يأخذ أخرى ثم يأخذ ثالثة، ولهذا قال المصنف: (بغرفة واحدة أو ثلاث)، فبغرفة واحدة يعني تمضمض واستنشق ثلاث مرات من غرفة واحدة، (أو ثلاث) يعني: تمضمض واستنشق من غرفة، ثم تمضمض واستنشق من أخرى، ثم تمضمض واستنشق من غرفة ثالثة.

ويجوز أيضاً أن يتمضمض من غرفة ويستنشق من غرفة أخرى فيكون مجمل الغرفات للمضمضة والاستنشاق ستاً، وقد ثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الإمام عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند وسنده لا بأس به إن شاء الله تعالى، فهذا كله جائز ولا حرج فيه.

المسألة الخامسة: [ثم يغسل وجهه ثلاثاً من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً ومن الأذن إلى الأذن عرضاً].

قوله: (ثم يغسل وجهه ثلاثاً)، أما غسل الوجه فهو من واجبات الوضوء بالإجماع؛ لأن الله تعالى أمر به في قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم غسل وجهه، ويغسل الوجه بما لا يغسل به بقية الأعضاء؛ وذلك لما في الوجه من التجاعيد والأسارير التي تحتاج إلى الماء، ولهذا جاء في أثر ضعيف عن علي [ أنه أخذ شيئاً من ماء -في حديث ابن عباس وفي بيت ابن عباس - فصك به وجهه ] أي: غسله به بقوة، وذلك حتى يبلغ الماء إلى جميع تجاعيد الوجه وتقاسيمه وأساريره.

وحد الوجه: (من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً)، والمعنى: من منابت شعر الرأس المعتاد بالنسبة للإنسان العادي، وإلا فإن بعض الناس قد ينحسر شعره كالأصلع الذي لم ينبت على مقدم رأسه شعر، فلا يلزمه أن يغسل الرأس، وإنما يغسل حد الشعر المعتاد بالنسبة لغيره من الناس، أما هو فلا يعتبر انحسار شعره، وكذلك بعض الناس قد ينزل شعره على جبهته وجبينه، فيجب عليه غسل ما غطاه الشعر؛ لأن العبرة بالإنسان المعتاد كما أسلفت.

(من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً)، هذا هو حد الوجه، وهو دليل على أن الأذن ليست داخلة في الوجه، بل هي داخلة في الرأس، والدليل على ذلك حديث: ( الأذنان من الرأس ) وسوف أشير إليه بعد قليل.

وقال بعض أهل العلم: إن ما أقبل من الأذنين من الوجه، وليس ذلك بشيء، بل الأذنان ليستا من الوجه، وحد الوجه هو من الأذن إلى الأذن عرضاً.

المسألة السادسة: [ ويخلل لحيته ]، وتخليل اللحية، هو إذا كانت كثيفة، فيحتاج الإنسان إلى تخليلها بأصابعه، أما إذا كانت خفيفة تصف البشرة، يعني: كان الشعر على أول إقباله، بحيث إن البشرة ظاهرة من وراء الشعر فحينئذ يجب غسلها؛ لأن الأصل هو وجوب الغسل، فقبل أن ينبت الشعر كان ما تحت الشعر من الوجه، وكان غسله واجباً كما هو معروف، فلما نبت الشعر وكان خفيفاً ولا زالت البشرة ظاهرة تُرى وتُعلم من وراء الشعر وجب عليه الغسل، أما إذا كان الشعر كثيفاً فإنه يجب عليه غسله؛ لحديث عثمان رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته في الوضوء )، والحديث رواه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وغيره، وحسنه البخاري رحمه الله تعالى، وله شواهد كثيرة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته في الوضوء ).

ولا يلزم تخليلها بالأصابع والله تعالى أعلم، بل يكفي أن يخللها بالماء، يعني: أن يمر الماء عليها.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3985 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3924 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3852 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3844 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3670 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3623 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3611 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3549 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3513 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3442 استماع