شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

باب الخيار.

في الدرس الماضي أخذنا تعريف الخيار وما يتعلق به من الأحكام وأقسامه، ومن باب المذاكرة والمراجعة فإنني أقول: إن الفقهاء تفننوا كثيراً في توزيع وتقسيم الخيار، ولعل من أجود وأكمل من اعتنى بهذا التقسيم ما تجده في الموسوعة الفقهية التي طبعتها وزارة الأوقاف الكويتية، وهي مطبوعة في مجلدات مستقلة تنيف على أربعين مجلداً، تباع أيضاً، وموجودة ضمن برنامج جامع الفقه الإسلامي الذي يباع في برنامج كمبيوتر بسعر معقول، وهو مفيد جداً، أنصح الإخوة باقتنائه والاستفادة منه والتدرب على البحث فيه: جامع الفقه الإسلامي.

ولكن خلاصة التقسيمات المتعلقة بالخيار التي ذكرناها ..

كم ذكرنا في الدرس الماضي من أقسام الخيار؟

ذكرنا سبعة، وقلنا إن بعضهم قد يوصلها إلى أكثر من أحد عشر أو اثني عشر نوعاً أو قسماً.

وفي الموسوعة توزيعات وتقسيمات، وقد استحسنت في الأسبوع الماضي تقسيم بعض الشافعية كالإمام النووي وغيره؛ الذين قسموا الخيار إلى نوعين: خيار تشهي أو تروي وخيار نقيصة، وقصدوا بخيار التروي الخيار الذي يرجع لك بغض النظر عن عدم وجود عيب، مثل خيار المجلس أو خيار الشرط، هذا لا يفتقر إلى وجود عيب في المبيع، بينما القسم الثاني الذي هو خيار النقيصة يتعلق بوجود خلل في المبيع، أو اختلاف، أو عيب، أو غبن، أو سبب يبيح ويجيز الخيار.

اليوم نبدأ فيما بقي من باب الخيار إن شاء الله لنجهز عليه، والأشياء التي بقيت من كلام المصنف رحمه الله في باب الخيار كلها تتعلق تقريباً بما يسميه الفقهاء خيار التدليس، وقد أشرنا إليه كأحد أقسام الخيار في الأسبوع الماضي.

أنواع التدليس

التدليس الذي يقصد من ورائه نوع من التلبيس أو التغرير أو التزوير الذي يظهر الأمر على خلاف ما هو عليه، أي: أفضل مما هو عليه، أو يخفي عيباً موجوداً فيه، وبشكل عام فربما نستطيع أن نقول أيضاً: إن التدليس ينقسم إلى قسمين، خصوصاً ما ذكره المصنف رحمه الله: تدليس فعلي وتدليس قولي.

التدليس الفعلي: أن يقوم البائع بوضع شيء على السلعة، أو إظهارها بصفة معينة إذا رآها المشتري ظن أنها جيدة أكثر مما هي عليه، كما سوف نضرب لذلك بعض الأمثلة.

أما القسم الثاني: وهو التدليس القولي، فهذا يكون بماذا؟ مثل ماذا التدليس القولي؟ أيضاً نحن ذكرناها الأسبوع الماضي، الزيادة في الثمن، خلك في الأول، التدليس القولي نقصد به الزيادة في الثمن، كما ذكرناه فيما سميناه ببيوع الأمانات.

دخول التدليس القولي في بيوع الأمانات

ما هي بيوع الأمانات؟

بيوع الأمانات هي البيوع التي أشتري بناء على أنك قلت لي: إنني اشتريت السلعة هذه بكذا، فإذا قلت لي مثلاً: إنك اشتريت هذه السلعة بمائة ريال وسوف تبيعها علي برأس المال، هذا يسمى بيع أمانة، واسمه الخاص بيع التولية إذا كان بنفس رأس المال، أو المرابحة إذا زدت عليك، أو النقيصة أو الحطيطة إذا نزلت لك، أو الشركة إذا أدخلتك معي بنفس رأس المال، هذه الأقسام الأربعة تسمى بيوع الأمانة، لكن إذا قلت لك: إني اشتريت السلعة بمائتين والواقع أني اشتريتها بمائة وخمسين، فهذا يعتبر تدليساً بالقول.

إذاً: التدليس نوعان: تدليس قولي وتدليس فعلي.

التدليس الفعلي وأمثلته

المصنف رحمه الله بدأ بالتدليس الفعلي، فقال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تُصرُّوا الإبل والغنم )، على الرواية المشهورة في ضم التاء وفتح الصاد: (لا تَصرُّوا) من التصرية، وبعضهم قد يقول: لا (تَصُرُّوا) من الصر، الإبل والغنم، والمقصود بالتصرية حبس اللبن في الضرع، بحيث إنه إذا رآها المشتري ظن أن لبنها كثير، والواقع أنها ليست كذلك، ولكن هم تركوا حلبها أو لبسوا على ثديها شيئاً يجعل اللبن يظل موجوداً فيها وقتاً أطول، فإذا رآها المشتري توقع أن لبنها أكثر مما هو عليه، ولهذا يسمونه التحفيل، الشاة المحفلة هي التي حبس لبنها في ضرعها، مصراة أو محفلة، ومنه سمي الحفل؛ لأن الناس يجتمعون فيه، فهذا هو المقصود بالتصرية.

(لا تُصَروا الإبل والغنم)، يعني: على سبيل الخداع للمشتري، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال هنا: ( فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين )، (من ابتاعها) يعني: اشتراها، فمن اشترى شاة أو ناقة أو بقرة محفلة، وظن أنها هكذا على سبيل الاستمرار، ثم وجد أن الأمر فيه غش وتلبيس وتدليس، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فهو بخير النظرين)، يعني: له أحد الرأيين الأحب إليه ( بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر ).

هذا الحديث المشهور حديث المصراة، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والبيهقي والإمام أحمد في مسنده وغيرهم.. كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وألفاظه مختلفة جداً وكثيرة جداً، ففي بعض الأحاديث ذكر أنه بالخيار ثلاثة أيام، وكذلك بعضهم قال: ( ردها وصاعاً من طعام )، وبعضها قال: ( صاعاً من طعام أو تمر لا سمراء )، يعني: ليس من البر.. روايات كثيرة جداً، لكن مدارها على هذا المعنى، وهو أكثر ما ورد في الأحاديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عن تصرية الإبل والغنم، وقال: إن المشتري إذا وجد أن الشاة مصرّاة فهو بالخيار )، أي: والبيع صحيح؛ ولهذا خيره النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قال: هو بالخيار إن شاء أمسك الشاة أو الناقة، وإن شاء ردها ورد معها للبائع الأول صاعاً من تمر مقابل اللبن الذي كان فيها يوم اشتراها. لكن لو حلبها مرة ثانية هل يرد أيضاً مقابل الحلبة الثانية؟

لا؛ لأن الحلبة الثانية جاءت وهي في ملكه، وإنما يرد صاعاً مقابل الحلبة الأولى التي كانت موجودة يوم اشتراها التي كان عليها الكلام في مسألة التصرية أو التحفيل.

ولا شك أن التصرية في هذه الحالة لا تجوز؛ لأنها نوع من الغش، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من غش فليس منا )، وهذا الحديث رواه مسلم، والشارح نسبه للصحيحين، وهذا وهم، وإنما هو من أفراد مسلم : ( من غش فليس منا ) أو ( من غشنا فليس منا )، والحديث جاء في قصة صاحب الصبرة الذي وجد في أسفلها بللاً، قال: ( يا رسول الله! أصابته السماء، قال: هلا وضعته في أعلاها حتى يراه الناس، من غش فليس منا، أو من غشنا فليس منا ).

إذاً: لا يجوز للإنسان أن يعمل هذه التصرية أو التحفيل للشاة أو للناقة، وبناء عليه لا يجوز للإنسان أن يقوم بالتدليس أو التلبيس في أي سلعة يقوم ببيعها؛ بما يقتضي تغرير المشتري، إذا كان الأمر خفياً لا يدرك، فهذا مما لا يجوز.

الأحكام المتعلقة بالمصراة عند بيعها وشرائها

هذه مسألة المصراة فيها كلام كثير وبحث كثير لأهل العلم، ولعلنا نقتصر من أمرها على مسألتين:

المسألة الأولى: أنه من اشترى هذه المصراة التي ظاهرها أن لبنها أكثر مما هو عليه في الواقع، فما الحكم؟

الجمهور من أهل العلم يقولون: إن له الخيار -كما ذكرنا- بين أن يرد الشاة وبين أن يمسكها، طبعاً إذا كان حلبها فإنه كما قلنا: يرد معها، لكن إذا كان لم يحلبها واكتشف التصرية، فماذا يصنع؟ يردها كما هي، ما دام اللبن موجوداً واكتشف أنها مصراة فعلاً، نقول: له أن يردها.

المهم أن المسألة الأولى في مسألة: خيار المشتري بين الإمساك.. وله شيء مع الإمساك نقول له: أرش الزيادة مثلاً أو يطلب شيء؟ لا يطلب شيئاً؛ بل يمسك الشاة كما هي، وله الخيار في ردها إلى صاحبها مع رد ما يقابل اللبن الذي أخذه.

هذا القول بأن له الخيار هو مذهب الجمهور منقول عن جماعة من الصحابة كـابن مسعود رضي الله عنه وأبي هريرة وأنس بن مالك وغيرهم، وهو مذهب أكابر أهل العلم كـمالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وبعض الحنفية كـأبي يوسف وغيرهم.. فهؤلاء يقولون: له الرد، وحجتهم الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحجتهم أيضاً النظر، فإنهم يقولون: إن الشراء وقع على سلعة أو شاة أو ناقة ظنها هكذا، وتبين له أن الأمر فيه تلبيس، فجاز له أن يرجع، فلهم دليل من الأثر ولهم دليل من النظر، وهذا هو القول الراجح لقوته من الناحية النقلية ومن الناحية العقلية.

ولكن خالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة وتلميذه محمد بن الحسن ورأوا أنه ليس له الخيار، وكأنهم رأوا أنه فيما يتعلق بالمصراة أن هذا العيب عيب يسير لا يمنع صحة البيع، وقالوا: إنه مثلما لو أشبع الشاة؛ بحيث ظن المشتري أنها مثلاً حامل أو سمينة وليس كذلك فإنه لا يرجع بها، وتأولوا هذا الحديث بتأويلات كثيرة ذكرها الشوكاني في نيل الأوطار وغيره، وكثير من العلماء فصلوا فيها أنهم لم يردوا هذا الحديث رداً مباشراً، وإنما قالوا باحتمال النسخ، وقال بعضهم: إن راوي الحديث أبا هريرة ليس من فقهاء الصحابة، وهذا عذر ضعيف؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه من المتقنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى ثابت وصحيح ومطرد، مع نصوص الكتاب والسنة ومع القواعد الشرعية، ولو رددنا حديث أبي هريرة لرددنا شيئاً كثيراً من السنة.

المقصود: أن لهم أعذاراً في ترك العمل بهذا الحديث، ولكن هل نقبل هذا القول؟ مع أننا نعذرهم إلا أننا نقول: قولهم مرجوح، والراجح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين: أن المصراة لصحابها أن يعود فيها، هذه هي المسألة الأولى.

حكم رد المصراة من الإبل والغنم

المسألة الثانية: أنه إذا رضي المصراة وأمسكها انتهى الأمر، لكن إذا قرر أنه سوف يردها على البائع، فماذا يرد معها؟

الذين يقولون بالرد تقريباً، يقولون: بأنه لابد أن يرد مقابل اللبن، لكن ماذا يرد؟

طبعاً منهم من يقول: أنه يرد صاعاً من تمر، كما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في معظم الروايات الواردة في الصحيحين وغيرهما: ( وإن شاء ردها ورد معها صاعاً من تمر ).

فقالوا: نص النبي صلى الله عليه وسلم على التمر، فإذا رد المصراة رد معها هذا الصاع من التمر، هذا القول الأول، وهو قول جماعة من الصحابة, والليث وإسحاق والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور والإمام أحمد وغيرهم.. أنه يردها ويرد معها صاعاً من تمر، الحجة الحديث.

القول الثاني: مذهب الإمام مالك وبعض الشافعية.. هو وجه عند الشافعية، قالوا: إن الواجب أن يرد صاعاً من غالب قوت البلد، سواء كان تمراً أو غيره، مثل أن يرد مثلاً رزاً أو طعاماً أو غيره، وحجتهم في ذلك:

أولاً: قالوا: أنه في بعض ألفاظ الحديث: ( صاعاً من طعام )، وهذه في روايات حتى في مسلم، والبخاري ذكرها من غير أن يرويها بإسناده، أنه قال بعضهم: صاعاً من طعام، وقالوا: الغالب التمر، فقالوا.. وكذلك جاء في مسند الإمام أحمد وسنده صحيح أيضاً، أنه ذكر صاعاً من طعام، فقالوا: إن ورود صاع من طعام ومرة صاعاً من تمر؛ يدل على أن الأمر يعود إلى غالب قوت البلد، مرة يروا الطعام ومرة يروا التمر بحسب حال أهل البلد بدل هذا اللبن، ولذلك لو رد اللبن نفسه، إذا تبين أنها محفلة واللبن عنده لم يحمض ولم يتغير ولم يفسد له أن يرده أو لا؟ لأن هذه بضاعتك، هذا الذي لك، وهذا له قوة.

العلة الثانية: قالوا: إن هذا الأمر ليس أمراً تعبدياً؛ أن المقصود تمر؛ لأن فيه علة تعبدية يعلمها الله ولا يعلمها الناس، وإنما هو أمر يتعلق بمعاملات ومعاوضات بين الناس مبناها على مراعاة العدل، والشريعة جاءت بالعدل، فإذا رد عليه لبنه وهو لم يتغير يكون عدلاً أو لا؟! طيب. رد عليه ما يقابله من قوت البلد يكون عدل أو ما عدل؟

فقالوا هنا: إن المقصود من صاع من تمر؛ لأن هذا كان غالب قوت أهل المدينة، وهو المتيسر عندهم؛ لأنهم أهل زراعة، لكن قد لا يكون التمر موجوداً في كثير من بلاد الإسلام وغيرها، فيكون المدار حينئذ على أنه يرد ما يقابل هذا الصاع من غالب قوت البلد أو غيره.

والذي يظهر لي -والله تعالى أعلم-: أن القول الثاني له قوة ووجاهة، خصوصاً إذا نظرنا أن الأمر لا يتعلق به تعبد، وإنما هو أمر -كما ذكرنا- يتعلق بالمعاملات بين الناس، ورد صاع التمر قد يكون غير ممكن أو متعذر أحياناً أو لا يتيسر، فكون الناس يردون ما هو من غالب قوت البلد أو ما يتحقق به المكافأة، أو يتحقق به العدل والتراضي بين الطرفين، فإن هذا أعظم مقصود الشارع في مثل هذه المناسبة.

حكم من علم بكون الشاة مصراة قبل أن يحلبها

ضمن هذه الفقرة الآن: إذا علم الإنسان بأن الشاة مصراة قبل أن يحلبها، فما الحكم؟

له الحق أن يردها إلى صاحبها، طيب. لو أنه حلبها وهو يعلم أنها مصراة؟

قد يقال -والله أعلم- إنه رضي، وبناء عليه لا يرجع، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: ( فهو بالخيار بعد أن يحلبها )، فكأنه لم يتحقق من التصرية إلا بعد الحلب، لكن لو علم قبل ذلك، فالأقرب أنه يردها، فإذا حلبها.. إلا أن يكون قصده التأكد والتيقن من هذا الأمر.

يقول ابن عبد البر : إنه إن علم بالتصرية قبل الحلب فله ردها بإجماع أهل العلم. هكذا ذكره ابن عبد البر وغيره.

طبعاً الحديث يتعلق بموضوع التدليس -كما ذكرنا-، ويدخل فيه كل مدَلَس لا يعلم المشتري أن فيه التدليس، ولذلك ذكر المصنف أمثلة، ومع الأسف أننا الآن نقرأ في كتب الفقه، هذه الكتب ليست قرآناً ولا حديثاً، وإنما هي من كلام العلماء والمشايخ، فالعلماء كانوا يأتون بأمثلة من واقعهم ومن حياتهم، وربما نحن نحتاج إلى أن نفهم هذه الأمثلة؛ لأنها ربما بعضها غاب عن الواقع تماماً، فالمطلوب منا كطلبة علم ومتفقهين الآن أن نخترع ونبتكر أمثلة من واقعنا.

رد كل مدلس لا يعلم تدليسه حال الشراء

المصنف مثلاً ذكر من التدليس, قال: [وكذلك كل مدلس لا يعلم تدليسه فله رده] إذا اشتريت سلعة فيها تدليس، قال: [كجارية حُمِّر وجهها].

الجارية هذه معروضة للبيع، هذا لما كان عند الناس رق وأسرى، وهذا الآن أصبح في عداد الماضي، في عداد التاريخ، لا يوجد اليوم رق وأسر بالشكل الصحيح، ولا يباع، وليس له الأسواق التي كانت يسمونها أسواق النخاسة، تباع ويزايد بثمنها، هذا أمر أصبح تاريخاً مضى وانقضى، ولا نريد أن ندخل الآن في الكلام عن نظام الإسلام في مسألة التعامل مع الأسير؛ لأن هذا كان أمراً موجوداً في العالم كله، والإسلام كان يعامل بالمثل، ومع ذلك الإسلام كان يحث كثيراً على تحرير الأرقاء، حتى جعل تحرير الرقيق من ضمن الكفارات: في من أتى أهله في رمضان، في كفارة القتل، في كفارة الظهار، وحث القرآن والسنة على تحرير الرقيق حتى من غير كفارة.. وهكذا: فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد:13-14]، لكن يظل هذا كان واقعاً موجوداً.

العالم الآن تقريباً ألغى قضية الرق والاسترقاق، وأصبح الناس لا يجدون رقيقاً، فعندما يقرأ مثال تسويد شعر الجارية أو تحمير وجهها، كثير من الناس ربما لا يستطيعون أن يفهموا هذه الأمثلة، وليست ضرورية؛ لأنها ليست شرعية، وإنما هذه نصوص للفقهاء، إنما لابد أن يفهمها الطالب.

فمعنا طبعاً (تحمير وجه الجارية)، يعني: مثلما نسميه الآن بالمكياج؛ أنه يضع عليها مثلاً من الأصباغ سواء في خديها أو في شفتيها ما يدل على بياضها أو حمرة وجهها، ونقوع الدم فيها وجمالها، بحيث يشتريها يظن أنها جميلة، فإذا دخلت البيت ودخلت دورة المياه واغتسلت وخرجت وإذا بها خلق آخر، ربما كانت مثلاً سمراء، ربما كان لونها سيئاً، ربما كان في وجهها عيوب، ففوجئ بها المشتري، في هذه الحالة له الرد أو ليس له الرد؟ بلى؛ لأن المسألة فيها تدليس.

كذلك المصنف قال: [أو سود شعرها]، يعني: صبغ شعرها بالسواد، وقد يكون الشعر مثلاً أبيض؛ إما لشيب أو لاعتبار معين، أو يكون أيضاً له لون آخر، فتسويده أعطى أنها شابة وأن شعرها حسن وجميل، فلما مرت عليها أيام وليالي ظهر أثر الصنعة في هذا الشعر.

[أو جعده] والتجعيد هو أن يكون الشعر ملتوياً، يعني: لا هو بالشعر الناعم المسترسل؛ لأنه أحياناً قد يفرد الشعر من أجل أن يكون ناعماً مسترسلاً، شعر الفتاة مثلاً، وأحياناً يكون الشعر مجعداً جداً أو كما نسميه نحن مفلفلاً، يعني: شديد التقارب، فالتجعيد هو مثل لو أن المرأة قامت بجذل شعرها بقوة، وهو رطب فيه الماء، ثم تركته حتى ينشف وفكت الشعر، ما الذي يحدث؟ يكون فيه نوع من التجعيد في الشعر، فهذا هو المقصود بتجعيد الشعر.

والشعر المجعد نوع من الجمال للمرأة، ولذلك لا بأس أن المرأة تتجمل بكل ما يمكن التجمل به لزوجها، وكثير من الناس قد يضيقون من مثل هذا، أنا أذكر أسئلة كثيرة وكلاماً كبيراً يثار حول كل شيء جديد وإن لم يكن فيه نص شرعي، وهو ما هو جديد، أنت ترى الفقهاء الآن من القرون السابقة يتكلمون عن التجعيد ويعترفون بأنه نوع من الجمال؛ لأن الجارية المجعد شعرها إذا تبين أنه غير مجعد اعتبروا أن له الرد، نعم؛ لأن هذا نوع من التدليس.

فالتجعيد وجميع ألوان فرد الشعر وتحسينه من الأشياء التي الأصل فيها الإذن والإباحة، وهي مطلوبة إذا كانت على سبيل التجمل للزوج، ليست لفتنة الأجانب ولا لخداع أو تغرير، وإنما لوجود نوع من التعلق بين الزوجين، وتحقيق قدر من المحبة والانسجام بينهما.

فالتجعيد هنا بعضهم قالوا: لأنه يدل على قوة الجسد، والذي يظهر لي أن التجعيد أولاً يظهر أن الشعر كثير ولو كان قليلاً، هذه من مظاهر الغش أو التدليس في التجعيد، أنه إذا تم تجعيد الشعر، بدا كما لو كان الشعر كثيراً، وإن كان حقيقته بعد زوال التجعيد أنه تبين أن الشعر أقل مما هو عليه، فهذا ربما من مقاصد موضوع.. إضافة إلى أنه يعطيه مسحة من الجمال.

كذلك المصنف ذكر من الأمثلة، قال: [رحى ضم الماء وأرسله عليها عند عرضها على المشتري].

وهذا المثال أيضاً يتواطأ كثير من الفقهاء على ذكره؛ وذلك أنهم كانوا يديرون الرحى التي يطحنون بها؛ كانوا يديرونها عن طريق مكينة لها ريشة، إذا صب الماء على هذه الريشة تحركت بقوة وبالتالي حركت الرحى، يكون هناك سير مربوط بها، فإذا تحركت الريشة تحرك السير ثم حرك الرحى، وهذا موجود، ربما بعضكم رأى نماذج منه، فإذا تحركت الرحى قامت بالطحن، فأحياناً يكون الماء كثيراً وقوياً، فإذا صبه على الريشة تحركت بسرعة وبقوة، فظن أنها هكذا بشكل دائم، فإذا اشتراها تبين له أن الأمر كان مجرد أنه جمع الماء وصبه ربما بشكل مؤقت، لكن لا يمكن هذا أن يكون مستمراً، فإذا اكتشف ذلك فإن له أن يعود ويُرجع الرحى على صاحبها، لكن يظل أن هذا المثال أيضاً ليس موجوداً في واقع الناس اليوم، والكثيرون ربما يحتاجون أن يفهموا المثال فضلاً عن أن يكون هو يفهمهم المعنى.

وصف المبيع بصفة يزيد بها ثمنه

كذلك المصنف قال -كمثال عام-: [لو وصف المبيع بصفة يزيد بها ثمنه فلم يجدها فيه كصناعة في العبد أو كتابة]، هذا قد يكون من التدليس بالقول، أنه قال له مثلاً: إن هذا العبد عنده صنعة معينة، خياط مثلاً أو نجار أو خطاط أو رسام، أو عنده دربة ومعرفة، عنده قدرة مثلاً على العمل على الكمبيوتر، عنده قدرة على الطباعة على الآلة بسرعة معينة، عنده تقنية معينة، عنده معرفة بالكهرباء.. أشياء من الصنعات المطلوبة، ثم تبين أنه ليس كذلك، وأنه ليس لديه هذه الخبرة، فهذا يعتبر نوعاً من التدليس والغش بالقول.

وكذلك الكتابة، لو قال: إن العبد كاتب، وتبين أنه لا يكتب، فهذا لا شك أنه عيب، وهذا دليل على حفاوة الإسلام وعنايته بالكتابة والعلم؛ لأن الكاتب يفيد سيده مثلاً، وهذا يقال في العبد ويقال في غيره، مثلما لو كان استأجر شخصاً على هذه الأمور، هذا أجير أو عامل عنده، ثم أتاه مكتب من مكاتب الاستقدام بموظف على أنه كاتب آلة أو ناسخ كما يقولون، ثم تبين أنه لا يحسن، فله حينئذ الرد والرجوع؛ لأن هذا نوع من التدليس.

[أو أن الدابة هملاجة] ما معنى هملاجة؟

سريعة وقوية في الوثب، وليست كذلك.

[والفهد صيود] يعني: صاحب صيد وقوي ومدرب، معلم، ولذلك قال: [أو معلم]، والمعلم يعرف كيف يصيد وينزجر إذا زجر ويأتمر إذا أمر.

[أو أن الطائر مصوت] مثل ماذا؟

مثل البلبل ومثل الكناري وغيرها من الطيور [ونحوه]، فهذه الأشياء كلها تعتبر من التدليس.

التدليس الذي يقصد من ورائه نوع من التلبيس أو التغرير أو التزوير الذي يظهر الأمر على خلاف ما هو عليه، أي: أفضل مما هو عليه، أو يخفي عيباً موجوداً فيه، وبشكل عام فربما نستطيع أن نقول أيضاً: إن التدليس ينقسم إلى قسمين، خصوصاً ما ذكره المصنف رحمه الله: تدليس فعلي وتدليس قولي.

التدليس الفعلي: أن يقوم البائع بوضع شيء على السلعة، أو إظهارها بصفة معينة إذا رآها المشتري ظن أنها جيدة أكثر مما هي عليه، كما سوف نضرب لذلك بعض الأمثلة.

أما القسم الثاني: وهو التدليس القولي، فهذا يكون بماذا؟ مثل ماذا التدليس القولي؟ أيضاً نحن ذكرناها الأسبوع الماضي، الزيادة في الثمن، خلك في الأول، التدليس القولي نقصد به الزيادة في الثمن، كما ذكرناه فيما سميناه ببيوع الأمانات.

ما هي بيوع الأمانات؟

بيوع الأمانات هي البيوع التي أشتري بناء على أنك قلت لي: إنني اشتريت السلعة هذه بكذا، فإذا قلت لي مثلاً: إنك اشتريت هذه السلعة بمائة ريال وسوف تبيعها علي برأس المال، هذا يسمى بيع أمانة، واسمه الخاص بيع التولية إذا كان بنفس رأس المال، أو المرابحة إذا زدت عليك، أو النقيصة أو الحطيطة إذا نزلت لك، أو الشركة إذا أدخلتك معي بنفس رأس المال، هذه الأقسام الأربعة تسمى بيوع الأمانة، لكن إذا قلت لك: إني اشتريت السلعة بمائتين والواقع أني اشتريتها بمائة وخمسين، فهذا يعتبر تدليساً بالقول.

إذاً: التدليس نوعان: تدليس قولي وتدليس فعلي.

المصنف رحمه الله بدأ بالتدليس الفعلي، فقال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تُصرُّوا الإبل والغنم )، على الرواية المشهورة في ضم التاء وفتح الصاد: (لا تَصرُّوا) من التصرية، وبعضهم قد يقول: لا (تَصُرُّوا) من الصر، الإبل والغنم، والمقصود بالتصرية حبس اللبن في الضرع، بحيث إنه إذا رآها المشتري ظن أن لبنها كثير، والواقع أنها ليست كذلك، ولكن هم تركوا حلبها أو لبسوا على ثديها شيئاً يجعل اللبن يظل موجوداً فيها وقتاً أطول، فإذا رآها المشتري توقع أن لبنها أكثر مما هو عليه، ولهذا يسمونه التحفيل، الشاة المحفلة هي التي حبس لبنها في ضرعها، مصراة أو محفلة، ومنه سمي الحفل؛ لأن الناس يجتمعون فيه، فهذا هو المقصود بالتصرية.

(لا تُصَروا الإبل والغنم)، يعني: على سبيل الخداع للمشتري، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال هنا: ( فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين )، (من ابتاعها) يعني: اشتراها، فمن اشترى شاة أو ناقة أو بقرة محفلة، وظن أنها هكذا على سبيل الاستمرار، ثم وجد أن الأمر فيه غش وتلبيس وتدليس، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فهو بخير النظرين)، يعني: له أحد الرأيين الأحب إليه ( بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر ).

هذا الحديث المشهور حديث المصراة، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والبيهقي والإمام أحمد في مسنده وغيرهم.. كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وألفاظه مختلفة جداً وكثيرة جداً، ففي بعض الأحاديث ذكر أنه بالخيار ثلاثة أيام، وكذلك بعضهم قال: ( ردها وصاعاً من طعام )، وبعضها قال: ( صاعاً من طعام أو تمر لا سمراء )، يعني: ليس من البر.. روايات كثيرة جداً، لكن مدارها على هذا المعنى، وهو أكثر ما ورد في الأحاديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عن تصرية الإبل والغنم، وقال: إن المشتري إذا وجد أن الشاة مصرّاة فهو بالخيار )، أي: والبيع صحيح؛ ولهذا خيره النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قال: هو بالخيار إن شاء أمسك الشاة أو الناقة، وإن شاء ردها ورد معها للبائع الأول صاعاً من تمر مقابل اللبن الذي كان فيها يوم اشتراها. لكن لو حلبها مرة ثانية هل يرد أيضاً مقابل الحلبة الثانية؟

لا؛ لأن الحلبة الثانية جاءت وهي في ملكه، وإنما يرد صاعاً مقابل الحلبة الأولى التي كانت موجودة يوم اشتراها التي كان عليها الكلام في مسألة التصرية أو التحفيل.

ولا شك أن التصرية في هذه الحالة لا تجوز؛ لأنها نوع من الغش، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من غش فليس منا )، وهذا الحديث رواه مسلم، والشارح نسبه للصحيحين، وهذا وهم، وإنما هو من أفراد مسلم : ( من غش فليس منا ) أو ( من غشنا فليس منا )، والحديث جاء في قصة صاحب الصبرة الذي وجد في أسفلها بللاً، قال: ( يا رسول الله! أصابته السماء، قال: هلا وضعته في أعلاها حتى يراه الناس، من غش فليس منا، أو من غشنا فليس منا ).

إذاً: لا يجوز للإنسان أن يعمل هذه التصرية أو التحفيل للشاة أو للناقة، وبناء عليه لا يجوز للإنسان أن يقوم بالتدليس أو التلبيس في أي سلعة يقوم ببيعها؛ بما يقتضي تغرير المشتري، إذا كان الأمر خفياً لا يدرك، فهذا مما لا يجوز.

هذه مسألة المصراة فيها كلام كثير وبحث كثير لأهل العلم، ولعلنا نقتصر من أمرها على مسألتين:

المسألة الأولى: أنه من اشترى هذه المصراة التي ظاهرها أن لبنها أكثر مما هو عليه في الواقع، فما الحكم؟

الجمهور من أهل العلم يقولون: إن له الخيار -كما ذكرنا- بين أن يرد الشاة وبين أن يمسكها، طبعاً إذا كان حلبها فإنه كما قلنا: يرد معها، لكن إذا كان لم يحلبها واكتشف التصرية، فماذا يصنع؟ يردها كما هي، ما دام اللبن موجوداً واكتشف أنها مصراة فعلاً، نقول: له أن يردها.

المهم أن المسألة الأولى في مسألة: خيار المشتري بين الإمساك.. وله شيء مع الإمساك نقول له: أرش الزيادة مثلاً أو يطلب شيء؟ لا يطلب شيئاً؛ بل يمسك الشاة كما هي، وله الخيار في ردها إلى صاحبها مع رد ما يقابل اللبن الذي أخذه.

هذا القول بأن له الخيار هو مذهب الجمهور منقول عن جماعة من الصحابة كـابن مسعود رضي الله عنه وأبي هريرة وأنس بن مالك وغيرهم، وهو مذهب أكابر أهل العلم كـمالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وبعض الحنفية كـأبي يوسف وغيرهم.. فهؤلاء يقولون: له الرد، وحجتهم الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحجتهم أيضاً النظر، فإنهم يقولون: إن الشراء وقع على سلعة أو شاة أو ناقة ظنها هكذا، وتبين له أن الأمر فيه تلبيس، فجاز له أن يرجع، فلهم دليل من الأثر ولهم دليل من النظر، وهذا هو القول الراجح لقوته من الناحية النقلية ومن الناحية العقلية.

ولكن خالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة وتلميذه محمد بن الحسن ورأوا أنه ليس له الخيار، وكأنهم رأوا أنه فيما يتعلق بالمصراة أن هذا العيب عيب يسير لا يمنع صحة البيع، وقالوا: إنه مثلما لو أشبع الشاة؛ بحيث ظن المشتري أنها مثلاً حامل أو سمينة وليس كذلك فإنه لا يرجع بها، وتأولوا هذا الحديث بتأويلات كثيرة ذكرها الشوكاني في نيل الأوطار وغيره، وكثير من العلماء فصلوا فيها أنهم لم يردوا هذا الحديث رداً مباشراً، وإنما قالوا باحتمال النسخ، وقال بعضهم: إن راوي الحديث أبا هريرة ليس من فقهاء الصحابة، وهذا عذر ضعيف؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه من المتقنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى ثابت وصحيح ومطرد، مع نصوص الكتاب والسنة ومع القواعد الشرعية، ولو رددنا حديث أبي هريرة لرددنا شيئاً كثيراً من السنة.

المقصود: أن لهم أعذاراً في ترك العمل بهذا الحديث، ولكن هل نقبل هذا القول؟ مع أننا نعذرهم إلا أننا نقول: قولهم مرجوح، والراجح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين: أن المصراة لصحابها أن يعود فيها، هذه هي المسألة الأولى.

المسألة الثانية: أنه إذا رضي المصراة وأمسكها انتهى الأمر، لكن إذا قرر أنه سوف يردها على البائع، فماذا يرد معها؟

الذين يقولون بالرد تقريباً، يقولون: بأنه لابد أن يرد مقابل اللبن، لكن ماذا يرد؟

طبعاً منهم من يقول: أنه يرد صاعاً من تمر، كما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في معظم الروايات الواردة في الصحيحين وغيرهما: ( وإن شاء ردها ورد معها صاعاً من تمر ).

فقالوا: نص النبي صلى الله عليه وسلم على التمر، فإذا رد المصراة رد معها هذا الصاع من التمر، هذا القول الأول، وهو قول جماعة من الصحابة, والليث وإسحاق والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور والإمام أحمد وغيرهم.. أنه يردها ويرد معها صاعاً من تمر، الحجة الحديث.

القول الثاني: مذهب الإمام مالك وبعض الشافعية.. هو وجه عند الشافعية، قالوا: إن الواجب أن يرد صاعاً من غالب قوت البلد، سواء كان تمراً أو غيره، مثل أن يرد مثلاً رزاً أو طعاماً أو غيره، وحجتهم في ذلك:

أولاً: قالوا: أنه في بعض ألفاظ الحديث: ( صاعاً من طعام )، وهذه في روايات حتى في مسلم، والبخاري ذكرها من غير أن يرويها بإسناده، أنه قال بعضهم: صاعاً من طعام، وقالوا: الغالب التمر، فقالوا.. وكذلك جاء في مسند الإمام أحمد وسنده صحيح أيضاً، أنه ذكر صاعاً من طعام، فقالوا: إن ورود صاع من طعام ومرة صاعاً من تمر؛ يدل على أن الأمر يعود إلى غالب قوت البلد، مرة يروا الطعام ومرة يروا التمر بحسب حال أهل البلد بدل هذا اللبن، ولذلك لو رد اللبن نفسه، إذا تبين أنها محفلة واللبن عنده لم يحمض ولم يتغير ولم يفسد له أن يرده أو لا؟ لأن هذه بضاعتك، هذا الذي لك، وهذا له قوة.

العلة الثانية: قالوا: إن هذا الأمر ليس أمراً تعبدياً؛ أن المقصود تمر؛ لأن فيه علة تعبدية يعلمها الله ولا يعلمها الناس، وإنما هو أمر يتعلق بمعاملات ومعاوضات بين الناس مبناها على مراعاة العدل، والشريعة جاءت بالعدل، فإذا رد عليه لبنه وهو لم يتغير يكون عدلاً أو لا؟! طيب. رد عليه ما يقابله من قوت البلد يكون عدل أو ما عدل؟

فقالوا هنا: إن المقصود من صاع من تمر؛ لأن هذا كان غالب قوت أهل المدينة، وهو المتيسر عندهم؛ لأنهم أهل زراعة، لكن قد لا يكون التمر موجوداً في كثير من بلاد الإسلام وغيرها، فيكون المدار حينئذ على أنه يرد ما يقابل هذا الصاع من غالب قوت البلد أو غيره.

والذي يظهر لي -والله تعالى أعلم-: أن القول الثاني له قوة ووجاهة، خصوصاً إذا نظرنا أن الأمر لا يتعلق به تعبد، وإنما هو أمر -كما ذكرنا- يتعلق بالمعاملات بين الناس، ورد صاع التمر قد يكون غير ممكن أو متعذر أحياناً أو لا يتيسر، فكون الناس يردون ما هو من غالب قوت البلد أو ما يتحقق به المكافأة، أو يتحقق به العدل والتراضي بين الطرفين، فإن هذا أعظم مقصود الشارع في مثل هذه المناسبة.

ضمن هذه الفقرة الآن: إذا علم الإنسان بأن الشاة مصراة قبل أن يحلبها، فما الحكم؟

له الحق أن يردها إلى صاحبها، طيب. لو أنه حلبها وهو يعلم أنها مصراة؟

قد يقال -والله أعلم- إنه رضي، وبناء عليه لا يرجع، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: ( فهو بالخيار بعد أن يحلبها )، فكأنه لم يتحقق من التصرية إلا بعد الحلب، لكن لو علم قبل ذلك، فالأقرب أنه يردها، فإذا حلبها.. إلا أن يكون قصده التأكد والتيقن من هذا الأمر.

يقول ابن عبد البر : إنه إن علم بالتصرية قبل الحلب فله ردها بإجماع أهل العلم. هكذا ذكره ابن عبد البر وغيره.

طبعاً الحديث يتعلق بموضوع التدليس -كما ذكرنا-، ويدخل فيه كل مدَلَس لا يعلم المشتري أن فيه التدليس، ولذلك ذكر المصنف أمثلة، ومع الأسف أننا الآن نقرأ في كتب الفقه، هذه الكتب ليست قرآناً ولا حديثاً، وإنما هي من كلام العلماء والمشايخ، فالعلماء كانوا يأتون بأمثلة من واقعهم ومن حياتهم، وربما نحن نحتاج إلى أن نفهم هذه الأمثلة؛ لأنها ربما بعضها غاب عن الواقع تماماً، فالمطلوب منا كطلبة علم ومتفقهين الآن أن نخترع ونبتكر أمثلة من واقعنا.