عنوان الفتوى : مآل الروح بعد الموت، والمراد بتعذيب الميت ببكاء أهله عليه
ذُكر في كتاب: الموت والبرزخ، لعمر بن سليمان الأشقر. أن ملائكة الموت تصعد بالروح بعد الموت إلى السماء، ثم تنزل بها إلى القبر بعد دفن الجسد؛ لسؤال الملكين.
فما صحة قول عامة الناس إن الروح بعد الموت تبقى بجانب الجسد، وتشهد الغسل، وتسمع كلام الناس، وتتعذب بالنواح حتى يدفن الجسد؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن أمر البرزخ من الغيب الذي لا نعلم منه إلا ما بلغنا عن طريق نصوص الوحي، ولا مجال فيه للرأي والنظر.
وأما إعادة الروح للبدن: فإنها تعاد إليه وقت السؤال، كما ثبت في السنة. وراجعي الفتوى: 61681، وراجعي كذلك للفائدة، الفتوى: 151567، وما أحيل عليه فيها.
وأما قولك: (فما صحة قول عامة الناس إن الروح بعد الموت تبقى بجانب الجسد، وتشهد الغسل، وتسمع كلام الناس، وتتعذب بالنواح حتى يدفن الجسد؟) فلا نعلم أصلا في الشرع يدل على هذا التخصيص.
وقد سئل الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- كما في: فتاوى نور على الدرب: هل صحيح أن روح الميت تظلله حتى يدخل إلى قبره، فتدخل معه، وهل صحيح أن الميت يحس بالذين يغسلونه؟ والذين يمشون في جنازته؟
فأجاب: لا أعلم لهذا أصلًا، أقول: لا أعلم لهذا أصلًا، الروح روح المؤمن إذا قبضت ترفع إلى السماء إلى الله، ثم يأمر بإرجاعها إلى جسدها حتى يسأل في القبر: من ربه؟ ما دينه؟ من نبيه؟ والكافر إذا ارتفعت روحه غلقت عنها أبواب السماء، بل هذا يدل على أن الروح تغادر جسد الإنسان عند الموت، لا تظلل عليه بل تغادر، لكن روح المؤمن ترفع إلى السماء، فوق السماء السابعة، ويقول الله جل وعلا: ارجعي من حيث جئت، يردها إلى جسدها حتى يسأل عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه، والكافر تغلق عنها أبواب السماء وتطرح طرحا، نسأل الله السلامة. انتهى.
وفيما يتعلق بسماع الموتى كلام الأحياء، فالذي نرجحه هو أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، لكن لا يلزم أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حال دون حال، وانظري في هذا الفتوى: 428569.
وأما تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، فقد ورد ذكره في الأحاديث الصحيحة، لكن لا نعلم ورود ما يقيد ذلك بوقت التغسيل، أو بما قبل دفن الجسد.
وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية، المراد بتعذيب الميت ببكاء أهله عليه، فقال: وأما قول السائل: هل يؤذيه البكاء عليه؟ فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف والخلف والعلماء.
والصواب أنه يتأذى بالبكاء عليه، كما نطقت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» - وفي لفظ- «من ينح عليه، يعذب بما نيح عليه».
وفي الحديث الصحيح أن عبد الله بن رواحة لما أغمي عليه، جعلت أخته تندب، وتقول: واعضداه، واناصراه، فلما أفاق قال: ما قلت لي شيئا إلا قيل لي: أكذلك أنت؟
وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف، واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره، فهو مخالف لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164]، ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة.
فمنهم من غلط الرواة لها، كعمر بن الخطاب وغيره. وهذه طريقة عائشة، والشافعي وغيرهما.
ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به، فيعذب على إيصائه، وهو قول طائفة: كالمزني، وغيره.
ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كانت عادتهم، فيعذب على ترك النهي عن المنكر، وهو اختيار طائفة: منهم جدي أبو البركات.
وكل هذه الأقوال ضعيفة جدا...
وأما تعذيب الميت: فهو لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه. بل قال: "يعذب" والعذاب أعم من العقاب، فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقابا له على ذلك السبب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه» فسمى السفر عذابا، وليس هو عقابا على ذنب.
والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها، مثل الأصوات الهائلة، والأرواح الخبيثة، والصور القبيحة، فهو يتعذب بسماع هذا وشم هذا، ورؤية هذا، ولم يكن ذلك عملا له عوقب عليه...
ثم النياحة سبب العذاب. وقد يندفع حكم السبب بما يعارضه، فقد يكون في الميت من قوة الكرامة ما يدفع عنه من العذاب، كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة، والأرواح والصور القبيحة.
وأحاديث الوعيد يذكر فيها السبب. وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك: إما بتوبة مقبولة، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بشفاعة شفيع مطاع، وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته، فإنه {لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48].
وما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الآلام التي هي عذاب، فإن ذلك يكفر الله به خطاياه، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» .اهـ. باختصار من مجموع الفتاوى.
والله أعلم.