تفسير الربع الأول من سورة هود كاملا بأسلوب بسيط
مدة
قراءة المادة :
22 دقائق
.
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [1]تفسير الربع الأول من سورة هود كاملا بأسلوب بسيط
الآية 1، والآية 2: ﴿ الر ﴾ سَبَقَ الكلام عن الحروف المُقطَّعة في أول سورة البقرة.
♦ إنَّ هذا القرآنَ هو ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ﴾ أي أُتقِنَت آياته، ﴿ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ أي: ثم بُيِّنَتْ آياته للناس - بَياناً في أعلى أنواع البَيان - وذلك بتوضيح الحلال والحرام، والقصص والمواعظ، والآداب والأخلاق، والعقائد والبراهين، بما لا مَثِيل له في أيّ كتابٍ سابق.
♦ وقد كان ذلك التفصيل ﴿ مِنْ لَدُنْ ﴾ أي مِن عند﴿ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ وهو اللهُ سبحانه وتعالى، الحكيمُ في تدبيره وتصَرُّفه وشَرْعه وقضائه، الذي يَضع الأمور في مَواضعها، الخبيرُ بأحوال عباده وما يُصلح خَلقه (فلذلك لا يكونُ كتابه إلا المَثَل الأعلى في كل شيء)، وقد أنزله اللهُ تعالى وبَيَّنَ أحكامه لأجْل ﴿ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ﴾ إذ لا مَعبودَ بحقٍّ إلا هو، ولا عبادة تنفع إلا عبادته.
♦ وقل أيها النبي للناس: ﴿ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ ﴾ يعني: إنني رسولٌ لكم مِن عند اللهِ تعالى،﴿ نَذِيرٌ ﴾ أُنذِرُكم عقابهُ إنْ أشركتم به وعصيتموه ﴿ وَبَشِيرٌ ﴾ أُبَشِّركم بثوابه إنْ وَحَّدتموهُ وأطعمتموه.
الآية 3، والآية 4: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ﴾ أي اطلبوا منه أن يَغفر لكم ما صَدَرَ منكم من الشرك والذنوب، ﴿ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾ أي: ثم ارجِعوا إليه بالإيمان والعمل الصالح: ﴿ يُمَتِّعْكُمْ ﴾ في دُنياكم ﴿ مَتَاعًا حَسَنًا ﴾ بطِيب العَيش وسعة الرزق ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾: يعني إلى وقت انتهاء آجالكم،﴿ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ يعني: ويُعطِ سبحانه أهلَ الإحسان والبِرّ مِن فضله ونعيمه في الجنة، ما تقِرّ به أعْيُنُهم، (فالفضل المذكور أوّلاً: هو العمل الصالح، والفضل المذكور ثانياً: هو دخول الجنة)، وهذا كقوله تعالى: ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ ﴾.
﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾: يعني وإن تتولوا (والمعنى: وإن تُعرِضوا عمَّا أدعوكم إليه) ﴿ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ (وهو يوم القيامة) الذي يَجمع اللهُ فيه الأولين والآخِرين.
♦ واعلموا أنّما ﴿ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ جميعًا بعد موتكم فاحذروا عقابه، ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي: وهو سبحانه قادرٌ على بَعثكم وحَشركم وجَزائكم.
الآية 5: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ ﴾ - أي المشركين -﴿ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ﴾: أي يُخفونَ الكُفر في صدورهم ﴿ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ﴾ يعني: وذلك ظنًاً منهم أنه يَخفَى على اللهِ تعالى ما تُخفيه نفوسهم.
♦ فرَدَّ اللهُ على ذلك الظن الفاسد بقوله: ﴿ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ ﴾: يعني ألاَ يَعلمون أنَّهم- حين يُغَطُّونَ أجسادهم بثيابهم - فإنه تعالى ﴿ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي لا يَخفَى عليه سِرُّهم وعَلانيتهم، بل ﴿ إِنَّهُ ﴾ سبحانه ﴿ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ أي عليمٌ بكل ما تُخفِيهِ صدورهم من النِيَّات والخواطر.
الآية 6: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ﴾ - أي تدبّ على وجه الأرض - ﴿ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾، ﴿ وَيَعْلَمُ ﴾ سبحانه﴿ مُسْتَقَرَّهَا ﴾أي مكان استقرارها في حياتها وبعد موتها، ﴿ وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ أي: ويَعلم الموضع الذي تموت فيه (واعلمأنّ اللفظ "مُستَودَعَها": يُوحِي بأنها تُوَدِّع الدنيا في هذا المكان)، ﴿ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾: أي كل ذلك مكتوبٌ في كتابٍ واضح عند اللهِ تعالى، وهو اللوح المحفوظ.
♦ ومِن لطيفِ ما يُذكَر أنّ حاتم الأصَمّ سُئِلَ يَوماً: (مِن أين تأكل يا حاتم؟)، فقال: (مِن عند الله)، فقيل له: (اللهُ يُنزلُ لك دنانير ودَراهِم من السماء؟)، فقال: (كأنّ ما لَهُ إلاّ السماء! يا هذا: الأرض له، والسماء له، فإن لم يُؤتني رزقي من السماء، ساقَهُ لي من الأرض).
الآية 7: ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ ﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾ - قبل أن يَخلقالسماوات والأرض -، فلمَّا خلق سبحانه السماوات والأرض: استوَى على عرشه فوق السماء السابعة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، وقد كانت أمُّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها تقول: (زَوّجَني اللهُ تعالى من فوق سبع سماوات)، وذلك في قوله تعالى لنَبِيِّهِ محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ﴾، (ولك أن تُراجِع - في إثبات استواء اللهِ تعالى على عرشه فوق السماء السابعة - تفسير قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ﴾، في الآية الثالثة من سورة الأنعام مِن هذا التفسير، فإنّ فيه بَياناً شافياً، وللهِ الحمدُ والمِنَّة).
♦ وقد خَلَقَ سبحانه كلَّ شيءٍ لأجْلِكُم، ثم خَلَقَكم ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾: أي لِيَختبركم أيُّكُم أتقنُ في الطاعةً وأحسنُ في العمل الصالح (وهو كلّ ما كانَ خالصًا للهِ تعالى، وموافقًا لِمَا كان عليه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم).
﴿ وَلَئِنْ قُلْتَ ﴾ - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين: ﴿ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ ﴾ يعني إنكم ستُبعَثون أحياءً بعد موتكم: ﴿ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ - مُسارِعينَ إلى التكذيب مِن غير تدَبُّرٍ وتثَبُّت -: ﴿ إِنْ هَذَا ﴾ أي: ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا﴿ إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ أي سحرٌ ظاهر، وهم يَعلمون أنهم كاذبونَ في ذلك، فلقد اعترف لهم أحد رؤسائهم - وهو الوليدُ بن المُغِيرة - أنّ ما يَقوله السَحَرةُ شيئ، وأنَّ هذا القرآن شيئٌ آخر، وأنه ليس بكلامِ بَشَر (وذلك عندما سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أجْبَره المشركون بعد ذلك أن يقولَ للناس إنه سِحر).
♦ واعلم أنهم عندما يقولون عن القرآن إنه سِحر، فإنهم في حقيقة الأمر يَعترفون بهزيمتهم في أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فيَضطروا إلى اللجوء إلى هذا القول الباطل.
الآية 8: ﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ ﴾ يعني إلى أجَلٍ معلوم، فاستبطؤا نزوله: ﴿ لَيَقُولُنَّ ﴾ - يعني حينئذٍ سيقول المشركون - استهزاءً وتكذيبًا: ﴿ مَا يَحْبِسُهُ ﴾: يعني أيّ شيء يَمنع نزول هذا العذاب إن كانَ حقًا؟ ﴿ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ﴾ ذلك العذاب، فإنه ﴿ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ ﴾: أي لا يستطيعُ أحدٌ أن يَدفعه عنهم، ﴿ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾: يعني وحينئذٍ سيُحِيطُ بهم العذاب الذي كانوا به يَستهزئون.
♦ واعلم أنّ لفظ "أمَّة" يأتي أحياناً بمعنى: (جماعة من الناس)، وأحياناً بمعنى: (فترة من الزمن)، واعلم أيضاً أنّ اللهَ تعالى قد ذكَرَ لفظ: (حاقَ) بصيغة الماضي - مع أنّ العذاب لم يأتِ بعد - وذلك لتأكيد وقوعه في عِلم اللهِ تعالى.
الآية 9، والآية 10، والآية 11: ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ﴾ يعني: ولئن أعطينا الإنسان نعمةً مُعَيَّنة - مِن صحةٍ أو رزقٍ أو أمْنٍ أو غير ذلك - ﴿ ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ ﴾ بسبب عِصيانه وغفلته واغتراره بتلك النعمة وعدم شُكره عليها: ﴿ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ ﴾: يعني إنه - حينما تُسلَب منه تلك النعمة - لَشديد اليأس مِن رحمة اللهِ تعالى، ساخطٌ على قضائه، و ﴿ كَفُورٌ ﴾: أي جَحود بالنعم التي أنعمَ اللهُ بها عليه قبل ذلك السَّلب.
﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ﴾ - وذلك كأنْ يُوَسِّعَ اللهُ عليه في رزقه بعد أن كانَ في ضِيقٍ من العَيش -﴿ لَيَقُولَنَّ ﴾ عند ذلك: ﴿ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ﴾: أي ذهب الضِيقُ عني وزالت الشدائد، ﴿ إِنَّهُ ﴾ حينئذٍ﴿ لَفَرِحٌ ﴾ أي مُتكبر بالنعم،﴿ فَخُورٌ ﴾ أي مُبالغ في الفخر والتعالِي على الناس بما أعطاهُ اللهُ له.
♦ ثم استثنى اللهُ الصابرينَ الشاكرين - مِمَّن سبق - فقال: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ على ما أصابهم من الضُرّ (احتسابًا للأجر عند اللهِ تعالى)، ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ شُكراً للهِ على نِعَمِه ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم﴿ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ في الآخرة.
الآية 12: ﴿ فَلَعَلَّكَ ﴾ - أيها الرسول لِعِظَم ما تراه مِن تكذيب قومك - ﴿ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ مِمّا أنزله اللهُ عليك وأمَرك بتبليغه، (وهذا الكلام غرضه: النهي والاستنكار، يعني: (لا تترك تبليغ ما فيهِ سَبٌّ لآلهتهم كما طلبوا منك)، وذلك لأنهم قالوا له: لو أتَيْتَنا بكتابٍ ليس فيه سَبُّ آلهتنا لاتَّبعناك).
♦ وقد بَلَّغَ الرسول صلى اللهعليه وسلم رسالة ربه كاملة، تقول السيدة عائشة رضي اللهُ عنها: (لو كانَ النبي صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي، لَكَتَمَ هذه الآية: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾.
﴿ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ أي مِن تلاوة القرآن عليهم خشية أن يَطلبوا منك بعض المَطالب على وجه العِناد، كـ﴿ أَنْ يَقُولُوا ﴾: ﴿ لَوْلَا أُنْزِلَ ﴾ - أي هَلاَّ أُنزِلَ -﴿ عَلَيْهِ كَنْزٌ ﴾ أي مالٌ كثير يَعيشُ عليه فيَدُلّ ذلك على إرسال اللهِ له وعنايته به، ﴿ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ﴾ لِيَشهد له بصِدقه في رسالته.
♦ فلا يَضرك قولهم أيها الرسول، ولا يَضِق صدرك بمَطالبهم فـ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ ﴾ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحاه اللهُ إليك،وقد أنذرتَهم، فلا تحزن إذاً على إعراضهم، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ فيَحفظ سبحانه أعمالهم ويُحاسبهم عليها، (واعلم أنّ الوكيل هو مَن يُوَكَّل إليه الأمر لِيُدَبِّرَه).
الآية 13، والآية 14: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ يعني: بل يقولون: (إنّ هذا القرآن قد افتراه محمد مِن عند نفسه)، مع أنهم يَعلمون أنه بَشَرٌ مِثلهم!! إذاً ﴿ قُلْ ﴾ لهم - أيها الرسول -: إذا كانَ هذا مِن كلام البشر ﴿ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ مِن عندكم﴿ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أي: واستعينوا على ذلك بكل مَن تقدرون عليه مِن إنسٍ وجن، ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في دَعواكم، (ولو كانَ ذلك مُمْكِنًا: لادَّعَوا قدرتهم على فِعله، ولكنْ لَمَّا ظهر عَجْزُهُم: تبيَّنَ أنَّ ما زعموه باطل)، ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ﴾ أي: فإن لم يَستجب لكم أعوانكم في الإتيان بمثله - لِعَجْز جميع الخلق عن ذلك - ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ﴾: أي فاعلموا أيها المشركون أنّ هذا القرآن قد أنزله اللهُ على رسوله محمد، بعلمٍ منه سبحانه بأحوال عباده في كل زمان ومكان، وبما يَصلح لهم وما لا يَصلح (فهو تنزيلُ مَن أحاطَ عِلمُهُ بكل شيء، وَوَسِعَتْ رحمته كل شيء)،﴿ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ أي: واعلموا أنه لا معبود بحقٍ إلا الله، ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾: أي فهل أنتم - بعد عَجْزِكم وقيام الحُجَّةِ عليكم - مُسلمونَ مُنقادونَ للهِ تعالى؟
الآية 15، والآية 16: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ﴾ - مُقابل أعمالِهِ الحَسَنة -: ﴿ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾ - كالمُرائين الذين يريدون بأعمالهم الثناء من الناس -: ﴿ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ﴾: أي نُعطِهم - مُقابل ثواب أعمالهم - مِن متاع الدنياوزينتها﴿ وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ﴾ أي لا يُنقَصون من أعمالهم شيئاً في الدنيا، لأنّ اللهَ تعالى لا يريد أن يَجعل لهم نصيباً في الجنة، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ﴾ ﴿ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا ﴾ أي: وذهب عنهم ثوابُ ما عملوه في الدنيا، ﴿ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾أي: وكانَ عملهم باطلاً، لأنه لم يكن خالصاً لوجه اللهِ تعالى.
الآية 17: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ أي على حُجَّةٍ مِن ربه، (والمقصود بهذه الحُجَّة: القرآن الكريم، الذي أنزل اللهُ فيه البراهين، وتَحَدَّى به المشركين)، ﴿ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ﴾ أي: ويَتْبَعُ هذا القرآن دليلٌ آخر يَنطق به ويَشهد بصِدقه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام (لسانُ الصِدق، وصاحبُ الخُلُق العظيم)، حيثُ نَظَرَ إليه أعرابي يَوماً فقال: (واللهِ ما هو بوجه كذّاب)، ﴿ وَمِنْ قَبْلِهِ ﴾ يعني: ويَشهد بصِدق القرآن دليلٌ ثالث نَزَلَ قَبله، وهو التوراة﴿ كِتَابُ مُوسَى ﴾ الذي أنزله اللهُ عليه ليكونَ﴿ إِمَامًا ﴾ يُهتَدَى به ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ لمن آمَنَ به (وذلك قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام)، فهذا الكتاب يَشهد بصدقه صلى الله عليه وسلم، حيثُ ذَكَرَ صفاته وصِفات أُمَّته في أكثر مِن مَوضع.
♦ أفمَن هو على هذه البينات والبراهين مِن صِحَّة دينه - والمقصود به النبي صلى الله عليه وسلم - كمن لا دليلَ له إلا التقليد الأعمى؟! لا يَستويان أبداً، ﴿ أُولَئِكَ ﴾ أي الذين جاءتهم تلك البيّنات والحُجَج ﴿ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أي يُصدِّقون بهذا القرآن ويَعملون بأحكامه، ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ ﴾ (وهم الذين تَحَزَّبوا - أي اجتمعوا - على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم مِن جميع الأمم، وأوّلهم: المشركون واليهود، والنصارى والمَجوس) ﴿ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾ أي قد جعلها اللهُ جزاءً لمن كَفر بالقرآن الكريم، على الرغم مِن وضوحه وقوة حُجَته.
﴿ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ﴾: أي فلا تكن - أيها الرسول - في شَكٍّ من القرآن، بعد ما شَهِدَتْ الأدلة على أنه مِن عند اللهِ تعالى ﴿ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾ (واعلم أنَّ هذا - وإنْ كان خطابًا للرسول صلى الله عليه وسلَّم - فإنه مُوَجَّه للأمَّةِ عموماً)،﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ (لِعِنادهم واتِّباعهم لأهوائهم).
الآية 18، والآية 19: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ يعني: ولا أحد أشد ظلماً﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ فزَعَمَ أنّ له شريكٌ أو ولد﴿ أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ ﴾ أي سيُعرَضون﴿ عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ يوم القيامة ليُحاسبهم على أعمالهم، ﴿ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ ﴾ (والأشهاد: جَمْع شاهد، وهم: الملائكة والنبيون وأعضاء الإنسان، والأرض (التي فُعِلتْ عليها الطاعات والمعاصي)، وغير ذلك).
♦ فهؤلاء يَشهدون على الكاذبين يوم القيامة، ويقولون: ﴿ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ فغَضِبَ عليهم، وطَرَدَهم من رحمته﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ (أي بُعداً لهم مِن رحمة اللهِ تعالى)، وهؤلاء الظالمون هم ﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أي يَمنعون الناس عن الدخول في سبيل اللهِ المُوَصِّلة إلى جَنَّته (وهي الإسلام) ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ أي يريدون أن تكون هذه السبيل عَوجاء لِتُوافِق أهوائهم، ﴿ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ فلا يُؤمنون ببَعثٍ ولا جزاء.
الآية 20، والآية 21، والآية 22: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ الكافرون﴿ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾: أي لم يكونوا لِيَهربوا من عذاب اللهِ في الدنيا، بل هو قادرٌ على أنْ يُنزل بهم عذابه مَتَى أرادَ ذلك، ﴿ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ﴾ أي: وما كان لهم مِن أنصارٍ يَمنعونهم مِن عقابه سبحانه،﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ في جهنم، لأنهم﴿ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ﴾: أي كانوا لا يَستطيعون أن يَسمعوا القرآن سَماعَ تَدَبُّر وانتفاع ﴿ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ﴾ أي: وما استطاعوا أن يُبصِروا آيات اللهِ - في هذا الكون - إبصارَ تَفَكُّر واهتداء (وذلك لاشتغالهم بالباطل الذي كانوا مُقيمين عليه)، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي أهلكوا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، (إذ معنى خُسران النفس: عدم الانتفاع بها في الدنيا، حين كان في إمكانهم أن يَجعلوها تفعل الخير الذي يُؤدي بهم إلى الجنة)، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾: أي ذهب وغاب عنهم ما كانوا يَزعمونه كَذِباً مِن شفاعة آلهتهم لهم يوم القيامة، ﴿ لَا جَرَمَ ﴾ أي حَقًا، ولا شَكَّ﴿ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ﴾ أي أخْسَرُ الناسِ صَفَقةً، لأنهم استبدلوا النعيم المُقيم بالعذاب الأليم.
الآية 23: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ أي انقادوا للهِ تعالى وخَشَعوا له: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، (واعلم أنّ الخُشوع هو الذل والخوف من اللهِ تبارك وتعالى، فالخاشعون ذليلون مِن كَثرة النِعَم، وذليلون أيضاً من كثرة الذنوب، وهم الخائفون من المَلِك الجبار، الذي سيَحكم عليهم بجنةٍ أو بنار).
الآية 24: ﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ ﴾ يعني: مَثَل فريقَي الكفر والإيمان: ﴿ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ ﴾﴿ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ﴾ ففريق الكفر لا يُبصِر الحق ولا يَسمع داعيَ الله، أمّا فريق الإيمان فقد أبصر حُجَجَ اللهِ فآمَنَ بها، وسَمِعَ داعيَ اللهِ فأجابه،﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ﴾ أي: هل يَستوي هذان الفريقان؟ والجواب: لا، ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾: يعني أفلا تتفكرون أيها المشركون بعقولكم، فتعلموا أنَّ ما أنتم عليه هو الباطل، وأنّ اللهَ تعالى هو وحده المُستحق للعبودية؟!
[1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.