أرشيف المقالات

من مآسي الحياة

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
ضحية مَن هذا؟ الأباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون! كنت في مكتبي مساء الأمس أتحدث إلى قصصية شاعرة جاءت تهدي إليَّ قصة للتقريظ، وقصصي كاتب جاء يقدم إلي أقصوصة للنشر.
وكان من مطارحات الحديث أن تكلمنا في نصيب الخيال والواقع من قصة الأديبة وأقصوصة الأديب؛ وجرى على الألسنة الثلاثة كلام في روعة الواقع المحض، وزخرفة الفن البارع، وجاذبية الخيال الممكن.
وكأنما كان يدافع عن الحقيقة مدافع من وراء الغيب فأدخل علينا فتى ذاوي الفتوة ضارع الجسم، ألف القَدر من شقائه مأساة لا يحتاج الكاتب في سردها إلى تلفيق خياله أو تزويق فنه قرأ هذا الشاب ما كتبناه عن بعض من عرفنا من فرائس البؤس، فظن لبراءة فكره وسلامة صدره أن ما نكتبه عن هذه المآسي الأليمة يصادف من أولي الأمر استماعاً واقتناعاً ورحمة، فأراد آخر الرأي أن يسمعهم أنينه الموجع من هذا المكان القريب.
ولو علم فتانا أن القدرة صفة من لا يرحم، وأن الرأفة خُلق من لا يستطيع، لأدرك أن كبراءنا وأغنياءنا يقرءون مآسينا للتلهي والفن، كما نقرأ نحن ملاهيهم للتسلي والعَجب.
فإذا كانت لهم عيون فعيونهم من غير دموع، وإذا كانت لهم قلوب فقلوبهم من غير شفقة.
ولكنه أخذ يستريح إلينا بما كابد من باطن الهم ومكنون الأسى، فأخذت الكاتبة تنهنه عبرة سالت على الخد، وأخذ الكاتب يعجب أن يبلغ البؤس بالناس إلى هذا الحد، وتركا لي أن أقص عليك فصلا من هذه الرواية: في المنصورة أيضاً بلد المال والجمال والشعر، سطر الدهر المصرِّف في سجل الألم الإنساني هذه المأساة.
كان أبوه من كبار التجار في هذه المدينة؛ وكانت يداه كيدي الخازن الماهر في المصرف العظيم تسيلان في الأخذ والعطاء ورقاً وفضة.
وكان معدوداً في سراة القوم، يعيش عيش المترفين المسرفين، يطلق نفسه في العز، ويقلب أهله في النعيم، وينشِّئ أطفاله السبعة على كبر النفس ورفعة الهوى وبُعد الأمل.
واتسق له الحال وواتاه الحظ الناهض فظن أمره قد عظم على الأيام واعتصم من الطوارق، فأغفل المواظبة والمراقبة، وأهمل المراجعة والمحاسبة، فصار الداخل لا يسجَّل، والخارج لا يحصَّل؛ واجتمع عليه العدوان السخيان: التاجر المصدِّر الذي يعطي ولا يأخذ اعتماداً على الضمان، والشاري المستهلك الذي يأخذ ولا يعطي اتكالاً على الأمانة.
وظلت الأمور تجري في مجاريها اليومية، تُفرغ صناديق البضاعة ليلاً في المخازن، ثم توزع على الناس نهاراً في الحوانيت؛ ولا يعلم إلا الله والتاجر ما في هذا الرواج العظيم من البوار، وما يبطنه هذا الربح الموهوم من الخسارة وكان هذا الفتى وهو بكر أبيه قد نجح في امتحان البكالوريا بقسمها العلمي حين نزلت بهذا التاجر المغرور علة فادحة.
وأعان المريضُ العلة على نفسه بما انكشف له من سوء الحال وظلام المستقبل فقضت عليه جلس الفتى في المتجر مكان أبيه الراحل وهو يكفكف عبرات العين بالصبر، ويخفف حسرات القلب بالرجاء، وفي اعتقاده أنه سيبني على أساس مكين ويصعد على رأس مال ضخم.
فلما خطا الخطوة الأولى تفتحت أمامه الهُوَى، وتفجَّرت حواليه النوازل؛ فعاد ينظر في المخازن ويبحث في الدفاتر فوجد الخطر الذي لا يدفع، والقضاء الذي لا يُرد.
وحاول أن يتفق مع الغرماء والحرفاء فلم تساعده فداحة دَينه.
وطرءاة سنه على هذا الاتفاق، فاستغرق بعض الدين كل التركة، وأعلنت المحكمة إفلاس المتجر.
وفي عشية وضحاها فقدت الأسرة المدلَّلة وسيلتها للعيش ومكانتها في المجتمع، فلم يعدْ لها بعد الله عائل ولا وائل غير هذا الشاب وشهادة يحملها عليها طابع الحكومة وخاتم وزير المعارف بأنه تربى وتعلم، فمن حقه أن يمارس شؤون الناس ويلي أمور الدولة.
فانتقل بأسرته إلى القاهرة، ثم أخذ يقطع السبل المؤدية إلى الوزارات كل صباح وهو فخور بشهادته، مدل بكفايته، فلم يدع باباً من أبواب الدواوين إلا طرقه.
ثم ألح في الطرق رجاة أن يصيخ إليه سمع فلم يشعر بوجوده غير السعاة والحجاب، فاتسعوا له حينا ثم برموا به فنهروه وطردوه.
وأدرك المسكين بعد لأي أن الشهادة من غير مدد ورقةٌ عليها مداد.
فأخذ يلتمس الشفاعة عند أرباب السراوة والجاه.
ولكن الشفاعة في أيامنا أصبحت حرفة لا يبذلها الشفيع إلا لمن يبذل فيها المال أو العرض.
فكان الفتى كلما سمع برجل من رجال النفوذ قصده وقص عليه قَصصه، فلا يكاد الرجل العظيم يعلم أن له أخوات في غَيسان الشباب، وأمَّا لا تزال في ربيع العمر، حتى تحوم نفسهُ على الخِدْر الذليل، فتثور الحمية بالفتى فلا يجد لها متنفسا إلا البكاء والاختفاء والتمس البائس السبيل إلى العمل بالفكر وباليد فلم يوفق.
وأوشك أن ينفذ ثمن الحلية الأخيرة من حلي أمه؛ وخشي أن يختم الموت على الأفواه الثمانية الذابلة، فتقدم إلى العمل (فاعلاً) في عمارة تبنى، فرده (المقاول) لرقة جسمه ودقة عظمه! فانكفأ الطريد بالفشل والخجل إلى أسرته اليائسة الولهى؛ وباتوا جميعاً على الطوى والجوى يخلطون البكاء بالبكاء، ويَصِلون الدعاء بالدعاء، حتى سمعوا أن كلية الطب تطلب فراشين، فتقدم صاحب الشهادة مع صاحب المكنسة، وأمله كله ألا يُذاد عن هذا الملجأ الأخير! وهاهو ذا الآن في قسم الكيمياء ينظف لرفاقه في الدراسة المقاعد والمناضد بأجرة في الشهر مقدارها مائة وأربعون قرشاً يحفظ بها أربعة أَعراض وثمانية أرواح! ولعله بفضل ما تعلّم من المعادلات واللوغاريتمات لا يتعب كثيراً في حساب هذا الدخل! أحمد حسَن الزيات

شارك الخبر

المرئيات-١