أرشيف المقالات

{ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم }

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
﴿ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾
 
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ * وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 119 - 123].
 

﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ ﴾ الباء هنا للملابسة؛ أي: إرسالك حق، أو للمصاحبة؛ أي: ما أرسلت به حق، والحق هو الآيات الواضحة، وهو بالنسبة للأخبار الصدق، وبالنسبة للأحكام العدل.
 
﴿ بَشِيرًا ﴾ من البِشارة؛ وهي الإخبار بما يسُرُّ ﴿ وَنَذِيرًا ﴾ من الإنذار؛ وهو الإعلام بالمكروه؛ أي: بما يخاف منه.
 
إذ مهمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محصورة في التبشير والإِنذار..
تبشير مَنْ آمن وعمل صالحًا بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وإنذار مَنْ كَفَر وعمل سوءًا بدخول النار والعذاب الدائم فيها..
وهذه الآية تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كان يضيق صدره لتماديهم على ضلالهم.
 
كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48]، وقوله: ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ [الرعد:7] وقوله: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص:56]
 
﴿ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾: والسؤال كناية عن المؤاخذة واللوم؛ أي: لست مؤاخذًا ببقاء الكافرين على كفرهم بعد أن بلَّغْت لهم الدعوة.
 
وقيل: كناية عن فظاعة أحوال المشركين والكافرين حتى إن المتفكِّر في مصير حالهم ينهى عن الاشتغال بذلك؛ لأنها أحوال لا يحيط بها الوصف، ولا يبلغ إلى كُنْهِها العقل في فظاعتها وشناعتها، وذلك أن النهي عن السؤال يرد لمعنى تعظيم أمر المسؤول عنه؛ نحو قول عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: "يُصلِّي أرْبعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن"؛ ولهذا شاع عند أهل العلم إلقاء المسائل الصعبة بطريقة السؤال نحو: "فإن قلت" للاهتمام.
 
ويؤيد القول الأول قراءة ﴿ تُسْأَلُ ﴾، والقول الثاني يؤيده القراءة الأخرى بالجزم على أن ﴿ لا ﴾ ناهية؛ و﴿ تَسألْ ﴾: فعل مضارع مبني للفاعل مجزوم بها؛ والمعنى: لا تَسأل عن أصحاب الجحيم بما هم عليه من العذاب؛ فإنهم في حال لا يتصوَّرها الإنسان، وهذا غاية ما يكون من الإنذار لهؤلاء المكذِّبين المخالفين الذين هم أصحاب الجحيم؛ فالنهي هنا للتهويل.
 
والآية معترضة بين حكايات أحوال المشركين وأهل الكتاب، القصد منها تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام من أسفه على ما لَقِيَه من أهل الكتاب مما يماثل ما لقيه من المشركين، وقد كان يودُّ أن يؤمن به أهل الكتاب، فيتأيَّد بهم الإسلام على المشركين، فإذا هو يلقى منهم ما لقي من المشركين أو أشد، وقد قال فيما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِن الْيَهُودِ لآمَنَ بِي الْيَهُودُ))، وفي رواية مسلم: ((لَوْ تَابَعَنِي عَشَرَةٌ مِن الْيَهُودِ لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِهَا يَهُودِيٌّ إِلَّا أَسْلَمَ)).
 
فكان لتذكير الله إيَّاه بأنه أرسله تهدئة لخاطره الشريف، وَعَذَرَ لَهُ إِذْ أَبْلَغَ الرسالة، وتطمين لنفسه بأنه غير مسئول عن قوم رضوا لأنفسهم بالجحيم، وفيه تمهيد لِلتَّأْيِيسِ من إيمان اليهود والنصارى.
 
وجيء بالتأكيد وإن كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتردَّد في ذلك؛ لمزيد الاهتمام بهذا الخبر، وبيان أنه يُنَوِّهُ بِهِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ تَنْوِيهِ شَأْنِ الرَّسُولِ.
 
وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة ﴿ أَرْسَلْنَاكَ ﴾ تشريفًا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعز الحضور لمقام التكلم مع الخالق- تعالى وتقدَّس- كأن الله يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة؛ فلذا لم يقل له: "إن الله أرسلك".
 
﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى ﴾ عطف على قوله: ﴿ وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ أو على: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ ﴾، وقد جاء هذا الكلام الْمُؤَيِّسُ من إيمانهم بعد أن قدم قبله التأنيس والتسلية على نحو مجيء العتاب بعد تقديم العفو في قوله تعالى: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ [التوبة:43]، وهذا من كرامة الله تعالى لنبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والنفي بـ «لن» مبالغة في التأييس؛ لأنها لنفي المستقبل وتأييده.
 
والتصريح بلا النافية بعد حرف العطف في قوله: ﴿ وَلَا النَّصَارَى ﴾ للتنصيص على استقلالهم بالنفي وَعدم الِاقْتِنَاع بِاتِّبَاعِ حَرْفِ العطف؛ لأنهم كانوا يُظَنُّ بِهِمْ خلاف ذلك؛ لإظهارهم شيئًا من المودَّة للمسلمين؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ﴾ [المائدة:82]، وقد تضمنت هذه الآية أنهم لا يؤمنون بالنبي؛ لأنه غير مُتَّبِع مِلَّتهم، وأنهم لا يصدقون القرآن؛ لأنه جاء بنسخ كتابيهم.
 
﴿ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ دينهم وشريعتهم، وهي مجموع عقائد وأعمال يلتزمها طائفة من الناس يتفقون عليها وتكون جامعة لهم كطريقة يتبعونها، ويحتمل أنها مشتقة من أَمَلَّ الكتابَ، فسُمِّيت الشريعة «ملَّة»؛ لأن الرسول أو واضع الدين يُعلِّمها للناس وَيُمْلِلُهَا عليهم، كما سُمِّيت «دِينًا» باعتبار قبول الأُمَّة لها وطاعتهم وانقيادهم.
 
ووحدت الملَّة، وإن كان لهم مِلَّتانِ؛ لأنهما يجمعهما الكفر، فهي واحدة بهذا الاعتبار، أو للإيجاز، فيكون من باب الجمع في الضمير.
 
وهو خطاب له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتأديب لأُمَّتِه، فإنهم يعلمون قدره عند ربِّه، وإنما ذلك ليتأدَّب به المؤمنون، فلا يوالون الكافرين، فإنهم لا يرضيهم منهم إلا اتِّباع دينهم.
 
﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ ﴾؛ أي: الذي هو مضاف إلى الله تعالى تشريفًا ﴿ هُوَ الْهُدَى ﴾ الهدى ما أنزل به كتابه، وبعث به رسوله، وهو الإِسلام الذي أنت عليه، فهو الهدى؛ أي: النافع التام الذي لا هدى وراءه، وما أَمرتم باتِّباعه هو هوى لا هدى ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50].
 
قال ابن عاشور: وفيه تعريض بأن ما هم عليه يومئذٍ شيء حرَّفوه ووضعوه؛ فيكون القصر إمَّا حقيقيًّا ادِّعائيًّا بأن يراد هو الهدى الكامل في الهداية، فهدى غيره من الكتب السماوية بالنسبة إلى هدى القرآن كُلًّا هُدًى؛ لِأَنَّ هدى القرآن أعم وأكمل، فلا ينافي إثبات الهداية لكتابهم؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ [المائدة: 44]، وقوله: ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ [المائدة: 46]، وإمَّا قصرًا إضافيًّا؛ أي: هو الهدى دون ما أنتم عليه من مِلَّة مُبْدَلَةٍ مَشُوبَةٍ بِضَلَالَاتٍ، وبذلك أيضًا لا ينتفي الهدى عن كثير من التعاليم والنصائح الصالحة الصادرة عن الحكماء وأهل العقول الراجحة والتجربة؛ لكنه هدى ناقص.
 
ثم ذكر تعالى أن ما هم عليه إنما هي أهواء وضلالات ناشئة عن شهواتهم وميولهم، فقال: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ﴾ جمع هوى، وهو رأي ناشئ عن شهوة لا عن دليل، والجمع دليلًا على كثرة اختلافهم؛ إذ لو كانوا على حقٍّ لكان طريقًا واحدًا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
 
﴿ بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾؛ أي: من الدين، وجعله عِلْمًا؛ لأنه معلوم بالبراهين الصحيحة، والآية تدل على أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد المعذرة أولًا، فيبطل بذلك تكليف ما لا يُطاق.
 
﴿ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ ﴾ من يتولَّاك ويكفيك أمرك، وقيل: القريب والحليف ﴿ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ من ينصرك ويدفع عنك الأذى.
 
وعطف النصير على الولي احتراس؛ لأن نفي الولي لا يقتضي نفي كل نصير؛ إذ لا يكون لأحد ولي لكونه دخيلًا في قبيلة، ويكون أنصاره من جيرته، وكان القصد من نفي الولاية التعريض بهم في اعتقادهم أنهم أبناء الله وأحِبَّاؤه، فنفى ذلك عنهم حيث لم يتَّبِعوا دعوة الإسلام، ثم نفى الأعم منه، وهذه نكتة عدم الاقتصار على نفي الأعم.
 
وفيه قطع لأطماعهم أن تُتبع أهواؤهم؛ لأن من علم أنه لا ولي له ولا نصير ينفعه إذا ارتكب شيئًا كان أبعد في ألَّا يرتكبه، وذلك إياس لهم في أن يتبع أهواءهم أحدٌ.
 
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وغيرها من كتب الله عزَّ وجلَّ ﴿ يَتْلُونَهُ ﴾ والتلاوة لها معنيان: القراءة لفظًا، والاتباع فعلًا، فحق التلاوة هو العلم والعمل بما في المتلوِّ ﴿ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ لا يحرفون كلمه عن مواضعه، ولا يكتمون الحق الذي جاء فيه من نعت الرسول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره.
 
﴿ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ ويتضمَّن الكلام هنا الإيمان بما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يؤمن به إلا من يتلو الكتاب حقَّ تلاوته سواء التوراة، أو الإنجيل، أو القرآن؛ ومن هؤلاء: عبدالله بن سلام من اليهود، وعدي بن حاتم وتميم الداري من النصارى.
 
﴿ وَمن يَكْفُرْ بِهِ ﴾ بالكتاب ﴿ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ وأصل «الخسران» النقص؛ ولهذا يقال: ربح؛ ويقال في مقابله: خسر؛ فهؤلاء هم الذي حصل عليهم النقص لا غيرهم؛ لأنهم مهما أوتوا من الدنيا فإنها زائلة، وفانية، فلا تنفعهم.
 
كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [المنافقون:9]؛ ولما كان الذي يتلهَّى بذلك عن ذكر الله يظن أنه يربح قال تعالى: ﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ يعني: ولو ربحوا في دنياهم.
 
وفي الآية إيجاز بديع؛ لدلالتها على أن الذين أوتوا الكتاب يتلونه حقَّ تلاوته هم المؤمنون دون غيرهم فهم كافرون، فالمؤمنون به هم الفائزون، والكافرون هم الخاسرون.
 
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ غاية الذكر هي الشكر ﴿ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ عالمي زمانهم..
كرَّر نداء بني إسرائيل هنا وذكَّرهم بنعمه على سبيل التنبيه والإنذار والتذكير والتوكيد.
 
﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي ﴾ لا تقضي ولا تغني ﴿ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ﴾ فليس تفضيل آبائكم على العالمين بمغنٍ عنكم شيئًا؛ لا تقولوا: لنا آباء مفضلون على العالمين، وسَنَسْلَم بهم من النار، أو من عذاب هذا اليوم، ولا يرد على هذا الشفاعة الشرعية التي ثبتت بها السُّنَّة؛ لأنها خاصة بالموحِّدين وإذن ربِّ العالمين.
 
﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ فداء..
أي: ما يعدل به العذاب عن نفسه - وهو الفداء - فـ «العدل» معناه الشيء المعادِل؛ كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾ [المائدة: 95]؛ أي: ما يعادله من الصيام؛ وهنا: لو أتت بالفداء لا يقبل.
 
﴿ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾ وساطة أحد..
«الشفاعة» هي التوسُّط للغير بدفع مضرة، أو جلب منفعة؛ سميت بذلك؛ لأن الشافع إذا انضم إلى المشفوع له، صار شفعًا بعد أن كان وترًا؛ فالشفاعة لأهل النار أن يخرجوا منها: شفاعة لدفع مضرة؛ والشفاعة لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة؛ شفاعة في جلب منفعة.
 
وفي الآية ثبوت أصل الشفاعة في ذلك اليوم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾؛ وثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع في أهل الموقف أن يُقضى بينهم، وأنه يشفع في أهل الكبائر ألَّا يدخلوا النار؛ وفيمن دخل النار أن يخرج منها؛ فعلى هذا يكون العموم في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾ مخصوصًا بما ثبتت به السُّنَّة من الشفاعة.
 
أعيدت هذه الآية بالألفاظ التي ذكرت بها هنالك للتنبيه على نكتة التكرير للتذكير، ولم يخالف بين الآيتين إلا في الترتيب بين العدل والشفاعة فهنالك قدم: ﴿ وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ [البقرة:48] وأخَّر: ﴿ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ [البقرة:48] وهنا قدم: ﴿ وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ وأخَّر لفظ الشفاعة مسندًا إليه ﴿ تَنْفَعُهَا ﴾ وهو تفنُّن، والتفنُّن في الكلام تنتفي به سآمة الإعادة مع حصول المقصود من التكرير.
 
وقد حصل مع التفنُّن نكتة لطيفة؛ إذ جاءت الشفاعة في الآية السابقة مسندًا إليها المقبولية، فقدمت على العدل بسبب نفي قبولها، ونفي قبول الشفاعة لا يقتضي نفي أخذ الفداء، فعطف نفي أخذ الفداء للاحتراس، وأمَّا في هذه الآية فقدم الفداء؛ لأنه أسند إليه المقبولية، ونفي قبول الفداء لا يقتضي نفي نفع الشفاعة، فعطف نفي نفع الشفاعة على نفي قبول الفداء للاحتراس أيضًا.
 
والحاصل أن الذي نفي عنه أن يكون مقبولًا قد جعل في الآيتين أولًا وذكر الآخر بعده، وأما نفي القبول مرة عن الشفاعة ومرة عن العدل؛ فلأن أحوال الأقوام في طلب الفكاك عن الجناة تختلف؛ فمرة يقدمون الفداء فإذا لم يقبل قدموا الشفعاء، ومرة يقدمون الشفعاء فإذا لم تقبل شفاعتهم عرضوا الفداء.
 
﴿ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ مع أن السياق يرجع إلى مفرد في قوله تعالى: ﴿ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنفَعُهَا ﴾؛ جاء الكلام هنا بصيغة الجمع باعتبار المعنى؛ لأن قوله تعالى: ﴿ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ ﴾ للعموم؛ والعموم يدل على الجمع والكثرة؛ ثم إن هنا مناسبة لفظية؛ وهي مراعاة فواصل الآيات؛ ومراعاة الفواصل أمر ورد به القرآن ــــ حتى إنه من أجل المراعاة يقدم المفضول على الفاضل ــــ كما في قوله تعالى في سورة طه: ﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ [طه:70]؛ لأن سورة طه كلها على فاصلة ألف إلا بعض الآيات القليلة؛ فمراعاة الفواصل إذًا من بلاغة القرآن.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير