شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع - مقدمات في البيوع-2


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

هذه ليلة الخميس (21) من شهر محرم من سنة (1423هـ).

اليوم عندنا أيضاً إن شاء الله تعالى تكميل مقدمات البيوع.

ما معنى كلمة مقايضة؟

ذكرنا أن المقايضة: هي بيع سلعة بسلعة، سيارة بسيارة، أو بيت ببيت، أو كتاب بكتاب.. أو شيء من هذا القبيل.

يقال: قايض الرجل مقايضة عارضه بمتاع، وهما قيضان كما يقال: بيّعان، وقايضه مقايضة إذا أعطاه السلعة وأخذ عوضها سلعة وباعه فرساً بفرسين قيضين.

فالقيض هو العوض، ويقال: قاضه يقيضه إذا عاضه، وفي الحديث: ( إن شئت أقيضك به المختارة )، وفي حديث معاوية قال لـسعيد بن عثمان بن عفان : لو ملئت لي غوطة دمشق رجالاً مثلك قياضاً بـيزيد ما قبلتهم، أي: مقايضة به، وقايضه: عاوضه وبادله، وهذا قيّض له وقياض أي: مساو له.

المقايضة: لغة مأخوذة من القيض وهو العوض، فيقال: قايضه مقايضة إذا عاوضه، وذلك إذا أعطاه السلعة وأخذ عوضها سلعة، والمقايضة في اصطلاح الفقهاء: هي بيع السلعة بالسلعة.

اليوم عندنا مسألة أركان البيع وأمور أخرى.

جمهور العلماء يرون أن أركان البيع ثلاثة:

الركن الأول: الصيغة، صيغة العقد.

الركن الثاني: المتبايعان، البائع والمشتري.

الركن الثالث: محل العقد.

بينما الحنفية يرون أن الركن هو واحد وهو المتعلق بالصيغة، وقد حاول بعض المعاصرين التوفيق بين هذه المذاهب، فقال: إن هناك ما يسمى بمقومات البيع، وهذه المقومات تشمل العقد أو الصيغة، وتشمل البائع والمشتري، وتشمل الثمن والمثمن -السلعة والثمن-.

هذه كلها تسمى مقومات البيع؛ لأنه لا يمكن أن يتم البيع أو يقع البيع إلا بها، إنما الجمهور يرون أنها داخلة في معنى الأركان؛ لأنها في ماهية الشيء وذاته وصلبه.

طبعاً هذا الخلاف لفظي ليس فيه مشكلة كبيرة، ولذلك ننتقل إلى هذه النقاط الثلاث:

النقطة الأولى: متعلقة بالصيغة -صيغة البيع-.

وصيغة البيع هي ما يسميه الفقهاء بالإيجاب والقبول، ويقصدون به: كل قول أو فعل -كما سوف يأتي عند جمهورهم- يدل على الرضا من الطرفين، مثل قوله: بعتك، أو أعطيتك، أو ملكتك.. أو ما أشبه ذلك، وكذلك قول المشتري: اشتريت، أو تملكت، أو ابتعت، أو قبلت.. أو ما أشبه هذا من المعاني.

فهذه هي الصيغة، وأحياناً يعبرون بالإيجاب والقبول، فجمهور الفقهاء يقصدون بالإيجاب ما يصدر من البائع دالاً على الرضا، والقبول ما يصدر من المشتري دالاً على ذلك أيضاً.

بينما الأحناف يقولون: إن الإيجاب هو ما يصدر أولاً، والقبول هو ما يصدر ثانياً، بغض النظر عن كون أحدهما صدر من البائع أو من المشتري.

وأيضاً الأئمة الثلاثة -الذين هم المالكية والحنابلة والشافعية- يرون بأن تقدم إحدى الصيغتين على الأخرى لا يضر، فلو تقدم القبول على الإيجاب لم يكن في ذلك ضرر؛ لحصول المقصود.. يعني: تقدم لفظ المشتري على لفظ البائع، فإن هذا لا يضر؛ لأن المقصود يحصل به.

يقولون: من شروط الصيغة: أن تكون بلفظ الماضي مثل أن تقول: بعت، أو اشتريت، أو قبلت، أو تملكت.. أو ما أشبه ذلك من الألفاظ الدالة على المضي، وهكذا البائع.

لكن لو أراد به أو لو استخدمه بلفظ المستقبل، هل يقع هذا أم لا يقع؟

مثلما لو قال: سوف أشتري، أو سوف أتملك، لا شك أنه في هذه الحالة لا يقع بيعاً؛ لأن هذا يعتبر وعداً بالبيع أو وعداً بالشراء، وهذا معروف الآن عند كثير من البنوك التي تجري بيوع المرابحة، يجعلون المشتري أو الزبون يوكل من عندهم ورقة يسمونها وعداً بالشراء، وأحياناً يسمونها أمراً بالشراء، وأحياناً يسمونها تعهداً بالشراء، وهي بكل حال لا تعد عقداً، وإنما هي وعد، وهل الوعد ملزم؟

جمهور العلماء على أن هذا الوعد ليس بملزم، وإنما يمكن للإنسان أن يتنصل منه ويتخلى عنه، أنا وعدتك أن أشتري منك هذه السلعة، ثم بدا لي؛ لأني لم أجر العقد، ولو كان الوعد ملزماً كالعقد لم يكن بينهما فرق.

إذاً نقول: إذا ربط الأمر بشيء مستقبل كأن قال: سوف أشتري، سأبيع، أو أشد من ذلك لو ربطه بوقت، قال مثلاً: سوف أشتري غداً أو بعد غد، هذا لا شك أنه لا يعد بيعاً.

إنما هنا ينتبه إلى نقطة وهي: أن الناس اليوم أصبح كلامهم وحديثهم كله بلغة دارجة، لا تنطبق عليها قواعد وقوانين اللغة العربية، بعض الأحيان يستخدمون لفظ المستقبل وهم يقصدون به الحاضر، مثلاً حين يقول: سآخذه مثلاً، ينطقون الكلمة هذه، مثلاً تقول: هذه الحاجة مثلاً بمائة ريال، يقول: ما عليش أنا سآخذه لو بألف ريال، هل هو يربطه بمستقبل أو أنه يتحدث عن الآن؟

هو يتحدث عن الآن، ولا شك أن العبرة -كما سوف نشير- في العقود بمراد المتكلم وفهم الطرف الآخر، فهي ليست أشياء تعبدية يوقف عند ألفاظها، وإنما ينظر فيها إلى مقصود المتكلم.

كذلك يصح الإيجاب والقبول بلفظ الأمر، مثلما إذا قال: خذ هذه السلعة بكذا، فقال: أخذتها؛ لأن هذا يتضمن إيجاباً وقبولاً، والعبرة بالدلالة على المقصود.

يشترط في الصيغة أن تكون في مجلس العقد، بمعنى: ألا يكون بين الإيجاب والقبول فاصل طويل عرفاً، بحيث يمكن أن يكون الإيجاب منفصلاً عن القبول، ينبغي أن يكون بينهما اتصال، أو أن يكونا في مجلس واحد، أو متواصلين ليس بينهما فاصل.

كذلك يشترط نية العقد، بمعنى ألا يكون هازلاً أو مازحاً، وإنما يكون جاداً في إجراء العقد، وهذا يكون في سائر العقود.

كذلك يشترط: عدم رجوع الموجب عما أوجبه على نفسه من بيع أو شراء، وعدم وفاته قبل أن يتم القبول، مثلما لو قال الآن: بعت، وتوفي بسكتة قلبية قبل أن يوجب الطرف الآخر، فهنا لم يكن البيع قد تم؛ لأنه لابد فيه من الصيغتين.

زد على ذلك: ألا يطرأ تغيير على السلعة قبل أن يتم القبول، مثلما لو كان بعد الإيجاب وقبل القبول، تغيرت السلعة من نوع إلى نوع آخر، وطرأ عليها ما يخرجها عن مسماها الأول، فهذا لا يكون بيعاً إلا بعدما يجددون فيه العقد.

وهنا مسألة أساسية في هذا الموضوع، وهي: هل يشترط في الصيغة لفظ معين مثل: بعت، أو اشتريت، أو تملكت، أو ما ذكرناه أو ذكره بعض الفقهاء، أو أن الأمر أوسع من ذلك؟

نقول: المسألة فيها ثلاثة أقوال كما ذكرها الإمام ابن تيمية في كتابه القواعد النورانية الفقهية، وأنا أتيت بهذا الكتاب لأذكركم بأهميته؛ لأنه من الكتب القاعدية المهمة، وفيه قسم خاص للعبادات وقسم خاص للعادات أو المعاملات، فيحسن اقتناؤه.

فالشيخ رحمه الله ذكر في هذا الكتاب وغيره ممن كتبوا هذه المسألة ذكروا في العقود ثلاثة أقوال، وليس المقصود عقود البيع فقط، بل كل العقود الأخرى، حتى عقد النكاح، ذكروا فيه ثلاثة أقوال:

القول الأول: العقود لا تصح إلا بعبارات محددة تدل على الإيجاب والقبول

القول الأول: أن هذه العقود لا تصح إلا بالعبارات المحددة الدالة على الإيجاب والقبول، كما ذكرنا مثلاً مثل: بعت، شريت، تملكت، قبلت.. وما أشبه ذلك.

وهذا هو ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب الإمام أحمد .

واستدلوا بقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] فقالوا: إن التراضي شرط في العقود، والتراضي هو في القلب، فلا نستطيع أن نعرف ما في قلب المشتري أو البائع إلا إذا نطق به أو لفظه بلسانه.

ومن هنا جاءت الصيغ معبرة عما في نفوس المتبايعين أو المتعاقدين، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بمهور النساء: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]، فقوله سبحانه: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا [النساء:4] طابت نفوسهن، هذا المعنى القلبي الباطن لا يعرف إلا من خلال نطقها بلسانها ولفظها به.

فقالوا: هذا دليل على أن العقود لابد فيها في الإيجاب والقبول من عبارات محددة واضحة تدل على المقصود، وإلا فإن المعاني التي في النفس لا تنضبط بغير ذلك، هذا القول الأول.

القول الثاني: العقود تصح بالأقوال والأفعال الدالة على ذلك

القول الثاني: أنها تصح بالأقوال وبالأفعال الدالة على ذلك، فما كثر عقده بالأفعال فإنه يقبل أن يعقد بالأفعال، وذلك قالوا: مثل المحقرات من السلع، فإنه جرت العادة أنها تعقد بالفعل، فالإنسان الذي ذهب مثلاً للبقال ليشتري خبزاً، لا يحتاج إلى أن يقف ليجري عقد بيع: بكم هذا؟ بريال، وقبلت وإيجاب.. فهذا ليس بلازم، وكذلك الطفل عندما يذهب ليشتري علبة فشار مثلاً، لا يقال: إن في الحالة هذه لابد أنه يجري عقد بيع وإيجاب وقبول؛ لأن هذه يسمونها المحقرات، أي: أنها أمور تافهة.

فقالوا: مثل هذه الأشياء وكذلك الأشياء التي يجري فيها الفعل مثل الوقف، كون الإنسان مثلاً يضع ماء، أو يضع مغسلة، أو يضع شيئاً في طريق الناس ويمكنهم من استخدامه، هذا دليل على أنه أوقفه ولو لم يقل ذلك بلسانه.

قالوا: ومثل ذلك أجرة الغسال والخياط والكواء.. ونحو ذلك، عندما تذهب للغسال أو للخياط تعطيه ثيابك، فهذا كاف مثلاً.

ومثله أيضاً الركوب، يعني عندما يكون هناك (باص) يركبه الناس، لا نقول: كل من أراد أن يركب الباص يقف خمس دقائق ليتفاهم مع سائق الباص كم الأجرة وإيجاب وقبول.. وما أشبه ذلك، هذا لا يقولون به، ولا يقول به ربما أحد -الله أعلم-، يمكن حتى الأولين لا أعتقد أنهم يقصدون مثل هذه الأشياء، لكن المهم أن هذا القول الثاني الذي يقول: تصح بالأقوال والأفعال الدالة، هذا هو الغالب على أصول الحنفية، وهو قول في مذهب الإمام أحمد ووجه عند الشافعية.

القول الثالث: العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل وبكل ما عده الناس كذلك

القول الثالث: أن هذه العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، وبكل ما عده الناس كذلك وقالوا: إن هذه الأشياء جاءت في الشريعة وجاءت في اللغة، وننظر في الشريعة فلا نجد لها حداً، وننظر في اللغة فلا نجد لها حداً؛ لأن من الأشياء ما تحده اللغة، فنحن إذا قلنا: الشمس، أو القمر، أو الأرض، أو السماء، أو السحاب نعرف معاني هذه الأشياء. من أين؟ من اللغة، وإذا قلنا: الصلاة والزكاة والصوم والحج والنسك، المؤمن، المنافق، الكافر، المشرك، معاني هذه الأشياء نعرفها من أين؟ من الشريعة، وما لم يرد له حد في اللغة ولم يرد له حد في الشريعة نقول: إنه يكون باقياً على إطلاقه وعلى عمومه، فهذا ليس له حد لغوي ولا حد شرعي، ولا يلزم له نوع من الاصطلاحات والألفاظ، وهذا هو الغالب على أصول الإمام مالك وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، واختاره ابن تيمية وابن القيم وأكثر المحققين.

ومن ذلك ما يسمونه ببيع المعاطاة، والمقصود ببيع المعاطاة هو البيع العملي، مثل ما ذكرت: أن تعطيه الثمن وتأخذ السلعة من دون كلام؛ لأن أخذه للثمن دليل على رضاه، وأخذك للسلعة دليل على رضاك، وهذا فعل يدل على أن البيع عن تراض وليس فيه إكراه، فهو يحقق المقصود الشرعي، وهذه الكلمة كثيراً ما تستخدم عند الفقهاء (بيع المعاطاة).

ومن ذلك مثل ما ذكرنا: الركوب في سيارات الأجرة، أو المطاعم؛ كونك تأتي في المطعم فتجلس وتطلب الأشياء ثم يحضرها لك وتأكلها، هذا من قبلك دليل على ماذا؟ على الرضا، ومن قبله هو أيضاً دليل على الرضا؛ لأنه ما وضعها لك إلا ليمكنك من أكلها.

كذلك يدخل في موضوع بيع المعاطاة أو من جنسه: الماكينات التي تستخدم ويكون فيها سلع معينة، أو مرطبات أو بضائع، فتضع مبلغاً من المال وتأخذ ما يقابله بدون أن يكون هناك تعامل مع أحد من الناس، فكل هذا جائز.

يقول ابن تيمية رحمه الله: وهذه القاعدة الجامعة من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة.

واستدل أصحاب هذا القول بأدلة وجيهة وقوية منها: أن الله سبحانه وتعالى اكتفى بالتراضي في البيع عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا [النساء:4] ولم يحدد للتراضي صيغة لا قولية ولا فعلية.

ومن المعلوم الذي يقطع به: أن الإنسان يعرف رضاه بغير القول، وقد يقول قولاً ولا يرضى به، فقد يقول الإنسان قولاً وهو مكره، أو محرج، أو مضغوط؛ ولهذا يقول بعض العلماء: ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام؛ لأنك قد تحرج إنساناً فتعطيه شيئاً أو تأخذ منه شيئاً، ولذلك بعض الناس خجول، فإذا أتى مثلاً للبقالة وأخذ هذه السلعة وهذه السلعة، ثم وجد أنه توقع هذه بعشرة ريالات فوجئ أنها بخمسمائة ريال؛ لأنها صناعة خاصة، فهذا تجد أنه ربما يستحي ويخجل، فكثير من الناس قد يقول بالرضا بلسانه وهو ليس راضياً بقلبه، حينما يعرف من سيما الإنسان وقسمات وجهه وطريقته في الحديث والتعبير أنه راض حتى لو لم يتكلم، وابن تيمية رحمه الله قال: إن هذا معروف عند أصحاب الفطر، وهو من الضروريات التي يعلمها كل أحد، وإن كان قد يجادل فيها بعض المتفقهين بسبب دخولهم وولوجهم في مضايق منافسات ومناقشات ومناظرات قادتهم إلى مخالفة الضروري، وإلا فإن الرضا وطيب النفس يدل عليه القول ويدل عليه الفعل ويدل عليه رؤية الإنسان وتدل عليه معان كثيرة، وليس مقصوراً على مجرد التراضي أو الرضا بالتعبير باللسان.

الوجه الثاني أو الدليل الثاني: أن هذه الأسماء جاءت في الكتاب والسنة معلقاً عليها أحكام شرعية، ولم يرد في الكتاب والسنة ولا في لغة العرب ما يدل على تحديدها، وما كان هكذا فإنه يرجع فيه إلى العرف، فكل ما دل العرف على أنه يدل على البيع أو الشراء أو التراضي جاز ذلك فيه، سواء كان هذا بلغة العرب، أو بلغة العجم، أو بقول، أو بفعل، أو بمعاطاة.. أو ما أشبه ذلك.

ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تبايعوا، الرسول عليه الصلاة والسلام باع من جابر جمله، واشترى من يهودي، وكذلك عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة، والصحابة كانوا يبيعون ويشترون، وكانت عندهم أسواقهم في المدينة، وهذا أمر قطعي حتى في النقل، ومع ذلك لم ينقل أنهم كانوا يعتمدون أو يلتزمون في معاملاتهم وعقودهم الأخرى، كالأوقاف كانوا يوقفون المساجد ويوقفون السلع ويوقفون المياه ويوقفون المزارع وغيرها، ولم ينقل أنهم كانوا يلتزمون ويعتمدون في ذلك ألفاظاً بحدودها.

الأمر الثالث أو الوجه الثالث في الدلالة: هو ما ذكرناه في الأسبوع الماضي من أن معاملات الناس أو أن أعمال الناس هي أحد نوعين: إما أن تكون عبادات يصلح بها أمر دينهم، أو أن تكون معاملات أو عادات يصلح بها أمر دنياهم، الأشياء التي يصلح بها أمر دينهم لابد فيها من التوقيف والنقل، فالأمور التي يصلح بها أمر دنياهم الأصل فيها أنها تدخل في باب العادات والأعراف كما ذكرنا.

إذاً: هذا هو الركن الأول من أركان البيع، وهو ما يتعلق بالصيغة، وطرفاها الإيجاب والقبول، والإيجاب والقبول الذي يتكلم عنه الفقهاء لابد أن يكون إيجاباً وقبولاً متطابقاً، فلو توافقا مثلاً في بعض العين أو قبل عيناً غيرها فإن هذا لا يعد إيجاباً، وكذلك لو قبل البائع بعض الثمن الذي وقع به أو قبل ثمناً غيره، فإن هذا لا يعد إيجاباً ولا قبولاً، كما لو قال: أشتري منك هذا الصندوق بمائة، فقال: أبيعه عليك بمائة وعشرة، هل يكون هذا إيجاباً وقبولاً؟ لا، أو قال مثلاً: أشتري منك هذا الصندوق بمائة، قال: إنني أبيع عليك هذا الصندوق بصندوق آخر، فهل يكون هذا إيجاباً وقبولاً؟ لا. لابد أن يكون الإيجاب والقبول متطابقين على مبيع واحد وبثمن واحد.

القول الأول: أن هذه العقود لا تصح إلا بالعبارات المحددة الدالة على الإيجاب والقبول، كما ذكرنا مثلاً مثل: بعت، شريت، تملكت، قبلت.. وما أشبه ذلك.

وهذا هو ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب الإمام أحمد .

واستدلوا بقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] فقالوا: إن التراضي شرط في العقود، والتراضي هو في القلب، فلا نستطيع أن نعرف ما في قلب المشتري أو البائع إلا إذا نطق به أو لفظه بلسانه.

ومن هنا جاءت الصيغ معبرة عما في نفوس المتبايعين أو المتعاقدين، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بمهور النساء: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]، فقوله سبحانه: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا [النساء:4] طابت نفوسهن، هذا المعنى القلبي الباطن لا يعرف إلا من خلال نطقها بلسانها ولفظها به.

فقالوا: هذا دليل على أن العقود لابد فيها في الإيجاب والقبول من عبارات محددة واضحة تدل على المقصود، وإلا فإن المعاني التي في النفس لا تنضبط بغير ذلك، هذا القول الأول.

القول الثاني: أنها تصح بالأقوال وبالأفعال الدالة على ذلك، فما كثر عقده بالأفعال فإنه يقبل أن يعقد بالأفعال، وذلك قالوا: مثل المحقرات من السلع، فإنه جرت العادة أنها تعقد بالفعل، فالإنسان الذي ذهب مثلاً للبقال ليشتري خبزاً، لا يحتاج إلى أن يقف ليجري عقد بيع: بكم هذا؟ بريال، وقبلت وإيجاب.. فهذا ليس بلازم، وكذلك الطفل عندما يذهب ليشتري علبة فشار مثلاً، لا يقال: إن في الحالة هذه لابد أنه يجري عقد بيع وإيجاب وقبول؛ لأن هذه يسمونها المحقرات، أي: أنها أمور تافهة.

فقالوا: مثل هذه الأشياء وكذلك الأشياء التي يجري فيها الفعل مثل الوقف، كون الإنسان مثلاً يضع ماء، أو يضع مغسلة، أو يضع شيئاً في طريق الناس ويمكنهم من استخدامه، هذا دليل على أنه أوقفه ولو لم يقل ذلك بلسانه.

قالوا: ومثل ذلك أجرة الغسال والخياط والكواء.. ونحو ذلك، عندما تذهب للغسال أو للخياط تعطيه ثيابك، فهذا كاف مثلاً.

ومثله أيضاً الركوب، يعني عندما يكون هناك (باص) يركبه الناس، لا نقول: كل من أراد أن يركب الباص يقف خمس دقائق ليتفاهم مع سائق الباص كم الأجرة وإيجاب وقبول.. وما أشبه ذلك، هذا لا يقولون به، ولا يقول به ربما أحد -الله أعلم-، يمكن حتى الأولين لا أعتقد أنهم يقصدون مثل هذه الأشياء، لكن المهم أن هذا القول الثاني الذي يقول: تصح بالأقوال والأفعال الدالة، هذا هو الغالب على أصول الحنفية، وهو قول في مذهب الإمام أحمد ووجه عند الشافعية.

القول الثالث: أن هذه العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، وبكل ما عده الناس كذلك وقالوا: إن هذه الأشياء جاءت في الشريعة وجاءت في اللغة، وننظر في الشريعة فلا نجد لها حداً، وننظر في اللغة فلا نجد لها حداً؛ لأن من الأشياء ما تحده اللغة، فنحن إذا قلنا: الشمس، أو القمر، أو الأرض، أو السماء، أو السحاب نعرف معاني هذه الأشياء. من أين؟ من اللغة، وإذا قلنا: الصلاة والزكاة والصوم والحج والنسك، المؤمن، المنافق، الكافر، المشرك، معاني هذه الأشياء نعرفها من أين؟ من الشريعة، وما لم يرد له حد في اللغة ولم يرد له حد في الشريعة نقول: إنه يكون باقياً على إطلاقه وعلى عمومه، فهذا ليس له حد لغوي ولا حد شرعي، ولا يلزم له نوع من الاصطلاحات والألفاظ، وهذا هو الغالب على أصول الإمام مالك وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، واختاره ابن تيمية وابن القيم وأكثر المحققين.

ومن ذلك ما يسمونه ببيع المعاطاة، والمقصود ببيع المعاطاة هو البيع العملي، مثل ما ذكرت: أن تعطيه الثمن وتأخذ السلعة من دون كلام؛ لأن أخذه للثمن دليل على رضاه، وأخذك للسلعة دليل على رضاك، وهذا فعل يدل على أن البيع عن تراض وليس فيه إكراه، فهو يحقق المقصود الشرعي، وهذه الكلمة كثيراً ما تستخدم عند الفقهاء (بيع المعاطاة).

ومن ذلك مثل ما ذكرنا: الركوب في سيارات الأجرة، أو المطاعم؛ كونك تأتي في المطعم فتجلس وتطلب الأشياء ثم يحضرها لك وتأكلها، هذا من قبلك دليل على ماذا؟ على الرضا، ومن قبله هو أيضاً دليل على الرضا؛ لأنه ما وضعها لك إلا ليمكنك من أكلها.

كذلك يدخل في موضوع بيع المعاطاة أو من جنسه: الماكينات التي تستخدم ويكون فيها سلع معينة، أو مرطبات أو بضائع، فتضع مبلغاً من المال وتأخذ ما يقابله بدون أن يكون هناك تعامل مع أحد من الناس، فكل هذا جائز.

يقول ابن تيمية رحمه الله: وهذه القاعدة الجامعة من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة.

واستدل أصحاب هذا القول بأدلة وجيهة وقوية منها: أن الله سبحانه وتعالى اكتفى بالتراضي في البيع عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا [النساء:4] ولم يحدد للتراضي صيغة لا قولية ولا فعلية.

ومن المعلوم الذي يقطع به: أن الإنسان يعرف رضاه بغير القول، وقد يقول قولاً ولا يرضى به، فقد يقول الإنسان قولاً وهو مكره، أو محرج، أو مضغوط؛ ولهذا يقول بعض العلماء: ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام؛ لأنك قد تحرج إنساناً فتعطيه شيئاً أو تأخذ منه شيئاً، ولذلك بعض الناس خجول، فإذا أتى مثلاً للبقالة وأخذ هذه السلعة وهذه السلعة، ثم وجد أنه توقع هذه بعشرة ريالات فوجئ أنها بخمسمائة ريال؛ لأنها صناعة خاصة، فهذا تجد أنه ربما يستحي ويخجل، فكثير من الناس قد يقول بالرضا بلسانه وهو ليس راضياً بقلبه، حينما يعرف من سيما الإنسان وقسمات وجهه وطريقته في الحديث والتعبير أنه راض حتى لو لم يتكلم، وابن تيمية رحمه الله قال: إن هذا معروف عند أصحاب الفطر، وهو من الضروريات التي يعلمها كل أحد، وإن كان قد يجادل فيها بعض المتفقهين بسبب دخولهم وولوجهم في مضايق منافسات ومناقشات ومناظرات قادتهم إلى مخالفة الضروري، وإلا فإن الرضا وطيب النفس يدل عليه القول ويدل عليه الفعل ويدل عليه رؤية الإنسان وتدل عليه معان كثيرة، وليس مقصوراً على مجرد التراضي أو الرضا بالتعبير باللسان.

الوجه الثاني أو الدليل الثاني: أن هذه الأسماء جاءت في الكتاب والسنة معلقاً عليها أحكام شرعية، ولم يرد في الكتاب والسنة ولا في لغة العرب ما يدل على تحديدها، وما كان هكذا فإنه يرجع فيه إلى العرف، فكل ما دل العرف على أنه يدل على البيع أو الشراء أو التراضي جاز ذلك فيه، سواء كان هذا بلغة العرب، أو بلغة العجم، أو بقول، أو بفعل، أو بمعاطاة.. أو ما أشبه ذلك.

ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تبايعوا، الرسول عليه الصلاة والسلام باع من جابر جمله، واشترى من يهودي، وكذلك عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة، والصحابة كانوا يبيعون ويشترون، وكانت عندهم أسواقهم في المدينة، وهذا أمر قطعي حتى في النقل، ومع ذلك لم ينقل أنهم كانوا يعتمدون أو يلتزمون في معاملاتهم وعقودهم الأخرى، كالأوقاف كانوا يوقفون المساجد ويوقفون السلع ويوقفون المياه ويوقفون المزارع وغيرها، ولم ينقل أنهم كانوا يلتزمون ويعتمدون في ذلك ألفاظاً بحدودها.

الأمر الثالث أو الوجه الثالث في الدلالة: هو ما ذكرناه في الأسبوع الماضي من أن معاملات الناس أو أن أعمال الناس هي أحد نوعين: إما أن تكون عبادات يصلح بها أمر دينهم، أو أن تكون معاملات أو عادات يصلح بها أمر دنياهم، الأشياء التي يصلح بها أمر دينهم لابد فيها من التوقيف والنقل، فالأمور التي يصلح بها أمر دنياهم الأصل فيها أنها تدخل في باب العادات والأعراف كما ذكرنا.

إذاً: هذا هو الركن الأول من أركان البيع، وهو ما يتعلق بالصيغة، وطرفاها الإيجاب والقبول، والإيجاب والقبول الذي يتكلم عنه الفقهاء لابد أن يكون إيجاباً وقبولاً متطابقاً، فلو توافقا مثلاً في بعض العين أو قبل عيناً غيرها فإن هذا لا يعد إيجاباً، وكذلك لو قبل البائع بعض الثمن الذي وقع به أو قبل ثمناً غيره، فإن هذا لا يعد إيجاباً ولا قبولاً، كما لو قال: أشتري منك هذا الصندوق بمائة، فقال: أبيعه عليك بمائة وعشرة، هل يكون هذا إيجاباً وقبولاً؟ لا، أو قال مثلاً: أشتري منك هذا الصندوق بمائة، قال: إنني أبيع عليك هذا الصندوق بصندوق آخر، فهل يكون هذا إيجاباً وقبولاً؟ لا. لابد أن يكون الإيجاب والقبول متطابقين على مبيع واحد وبثمن واحد.

الأمر الثاني: ما يتعلق بالمتعاقدين:

والمتعاقدان هما البائع والمشتري، البائع هو الذي عنده السلعة، والمشتري هو باذل الثمن.

والبيع من عقود المعاوضات المالية الذي يترتب عليها أحكام كثيرة، ومنها: انتقال ملكية السلعة من هذا إلى هذا، وانتقال المال من هذا إلى هذا.. إلى غير ذلك من الأحكام المترتبة عليه؛ ولهذا يجب أن يكون البيع مثله في ذلك مثل العقود الأخرى: عقود المعاوضات، السلم، الاستصناع، الصرف.. يجب أن تنشأ بين متعاقدين يعني لهما إرادة مستقلة.

ولهذا لابد أن يكون في كل من البائع والمشتري شرطان:

الشرط الأول: أن يكون جائز التصرف، أي: أن يكون له أهلية التصرف؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] فقوله سبحانه: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] إشارة إلى أنه لابد أن يكون المتصرف جائز التصرف، أن يكون مثلاً عنده أهلية الأداء، عنده صلاحية لصدور هذا الفعل منه على وجه يعتد به شرعاً وتتحقق به الأهلية عند الفقهاء، مثل: أن يكون الإنسان مميزاً، يعني: غير المميز لا يعتبر بيعه وشراؤه.

كذلك: أن يكون عاقلاً، فالمجنون لا يعتبر أيضاً بيعه وشراؤه.

كذلك: أن يكون رشيداً، فلو كان سفيهاً لم يعتد ببيعه وشرائه.

كذلك: أن يكون غير محجور عليه، فلو كان محجوراً عليه ممنوعاً من التصرف في ماله بأي سبب من أسباب الحجر، لم يعتد بهذا العقد الذي أجراه.

والشافعية لا يشترطون التمييز فقط، بل يشترطون البلوغ، فلا ينعقد البيع عندهم من الصبي لعدم أهليته، والصواب: أن البيع ينعقد من الصغير المميز، وكذلك الشراء.

أولاً: إن كان هذا البيع لشيء من الأشياء التافهة، كونه ذهب واشترى علبة ميرندا، أو اشترى قطعة من الكاكاو أو الفشار أو الأشياء التافهة هذه، فإن هذا البيع نقول: إنه ماض وصحيح ولا يزال الناس يتعاملون به، بل جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه: أنه وجد مع صبي عصفوراً فاشتراه منه وأرسله، والأمر في هذا واضح، فإذا كان شراء الطفل لهذه الأشياء فلا بأس به.

الأمر الثاني: أننا نقول: إن شراء الصبي المميز صحيح ولكنه موقوف على إجازة وليه أو أبيه، إذا كان من الأشياء التي يحتاج الأمر فيها إلى نظر وإلى فهم وإدراك، وقد يقع الصبي فيها في غرر أو جهالة، فنقول: البيع صحيح ولكنه موقوف على إجازة وليه أو وصيه.

إذاً: هذا هو الشرط الأول بالنسبة للمتعاقدين وهو: أن يكون عند كل منهما أهلية التصرف، وأن يكون جائز التصرف، بأن يكون عاقلاً رشيداً، غير محجور عليه كما ذكرنا.

الشرط الثاني: أن يكون لهما ولاية على المعقود عليه، بمعنى: أن يكون هناك سلطة لهما على السلعة أو البضاعة أو المال الذي يتصرف فيه.

والولاية هذه على المعقود عليه تكون بأحد ثلاثة أشياء:

الأمر الأول هو: أن يكون ملكه، فإن الإنسان يتصرف في ملكه، لكن لو أنه باع بيت الجيران، أيكون هذا معقولاً؟ لا.

إذاً: الصورة الأولى في ولايتهما أو تسلطهما على المعقود عليه: أن يكون ذلك ملكه، العلماء يعبرون بكسر الميم بالمِلك، أما المُلك فهو السلطان في ضم الميم.

الأمر الأول أن يكون مالكاً له.

هناك حالة ثانية لا يكون مالكاً له، لكنه يكون وكيلاً، وهذا يعتبر نوعاً من النيابة الاختيارية، بمعنى أني لما رأيت ما عندك من العقل والفهم وحسن التصرف، وهذا ليس بغريب؛ لأنك ابن تجار، والعوام يقولون: ابن الوز عوّام، فرأيت عندك حصافة، ولذلك وكلتك في ألوان من المبايعات والتجارات، في هذه الحالة هذه الوكالة التي هي نيابة اختيارية عني تملك بموجبها أن تبيع وتشتري.

هناك صيغة ثالثة وهي: نيابة إجبارية تثبت بتولية الشرع، مثل من يلي مال المحجور عليهم من الأولياء والأوصياء.. ونحوهم.

إذاً: الولي والوصي على المحجور عليه، على السفيه، على الصغير، ومن في حكمهم، له أيضاً حق الولاية في البيع والشراء، لكن هذه الولاية الآن في المحاكم الشرعية لا تجرى إلا بعد موافقة المحكمة أو موافقة لجنة تجعلها المحكمة للنظر في مثل هذه الأشياء، فتقر البيع وتمضيه أو ترده بحسب نظرها في ذلك.

قولنا: إن هذه صفات العاقدين، نحن الآن نتكلم عن صفات العاقدين.

الصفة الأولى قلنا: أن يكون -مثلاً- أهلاً للتصرف.

والثاني: أن يكون له ولاية على السلعة أو الثمن.

معنى ذلك أننا أمام طرفين وليس طرفاً واحداً.

إذاً: لابد أن يكون هناك طرفان متقابلان في البيع والشراء، هذا يوجب وهذا يقبل -إيجاب وقبول-، هذا يطلب وهذا يدفع.

ولذلك نقول: سواء كان فرداً أو جماعة، يعني ممكن يبيع فرد لفرد، وممكن تبيع شركة لشركة مثلاً، لكن هل يجوز أن يتولى فرد واحد طرفي العقد، فيكون هو البائع وهو المشتري، هو الموجب وهو القابل؟

أكثر الفقهاء يقولون: إنه لا يمكن أن يتولى شخص واحد طرفي العقد في الأحوال العادية؛ لأنه سوف يكون موجباً وقابلاً في الوقت نفسه، سوف يكون مطالباً لهذا، وكأنه يطالب نفسه، والأصل أن المطالِب غير المطالَب، والآخذ غير المعطي، لكنهم يتوسعون في ذلك في حالات خاصة، إذا أمن وضمن فيها أن تولي الإنسان طرفي العقد لن يترتب عليه نوع من المفسدة أو الخداع.

مثلاً: إذا باع القاضي مال اليتيم ليتيم آخر، قاضي في المحكمة هو ناظر لأيتام، فباع مثلاً هذه الأرض من هذا اليتيم ليتيم آخر، فينتظر أو يتوقع أن القاضي ليس له مصلحة في مثل هذا البيع، فكونه تولى طرفي العقد فباع لهذا على هذا، فهذا البيع ماض.

كذلك إذا باع الأب مال طفله لنفسه، أو ماله لطفله، عند الأب مال فتولى طرفي العقد وباع ماله لطفله أو كان عند طفله مال فاشتراه الأب لنفسه، فهذا أيضاً قالوا: إن الأب يكون مؤتمناً على ابنه، وعنده الشفقة والرحمة والحرص، فيجوز ذلك.

كذلك الوصي قالوا: الوصي إذا باع مال نفسه من اليتيم بشرط ظهور الخيرية في هذا العقد؛ ولهذا ممكن أقول هنا فيما يتعلق بالوصي: هنا يأتي دور اللجان المتخصصة في المحاكم التي تطلع على البيع وترى إن كانت هذه الأرض مثلاً تساوي المبلغ المبذول فيها أو لا تساوي.

وكأنه في هذه الحالة إذا كان هناك شخص واحد يتولى طرفي العقد يكون وكيلاً عن البائع ووكيلاً عن المشتري، هنا: هل يكون هناك خيار للمجلس؟ تعرفون أن الفقهاء يقولون: خيار، وسوف يأتي الخيار.

الخيار هو: حق الرجوع في العقد، فهو أنواع سوف يأتي الحديث عنها، فمنها خيار المجلس (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعاً)، فإذا كان الواحد يتولى طرفي العقد هل يكون عنده خيار؟

الظاهر أنه لا يكون له خيار، وهذا ما ذكره ابن قدامة في المغني : أنه لا يكون له خيار؛ لأنه خيار مع من!

وهناك قول آخر: أن له الخيار ما دام في المجلس، ما دام في المجلس يمكن أن ينقض هذا العقد، لكن لو قام من المجلس هذا إلى مكان آخر، فإنه يكون العقد ثابتاً وليس له فيه خيار.

انتهينا الآن من الأركان، الأركان قلنا هي: ركن متعلق بصيغة العقد، وركن متعلق بصفات العاقدين.

هناك الجانب الثالث وهو: محل العقد التي هي: السلعة والثمن، هذا يأتي في النقطة التالية وهي: شروط البيع، سوف يأتي ذكر أوصاف المبيع وأوصاف الثمن.

والفقهاء تكلموا في هذا الباب وسموه شروط البيع، وذكرنا في الجلسة الماضية شروط البيع والشروط في البيع، ما هو الفرق بينهما؟

إذاً: شرط البيع هو: ما لا يتم ولا يصح البيع إلا به -إلا بوجوده- من الشروط.

أما الشروط في البيع فهي: الشروط التي يتفق عليها المتبايعان، يشترط عليه مثلاً شيئاً معيناً مثل ما اشترى الرسول صلى الله عليه وسلم جملاً من جابر قال: ( واشترطت حملانه إلى أهلي ) فهذا شرط في البيع وليس شرطاً للبيع.

وطبعاً كلمة الشروط معروفة، والفرق بين الشرط والركن معروف، وأشرنا إليه في الجلسة الماضية.