فضائل يوم عرفة


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي أمر خليله أن أذن في الناس بالحج إلى البيت العتيق يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، والصلاة والسلام على من أنزل عليه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] ، وعلى آله وصحبه وذرية خليله الذين أسكنهم بواد غير ذي زرع، فطابوا مقيلاً ولم تزل أفئدة من الناس تهوي إليهم وتطير بأجنحة الشوق بكرة وأصيلاً.

أما بعد: فإن ذكريات رحلة الحج وزيارة المدينة النبوية المباركة من أشرف معالم العمر، وأعز وقائع الدهر؛ لأنها تنذر ذا القلب الساكن فترحل به إلى أشرف البقاع وأطهر الأماكن، وتحلق به في آفاق السمو الروحي الذي يضع عن نفس المسلم آصار التراب وأثقال الرغام، وأغلال الحطام، فتسمو به بعيداً وراء حدود الزمان، لتسترجع ذكريات شروق شمس الإسلام في تلك الأرض المباركة، وتستعيد فصول جهاد الرعيل الأول وقهرهم الشديد الذي قهر اليأس، وإيمانهم العميق الذي أذل الكفر، وهجرتهم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالقلوب والأبدان، حين أخرجوا من البلد الحرام إلى حرم المصطفى عليه الصلاة والسلام، حيث أسست الدولة الإسلامية الأولى على تقوى من الله ورضوان، ومن قلب هذا الحرم الأطهر بدأت كتائب الإسلام زحفها لاستئصال الجاهلية، ومن قلب طيبة الطيبة بدأت الانطلاقة الأولى لمشعر الإسلام إلى خارج حدود الجزيرة تبدد الظلام، وتوقظ النيام، وتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ما أعظم الدروس التي يتلقاها المؤمنون في رحلتهم إلى مهبط الوحي! فيتعلمون منها كيف يربطون وجودهم بأهداب الرسالة التي ألفت في ربع قرن من الأميين الضائعين في صحراء المجهول خير أمة أخرجت للناس، ثم قذفت بهم إلى الدنيا كما تقذف الشمس بأشعتها حياة للأرض الميتة، وضياء للأعين الزائغة، ودفئاً للأكباد المقروحة، لتعود بجهادهم إلى الحياة بهجتها، وتشرق الأرض بعد ظلمة بنور ربها، وتحلق الذكريات بنفس المؤمن بعيداً وراء حدود المكان، تطيف بها في أرجاء تلك المشاعر المقدسة، والربوع الطاهرة، وكيف لا تنجذب الأفئدة إليها بخطاطيف الأشواق، وترحل نحوها قلوب أهل النواحي والآفاق، وفيها بيت الله الحرام الذي جعله مثابة يثوب إليه أهل الإسلام من أقطار الأرض على تعاقب الأعوام، فلا تشبع من زيارته القلوب، ولا ترتحل الأنفس إلا وهي بذكره طروب:

لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا

ومن الناس من بلغهم الله بيته الحرام فذاقوا وارتزقوا، وعرفوا واغترفوا، فمهما يترددون إليه لا يبغون عنه حولا، ولا يرون أنهم قضوا منه وطراً، إذا ذكروا بيت الله حنوا، وإذا تذكروا بعدهم عنه أنوا، ثم لا يزالون يجأرون إلى مولاهم بقلوب محترقة، ودموع مستبقة، أن يعيدهم إليه مرة، بعد مرة وكرة بعد كرة، ومنهم من فاته منه الدنو فهو يضمه بقلبه في كل حين وآن، ويول إليه وجهه حيث ما كان، قد حرم الوصول إلى البيت، وقلبه موصول برب البيت، عاقته المعاريض، ولم تساعده المقادير، فإذا أذن مؤذن الحج حي على الرحيل تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، فأقاموا مأتماً لها، وأراقوا دموع الأسف، ما أطمع هكذا جرى المقدور، الجبر لغيري وأنا المكتوف أسير ذنبٍ مقيد مأسور، هل يمكن أن يبدل المذكور؟!

ثم أما بعد: فهذه الليلة المباركة التي هي ليلة عرفات، التي يجتمع فيها عيد الجمعة وعيد الحج وموقف الحج الأعظم، نستكمل هذه الفرصة بتلاوة قصيدة عصماء رائعة البيان، خطها بقلمه السيال، وفكره الحلال، الإمام العلامة أبو إبراهيم محمد بن إسماعيل بن صلاح الصنعاني رحمه الله تعالى، حيث سطر فيها ذكريات رحلته إلى حج البيت الحرام، وزيارة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعبر تجربته الشعورية الصادقة أنشأ هذه الأبيات التي تنوح بالشجون، وتكشف الوجد المكنون، وتستنفر الدمع الهتون، وتستمد ميلادها من شعلة الأشواق التي اتقدت في أحشائه، واضطرمت في ضلوعه وبين جوانحه، ثم فاضت منها المآقي كالسواقي:

فيا عجباً لمالٍ رغمت في أحشائه ستفيض من أجفانه ينبوعا

لهب يكون إذا تلبس بالأسى فيضاً ويظهر في الجفون ربيعا

فنشرع بإذن الله تعالى في قراءة هذه القصيدة، والمفترض أن نشرح غريب القصيدة، ولكن في الحقيقة لو توقفنا عند كل كلمة نطرحها فإنه ستذهب حلاوة القصيدة، ومتابعة ما عليها، فنعتذر عن ذكر ألفاظ الغريب، وإن كان المعنى في الجملة واضح تستطيعون إن شاء الله تعالى متابعته، وليتسنى ذكر الحج وبركاته.

يقول رحمه الله تعالى بادئاً بما كان اعتاد عليه أهل الجاهلية من الوقوف على الأطلال في أول الكلام ثم يدخل في الموضوع:

أيا عذبات البان من أيمن الخنا رعى الله عيشاً في رباك قطعناه

سرقناه من شرخ الشباب وروقه فلما سرقنا الصفو منه سرقناه

وجاءت بيوت البين يخدمها القضاء فبدد شملاً بالحجاز نظمناه

حرام به الدنيا دوام اجتماعنا فكم صرمت للشمل حبلاً وصلناه

فيا أين أيام تولت على الحمى وليل مع العكاس فيه سمرناه

ونخل لجيران المحصب ديرة نوفي لهم حسن الوداد ونرعاه

ونخلو بمن نهوى إذا رقد الورى ويدنو علينا من نحب محياه

فقرب ولا بعد وشمل مجمع وكأس وصال بيننا قد أبرناه

فهاتيك أيام الحياة وغيرها مناة فياليت النوى ما شهدناه

فيا ما أمر البين ما أخشن الهوى أما يا الهوى إن الهنا قد سلبناه

فوالله لم يبق الفراق لذاذة فلو من سبيل للفراق فرقناه

فكم من قتيل بيننا بسهامه فلو أننا نعطى الخطاق قتلناه

فأحبابنا بالشوق للحب بالجوى لحرمة عقد عندنا ما حللناه

لحق هوانا فيكم وودادنا لميثاق عهد صادق ما نقضناه

أعيدوا لنا أعيادنا بربوعكم ووقت كروب في حماكم قضيناه

فما العيش إلا ما قضينا على الحمى فذاك الذي من عمرنا قد عددناه

فياليت عنا أغمض البين طرفه ويا ليت وقتاً للفراق فقدناه

وترجع أيام المحصب للمنى ويبدو ثراه للعيون وحصباه

وتفرح فيه العيس بين ثمامة وتستنشق الأرواح نشر خزاماه

ونشكو إلى أحبابنا طول شوقنا إليهم وماذا بالفراق لقيناه

فلا كانت الدنيا إذا لم يعاينوا هم القصد في أولى المشوخ وأخراه

عليكم سلام الله يا ساكني الحمى بكم طاب رياه بكم طاب سكناه

وربكم لولاكم ما نوده ولا القلب من شوق إليه أذبناه

أسكان وادي المنحنى زاد وجدنا بمغنى حماكم زاد مغنى شرفناه

نحن إلى تلك الربوع تشوقاً ففيها لنا عهد وعقد عقدناه

ورب برانا ما سلونا ربوعكم وما كان من ربع سواه تلوناه

فيا هل إلى ربع الأعاريج عودة فذاك وحق الله ربع حببناه

قضينا مع الأحباب فيه مآرباً إلى الحشر لا تنسى سقى الله مرعاه

فشدوا مطايانا إلى الربع ثانياً فإن الهوى عن ربعه ما تليناه

ذكر البيت والطواف:

ففي ربعهم لله بيت مبارك إليه قلوب الخلق تهوي وتهواه

يطوف به الجاني فيُغفر ذنبه ويسقط عنه ظلم خطاياه

فكم لذة كم فرحة لطوافه فالله ما أحلى الطواف وأهناه

نطوف كأنا في الجنان نطوفها ولا هم لا غم فذاك نسيناه

فياشوقنا نحو الطواف وطيبه فذلك شوق لا يحاط بمعناه

فمن لم يذقه لم يذق قط لذة فذقه تذق يا صاح ما قد أذقناه

فوالله ما ننسى الحمى فقلوبنا هناك تركناها فيا كيف ننساه

ترى رجعة هل عودة لطوافنا وذك الحمى قبل المنية نغشاه

ووالله ما ننسى زمان مسيرنا إليه وكل الركب قد لذا مسراه

وقد نفيت أولادنا ونساؤنا وأموالنا فالقلب عنهم شغلناه

تراءت لنا أعلام وصل على اللوا فمن أجلها فالقلب عنهم لويناه

جعلنا إله العرش نصب عيوننا ومن دونه خلف الظهور نبذناه

وسرنا نشق البيد للبلد الذي بلهب وشق للنفوس بلغناه

رجالاً وركباناً على كل ضامر ومن كل ذي فج عميق أتيناه

نخوض إليه البر والبحر والدجى ولا قاطع إلا وعنه قطعناه

ونطوي الفلا من شدة الشوق للقا فتنسي الفلا تحكي سجلاً قطعناه

ولا صدنا عن خطبنا بُعد أهلنا ولا هجر دار أو حبيب ألفناه

وأموالنا مبذولة ونفوسنا ولم نُبقِ شيئاً منهما ما بذلناه

عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله فهان علينا كل شيء بذلناه

فمن عرف المطلوب هانت شدائد عليه ويهوى كل ما فيه يلقاه

فيا لو ترانا كنت تنظر عصبة حيارى سكارى نحو مكة ولّاه

فلله كم ليل قطعناه بالسرى وبذل يسير يعملان ذريناه

وكم من طريق مفزع في مسيرنا سلكنا وواد بالمخوفات جزناه

ولو قيل إن النار دون مدارك دُفعنا إليها والعدول دفعناه

فمولى الموالي للزيارة قد دعا أنقعد عنها والمزور هو الله

تكاثفت الأشواق وأضطرم الحشا فمن ذا له صبر وفي النار أحساه

وأسرى بنا الحادي فأمعن في السرى وولى الكرى نوم الجفون نسيناه

الإحرام من الميقات:

ولما بدا ميقات إحرام حجنا نزلنا به والعيس فيه أنخناه

ليغتسل الحجاج فيه ويحرموا فمنه ملبي ربنا لا حرمناه

ونادى مناد للحجيج ليحرموا فلم يبق إلا من أجاب ولباه

وجردت القمصان والكل أحرموا ولا لبس لا طيب جميعاً هجرناه

ولا لهو لا صيد لا نقرب النسا ولا رفث لا فسق كلاً رفضناه

وصرنا كأموات لففنا جسومنا بأكفاننا كل ذليل لمولاه

لعل يرى ذل العباد وكسرهم فيرحمهم رب يرجون رحماه

ينادونه لبيك لبيك ذا العلى وسعديك كل الشرك عنك نفيناه

فلو كنت يا هذا تشاهد حالهم لأبكاك ذا الحال في حال مرآه

وجوههم غبر وشعث رءوسهم فلا رأس إلا للإله كشفناه

لبسنا دروعاً من خضوع لربنا وما كان من جذع المعاصي خلعناه

وذاك قليل في كثير ذنوبنا فيا طالما رب العباد عصيناه

إلى زمزم زمت ركاب مطينا ونحو الصفا عيس الوفود صففناه

نأم مقاماً للخليل معظم إليه استبقنا والركاب حثثناه

ونحن نلبي في القعود ومهبط كذا حالنا في كل مرقىً رقيناه

وكم نجز عالٍ علته وفودنا وتعلو به الأصوات حين علوناه

نحج لبيت حجه الرسل قبلنا لنشهد نفعاً في الكتاب وعدناه

دعانا إليه الله قبل بنائه فقلنا له لبيك داع أجبناه

أتيناك لبيناك جئناك ربنا إليك هربنا والأنام تركناه

ووجهك نبغي أنت للقلب قبلة إذا ما حججنا أنت للحج رمناه

فما البيت ما الأركان ما الحجر ما الصفا وما زمزم أنت الذي قد قصدناه

وأنت منانا أنت غاية سؤلنا وأنت الذي دنيا وأخرى أردناه

إليك شددنا الرحل نخترق الفلا فكم كد كد في سواد خرقناه

كذلك ما زلنا نحاول سيرنا نهاراً وليلاً عيسنا ما أرحناه

إلى أن بدت إحدى المعالم من منى وهب نسيم بالوصول نفسناه

ونادى بنا حادي البشارة والهنا فهذا الحمى هذا ثراه غشيناه

رؤية البيت:

وما زال وفد الله يقصد مكة إلى أن بدا البيت العتيق وركناه

فضجت بيوت الله بالذكر والدعا وكبرت الحجاج حين رأيناه

وقد كادت الأرواح تزهق فرحة بما نحن من عظم السرور وجدناه

تصافحنا الأملاك من كان راكباً وتعتنق الناسي إذا ثم تلقاه

طواف القدوم:

فطفنا به سبعاً رملنا ثلاثة وأربعة مشينا كما قد أمرناه

كذلك طاف الهاشمي محمد طواف قدوم مثل ما طاف طفناه

وكانت دموع من غمام جفوننا على ما مضى من إثم ذنب كسبناه

ونحن بيوت الله جئنا لبيته نريد القرى نبغي من الله سكناه

فنادى بنا أهلاً ضيوفي تباشروا فقروا عيوناً فالحجيج قبلناه

غداً تنظروني في جنان خلودكم وذاك قراكم مع نعيم ذكرناه

فأي قرى يعلو قرانا لضيفنا وأي ثواب مثلما قد كتبناه

وكل مسيء قد أقلنا عثاره ولا وزر إلا عنكم قد وضعناه

ولا نصب إلا وعندي جزاؤه وكل الذي أنفقتموه حسبناه

سأعطيكم أضعاف أضعاف مثله فطيبوا نفوساً فضلنا قد منحناه

فيا مرحباً بالقادمين لبيتنا إلي حججتم لا لبيت بنيناه

عليّ الجزاء مني المثوبة والرضا ثوابكم يوم الجزاء ضمناه

فطيبوا سروراً وافرحوا وتذاكروا وتيهو وهيموا بابنا قد فتحناه

ولا ذنب إلا قد غفرناه عنكم وما كان من عيب عليكم سترناه

فهذا الذي نلنا بيوم قدومنا وأول ضيق للصدور شرحناه

المبيت بمنى والمسير إلى عرفات:

وبتنا بأقطاب المحصب من منى فياطيب ليل بالمحصب بتناه

وفي يومنا سرنا إلى الجبل الذي من البعد جئناه لما قد وجدناه

فلا حج إلا أن نكون بأرضه وقوفاً وهذا في الصحيح رويناه

إليه ابتدرنا قاصدين إلهنا فلولاه ما كنا لحج سلكناه

وسرنا إليه قاصدين وقوفنا عليه ومن كل الجهات أتيناه

على علميه للوقوف دلالة فلا زالتا تحمى وتصرف أرجاه

وبينهما جزنا إليه بزحمة فياطيبها ليس الزحام رجعناه

ولما رأينا تعالى عجيجنا نلبي وبالتهليل مما ملكناه

وفيه نزلنا بكرة بذنوبنا وما كان من ثقل المعاصي حملناه

الوقوف بعرفة:

وبعد زوال الشمس كان وقوفنا إلى الليل نأتي والدعاء أطالناه

فكم حامد كم ذاكر ومسبح وكم مذنب يشكو لمولاه بلواه

فكم خاضع كم خاشع متبلد وكم سائل مدت إلى الله كفاه

وساوى عزيز بالوقوف ذليلنا وكم ثوب عز في الوقوف لبسناه

ورب دعانا ناظر لخضوعنا خبير عليم بالذي قد أردناه

ولما رأى تلك الدموع التي جرت وطول خشوع مع خضوع خضعناه

فدلا علينا بالمكان وبالرضا وباهى بنا الأملاك حين وقفناه

وقال انظروا شعثا وغبراً جسومهم أجرنا أغثنا يا إلهاً دعوناه

وقد هجروا أموالهم وديارهم وأولادهم والكل يرفع شكواه

إلي فإني ربهم ومليكهم لمن يشتكي المملوك إلا لمولاه

ألا فاشهدوا أني غفرت ذنوبهم ألا فانسخوا ما كان عنهم نسخناه

فقد بدلت فيك المساوي محاسناً وذلك وعد من لدنا وعدناه

فياصاحبي من مثلنا في مقامنا ومن ذا الذي قد نال ما نحن نلناه

على عرفات قد وقفنا بموقف به الذنب مغفور وفيه محوناه

وقد أقبل الباري علينا بفضله وقال ابشروا فالعفو فيكم نثرناه

وعيش ضمنا كل تابعة جرت عليكم وأما حقنا فوهبناه

أقلناكم من كل ما قد جنيتموا وما كان من عذر لدينا عذرناه

فيا من أتى يا من عصى لو رأيتنا وأوزارنا ترمى ويرحمنا الله

وددت بأن لو كنت بين رحالنا وترجو رحيماً كلنا يترجاه

وقفنا لديه سائلين من الخطا وغفراننا من ربنا قد طلبناه

أمرنا بحسن الظن والله حثنا عليه وهذا في الحديث رويناه

عليه اتكلنا واطمأنت قلوبنا لما عنده من وسع عفو عرفناه

فطوبى لمن ذاك المقام مقامه وبشراه في يوم التغابن بشراه

ترى موقفاً فيه الخزائن فتحت ووالى علينا الله منها عطاياه

فصالح مهجوراً وقرب مبعداً وذاك مقام الصلح للصلح قمناه

ودار علينا الكأس بالفضل والرضا سقينا شراباً مثله ما سقيناه

فإن شئت تسقى ما سقينا على الحمى فقلل وما واقصد مقاماً قصدناه

وفيه نصبنا للرحيل صفوفنا فقال كفيتم عفونا قد بسطناه

وأعتقنا كلاً وأهدر ما مضى فقال لنا كل العتاب طويناه

ذكر خزي إبليس اللعين:

فإبليس مغموم لكثرة ما يرى من العتق محكوراً ذليلاً دحرناه

على رأسه يحثو التراب منادياً بأعوانه ويلاهم ذا اليوم ويلاه

وأظهر منا حسرة وندامة وكل بناء قد بناه هدمناه

تركناه يبكي بعد ما كان ضاحكاً فكم مذنب من كأسه قد سللناه

وكم أمل لله يوم وقوفنا وكم من أسير للمعاصي فككناه

وكم قد رفعنا للإله مطالباً ولا أحداً ممن نحب نسيناه

وخصصت الآباء والأهل بالدعا وكم صاحب بان وناءٍ ذكرناه

كذا فعل الحجاج هاتيك عادة وما فعل الحجاج فيه فعلنا

وظل إلى وقت الغروب وقوفنا وقيل ادفعوا فالكل منكم قبلناه

الإفاضة والمبيت بمزدلفة وذكر الله عند المشعر الحرام:

أفيضوا وأنتم ذاكرون إلهكم إلى مشعر جاء الكتاب بذكراه

وسيروا إليه واذكروا الله عنده فسرنا وفي وقت العشاء نزلناه

وفيه جمعنا مغرباً وعشاءها ترى عائداً جمع لجمع جمعناه

وبتنا به حتى نقصنا دماغنا ورباً شكرناه على ما هداناه

ومنه أفضنا حيث ما الناس قبلنا أفاضوا وغفران الإله طلبناه

ونحو منىً نلنا بها كان عيدنا ونلنا بها ما القلب كان تمناه

فمن منكم بالله عيد عيدنا فعيد منى رب البرية أعلاه

وفيه رمينا للعقاب جمارنا ولا جرم إلا مع غمار رميناه

وفي الجمرة القصوى بدأنا وعندها حلقنا وقصرنا لشعر حظرناه

ولما حلقنا حل لبس مخيطنا فيا خلقة منها المخيط لبسناه

وفيها نحرنا الهدي طوعاً لربنا وإبليس لما أن نحرنا نحرناه

ومن بعدها يومان للرمي عادلاً ففيها رمينا والإله دعوناه

وإياه أرضينا برمي جمارنا وشيطاننا المرجوم ثم رجمناه

وبالغيث أعطانا الإله أمامنا وأذهب عنا كل ما نحن نغشاه

النفر من منى:

وردت إلى البيت الحرام وفودنا نحنُّ له كالطير حنَّ لمأواه

وطفنا طوافاً للإفاضة حوله وفزنا به بعد الجمار وزرناه

ومن بعد ما زرنا دخلناه دخلة كأنا دخلنا الخلد حين دخلناه

ونلنا أمان الله عند دخوله كما أخبر القرآن فيما قرأناه

فيا منزلاً قد كان أبرك منزل نزلناه في الدنيا وبيتاً حججناه

ترى حجة أخرى إليه ودخلة وهذا على رب الورى نتمناه

فإخواننا ما كان أحلى دخولنا إليه ولبساً في ذراه لبسناه

طواف الإفاضة:

نطوف به والله يحصي صلاتنا ليسقط عنا ما نسينا وأخطاه

وبالحجر الميمون عدنا فإنه لرب السما والأرض للخلق يمناه

نقبله من حبنا لإلهنا وكم لثمه طي الطواف لثمناه

وذاك لنا يوم القيامة شاهد وفيه لنا لله عهد عهدناه

ونستلم الركن اليماني طاعة ونستغفر المولى إذا ما لمسناه

وملتزم فيه التزمنا لربنا عهوداً وعهد الله فيه لزمناه

وكم موقف فيه يجاب لنا الدعا دعونا به والقصد فيه نويناه

وصلى بأركان المقام حجيجنا وفي زمزم ماءً طهوراً وردناه

وفيه الشفا فيه بلوغ مرادنا بما نحن ننويه إذا ما شربناه

رأينا الصفا المروة الوفد قد سعى فإن تمام الحج تكميل مسعاه

فسبعاً سعاها سيد الرسل قبلنا ونحن تبعناه فسبعاً سعيناه

نهرول في أثنائها كل مرة فهذاك من فعل الرسول فعلناه

وبعد تمام الحج والنسك كلها حللنا وباقي عيسنا قد أنخناه

فمن شاء وافى الطيب والطيب والنساء فقد تم حج للإله حججناه

ولما اعتمرنا كان أبرك عمرنا زمان نراه باعتمار عمرناه

ولما قضينا للإله مناسكاً ذكرناه والمطلوب منه سألناه

فمن طالب حظاً بدنيا فما له خلاص لأخراه إلى الله لاقاه

ومن طالب حسنى بدنيا لدينه وحسناً لأخراه وذاك يوفاه

وآخر لا يبغي من الله حاجة سوى نظرة في وجهه يوم عقباه

طواف الوداع:

وبات حجيج الله بالبيت محدقاً ورحمة رب العرش إنذاك تغشاه

تداعى رفاق بالرحيل فما ترى سوى دمع عين بالدعاء مددناه

لفرقة بيت الله والحجر الذي لأجلهما صعب الأمور سلكناه

وودعت الحجاج بيت إلهها وكلهم تجري من الحزن عيناه

فلله كم باكٍ وصاحب حسرة يود بأن الله كان توفاه

فلو تشهد التوديع يوماً ببيته فإن فراق البيت مراً وجدناه

فما فرقة الأولاد والله إنه أمر وأدهى ذاك شيء خبرناه

فمن لم يجرب ليس يعرف قدره فجرب تجد تصديق ما قد ذكرناه

لقد صدعت أكبادنا وقلوبنا بما نحن من مر الفراق شربناه

ووالله لولا أن نؤمل عودة إليه لذقنا الموت حين فجعناه

ذكر الرحيل إلى طيبة وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم:

ومن بعد ما طفنا طواف وداعنا رحلنا لمغنى المصطفى ومصلاه

ووالله لو أن الأسنة أشرعت وقامت حروب دونه ما تركناه

ولو أننا نسعى على الروح دونه ومن دونه جفن العيون تركناه

وتملك منا بالوصول رقابنا ويسلب منا كل شيء ملكناه

لكان يسيراً في محبة أحمد وبالروح لو يشرى الوصال شريناه

ورب الورى لولا محمد لم نكن لطيبة مسعى والركاب شددناه

ولولاه ما اشتقنا العقيق ولا قبا ولولاه لم نهو المدينة لولاه

هو القصد إن غنت بنجد الهدى حداثنا وإلا فما نجد وسلم أردناه

وما مكة والخيف قلي ولا منى وما عرفات قبل شرع أراناه

به شرفت تلك الأماكن كلها وربك قد خص الحبيب وأعطاه

لمسجده سرنا وشدة رحالنا وبين يديه شوقنا قد كتبناه

قطعنا إليه كل بغي ونهِ نهِ ولا كابر إلا وعنا قطعناه

كذا عزمات السائرين لطيبة رعى الله عزماً للحبيب عزمناه

وكم جبل جزنا ورمل وحابل ولله كم واد وشعب عبرناه

ترمحنا الأشواق نحو محمد فنسري ولا ندري بما قد سريناه

ولما بدا جذع العقيق رأيتنا نشاوى سكارى فارحين برؤياه

كمنا نسيماً جاء من نحو طيبة فأهلاً وسهلاً يا نسيماً كمناه

فقد ملئت منا القلوب مسرة وأي سرور مثل ما قد سررناه

فواعجباه كيف قرت عيوننا وقد أيقنت أن الحبيب أتيناه

ولقياه منا بعد بعد تقارب فوالله لا لقيا تعادل لقياه

وصلنا إليه واتصلنا بقربه فلله ما أحلى وصولاً وصلناه

وقفنا وسلمنا عليه وإنه ليسمعنا من غير شك فديناه

ورد علينا بالسلام سلامنا وقد زادنا فوق الذي قد بدأناه

كذا كان خلق المصطفى وصفاته بذلك في الكتب الصحاح عرفناه

وثمَّ دعونا للأحبة كلهم فكم من حبيب بالدعا قد خصصناه

وملنا لتسليم الإمامين عنده فإنهما حقاً هناك ضبيعاه

وكم قد مشينا في مكان به مشى وكم مدخلٍ للهاشمي دخلناه

وآثاره فيه العيون تمتعت وقمنا وصلينا بحيث مصلاه

وكم قد نثرنا شوقنا لحبيبنا وكم من غليل في القلوب شفيناه

ومسجده فيه سجدنا لربنا فلله ما أعلى سجوداً سجدناه

لروضته قمنا فهاتيك جنة فيا فوز من فيه لفضلي وبشراه

ومنبره الميمون منه بقية وقفنا عليها والفؤاد كررناه

كذلك مثل الجذع حنت قلوبنا إليه كما ود الحبيب وددناه

وزرنا قبا حباً لأحمد في المسا عسى قدم يخطو مقاماً تخطاه

لنبعث يوم البعث تحت لوائه إذا الله من تلك الأماكن ناداه

وزرنا مزارات البقيع فليتنا هناك دفنا والممات رزقناه

وحمزة زرناه ومن كان حوله شهيداً وأحداً بالعيون شهدناه

ولما بلغنا من زيارة أحمد منانا حمدنا ربنا وشكرناه

ومن بعد هذا صاح بالبين صائح وقال ارحلوا يا ليتنا ما أطعناه

سمعنا له صوتاً بتشتيت شملنا فيا ما أمر الصوت حين سمعناه

وقمنا نؤم المصطفى لوداعه ولا دمع إلا للوداع صببناه

ولا صبر كيف الصبر عند فراقه وهيهات إن الصبر عنه صرفناه

أيصبر ذو عقل لفرقة أحمد فلا والذي من قاب قوسين أدناه

فواحسرتا من وداع محمد وأواه من يوم التفرق أواه

فأبكي عليه قدر جهدي بناظري من الشوق ما ترقى من الدمع رباه

فيا وقت توديعي له ما أمره ووقت اللقا والله ما كان أحلاه

عسى الله يدنيني لأحمد ثانياً فياحبذا قرب الحبيب ومدناه

فيارب فارزقنى لمغناه عودة تضاعف لنا فيها الثواب وترضاه

رحلنا وخلفنا لديه قلوبنا فكم جسد من غير قلب طلبناه

ولما تركنا ربعه من ورائنا فلا ناظر إلا إليه رددناه

فلا عيش يهنى مع فراق محمد أأفقد محبوبي وعيشي أهناه

دعوني أمت شوقاً إليه وحرقة وخطوا على قبري بأني أهواه

فيا صاحبي هذي التي بي قد جرت وهذا الذي في حجنا قد عملناه

فإن كنت مشتاقاً فبادر إلى الحمى لتنظر آثار الحبيب وممشاه

وتحظى ببيت الله من قبل منعه كأنا به عما قليل منعناه

أليس ترى الأشراط كيف تتابعت؟ فبادر واغنمه كما قد غنمناه

إلى عرفات عاجل العمر واستبق فثم إله الخلق يسبغ نعماه

وعيد مع الحجاج يا صاح في منى فعيد منىً أعلاه عيداً وأسماه

وضح بها واحلق وسر متوجهاً إلى البيت واصنع مثلما قد صنعناه

وكن صابراً إنا لقينا مشقة فإن تلقها فاصبر كصبر صبرناه

لقد بعدت تلك المعالم والربى فكم من رواح مع غدو غدوناه

فبادر إليها لا تكن متوانياً لعلك تحظى بالذي قد حظيناه

وحج بمال من حلال عرفته وإياك والمال الحرام وإياه

فمن كان بالمال المحرم حجه فمن حجه والله ما كان أغناه

إذا هو لبى الله كان جوابه من الله لا لبيك حجاً رددناه

كذلك جاءنا في الحديث مسطراً ففي الحج أجر وافر قد سمعناه

ومن بعد حج سر لمسجد أحمد ولا تخطه تندم إذا ما تخطاه

فو أسف الساري إذا ذكر الحمى إذا رفع خير المرسلين تخطاه

ووالهف الآتي بحج وعمرة إذا لم يكمل بالزيارة ممساه

يعزى على ما فاته من مداره فقد فاته أجر كثير بأخراه

نظرناه حقاً حين بانت ركابنا على طيبة حقاً وصدقاً نظرناه

وزادت بنا الأشواق عند دنونا إليها فما أحلى دنواً دنيناه

ولما بدت أعلامها وطلولها تحدرت الركبان عما ركبناه

وسرنا مشاة رفعة لمحمد حثثنا الخطا حتى المصلى دخلناه

لنغنم تضعيف الثواب بمسجد صلاة الفتى فيه بألف يوفاه

كذلك فاغنم في زيارة طيبة كما قد فعلنا واغتنم ما غنمناه

فإما رأيت القبر قبر محمد فلا تدن منه ذاك أولى لعلياه

وقف بوقار عنده وسكينة ومثل رسول الله حياً بمثواه

وسلم عليه والوزيرين عنده وزره كما زرنا لتحمد عقباه

وبلغه عنا لا عُدمت سلامنا فأنت رسول للرسول بعثناه

ومن كان منا مجيراً بسلامنا فإنا بإدلاء السلام سبقناه

فيا نعمة لله لسنا بشكرها نقوم ولو ماء البحور مددناه

فنحمد رب العرش إن كان حجنا لزورة من كان الختام ختمناه

عليك سلام الله ما دامت السماء سلام كما يبغي الإله ويرضاه

فهذا هو الشق الأول من حديثنا الليلة.

ذكر البيت والطواف

ففي ربعهم لله بيت مبارك إليه قلوب الخلق تهوي وتهواه يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ويسقط عنه جرمه وخطاياه فكم لذة كم فرحة لطوافه فلله ما أحلى الطواف وأهناه نطوف كأنا في الجنان نطوفها ولا هم لا غم فذاك نفيناه فياشوقنا نحو الطواف وطيبه فذلك شوق لا يحاط بمعناه فمن لم يذقه لم يذق قط لذة فذقه تذق يا صاح ما قد أذقناه فوالله ما ننسى الحمى فقلوبنا هناك تركناها فيا كيف ننساه ترى رجعة هل عودة لطوافنا وذاك الحمى قبل المنية نغشاه ووالله ما ننسى زمان مسيرنا إليه وكل الركب قد لذ مسراه وقد نسيت أولادنا ونساؤنا وأموالنا فالقلب عنهم شغلناه تراءت لنا أعلام وصل على اللوى فمن أجلها فالقلب عنهم لويناه جعلنا إله العرش نصب عيوننا ومَنْ دونه خلف الظهور نبذناه وسرنا نشق البيد للبلد الذي بجهد وشق للنفوس بلغناه رجالاً وركبانا على كل ضامر ومن كل ذي فج عميق أتيناه نخوض إليه البر والبحر والدجى ولا قاطع إلا وعنه قطعناه ونطوي الفلا من شدة الشوق للقا فتمسي الفلا تحكي سجلاً قطعناه ولا صدنا عن قصدنا بعد أهلنا ولا هجر جار أو حبيب ألفناه وأموالنا مبذولة ونفوسنا ولم نبق شيئاً منهما ما بذلناه عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله فهان علينا كل شيء بذلناه فمن عرف المطلوب هانت شدائد عليه ويهوى كل ما فيه يلقاه فيا لو ترانا كنت تنظر عصبة حيارى سكارى نحو مكة وُلاه فلله كم ليل قطعناه بالسرى وبر بسير اليعملات بريناه وكم من طريق مفزع في مسيرنا سلكنا وواد بالمخوفات جزناه ولو قيل إن النار دون مزاركم دفعنا إليها والعذول دفعناه فمولى الموالي للزيارة قد دعا أنقعد عنها والمزور هو الله ترادفت الأشواق واضطرم الحشا فمن ذا له صبر وفي النار أحشاه وأسرى بنا الحادي فأمعن في السرى وولى الكرى نوم الجفون نفينا

الإحرام من الميقات

ولما بدا ميقات إحرام حجنا نزلنا به والعيس فيه أنخناه ليغتسل الحجاج فيه ويحرموا فمنه نلبي ربنا لا حرمناه ونادى مناد للحجيج ليحرموا فلم يبق إلا من أجاب ولباه وجردت القمصان والكل أحرموا ولا لبس لا طيب جميعاً هجرناه ولا لهو لا صيد ولا نقرب النسا ولا رفث لا فسق كُلاً رفضناه وصرنا كأموات لففنا جسومنا بأكفاننا كل ذليل لمولاه لعل يرى ذل العباد وكسرهم فيرحمهم رب يرجّون رحماه ينادونه: لبيك لبيك ذا العلا وسعديك كل الشرك عنك نفيناه فلو كنت يا هذا تشاهد حالهم لأبكاك ذاك الحال في حال مرآه وجوههم غبر وشعث رءوسهم فلا رأس إلا للإله كشفناه لبسنا دروعاً من خضوع لربنا وما كان من درع المعاصي خلعناه وذاك قليل في كثير ذنوبنا فيا طالما رب العباد عصيناه إلى زمزم زُمَّت ركاب مطينا ونحو الصفا عيس الوفود صففناه نؤم مقاماً للخليل معظماً إليه استبقنا والركاب حثثناه ونحن نلبي في صعود ومهبط كذا حالنا في كل مرقى رقيناه وكم نشزٍ عالٍ علته وفودنا وتعلو به الأصوات حين علوناه نحج لبيت حجه الرسل قبلنا لنشهد نفعاً في الكتاب وعدناه دعانا إليه الله قبل بنائه فقلنا له لبيك داع أجبناه أتيناك لبيناك جئناك ربنا إليك هربنا والأنام تركناه ووجهك نبغي أنت للقلب قبلة إذا ما حججنا أنت للحج رمناه فما البيت ما الأركان ما الحجر ما الصفا وما زمزم أنت الذي قد قصدناه وأنت منانا أنت غاية سؤلنا وأنت الذي دنيا وأخرى أردناه إليك شددنا الرحل نخترق الفلا فكم سدَّ سَدٌّ في سواد خرقناه كذلك ما زلنا نحاول سيرنا نهارا وليلاً عيسنا ما أرحناه إلى أن بدت إحدى المعالم من منى وهبّ نسيم بالوصول نشقناه ونادى بنا حادي البشارة والهنا فهذا الحمى هذا ثراه غشيناه

رؤية البيت

وما زال وفد الله يقصد مكة إلى أن بدا البيت العتيق وركناه فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا وكبرت الحجاج حين رأيناه وقد كادت الأرواح تزهق فرحة لما نحن من عظم السرور وجدناه تصافحنا الأملاك من كان راكبا وتعتنق الماشي إذا ثم تلقاه

طواف القدوم

فطفنا به سبعاً رملنا ثلاثة وأربعة مشينا كما قد أمرناه كذلك طاف الهاشمي محمد طواف قدوم مثلما طاف طفناه وسالت دموع من غمام جفوننا على ما مضى من إثم ذنب كسبناه ونحن ضيوف الله جئنا لبيته نريد القرى نبغي من الله حسناه فنادى بنا أهلاً ضيوفي تباشروا وقروا عيونا فالحجيج قبلناه غداً تنظروني في جنان خلودكم وذاك قراكم معْ نعيم ذخرناه فأي قرى يعلو قرانا لضيفنا وأي ثواب مثل ما قد أثبناه وكل مسيء قد أقلنا عثاره ولا وزر إلا عنكم قد وضعناه ولا نصب إلا وعندي جزاؤه وكل الذي أنفقتموه حسبناه سأعطيكم أضعاف أضعاف مثله فطيبوا نفوساً فضلنا قد منحناه فيا مرحباً بالقادمين لبيتنا إليّ حججتم لا لبيت بنيناه علي الجزا مني المثوبة والرضا ثوابكم يوم الجزاء ضمناه فطيبوا سروراً وافرحوا وتباشروا وتيهوا وهيموا بابنا قد فتحناه ولا ذنب إلا قد غفرناه عنكم وما كان من عيب عليكم سترناه فهذا الذي نلنا بيوم قدومنا وأول ضيق للصدور شرحناه

المبيت بمنى والسير إلى عرفات

وبتنا بأقطار المحصب من منى فيا طيب ليل بالمحصب بتناه وفي يومنا سرنا إلى الجبل الذي من البعد جئناه لما قد وجدناه فلا حج إلا أن نكون بأرضه وقوفاً وهذا في الصحيح رويناه إليه ابتدرنا قاصدين إلهنا فلولاه ما كنا لحج سلكناه وسرنا إليه قاصدين وقوفنا عليه ومن كل الجهات أتيناه على علميه للوقوف جلالة فلا زالتا تحمى وتحرس أرجاه وبينهما جزنا إليه بزحمة فيا طيبها ليت الزحام رجعناه ولما رأيناه تعالى عجيجنا نلبي وبالتهليل منا ملأناه وفيه نزلنا بكرة بذنوبنا وما كان من ثقل المعاصي حملناه

الوقوف بعرفة

وبعد زوال الشمس كان وقوفنا إلى الليل نبكي والدعاء أطلناه فكم حامد كم ذاكر ومسبح وكم مذنب يشكو لمولاه بلواه فكم خاضع كم خاشع متذلل وكم سائل مدت إلى الله كفاه وساوى عزيز في الوقوف ذليلنا وكم ثوب عز في الوقوف لبسناه ورب دعانا ناظر لخضوعنا خبير عليم بالذي قد أردناه ولما رأى تلك الدموع التي جرت وطول خشوع معْ خضوع خضعناه تجلى علينا بالمتاب وبالرضا وباهى بنا الأملاك حين وقفناه وقال انظروا شعثاً وغبراً جسومهم أجرنا أغثنا يا إلهاً دعوناه وقد هجروا أموالهم وديارهم وأولادهم والكل يرفع شكواه إلي فإني ربهم ومليكهم لمن يشتكي المملوك إلا لمولاه ألا فاشهدوا أني غفرت ذنوبهم ألا فانسخوا ما كان عنهم نسخناه فقد بدلت تلك المساوي محاسنا وذلك وعد من لدنا وعدناه فيا صاحبي من مثلنا في مقامنا ومن ذا الذي قد نال ما نحن نلناه على عرفات قد وقفنا بموقف به الذنب مغفور وفيه محوناه وقد أقبل الباري علينا بفضله وقال ابشروا فالعفو فيكم نشرناه وعنكم ضمنا كل تابعة جرت عليكم وأما حقنا فوهبناه أقلناكم من كل ما قد جنيتم وما كان من عذر لدينا عذرناه فيا من أسا يا من عصى لو رأيتنا وأوزارنا ترمى ويرحمنا الله وددت بأن لو كنت بين رحالنا وترجو رحيماً كلنا يترجاه وقفنا لديه سائلين من الخطا وغفراننا من ربنا قد طلبناه أمرنا بحسن الظن والله حثنا عليه وهذا في الحديث رويناه عليه اتكلنا واطمأنت قلوبنا لما عنده من وسع عفوعرفناه فطوبى لمن ذاك المقام مقامه وبشراه في يوم التغابن بشراه ترى موقفاً فيه الخزائن فتحت ووالى علينا الله منها عطاياه فصالح مهجوراً وقرب مبعداً وذاك مقام الصلح للصلح قمناه ودار علينا الكأس بالفضل والرضا سقينا شراباً مثله ما سقيناه فإن شئت تسقى ما سقينا على الحمى فقلل وما واقصد مقاماً قصدناه وفيه نصبنا للرحيل صفوفنا فقال كفيتم عفونا قد بسطناه وأعتقنا كلاً وأهدر ما مضى وقال لنا كل العتاب طويناه

ذكر خزي إبليس اللعين

فإبليس مغموم لكثرة ما يرى من العتق محقوراً ذليلاً دحرناه على رأسه يحثو التراب مناديا بأعوانه : ويلاه ذا اليوم ويلاه وأظهر منا حسرة وندامة وكل بناء قد بناه هدمناه تركناه يبكي بعدما كان ضاحكاً فكم مذنب من كفه قد سللناه وكم أمل نلناه يوم وقوفنا وكم من أسير للمعاصي فككناه وكم قد رفعنا للإله مطالبا ولا أحداً ممن نحب نسيناه وخصّصت الآباء والأهل بالدعا وكم صاحب دانٍ وناء ذكرناه كذا فعل الحجاج هاتيك عادة وما فعل الحجاج فيه فعلناه وظل إلى وقت الغروب وقوفنا وقيل ادفعوا فالكل منكم قبلناه

الإفاضة والمبيت بمزدلفة وذكر الله عند المشعر الحرام

أفيضوا وأنتم حامدون إلهكم إلى مشعر جاء الكتاب بذكراه وسيروا إليه واذكروا الله عنده فسرنا وفي وقت العشاء نزلناه وفيه جمعنا مغرباً وعشاءها ترى عائداً جمعاً لجمع جمعناه وبتنا به حتى لقطنا جمارنا ورباً شكرناه على ما هداناه ومنه أفضنا حيثما الناس قبلنا أفاضوا وغفران الإله طلبناه ونحو منى ملنا بها كان عيدنا ونلنا بها ما القلب كان تمناه فمن منكم بالله عيّد عيدنا فعيد منى رب البرية أعلاه وفيه رمينا للعقاب جمارنا ولا جرم إلا مع جمار رميناه وبالجمرة القصوى بدأنا وعندها حلقنا وقصرنا لشعر حضرناه ولما حلقنا حل لبس مخيطنا فيا خلقة منها المخيط لبسناه وفيها نحرنا الهدي طوعاً لربنا وإبليس لما أن نحرنا نحرناه ومن بعدها يومان للرمي عاجلاً ففيها رمينا والإله دعوناه وإياه أرضينا برمي جمارنا وشيطاننا المرجوم ثَم رجمناه وبالخيف أعطانا الإله أماننا وأذهب عنا كل ما نحن نخشاه

النفر من منى وطواف الإفاضة

وردت إلى البيت الحرام وفودنا نحنُّ له كالطير حنّ لمأواه وطفنا طوافا للإفاضة حوله وفزنا به بعد الجمار وزرناه ومن بعد ما زرنا دخلناه دخلة كأنا دخلنا الخلد حين دخلناه ونلنا أمان الله عند دخوله كذا أخبر القرآن فيما قرأناه فيا منزلاً قد كان أبرك منزل نزلناه في الدنيا وبيتاً حججناه ترى حجةً أخرى إليه ودخلةً وهذا على رب الورى نتمناه فإخواننا ما كان أحلى دخولنا إليه ولبثا في ذراه لبثناه نطوف به والله يحصي طوافنا ليسقط عنا ما نسينا وأخطاه

ذكر استلام الحجر الأسود والركن اليماني

وبالحجر الميمون عدنا فإنه برب السما والأرض للخلق يمناه نقبله من حبنا لإلهنا وكم لثمه طي الطواف لثمناه وذاك لنا يوم القيامة شاهد وفيه لنا لله عهد عهدناه ونستلم الركن اليماني طاعة ونستغفر المولى إذا ما لمسناه وملتزم فيه التزمنا لربنا عهوداً وعهد الله فيه لزمناه وكم موقف فيه يجاب لنا الدعا دعونا به والقصد فيه نويناه وصلى بأركان المقام حجيجنا وفي زمزم ماءً طهوراً وردناه وفيه الشفا فيه بلوغ مرادنا لما نحن ننويه إذا ما شربناه

ذكر السعي بين الصفا والمروة والتحلل من الإحرام

وبين الصفا والمروة الوفد قد سعى فإن تمام الحج تكميل مسعاه فسبعاً سعاها سيد الرسل قبلنا ونحن تبعناه فسبعاً سعيناه نهرول في أثنائها كل مرة فهذاك من فعل الرسول فعلناه وبعد تمام الحج والنسك كلها حللنا وباقي عيسنا قد أنخناه فمن شاء وافى الصيد والطيب والنسا فقد تم حج للإله حججناه ولما اعتمرنا كان أبركَ عمرنا زمان نراه باعتمار عمرناه ولما قضينا للإله مناسكاً ذكرناه والمطلوب منه سألناه فمن طالب حظاً بدنيا فما له خلاق بأخراه إذا الله لاقاه ومن طالب حسنا بدنيا لدينه وحسنا بأخراه وذاك يوفاه وآخر لا يبغي من الله حاجة سوى نظرة في وجهه يوم عقباه

طواف الوداع

وبات حجيج الله بالبيت محدقاً ورحمة رب العرش إذ ذاك تغشاه تداعى رفاق للرحيل فما ترى سوى دمع عين بالدعاء مددناه لفرقة بيت الله والحجر الذي لأجلهما صعب الأمور سلكناه وودعت الحجاج بيت إلهها وكلهم تجري من الحزن عيناه فللَّه كم باك وصاحب حسرة يود بأن الله كان توفاه فلو تشهد التوديع يوماً لبيته فإن فراق البيت مراً وجدناه فما فرقة الأولاد والله إنه أمرّ وأدهى ذاك شيء خبرناه فمن لم يجرب ليس يعرف قدره فجرب تجد تصديق ما قد ذكرناه لقد صدعت أكبادنا وقلوبنا لما نحن من مُرّ الفراق شربناه ووالله لولا أن نؤمل عودة إليه لذقنا الموت حين فجعناه

ذكر الرحيل إلى طيبة وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم

ومن بعد ما طفنا طواف وداعنا رحلنا لمغنى المصطفى ومصلاه ووالله لو أن الأسنة أشرعت وقامت حروب دونه ما تركناه ولو أننا نسعى على الروس دونه ومن دونه جفن العيون فرشناه وتملك منا بالوصول رقبانا ويسلب منا كل شيء ملكناه لكان يسيراً في محبة أحمد وبالروح لو يشرى الوصال شريناه ورب الورى لولا محمد لم نكن لطيبة نسعى والركاب شددناه ولولاه ما اشتقنا العقيق ولا قبا ولولاه لم نهوى المدينة لولاه هو القصد إن غنت بنجد حداتنا وإلا فما نجد وسلع أردناه وما مكة والخيف قل لي ولا منى وما عرفات قبل شرع أراناه به شرفت تلك الأماكن كلها وربك قد خص الحبيب وأعطاه لمسجده سرنا وشدت رحالنا وبين يديه شوقنا قد كتبناه قطعنا إليه كل بر ومهمه ولا شاغل إلا وعنا قطعناه كذا عزمات السائرين لطيبة رعى الله عزماً للحبيب عزمناه وكم جبل جزنا ورمل وحاجز ولله كم واد وشعب عبرناه تروحنا الأشواق نحو محمد فنسري ولا ندري بما قد سريناه ولما بدا جذع العقيق رأيتنا نشاوى سكارى فارحين برؤياه شممنا نسيماً جاء من نحو طيبة فأهلاً وسهلاً يا نسيما شممناه فقد ملئت منّا القلوب مسرة وأي سرور مثل ما قد سررناه فوا عجباه كيف قرّت عيوننا وقد أيقنت أن الحبيب أتيناه ولقياه منا بَعدَ بُعدٍ تقاربت فو الله لا لقيا تعادل لقياه وصلنا إليه واتصلنا بقربه فلله ما أحلى وصولاً وصلناه وقفنا وسلمنا عليه وإنه ليسمعنا من غير شك فديناه ورد علينا بالسلام سلامنا وقد زادنا فوق الذي قد بدأناه كذا كان خلق المصطفى وصفاته بذلك في الكتب الصحاح عرفناه وثَم دعونا للأحبة كلهم فكم من حبيب بالدعا قد خصصناه وملنا لتسليم الإمامين عنده فإنهما حقاً هناك ضجيعاه وكم قد مشينا في مكان به مشى وكم مدخل للهاشمي دخلناه وآثاره فيها العيون تمتعت وقمنا وصلينا بحيث مصلاه وكم قد نشرنا شوقتنا لحبيبنا وكم من غليل في القلوب شفيناه ومسجده فيه سجدنا لربنا فلله ما أعلى سجوداً سجدناه بروضة قمنا فهاتيك جنة فيا فوز من فيها يصلي وبشراه ومنبره الميمون منه بقية وقفنا عليها والفؤاد كررناه كذلك مثل الجذع حنت قلوبنا إليه كما ود الحبيب وددناه وزرنا قبا حبا لأحمد إذ مشى عسى قدماً يخطو مقاما تخطاه ليبعث يوم البعث تحت لوائه إذا الله من تلك الأماكن ناداه وزرنا مزارات البقيع فليتنا هناك دفنا والممات رزقناه وحمزة زرناه ومن كان حوله شهيداً وأحداً بالعيون شهدناه ولما بلغنا من زيارة أحمد منانا حمدنا ربنا وشكرناه ومن بعد هذا صاح بالبين صائح وقال ارحلوا يا ليتنا ما أطعناه سمعنا له صوتاً بتشتيت شملنا فيا ما أمر الصوت حين سمعناه وقمنا نؤم المصطفى لوداعه ولا دمع إلا للوداع صببناه ولا صبر كيف الصبر عند فراقه ؟ وهيهات إن الصبر عنه صرفناه أيصبر ذو عقل لفرقة أحمد فلا والذي من قاب قوسين أدناه فواحسرتاه من وداع محمد وأواه من يوم التفرق أواه سأبكي عليه قدر جهدي بناظر من الشوق لا ترقى من الدمع غرباه فيا وقت توديعي له ما أمره ووقت اللقا والله ما كان أحلاه عسى الله يدنيني لأحمد ثانياً فيا حبذا قرب الحبيب ومدناه فيا رب فارزقني لمغناه عودة تضاعف لنا فيها الثواب وترضاه رحلنا وخلفنا لديه قلوبنا فكم جسد من غير قلب قلبناه ولما تركنا ربعه من ورائنا فلا ناظر إلا إليه رددناه لنغنم منه نظرة بعد نظرة فلما أغبناه السرور أغبناه فلا عيش يهنى مع فراق محمد أأفقد محبوبي وعيشي أهناه دعوني أمت شوقاً إليه وحرقة وخطوا على قبري بأني أهو

الحث على الحج بالمال الحلال

فيا صاحبي هذي التي بي قد جرت وهذا الذي في حجنا قد عملناه فإن كنت مشتاقاً فبادر إلى الحمى لتنظر آثار الحبيب وممشاه وتحظى بيت الله من قبل منعه كأنا به عما قليل منعناه أليس ترى الأشراط كيف تتابعت فبادره واغنمه كما قد غنمناه إلى عرفات عاجل العمر واستبق فثم إله الخلق يسبغ نعماه وعيّد مع الحجاج يا صاح في منى فعيد منى أعلاه عيداً وأسناه وضح بها واحلق وسر متوجهاً إلى البيت واصنع مثل ما قد صنعناه وكن صابراً إنا لقينا مشقة فإن تلقها فاصبر كصبر صبرناه لقد بعدت تلك المعالم والربا فكم من رواح مع غدو غدوناه فبادر إليها لا تكن متوانيا لعلك تحظى بالذي قد حظيناه وحج بمال من حلال عرفته وإياك والمال الحرام وإياه فمن كان بالمال المحرم حجه فمن حجه والله ما كان أغناه إذا هو لبى الله كان جوابه من الله لا لبيك حج رددناه كذلك جانا في الحديث مسطرا ففي الحج أجر وافر قد سمعناه

الحث على زيارة المسجد النبوي

ومن بعد حج سر لمسجد أحمد ولا تخطه تندم إذا ما تخطاه فوا أسف الساري إذا ذكر الحمى إذا ربع خير المرسلين تخطاه ووالهف الآتي بحج وعمرة إذا لم يكمل بالزيارة ممشاه يعزى على ما فاته من مزاره فقد فاته أجر كثير بأخراه نظرناه حقاً حين بانت ركابنا على طيبة حقاً وصدقاً نظرناه وزادت بنا الأشواق عند دنونا إليها فما أحلى دنواً دنيناه ولما بدت أعلامها وطلولها تحدرت الركبان عما ركبناه وسرنا مشاة رفعة لمحمد حثنا الخطا حتى المصلى دخلناه لنغنم تضعيف الثواب بمسجد صلاة الفتى فيه بألف يوفاه كذلك فاغنم في زيارة طيبة كما قد فعلنا واغتنم ما غنمناه فإذ ما رأيت القبر قبر محمد فلا تدن منه ذاك أولى لعلياه وقف بوقار عنده وسكينة ومثِّل رسول الله حيا بمثواه وسلم عليه والوزيرين عند وزره كم زرنا لنحصد عقباه وبلغه عنا لا عُدمت سلامنا فأنت رسول للرسول بعثناه ومن كان منا مبلغا لسلامنا فإنا بإدلاء السلام سبقناه فيا نعمة لله لسنا بشكرها نقوم ولو ماء البحور مددناه فنحمد رب العرش إذا كان حجنا بزورة من كان الختام ختمناه عليك سلام الله ما دامت السما سلام كما يبغى الإله ويرضاه

ففي ربعهم لله بيت مبارك إليه قلوب الخلق تهوي وتهواه يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ويسقط عنه جرمه وخطاياه فكم لذة كم فرحة لطوافه فلله ما أحلى الطواف وأهناه نطوف كأنا في الجنان نطوفها ولا هم لا غم فذاك نفيناه فياشوقنا نحو الطواف وطيبه فذلك شوق لا يحاط بمعناه فمن لم يذقه لم يذق قط لذة فذقه تذق يا صاح ما قد أذقناه فوالله ما ننسى الحمى فقلوبنا هناك تركناها فيا كيف ننساه ترى رجعة هل عودة لطوافنا وذاك الحمى قبل المنية نغشاه ووالله ما ننسى زمان مسيرنا إليه وكل الركب قد لذ مسراه وقد نسيت أولادنا ونساؤنا وأموالنا فالقلب عنهم شغلناه تراءت لنا أعلام وصل على اللوى فمن أجلها فالقلب عنهم لويناه جعلنا إله العرش نصب عيوننا ومَنْ دونه خلف الظهور نبذناه وسرنا نشق البيد للبلد الذي بجهد وشق للنفوس بلغناه رجالاً وركبانا على كل ضامر ومن كل ذي فج عميق أتيناه نخوض إليه البر والبحر والدجى ولا قاطع إلا وعنه قطعناه ونطوي الفلا من شدة الشوق للقا فتمسي الفلا تحكي سجلاً قطعناه ولا صدنا عن قصدنا بعد أهلنا ولا هجر جار أو حبيب ألفناه وأموالنا مبذولة ونفوسنا ولم نبق شيئاً منهما ما بذلناه عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله فهان علينا كل شيء بذلناه فمن عرف المطلوب هانت شدائد عليه ويهوى كل ما فيه يلقاه فيا لو ترانا كنت تنظر عصبة حيارى سكارى نحو مكة وُلاه فلله كم ليل قطعناه بالسرى وبر بسير اليعملات بريناه وكم من طريق مفزع في مسيرنا سلكنا وواد بالمخوفات جزناه ولو قيل إن النار دون مزاركم دفعنا إليها والعذول دفعناه فمولى الموالي للزيارة قد دعا أنقعد عنها والمزور هو الله ترادفت الأشواق واضطرم الحشا فمن ذا له صبر وفي النار أحشاه وأسرى بنا الحادي فأمعن في السرى وولى الكرى نوم الجفون نفينا

ولما بدا ميقات إحرام حجنا نزلنا به والعيس فيه أنخناه ليغتسل الحجاج فيه ويحرموا فمنه نلبي ربنا لا حرمناه ونادى مناد للحجيج ليحرموا فلم يبق إلا من أجاب ولباه وجردت القمصان والكل أحرموا ولا لبس لا طيب جميعاً هجرناه ولا لهو لا صيد ولا نقرب النسا ولا رفث لا فسق كُلاً رفضناه وصرنا كأموات لففنا جسومنا بأكفاننا كل ذليل لمولاه لعل يرى ذل العباد وكسرهم فيرحمهم رب يرجّون رحماه ينادونه: لبيك لبيك ذا العلا وسعديك كل الشرك عنك نفيناه فلو كنت يا هذا تشاهد حالهم لأبكاك ذاك الحال في حال مرآه وجوههم غبر وشعث رءوسهم فلا رأس إلا للإله كشفناه لبسنا دروعاً من خضوع لربنا وما كان من درع المعاصي خلعناه وذاك قليل في كثير ذنوبنا فيا طالما رب العباد عصيناه إلى زمزم زُمَّت ركاب مطينا ونحو الصفا عيس الوفود صففناه نؤم مقاماً للخليل معظماً إليه استبقنا والركاب حثثناه ونحن نلبي في صعود ومهبط كذا حالنا في كل مرقى رقيناه وكم نشزٍ عالٍ علته وفودنا وتعلو به الأصوات حين علوناه نحج لبيت حجه الرسل قبلنا لنشهد نفعاً في الكتاب وعدناه دعانا إليه الله قبل بنائه فقلنا له لبيك داع أجبناه أتيناك لبيناك جئناك ربنا إليك هربنا والأنام تركناه ووجهك نبغي أنت للقلب قبلة إذا ما حججنا أنت للحج رمناه فما البيت ما الأركان ما الحجر ما الصفا وما زمزم أنت الذي قد قصدناه وأنت منانا أنت غاية سؤلنا وأنت الذي دنيا وأخرى أردناه إليك شددنا الرحل نخترق الفلا فكم سدَّ سَدٌّ في سواد خرقناه كذلك ما زلنا نحاول سيرنا نهارا وليلاً عيسنا ما أرحناه إلى أن بدت إحدى المعالم من منى وهبّ نسيم بالوصول نشقناه ونادى بنا حادي البشارة والهنا فهذا الحمى هذا ثراه غشيناه

وما زال وفد الله يقصد مكة إلى أن بدا البيت العتيق وركناه فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا وكبرت الحجاج حين رأيناه وقد كادت الأرواح تزهق فرحة لما نحن من عظم السرور وجدناه تصافحنا الأملاك من كان راكبا وتعتنق الماشي إذا ثم تلقاه