شرح الأربعين النووية [15]


الحلقة مفرغة

الحديث الثامن من الأربعين النووية: عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)، رواه البخاري و مسلم.

الشهادتان ومكانتهما من الإسلام

هذا حديث عظيم من أحاديث النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت)، هذه الصيغة من النبي عليه الصلاة والسلام، يكون الآمر له فيها هو الله عز وجل، لأنه لا آمر للرسول صلى الله عليه وسلم إلا الله، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت بكذا.. أو نهيت عن كذا.. فالذي أمره ونهاه هو الله عز وجل، أما إذا قال أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم: أمرنا بكذا.. أو نهينا عن كذا.. فالآمر والناهي لهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونهيه هو من عند الله، لأن السنة هي من عند الله كما أن القرآن من عند الله؛ لكن الذي يخاطبهم بذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وهذا يدل على أنهم يدعون إلى الإسلام، وإذا لم تحصل الاستجابة بالدعوة وبالكلام فإنه ينتقل إلى القتال، ولفظة (حتى) للغاية، فالقتال ينتهي بهذه الغاية، وهي كونهم يأتون بالشهادتين، ويأتون بالصلاة والزكاة.

ثم الحديث بدأ فيه بالشهادتين، وذلك أن الشهادتين هما الأساس وهما المدخل والمفتاح، وقد جاء عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أنه كان أول ما بعثه الله عز وجل يأتي إلى العرب في أماكن اجتماعهم، ويقول لهم: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) فالدعوة أول ما تكون إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل، ولهذا بدأ بالشهادتين قبل ذكر غيرهما، وذلك أنهما هما الأساس الذي يبنى عليهما غيرهما، وأي عمل لا يكون نافعاً ولا يكون مقبولاً إلا إذا كان مبنياً عليهما.

وفيه أيضاً التلازم بين الشهادتين وأنه لا بد من كليهما، فيجب على كل إنسي وجني من حين بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة الإتيان بهما، لا ينفعه دين ولا يستقيم له أمر إلا إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل الكتاب لا ينفعهم إيمانهم بنبيهم الذي ينتسبون إليه ما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فاليهود المنتسبون إلى موسى والنصارى المنتسبون إلى عيسى لا ينفعهم إيمانهم بموسى ولا إيمانهم بعيسى بعد بعثته صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنوا بمحمد ويتبعوه، ولا يتابعوا أحداً ممن كانوا قبله بعد بعثته؛ لأن شريعته نسخت كل الشرائع، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار).

وذلك أن اليهود والنصارى من أمة الدعوة، أي الذين توجه إليهم الدعوة ويطلب منهم الدخول في الإسلام، ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة الناس جميعاً، بل هي إلى الثقلين الإنس والجن، لا يسع أحداً الخروج عن هذه الشريعة وعدم الدخول فيها، ولا ينفع أحداً أن يكون تابعاً لنبي من الأنبياء بعد بعثته عليه الصلاة والسلام، ولهذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في موسى الذي يزعم اليهود أنهم أتباعه: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) وأخبر عليه الصلاة والسلام أن عيسى الذي يزعم النصارى أنهم أتباعه، سينزل في آخر الزمان، ويحكم بهذه الشريعة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، ولا يحكم بالإنجيل الذي أنزله الله إليه لأنه قد أمر بهذه الشريعة وهي شريعة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فإذاً: لا بد من الشهادتين، الشهادة لله بالوحدانية، ولنبيه محمد عليه الصلاة والسلام بالرسالة، وهما شهادتان متلازمتان لا بد منهما جميعاً، ولا بد مع شهادة أن لا إله الله من شهادة أن محمداً رسول الله، ولا يكتفى بواحدة عن الأخرى، بل يتعين الإتيان بهما جميعاً، وذلك أن الرسالة عامة لكل أحد من حين بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة.

الصلاة والزكاة ومنزلتهما من الإسلام

ثم إنه ذكر الصلاة والزكاة فقال: (حتى يشهدوا أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) وهذا يدلنا على أهمية هاتين العبادتين.

ذكر الصلاة لأنها رأس العبادات البدنية، ثم الزكاة لأنها رأس العبادات المالية، ولا يعني ذلك أنه لا يطالب بغيرها، بل هو مطالب به، وإنما اقتصر عليها لأن من أتى بها يسهل عليه أن يأتي بغيرها، فإذا سهل عليه أداء الصلاة، والزكاة، سهل عليه أن يصوم ويحج ويأتي بالأفعال الأخرى من باب أولى، فإنه ذكر ما هو أهم وما هو أولى من غيره، وأن من أتى به فإنه يأتي بغيره، ولا يعني ذلك أن ما لم يذكر في الحديث ليس كذلك، بل كله مهم، وكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي مطلوب ومتعين، ولا بد منه، ولا يقال: إنه يكتفى بهذه عن غيرها.

ثم إن الحديث جاء في المقاتلة وهي غير القتل، فإذاً: فالكفار يجاهدون في سبيل الله ويقاتلون على الكفر، ولكنهم يدعون إلى الإسلام أولاً، وإذا لم ينفع الكلام انتقلنا إلى السنان، كما قال الله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25].

فإن هناك كتاباً وجهاداً وقتالاً، فإذا نفع الكتاب ونفعت الدعوة استغني عن القتال ولم يكن هناك حاجة إليه، وإن حصل الامتناع فإنه ينتقل من الدعوة والكلام إلى القتال.

ولهذا يقول شيخنا الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله حول معنى هذه الآية من سورة الحديد: من لم تقومه الكتب قومته الكتائب، أي: من لم يقومه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى الله عز وجل بالكلام، فإنه ينتقل بعد ذلك إلى السنان، وقد جمع الله تعالى بين القوة المعنوية والقوة الحسية في هذه الآية، فقال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ [الحديد:25].

فالبينات هي الحجة وهذا هو البيان المعنوي، ثم الحسي في قول الله عز وجل: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25]، فهناك قتال على الإسلام.

وإذا وجد الإسلام ولكن حصل امتناع عن أداء الفرائض والواجبات فإنهم أيضاً يقاتلون على ذلك، كما حصل من قتال أبي بكر رضي الله عنه لمانعي الزكاة مع كونهم يصلون، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكنهم امتنعوا عن الزكاة وتأولوا، وقالوا: إن الله عز وجل يقول: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيهِم [التوبة:103]، قالوا: فغيره صلى الله عليه وسلم لا يقوم مقامه.

فـأبو بكر رضي الله عنه عزم على قتالهم، وكان رضي الله عنه معروفاً باللين والرأفة والرحمة، وعمر رضي الله عنه معروف بالشدة والقوة، ولكن أبا بكر رضي الله عنه في هذا المقام صار أقوى منه، ولما ناظره عمر وراجعه وقال: (كيف تقاتل الناس وهم يقولون لا إله إلا الله؟ قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)، أنهم يصلون ولكنهم امتنعوا من أداء الزكاة، فمن صلى فعليه أن يزكي، وإذا امتنع من الزكاة، فإن كان هذا الامتناع من قوم لهم منعة وشوكة فإنهم يقاتلون، وأما إذا كان الامتناع من شخص أو أشخاص يمكن أخذ الزكاة منهم من غير قتال، فإنها تؤخذ الزكاة منهم.

أي أن الشخص إذا امتنع من الزكاة لا يقتل، وإنما تؤخذ منه قهراً، وإذا امتنع قوتل مثلما حصل لمانعي الزكاة في عهد أبي بكر رضي الله عنه فإنه قاتلهم وقال: (لو منعوني عقالاً كان يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه).

يعني: أن الشيء الذي كان موجوداً في زمنه صلى الله عليه وسلم لابد أن يستمر بعده، ولابد وأن يوجد بعده، ولا ينتهي الأمر عند زمنه صلى الله عليه وسلم، بل شريعته باقية ومستمرة، والزكاة فرض كما أن الصلاة فرض، فالصلاة أهم العبادات البدنية، والزكاة أهم العبادات المالية، فإذا امتنعوا عن أدائها فإنهم يقاتلون حتى يؤدونها، وإذا كان الامتناع من أشخاص مقدوراً عليهم لم يقاتلوا عليها وتؤخذ منهم قهراً، ويكون بذلك قد حصل المطلوب.

فـأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وقف هذه الوقفة العظيمة، ولما راجعه عمر ولم يكن هناك نص يتعلق بخصوص القتال على منع الزكاة؛ لأنه لو كان عندهم شيء ما احتاج أبو بكر إلى أن يقيس الزكاة التي امتنعوا منها على الصلاة التي يؤدونها، ولم يحتج إلى أن يستدل بالعموم في قوله: (إلا بحقها، قال: والزكاة من حقها).

ولهذا يقول الحافظ ابن حجر : هذا فيه دليل على أن السنة قد تخفى على أكابر الصحابة ويعلم بها من دونهم، ولا يعد ذلك نقصاً أو قدحاً؛ لأنه معلوم أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تؤخذ عنه في مجالسه، ويحضر هذا المجلس من يحضر ويغيب عنه من يغيب، فتأتي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، ويكون بعض الصحابة الكبار قد غابوا عن ذلك المجلس، ثم يكون قد حضر من هو دونهم.

فـأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يبلغهم الحديث في ذلك، وقد بلغ ابن عمر ، وكذلك أبو هريرة، فإنه ذكر الصلاة والزكاة مع الشهادتين؛ ولهذا حصل ما حصل من المناظرة بين عمر وأبي بكر رضي الله عنه، فاعتمد أبو بكر على القياس، وعلى الأخذ من العموم في قوله: (إلا بحقها) .

وبذلك أقدم أبو بكر على ما أقدم عليه، ثم تبين أن الحديث مطابق لهذا الشيء الذي عزم عليه أبو بكر ، وأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بالقتال إلى حصول الشهادتين مع الصلاة والزكاة.

ثم إن الحديث يدل على البدء بالأهم فالأهم، فقد بدأ بالشهادتين، ثم ثني بعدهما بالصلاة، ثم ذكر الزكاة، وهذا الترتيب قد جاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه لما بعثه إلى اليمن، قال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم).

وهذه الأركان الثلاثة هي التي جاءت في حديث ابن عمر هذا وحديث أبي هريرة في بعض طرقه الذي جاء فيها ذكر الصلاة والزكاة مع الشهادتين.

وهذا العموم في المقاتلة مستثنى منه أهل الكتاب إذا أدوا الجزية، فإنهم إذا أدوا الجزية قبلت منهم، ولم يقاتلوا، وذلك أنهم إذا دخلوا تحت حكم الإسلام كان ذلك من أسباب دخولهم في الإسلام، لأنهم يشاهدون عدل الإسلام، ويشاهدون ما اشتمل عليه الإسلام من الخير، وما فيه من المحاسن؛ فيكون ذلك من أسباب دخولهم بدون أن يقاتلوا؛ لأن المقصود هو الهداية، والدخول في الإسلام.

ولهذا جاز للمسلمين أن ينكحوا الكتابيات، ولم يجز للكتابيين أن يتزوجوا المسلمات، وذلك أن الكتابية إذا كانت تحت المسلم كان قواماً عليها، وهي تحت إمرته وولايته، فيكون ذلك سبباً في دخولها في الإسلام، بخلاف العكس.

وكذلك جاءت السنة في أهل الكتاب أنها تؤخذ منهم الجزية، وجاءت السنة أيضاً بأخذ الجزية من غيرهم، كما جاء في حديث بريدة بن الحصيب الطويل في صحيح مسلم ، الذي يقول فيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً) ، ثم ذكر في آخره: (الدعوة إلى الإسلام أو إلى الجزية وإلا المقاتلة).

فإذن يستثنى من هذا العموم في هذا الحديث أخذ الجزية، فإن من حصل منه ذلك ودخل تحت ولاية المسلمين وحكمهم، فإنه تؤخذ منه الجزية ويمتنع من قتله وقتاله، حتى يكون دخوله تحت ولاية المسلمين وحكمهم، ويرضخ لما هم عليه؛ فيكون ذلك سبباً في دخوله الإسلام وخروجه من الكفر الذي هو عليه إلى دين الله عز وجل.

وكما قلت: إن هذه الصلاة والزكاة، وكذلك الصيام والحج وكل أمر معلوم من الإسلام بالضرورة، من جحده يكون كافراً بإجماع المسلمين، ولكن من امتنع منه ولم يكن جاحداً له، مثل أولئك الذين كانوا يصلون ولكنهم لا يدفعون الزكاة لظنهم أن الحكم يختص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يدفعون الزكاة لـأبي بكر رضي الله عنه لفهمهم الخاطئ، بأن ذلك إنما هو من خصائص الكريم صلى الله عليه وسلم، فامتنعوا وقوتلوا على ذلك، فكذلك أيضاً غيرها من شعائر الدين، إذا امتنع الناس منها وقاتلوا على امتناعهم فإنهم يقاتلون.

ولكن من كان غير جاحد للصيام وغير جاحد للحج وقدر عليه فإنه يعاقب بالحبس وبالعقوبة التي تجعله يقدم على الشيء الذي امتنع منه، إلا أن فرض الحج قد قال بعض العلماء إنه على التراخي، وإن الإنسان يمكن أن يؤخر الحج ثم يحج فيما بعد.

والحاصل أن من جحد أمراً معلوماً من الإسلام بالضرورة فهو كافر مرتد عن الإسلام، ومن لم يجحده فإن كان قاتل دونه وحصلت لهم منعة قوتل، وإن لم تكن منعة وأمكن الإلزام بالشيء المطلوب ألزم به من دون قتال.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا بحق الإسلام)

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إلا بحق الإسلام) يدل على أن ما سوى الصلاة والزكاة مما هو حق الإسلام حكمه حكم الصلاة والزكاة، فإن من امتنع من الأمور الواجبة المتعينة ومن شعائر الدين الظاهرة يقاتل؛ لأن ذلك داخل في حقها.

ولهذا رضي الله عنه لما لم يكن عند أبي بكر ذكر الصلاة والزكاة، وكان عنده ذكر الشهادتين وذكر: (إلا بحقها)، قال: إن هذا من حق الإسلام؛ وكان الذين أراد أن يقاتلهم ونوظر من أجلهم كانوا يصلون ولكنهم امتنعوا عن الزكاة لشبهة ولتأويل عرض لهم، فقال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، وقال: إنه قال: (إلا بحقها) ، والزكاة حق المال.

وقوله: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقوموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك) يعني: ما تقدم، والذي تقدم هو أقوال وأفعال؛ لأن الأقوال هي الشهادتان، والأفعال هي الصلاة والزكاة.

ففي هذا إطلاق الفعل على القول؛ لأن قوله: (فعلوا ذلك) يرجع إلى القول والفعل، وحركة اللسان فعل.

معنى قوله: (وحسابهم على الله)

قوله: (عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)، يعني: أن الإنسان يدخل في الإسلام بالشهادتين، وهؤلاء الذين يشهدون منهم من تكون شهادته في الظاهر والباطن على حد سواء، فيكون صادقاً في إيمانه وإسلامه، ومنهم من ليس كذلك، لكن يقبل منه الظاهر، والسرائر لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فمن شهد أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله كففنا عن قتاله، مع أنه قد يكون هذا القول صادقاً وقد تواطأ لسانه مع قلبه على ذلك، وقد يكون قال ذلك خوفاً من السيف، فأظهر الإسلام وهو مبطن للكفر كما هو شأن المنافقين، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله) ، يعني: أن من أتى بهذه الأمور في الظاهر فإنه يكتفى منه بهذا، وأما فيما بينه وبين الله فإن كان صادقاً وكان ظاهره متفقاً مع باطنه فذلك ينفعه عند الله عز وجل؛ لأن الله سيحاسبه وسيحصل له الخير، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7].

وإذا كان ظاهره يخالف باطنه، بمعنى أنه أظهر الإيمان وأبطن الكفر، وقال ذلك نفاقاً وخوفاً من السيف، فإن هذا كذلك يكف عنه ويعصم دمه وماله بذلك، ولكنه من أهل الدرك الأسفل من النار.

ثم إن في قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يشهدوا أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله) دليلاً على أن أول واجب على المكلف هو الشهادتان، ولا يطلب منه أمور أخرى قبلها، خلافاً لبعض المتكلمين القائلين إن أول واجب على المكلف النظر، أي أن ينظر في الأدلة وينظر في الكون، ثم بعد ذلك يشهد أن لا إله إلا الله.

فنحن نقول: ما دام أنه يعرف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنه عليه أن يأتي بها ابتداء، ولا يحتاج الأمر إلى أمور تفعل قبل الشهادتين، وقد يؤخر الشهادتين ثم يموت قبل أن يشهد في المدة التي كان مطلوب منه أن ينظر، مثل ما حصل أن النبي صلى الله عليه وسلم زار غلاماً من اليهود في مرض موته وعرض عليه الإسلام وكان أبوه جالساً عنده، فنظر إلى أبيه فقال له: أطع أبا القاسم، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم مات، وقال عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).

فإذاً أول واجب على المكلف الشهادتان، وليس أول واجب أن ينظر ويفكر ويتأمل، فإذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، خرج من الكفر ودخل في الإسلام، وبذلك يخرج من الظلمات إلى النور، ولا يجعل بينه وبين الخروج من الظلمات إلى النور مسافة.

هذا حديث عظيم من أحاديث النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت)، هذه الصيغة من النبي عليه الصلاة والسلام، يكون الآمر له فيها هو الله عز وجل، لأنه لا آمر للرسول صلى الله عليه وسلم إلا الله، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت بكذا.. أو نهيت عن كذا.. فالذي أمره ونهاه هو الله عز وجل، أما إذا قال أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم: أمرنا بكذا.. أو نهينا عن كذا.. فالآمر والناهي لهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونهيه هو من عند الله، لأن السنة هي من عند الله كما أن القرآن من عند الله؛ لكن الذي يخاطبهم بذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وهذا يدل على أنهم يدعون إلى الإسلام، وإذا لم تحصل الاستجابة بالدعوة وبالكلام فإنه ينتقل إلى القتال، ولفظة (حتى) للغاية، فالقتال ينتهي بهذه الغاية، وهي كونهم يأتون بالشهادتين، ويأتون بالصلاة والزكاة.

ثم الحديث بدأ فيه بالشهادتين، وذلك أن الشهادتين هما الأساس وهما المدخل والمفتاح، وقد جاء عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أنه كان أول ما بعثه الله عز وجل يأتي إلى العرب في أماكن اجتماعهم، ويقول لهم: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) فالدعوة أول ما تكون إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل، ولهذا بدأ بالشهادتين قبل ذكر غيرهما، وذلك أنهما هما الأساس الذي يبنى عليهما غيرهما، وأي عمل لا يكون نافعاً ولا يكون مقبولاً إلا إذا كان مبنياً عليهما.

وفيه أيضاً التلازم بين الشهادتين وأنه لا بد من كليهما، فيجب على كل إنسي وجني من حين بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة الإتيان بهما، لا ينفعه دين ولا يستقيم له أمر إلا إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل الكتاب لا ينفعهم إيمانهم بنبيهم الذي ينتسبون إليه ما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فاليهود المنتسبون إلى موسى والنصارى المنتسبون إلى عيسى لا ينفعهم إيمانهم بموسى ولا إيمانهم بعيسى بعد بعثته صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنوا بمحمد ويتبعوه، ولا يتابعوا أحداً ممن كانوا قبله بعد بعثته؛ لأن شريعته نسخت كل الشرائع، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار).

وذلك أن اليهود والنصارى من أمة الدعوة، أي الذين توجه إليهم الدعوة ويطلب منهم الدخول في الإسلام، ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة الناس جميعاً، بل هي إلى الثقلين الإنس والجن، لا يسع أحداً الخروج عن هذه الشريعة وعدم الدخول فيها، ولا ينفع أحداً أن يكون تابعاً لنبي من الأنبياء بعد بعثته عليه الصلاة والسلام، ولهذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في موسى الذي يزعم اليهود أنهم أتباعه: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) وأخبر عليه الصلاة والسلام أن عيسى الذي يزعم النصارى أنهم أتباعه، سينزل في آخر الزمان، ويحكم بهذه الشريعة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، ولا يحكم بالإنجيل الذي أنزله الله إليه لأنه قد أمر بهذه الشريعة وهي شريعة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فإذاً: لا بد من الشهادتين، الشهادة لله بالوحدانية، ولنبيه محمد عليه الصلاة والسلام بالرسالة، وهما شهادتان متلازمتان لا بد منهما جميعاً، ولا بد مع شهادة أن لا إله الله من شهادة أن محمداً رسول الله، ولا يكتفى بواحدة عن الأخرى، بل يتعين الإتيان بهما جميعاً، وذلك أن الرسالة عامة لكل أحد من حين بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة.

ثم إنه ذكر الصلاة والزكاة فقال: (حتى يشهدوا أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) وهذا يدلنا على أهمية هاتين العبادتين.

ذكر الصلاة لأنها رأس العبادات البدنية، ثم الزكاة لأنها رأس العبادات المالية، ولا يعني ذلك أنه لا يطالب بغيرها، بل هو مطالب به، وإنما اقتصر عليها لأن من أتى بها يسهل عليه أن يأتي بغيرها، فإذا سهل عليه أداء الصلاة، والزكاة، سهل عليه أن يصوم ويحج ويأتي بالأفعال الأخرى من باب أولى، فإنه ذكر ما هو أهم وما هو أولى من غيره، وأن من أتى به فإنه يأتي بغيره، ولا يعني ذلك أن ما لم يذكر في الحديث ليس كذلك، بل كله مهم، وكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي مطلوب ومتعين، ولا بد منه، ولا يقال: إنه يكتفى بهذه عن غيرها.

ثم إن الحديث جاء في المقاتلة وهي غير القتل، فإذاً: فالكفار يجاهدون في سبيل الله ويقاتلون على الكفر، ولكنهم يدعون إلى الإسلام أولاً، وإذا لم ينفع الكلام انتقلنا إلى السنان، كما قال الله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25].

فإن هناك كتاباً وجهاداً وقتالاً، فإذا نفع الكتاب ونفعت الدعوة استغني عن القتال ولم يكن هناك حاجة إليه، وإن حصل الامتناع فإنه ينتقل من الدعوة والكلام إلى القتال.

ولهذا يقول شيخنا الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله حول معنى هذه الآية من سورة الحديد: من لم تقومه الكتب قومته الكتائب، أي: من لم يقومه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى الله عز وجل بالكلام، فإنه ينتقل بعد ذلك إلى السنان، وقد جمع الله تعالى بين القوة المعنوية والقوة الحسية في هذه الآية، فقال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ [الحديد:25].

فالبينات هي الحجة وهذا هو البيان المعنوي، ثم الحسي في قول الله عز وجل: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25]، فهناك قتال على الإسلام.

وإذا وجد الإسلام ولكن حصل امتناع عن أداء الفرائض والواجبات فإنهم أيضاً يقاتلون على ذلك، كما حصل من قتال أبي بكر رضي الله عنه لمانعي الزكاة مع كونهم يصلون، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكنهم امتنعوا عن الزكاة وتأولوا، وقالوا: إن الله عز وجل يقول: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيهِم [التوبة:103]، قالوا: فغيره صلى الله عليه وسلم لا يقوم مقامه.

فـأبو بكر رضي الله عنه عزم على قتالهم، وكان رضي الله عنه معروفاً باللين والرأفة والرحمة، وعمر رضي الله عنه معروف بالشدة والقوة، ولكن أبا بكر رضي الله عنه في هذا المقام صار أقوى منه، ولما ناظره عمر وراجعه وقال: (كيف تقاتل الناس وهم يقولون لا إله إلا الله؟ قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)، أنهم يصلون ولكنهم امتنعوا من أداء الزكاة، فمن صلى فعليه أن يزكي، وإذا امتنع من الزكاة، فإن كان هذا الامتناع من قوم لهم منعة وشوكة فإنهم يقاتلون، وأما إذا كان الامتناع من شخص أو أشخاص يمكن أخذ الزكاة منهم من غير قتال، فإنها تؤخذ الزكاة منهم.

أي أن الشخص إذا امتنع من الزكاة لا يقتل، وإنما تؤخذ منه قهراً، وإذا امتنع قوتل مثلما حصل لمانعي الزكاة في عهد أبي بكر رضي الله عنه فإنه قاتلهم وقال: (لو منعوني عقالاً كان يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه).

يعني: أن الشيء الذي كان موجوداً في زمنه صلى الله عليه وسلم لابد أن يستمر بعده، ولابد وأن يوجد بعده، ولا ينتهي الأمر عند زمنه صلى الله عليه وسلم، بل شريعته باقية ومستمرة، والزكاة فرض كما أن الصلاة فرض، فالصلاة أهم العبادات البدنية، والزكاة أهم العبادات المالية، فإذا امتنعوا عن أدائها فإنهم يقاتلون حتى يؤدونها، وإذا كان الامتناع من أشخاص مقدوراً عليهم لم يقاتلوا عليها وتؤخذ منهم قهراً، ويكون بذلك قد حصل المطلوب.

فـأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وقف هذه الوقفة العظيمة، ولما راجعه عمر ولم يكن هناك نص يتعلق بخصوص القتال على منع الزكاة؛ لأنه لو كان عندهم شيء ما احتاج أبو بكر إلى أن يقيس الزكاة التي امتنعوا منها على الصلاة التي يؤدونها، ولم يحتج إلى أن يستدل بالعموم في قوله: (إلا بحقها، قال: والزكاة من حقها).

ولهذا يقول الحافظ ابن حجر : هذا فيه دليل على أن السنة قد تخفى على أكابر الصحابة ويعلم بها من دونهم، ولا يعد ذلك نقصاً أو قدحاً؛ لأنه معلوم أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تؤخذ عنه في مجالسه، ويحضر هذا المجلس من يحضر ويغيب عنه من يغيب، فتأتي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، ويكون بعض الصحابة الكبار قد غابوا عن ذلك المجلس، ثم يكون قد حضر من هو دونهم.

فـأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يبلغهم الحديث في ذلك، وقد بلغ ابن عمر ، وكذلك أبو هريرة، فإنه ذكر الصلاة والزكاة مع الشهادتين؛ ولهذا حصل ما حصل من المناظرة بين عمر وأبي بكر رضي الله عنه، فاعتمد أبو بكر على القياس، وعلى الأخذ من العموم في قوله: (إلا بحقها) .

وبذلك أقدم أبو بكر على ما أقدم عليه، ثم تبين أن الحديث مطابق لهذا الشيء الذي عزم عليه أبو بكر ، وأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بالقتال إلى حصول الشهادتين مع الصلاة والزكاة.

ثم إن الحديث يدل على البدء بالأهم فالأهم، فقد بدأ بالشهادتين، ثم ثني بعدهما بالصلاة، ثم ذكر الزكاة، وهذا الترتيب قد جاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه لما بعثه إلى اليمن، قال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم).

وهذه الأركان الثلاثة هي التي جاءت في حديث ابن عمر هذا وحديث أبي هريرة في بعض طرقه الذي جاء فيها ذكر الصلاة والزكاة مع الشهادتين.

وهذا العموم في المقاتلة مستثنى منه أهل الكتاب إذا أدوا الجزية، فإنهم إذا أدوا الجزية قبلت منهم، ولم يقاتلوا، وذلك أنهم إذا دخلوا تحت حكم الإسلام كان ذلك من أسباب دخولهم في الإسلام، لأنهم يشاهدون عدل الإسلام، ويشاهدون ما اشتمل عليه الإسلام من الخير، وما فيه من المحاسن؛ فيكون ذلك من أسباب دخولهم بدون أن يقاتلوا؛ لأن المقصود هو الهداية، والدخول في الإسلام.

ولهذا جاز للمسلمين أن ينكحوا الكتابيات، ولم يجز للكتابيين أن يتزوجوا المسلمات، وذلك أن الكتابية إذا كانت تحت المسلم كان قواماً عليها، وهي تحت إمرته وولايته، فيكون ذلك سبباً في دخولها في الإسلام، بخلاف العكس.

وكذلك جاءت السنة في أهل الكتاب أنها تؤخذ منهم الجزية، وجاءت السنة أيضاً بأخذ الجزية من غيرهم، كما جاء في حديث بريدة بن الحصيب الطويل في صحيح مسلم ، الذي يقول فيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً) ، ثم ذكر في آخره: (الدعوة إلى الإسلام أو إلى الجزية وإلا المقاتلة).

فإذن يستثنى من هذا العموم في هذا الحديث أخذ الجزية، فإن من حصل منه ذلك ودخل تحت ولاية المسلمين وحكمهم، فإنه تؤخذ منه الجزية ويمتنع من قتله وقتاله، حتى يكون دخوله تحت ولاية المسلمين وحكمهم، ويرضخ لما هم عليه؛ فيكون ذلك سبباً في دخوله الإسلام وخروجه من الكفر الذي هو عليه إلى دين الله عز وجل.

وكما قلت: إن هذه الصلاة والزكاة، وكذلك الصيام والحج وكل أمر معلوم من الإسلام بالضرورة، من جحده يكون كافراً بإجماع المسلمين، ولكن من امتنع منه ولم يكن جاحداً له، مثل أولئك الذين كانوا يصلون ولكنهم لا يدفعون الزكاة لظنهم أن الحكم يختص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يدفعون الزكاة لـأبي بكر رضي الله عنه لفهمهم الخاطئ، بأن ذلك إنما هو من خصائص الكريم صلى الله عليه وسلم، فامتنعوا وقوتلوا على ذلك، فكذلك أيضاً غيرها من شعائر الدين، إذا امتنع الناس منها وقاتلوا على امتناعهم فإنهم يقاتلون.

ولكن من كان غير جاحد للصيام وغير جاحد للحج وقدر عليه فإنه يعاقب بالحبس وبالعقوبة التي تجعله يقدم على الشيء الذي امتنع منه، إلا أن فرض الحج قد قال بعض العلماء إنه على التراخي، وإن الإنسان يمكن أن يؤخر الحج ثم يحج فيما بعد.

والحاصل أن من جحد أمراً معلوماً من الإسلام بالضرورة فهو كافر مرتد عن الإسلام، ومن لم يجحده فإن كان قاتل دونه وحصلت لهم منعة قوتل، وإن لم تكن منعة وأمكن الإلزام بالشيء المطلوب ألزم به من دون قتال.