خطب ومحاضرات
شرح الأربعين النووية [32]
الحلقة مفرغة
الجزاء من جنس العمل
قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم].
هذا الحديث عظيم مشتمل على جمل في كثير منها الجزاء من جنس العمل، فأوله قوله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة).
الكربة: هي الشدة والضيق، وهو الكرب العظيم الشديد، فمن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا فالله تعالى يجازيه بأن ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومعلوم أنه لا نسبة بين كرب الدنيا وكرب الآخرة، فكرب الدنيا سهلة يسيرة، وليست شيئاً بجانب شدة كرب الآخرة، فمن نفس عن مسلم -بمعنى أنه خفف عنه مصيبته وكربه أو أزاله عنه- فإن الله تعالى يجازيه بأن ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة، وهذا فيه الجزاء من جنس العمل؛ لأن العمل تنفيس كربة في الدنيا، والجزاء تنفيس كربة يوم القيامة.
قوله: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة), المعسر: هو الذي حصل له الإعسار، وهو الضيق في المال؛ وذلك بأن يكون مثلاً عليه دين، فإن كان الدين لغيره فإنه يساعده بإعطائه ما يقضي به دينه، وإن كان الدين له فإنه يبرئه أو ينظره، كما قال الله عز وجل: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280] فبين أن أمام الإنسان طريقين:
أحدهما الإبراء، والثاني الإنظار، والإبراء أفضل من الإنظار.
والإبراء إسقاط الدين عنه, وأما الإنظار فهو إمهاله إلى أن يوسر، وإلى أن يكون عنده القدرة على التسديد, والجزاء من جنس العمل، وهو أن ييسر الله له في الدنيا والآخرة, جزاء على تيسيره على ذلك المعسر, فالجزاء يحصل في الدنيا؛ وذلك بأن تيسر له أموره ويوسع له في الرزق، وفي الآخرة يحصل له التيسير من الله عز وجل.
ثم بعد ذلك قال: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة).
يعني: ستر عيبه الذي علمه عنه، فإن الله تعالى يجازيه بالستر ستراً، فيستره في الدنيا والآخرة؛ وذلك أنه إذا حصل من إنسان خلل أو عيب أو حصل منه معصية فينظر: فإن كان هذا الذي حصل منه ليس معروفاً بالسوء، وإنما هي زلة وسقطة, فإنه في هذه الحالة يستر عليه, وإن كان معروفاً بالفسق والفجور وهو مستمر على ذلك أو مجاهر فالمصلحة في تأديبه وفي إيقاع العقوبة عليه التي يستحقها حتى يسلم الناس من شره.
وعلى هذا فالناس ينقسمون إلى قسمين:
قسم ليس معروفاً بالفسوق، وليس معروفاً بالمعصية العظيمة.
وقسم معروف بها، وقد يكون مجاهراً، وقد يكون مستهتراً، وقد يكون عنده لا مبالاة بالوقوع في المعاصي.
فالأول يستر عليه، وقد يكون ذلك تأديباً له بحيث لا يعود، حيث يشكر الله تعالى حين سلمه من أن يفتضح, أما الثاني الذي هو معروف بالفجور وقد تكرر منه ذلك فإن إظهار ذلك وعقوبته العقوبة التي يستحقها من المصلحة له وللمسلمين.
قوله: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
هذه جملة عامة، وهي من القواعد الكلية، ومن الكلمات الجامعة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي لا تنحصر في شيء معين، بل هي شاملة وواسعة, فكل عون يحصل من المسلم لأخيه فإن الله عز وجل يجازيه بأن يكون في عونه، ومعنى ذلك: أنه كلما كان بهذه المثابة وبهذا الوصف فجزاؤه عند الله عز وجل أن يكون الله تعالى في عونه كما كان في عون أخيه, فالأمور التي تقدمت هي أمور خاصة منها ما يتعلق بالكرب, ومنها ما يتعلق بالستر، ومنها ما يتعلق بالتيسير، وأما هذه فأي عون يكون من العبد فإن الله تعالى يجازيه بالعون عوناً، فيعينه على أمور دينه ودنياه.
فضل طلب العلم
هذا أيضاًً من باب الجزاء من جنس العمل؛ لأن العمل سلوك طريق توصل إلى العلم، والجزاء تسهيل طريق توصل إلى الجنة, وسلوك طريق العلم يكون بالسفر لتحصيله، ويكون أيضاً باتخاذ كل الوسائل التي توصل إليه وإن لم يكن هناك سفر، كأن يلازم مجالس العلم، ويقتني الكتب النافعة والكتب المفيدة لأهل السنة، ويعنى بقراءتها والمذاكرة فيها والتباحث فيها مع زملائه والرجوع فيها إلى مشايخه.
والمراد بالعلم هنا العلم الشرعي, علم الكتاب والسنة، وكل ما يسهل الوصول إلى هذين الينبوعين الصافيين: كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وتيسير الطريق الموصل إلى الجنة لكونه سلك الطريق الموصلة إلى العلم بالسير إلى الله على بصيرة، وكونه يعبد الله على بصيرة وعلى هدى؛ وذلك إنما يكون بالعلم, والله عز وجل قال في كتابه العزيز: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] فكل إنسان في خسارة, ولا يستثنى من ذلك إلا من آمن إيماناً مبنياً على علم ثم عمل بالعلم، ثم حصل التواصي بالخير؛ وذلك بتعديته إلى الغير, ثم بعد ذلك التواصي بالصبر على ما يحصل في هذا السبيل من العناء والمشقة والنصب فإن ذلك يحتاج إلى صبر.
وقوله: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) هذه الجملة واضحة في بيان فضل العلم، وفضل طلب العلم الشرعي, وقد جاءت هذه الجملة أيضاً في حديث عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، وهو مشتمل على خمس جمل كلها تدل على فضل العلم, أول هذه الجمل هي هذه الجملة، وهي: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
والجملة الثانية: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) ومعناها: أن الملائكة تحف به وتحيط به؛ وذلك بالرضا بما يحصل منه من العلم ونشر العلم وأخذ العلم.
والجملة الثالثة: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) العابد هو الذي يصلي ويصوم، والعالم هو الذي اشتغل بتحصيل العلم الشرعي والعمل به؛ وإنما كان العالم أفضل من العابد لأن علم العالم له ولغيره، ونفعه متعد، وأما العابد فعبادته له وحده, فصلاته له وحده، وصيامه له وحده، ولكن علمه له ولغيره, ولهذا كان العالم أفضل من العابد.
والجملة الرابعة: (وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء).
أي أن العوالم العلوية والسفلية كلها تستغفر للعالم، وهذا فضل عظيم يظفر به من وفقه الله عز وجل لأن يكون من أهل العلم بشرع الله، وعالماً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والجملة الخامسة والأخيرة هي: (وإن العلماء ورثة الأنبياء, وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر).
وهذه الجملة اشتملت على شيء عظيم، ويكفي أهل العلم شرفاً أن يقال: إنهم ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم, يرثون عنه الحق والهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم، وهو ميراث النبوة؛ لأن الأنبياء لا يورثون المال، إذا خلفوا مالاً فإنه صدقة ولا يرثه أقرباؤهم، بخلاف غير الأنبياء فإنهم يرثهم أقرباؤهم على وفق ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام المواريث.
فالأنبياء إنما يورث عنهم العلم والحق والهدى، والرسول صلى الله عليه وسلم يورث عنه الكتاب والسنة، وهو خير ميراث وأفضل ميراث، وعلى هذا فالأنبياء يختلفون عن غيرهم من البشر من هذه الناحية؛ وذلك أن غيرهم من البشر إذا جمع مالاً ومات فإنه يكون لورثته، وأما الرسل فلو مات أحد منهم وعنده مال فإنه لا يكون لورثته، وإنما هو صدقة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) يعني: لا يورث عنهم المال، ولكن يورث عنهم العلم النافع الذي هو بالنسبة لنبينا صلى الله عليه وسلم علم الكتاب والسنة.
قوله: (فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) أي: من هذا الميراث الذي هو ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الحق والهدى الذي جاء به، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذه خمس جمل اشتمل عليها حديث أبي الدرداء ، والجملة الأولى هي في هذا الحديث الذي معنا الذي في صحيح مسلم , وقد جاءت أحاديث أخرى تدل على فضل العلم، وتحث على تحصيله، منها حديث أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) أي: أن من علامة إرادة الله عز وجل الخير بعبده أن يفقهه في دين الله؛ لأنه إذا فقه في الدين فمعنى ذلك أنه سار إلى الله على بصيرة، ودعا غيره على بصيرة، فيكون هادياً مهدياً، يعرف الحق ويعمل به ويدعو إليه، ويكون علمه وعمله مبنياً على بصيرة وعلى هدى من الله سبحانه وتعالى.
وكذلك أيضاً جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أخرجه البخاري رحمه الله، وهذا يدل على أن أهل تعلم القرآن وتعليمه هم خيار الناس.
وجاء في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)، وفي الحديث الذي مر بنا قريباً: (والقرآن حجة لك أو عليك) فهو بمعنى: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).
آداب طالب العلم
فلابد من حسن القصد والإخلاص والصدق في الطلب، ولابد من الجد والاجتهاد، وبذل النفس والنفيس للوصول إلى هذا المقصود العظيم الذي هو علم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه, فقد قال يحيى بن أبي كثير اليمامي -كما رواه مسلم بإسناده إليه في صحيحه-: لا يستطاع العلم براحة الجسم. فمن أراد العلم فعليه أن ينصب، وعليه أن يتعب، وعليه أن يشتغل، وأن يبذل من أجل الوصول إلى هذه الغاية النبيلة، يقول الشاعر:
الجَد بالجِد والحرمان بالكسل فانصب تصب عن قريب غاية الأمل
الجَد هو الحظ النفيس, بالجِد الذي هو الاجتهاد والتعب والنصب، فالنتائج الطيبة والثمرات الحميدة تحصل من الجد والاجتهاد، وبذل ما يستطيع الإنسان بذله من أجل الوصول إلى تلك الغاية العظيمة التي هي تحصيل العلم النافع الذي هو علم الشرع, أعني علم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فضل الاجتماع على القرآن والعلم في المساجد
بيوت الله عز وجل هي المساجد، وإضافتها إلى الله للتشريف؛ لأن المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين:
إضافة أعيان وإضافة معان, فإضافة الأعيان للتشريف، وهي من إضافة المخلوق إلى الخالق, كبيت الله وناقة الله وعبد الله، وإضافة المعاني هي إضافة الصفات كحياة الله وعلم الله وسمع الله وبصر الله وغير ذلك، وهي إضافة صفات، أعني من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف بها.
والمساجد هي خير البلاد وأفضل البقاع كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)، فالمساجد هي خير البلاد؛ وذلك لما يكون فيها من العمارة بذكر الله عز وجل، فالمساجد هي محل الطمأنينة، ومحل الذكر، ومحل الصلاة، ومحل العبادة لله عز وجل، ومحل تلاوة القرآن، كل هذه من صفات المساجد، وأما الأسواق ففيها الصخب واللغط، وفيها الخصومات، وفيها السباب والشتائم، وغير ذلك من الأمور التي تحصل في الأسواق.
تلاوة القرآن معروفة، ومدارسته تعني معرفة معانيه، وهذا إنما يكون لمن عنده علم بتفسير القرآن بالقرآن وتفسيره بالحديث، وبالآثار عن سلف هذه الأمة.
فتلاوته تكون بأن يقرأ واحد والباقون يسمعون، أو يقرءون بالتناوب بحيث يقرأ واحد مقداراً من الآيات والباقون يسمعون ويصححون له، ويقومون نطقه، ويقومون قراءته، ثم ينتقل إلى من بعده، ويكون كل واحد منهم يستفيد من غيره؛ لأنه يتعود كيف يقرأ، ويصحح له خطؤه ولحنه إذا كان يخطئ أو يلحن، وهذه الفوائد تحصل بهذا العمل الذي هو تلاوة القرآن في المساجد وتدارسه.
والتدارس يكون بوجود عالم بينهم يبين لهم معاني الآيات التي قرءوها أو التي يمرون بها وهم بحاجة إلى معرفتها أو يشكل عليهم شيء من معانيها، وإذا كانوا من أهل العلم فإنهم يتداركون ذلك ويرجعون إلى كتب أهل العلم المتعلقة بالرواية والدراية في تفسير كلام الله عز وجل.
قوله: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة) يعني: تحصل لهم أمور أربعة بهذا العمل الذي هو قراءة القرآن وتدارسه في المساجد:
الأمر الأول: أنها تنزل عليهم السكينة، والسكينة: الطمأنينة والوقار، ففي تلك المجالس الوقار، والطمأنينة، والسكون، وانشراح الصدور، كل ذلك يكون موجوداً لمن يحصل منهم تلاوة القرآن في بيت من بيوت الله.
الأمر الثاني: أن تغشاهم الرحمة, أي تشملهم الرحمة وتغطيهم.
الأمر الثالث: أن الملائكة تحفهم, أي: تحيط بهم وتحدق بهم؛ وذلك أنهم يبحثون عن مجالس الذكر، وخير الذكر هو قراءة كلام الله سبحانه وتعالى, فيحصل لهؤلاء المجتمعين أن تنزل عليهم السكينة، وكون الرحمة تغشاهم.
الأمر الرابع: أن يذكرهم الله فيمن عنده من الملائكة، أي يذكر الله عباده في الأرض عند عباده في السماء الذين هم الملائكة، كما جاء في الحديث: (ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه). فمن حصل منهم الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد وتدارسه يحصل لهم الثواب والجزاء بهذه الأعمال الأربعة.
من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه
نعم النسب إذا جاء مع العلم والعمل الصالح فهو خير إلى خير، ونور على نور، وأما إذا كان بدون إيمان وبدون عمل صالح فإن ذلك لا يفيد شيئاً، كما جاء في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)؛ لأن العبرة عند الله عز وجل بالتقى والأعمال الصالحة كما قال عز وجل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ويقول الشاعر:
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه ولا تترك التقوى اتكالاً على النسب
فقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب
فـأبو لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن عبد المطلب ، وهو من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية النسب، وإلا فإن أهل البيت الذين لهم الفضل هم كل مسلم ومسلمة من نسل عبد المطلب بن هاشم ، وكذلك زوجات رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه, هؤلاء هم أهل البيت الذين لهم فضل.
ولكن من حيث النسب فعمه أبو لهب من أقرب الناس إليه؛ لأنه أخو أبيه، ومع ذلك فإنه من أهل النار لكفره وعدم إيمانه، وقد أنزل الله عز وجل فيه سورة تتلى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5].
إذاً: الأعمال الصالحة هي الميزان، وهي المعتبرة في الإسلام؛ لقول الله عز وجل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، وليس المعتبر النسب، قال الله عز وجل: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، فالعبرة إنما هي بالأعمال، وليست بالأنساب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
إذاً: النسب بدون عمل صالح لا يفيد صاحبه شيئاً، ولكن كونه يجمع بين النسب الشريف وبين العمل الصالح فيكون قد جمع بين الحسنيين.
فقد رفع الإسلام سلمان الفارسي ، وهو من الفرس، وليس من العرب، ووضع أبا لهب وهو من بني هاشم، وهو ابن عبد المطلب ، وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كفره وعدم إيمانه وضعه؛ ولم يستفد بنسبه شيئاً؛ لأن العبرة ليست بالأنساب وإنما هي بالأعمال الصالحة وبتقوى الله عز وجل.
هذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه مشتمل على سبع جمل وهي: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنها بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحديث السادس والثلاثون من الأحاديث الأربعين للإمام النووي رحمه الله:
قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم].
هذا الحديث عظيم مشتمل على جمل في كثير منها الجزاء من جنس العمل، فأوله قوله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة).
الكربة: هي الشدة والضيق، وهو الكرب العظيم الشديد، فمن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا فالله تعالى يجازيه بأن ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومعلوم أنه لا نسبة بين كرب الدنيا وكرب الآخرة، فكرب الدنيا سهلة يسيرة، وليست شيئاً بجانب شدة كرب الآخرة، فمن نفس عن مسلم -بمعنى أنه خفف عنه مصيبته وكربه أو أزاله عنه- فإن الله تعالى يجازيه بأن ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة، وهذا فيه الجزاء من جنس العمل؛ لأن العمل تنفيس كربة في الدنيا، والجزاء تنفيس كربة يوم القيامة.
قوله: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة), المعسر: هو الذي حصل له الإعسار، وهو الضيق في المال؛ وذلك بأن يكون مثلاً عليه دين، فإن كان الدين لغيره فإنه يساعده بإعطائه ما يقضي به دينه، وإن كان الدين له فإنه يبرئه أو ينظره، كما قال الله عز وجل: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280] فبين أن أمام الإنسان طريقين:
أحدهما الإبراء، والثاني الإنظار، والإبراء أفضل من الإنظار.
والإبراء إسقاط الدين عنه, وأما الإنظار فهو إمهاله إلى أن يوسر، وإلى أن يكون عنده القدرة على التسديد, والجزاء من جنس العمل، وهو أن ييسر الله له في الدنيا والآخرة, جزاء على تيسيره على ذلك المعسر, فالجزاء يحصل في الدنيا؛ وذلك بأن تيسر له أموره ويوسع له في الرزق، وفي الآخرة يحصل له التيسير من الله عز وجل.
ثم بعد ذلك قال: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة).
يعني: ستر عيبه الذي علمه عنه، فإن الله تعالى يجازيه بالستر ستراً، فيستره في الدنيا والآخرة؛ وذلك أنه إذا حصل من إنسان خلل أو عيب أو حصل منه معصية فينظر: فإن كان هذا الذي حصل منه ليس معروفاً بالسوء، وإنما هي زلة وسقطة, فإنه في هذه الحالة يستر عليه, وإن كان معروفاً بالفسق والفجور وهو مستمر على ذلك أو مجاهر فالمصلحة في تأديبه وفي إيقاع العقوبة عليه التي يستحقها حتى يسلم الناس من شره.
وعلى هذا فالناس ينقسمون إلى قسمين:
قسم ليس معروفاً بالفسوق، وليس معروفاً بالمعصية العظيمة.
وقسم معروف بها، وقد يكون مجاهراً، وقد يكون مستهتراً، وقد يكون عنده لا مبالاة بالوقوع في المعاصي.
فالأول يستر عليه، وقد يكون ذلك تأديباً له بحيث لا يعود، حيث يشكر الله تعالى حين سلمه من أن يفتضح, أما الثاني الذي هو معروف بالفجور وقد تكرر منه ذلك فإن إظهار ذلك وعقوبته العقوبة التي يستحقها من المصلحة له وللمسلمين.
قوله: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
هذه جملة عامة، وهي من القواعد الكلية، ومن الكلمات الجامعة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي لا تنحصر في شيء معين، بل هي شاملة وواسعة, فكل عون يحصل من المسلم لأخيه فإن الله عز وجل يجازيه بأن يكون في عونه، ومعنى ذلك: أنه كلما كان بهذه المثابة وبهذا الوصف فجزاؤه عند الله عز وجل أن يكون الله تعالى في عونه كما كان في عون أخيه, فالأمور التي تقدمت هي أمور خاصة منها ما يتعلق بالكرب, ومنها ما يتعلق بالستر، ومنها ما يتعلق بالتيسير، وأما هذه فأي عون يكون من العبد فإن الله تعالى يجازيه بالعون عوناً، فيعينه على أمور دينه ودنياه.
استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الأربعين النووية [30] | 2558 استماع |
شرح الأربعين النووية [17] | 2544 استماع |
شرح الأربعين النووية [25] | 2333 استماع |
شرح الأربعين النووية [11] | 2305 استماع |
شرح الأربعين النووية [23] | 2271 استماع |
شرح الأربعين النووية [33] | 2206 استماع |
شرح الأربعين النووية [5] | 2205 استماع |
شرح الأربعين النووية [31] | 2139 استماع |
شرح الأربعين النووية [20] | 2138 استماع |
شرح الأربعين النووية [21] | 2103 استماع |