شرح الأربعين النووية [21]


الحلقة مفرغة

عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال لي: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجَفّت الصحف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وفي رواية لغير الترمذي : (احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً).

هذا حديث عظيم من وصايا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أوصى به ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهي وصية عظيمة جامعة نافعة، وهو من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفصل الصلاة وأتم التسليم.

ترجمة ابن عباس راوي الحديث

عادة الإمام النووي رحمة الله عليه أنه إذا ورد الصحابي لأول مرة فإنه يذكر كنيته، ولهذا قال هنا: عن أبي العباس ، ويقال: إن الذين عُرفوا بكنية أبي العباس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان هما: عبد الله بن عباس وسهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنهما، فإن هذين الاثنين هما اللذان عرفا بالتكني بهذه الكنية، وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه من صغار الصحابة، وقد روى الكثير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رووا من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يروه غيرهم كثرة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

ومعلوم أن رواية الصحابة للأحاديث إما أن يكونوا سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم سمعوا ذلك من غيرهم من الصحابة ولم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن الصحابي إذا أضاف حديثاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم -سواء كان سمعه هو أو سمعه غيره- فإن ذلك مرفوع وثابت ومتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم.

وقد أخبر ابن عباس أنه كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون خلفه ماشياً، أو أن يكون خلفه راكباً رديفاً له صلى الله عليه وسلم، وقد خاطبه النبي عليه الصلاة والسلام بوصفه كغلام فقال: (يا غلام!) وقال: (ألا أعلمك كلمات!)، وهذا فيه التنبيه إلى أهمية ما سيلقى وما سيذكر بعد هذا الخطاب، وفي هذا حفز للهمة ولفت للانتباه حتى يعي السامع ما يلقى عليه.

معنى حفظ العبد لربه وحفظ الرب لعبده

بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ابن عباس بدأ يعلمه هذه الكلمات، وفي صنيع الرسول صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس ما يدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم وملاطفته للصغار، حيث قال له: (يا غلام! ألا أعلمك كلمات).

قال عليه الصلاة والسلام: (احفظ الله يحفظك)، هذه أول تلك الكلمات الجامعة المفيدة العظيمة، والمقصود بحفظ الله عز وجل: حفظ حدوده وشرائعه وأمره ونهيه، بحيث يكون الإنسان ممتثلاً للأوامر، مجتنباً للنواهي مصدقاً للأخبار، عابداً لله عز وجل وفقاً لما شرع في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المقصود بكون الإنسان يحفظ الله، أي: احفظ حدود الله وشرائعه وأوامره ونواهيه، بأن تكون ممتثلاً لكل مأمور، منتهياً عن كل محذور، وأن تكون مصدقاً للأخبار، وأن تكون متعبداً لله عز وجل بالشرع لا بالأهواء والبدع ومحدثات الأمور؛ بل تكون عبادة الإنسان خالصة لله ومطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: (يحفظك)، وهذا هو الجزاء، والجزاء من جنس العمل، فإذا كان العمل حفظاً فإن الجزاء حفظ، فإن كان الإنسان يحفظ حدود الله ويمتثل ويستسلم وينقاد فإن الجزاء هو أن الله يحفظه في أمور دينه ودنياه، وكثيراً ما يأتي في النصوص بيان أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في هذا الحديث: (احفظ الله يحفظك) وحديث: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)، فكل هذا الجزاء من جنس العمل، وحديث ابن عباس الذي معنا فيه أن العمل حفظ والجزاء حفظ، فالعمل كون العبد يحفظ حدود الله، والجزاء أن الله تعالى يحفظه في أمور دينه ودنياه.

ثم قال: (احفظ الله تجده تجاهك)، كرر الأمر بحفظ الله عز وجل الذي هو حفظ شريعته، فإذا فعل الإنسان ذلك فإنه يجده تجاهه يسدده ويحوطه ويرعاه ويكلؤه ويحفظه، وكذلك أيضاً يجد ثواب ذلك في العاجل والآجل، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، وقال: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].

فيجد الله عز وجل حافظاً له وراعياً وساتراً وكالئاً ومؤيداً، وقوله: (تجاهك) أي: أمامك، وقد جاء في الرواية الأخرى التي في غير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك).

وجوب سؤال الله تعالى والاستعانة به وحده

قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وهذا مطابق لقول الله عز وجل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أي: أن العبد يخص الله عز وجل بالعبادة، ومنها السؤال، ويخصه بالاستعانة، فلا يعبد إلا الله، ولا يستعين إلا بالله، فتكون عبادته خالصة لله وتكون استعانته بالله سبحانه وتعالى، فيسأله العون والتسديد.

والسؤال هو الدعاء، والدعاء هو العبادة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الدعاء هو العبادة).

(إذا سألت فاسأل الله)، أي: خص الله عز وجل بسؤالك والالتجاء إليه والاعتماد عليه، والإلحاح عليه في الدعاء بأن ييسر لك ما تريد من خير الدنيا والآخرة.

وجوب التوكل على الله تعالى والاستعانة به مع الأخذ بالأسباب

(وإذا استعنت فاستعن بالله) قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالأخذ بالأسباب، ومع الأخذ بالأسباب أن يستعين المسلم بالله عز وجل، ولا يعتمد على الأسباب ويتكل عليها؛ بل يأخذ بها، والأخذ بها مشروع، ولكن لا يعتمد الإنسان عليها؛ بل يعتمد على الله عز وجل ويتوكل على الله عز وجل الذي هو مسبب الأسباب، والذي إذا شاء جعل تلك الأسباب مفيدة ونافعة وإذا شاء جعلها غير مفيدة ولا نافعة، فقد يوجد السبب ولا يوجد المسبَّب، ولكن الإنسان يأخذ بالسبب المشروع، ويتوكل على الله عز وجل ويعتمد عليه سبحانه وتعالى ويسأله.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)، وهذا أمر بالأخذ بالأسباب، وأن الإنسان يأخذ بالأسباب المشروعة، ولكن لا يعتمد عليها، ولا يقول: إن السبب إذا وُجد وجد المسبّب، فقد يوجد السبب بدون المسبب، فمثلاً: إذا أراد الإنسان الحصول على الولد فإنه لا سبيل إلى ذلك إلا بالزواج أو ملك اليمين، إذ لا بد للحصول على الولد من هذا السبيل، فالإنسان يفعل السبب، ولكن إذا وجد هذا السبب بقي شيء وراء ذلك، وهو كون الله عز وجل يجعل هذا السبب نافعاً ومفيداً، فإنه قد يوجد السبب ويتخلف المسبب، فالأمر يرجع إلى مشيئة الله عز وجل وإرادته وقدرته وتوفيقه وتسديده، فإنه إذا شاء أن يحصل الولد حصل بعد الأخذ بهذه الأسباب، ولكن لا يحصل ولد بدون هذه الأسباب، فلا يحصل ولد بدون زواج أو ملك يمين وتسر، وإنما يحصل بهذا الطريق فقط.

فالإنسان عليه أن يفعل السبب، ولكن مع فعل السبب لا يعتمد عليه ويقول إن السبب قد وجد فلا بد أن يوجد المسبب، فإنه يمكن أن يوجد السبب ولا يوجد المسبب، ولكن كون الإنسان يضيف إلى فعل السبب التعويل على الله وسؤال الله عز وجل أن ينفع بالأسباب، فهو الذي إذا شاء نفعت الأسباب، وإذا شاء وجدت الأسباب ولكن تخلف نفعها وتخلفت ثمرتها؛ لأن الأمر يرجع إلى مشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

فالحاصل: أن الإنسان عليه أن يأخذ بالأسباب ولا يعتمد عليها؛ لأن الاعتماد على الأسباب شرك في التوحيد؛ لكون الإنسان يعول على غير الله عز وجل وكأن الأمور مادية وليس هناك شيء وراء المادة، بل لا بد من فعل السبب، ولا بد من التعويل على الله عز وجل وسؤاله أن ينفع بالسبب، فلا يعول الإنسان على الأسباب ويغفل عن الله، ولا يهمل الإنسان الأسباب ويقول: إذا كان الله قدر الولد فسوف يأتيني ولو لم أتزوج، فإن هذا كلام غير صحيح، بل هذا سفه ونقص في العقل؛ لكون الإنسان يهمل الأسباب ولا يأخذ بها، والله تعالى أمر بالأخذ بالأسباب، وذكر أنه لا بد مع الأخذ بها من سؤال الله عز وجل والاستعانة به سبحانه وتعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)، فلا يهمل العبد الأسباب ويقول: إذا قدر الله لي شيئاً فسوف يأتي لي بدون سبب؛ بل يسعى الإنسان لتحصيل الرزق، ويسعى لتحصيل الولد، ويسعى لتحصيل كل ما يعود عليه بالنفع في أمور دينه ودنياه، ومع سعيه وبذله للأسباب المشروعة لا يعتقد أن الأسباب هي كل شيء، وأنه إذا وجد السبب وجد المسبب.

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)، وهذا داخل في الأسباب، ولهذا تظهر في الصباح خامصة البطون ليس في بطونها شيء، ثم ترجع في الرواح وقد امتلأت بطونها فقال عليه الصلاة والسلام: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فكذلك الإنسان يتوكل على الله عز وجل ويفعل السبب، ولا يكون توكله بدون فعل الأسباب، بحيث يقول: إذا الله قدر لي شيئاً فسيأتيني، ويجلس في بيته ويقول: إن رزقي سوف يأتيني وأنا في بيتي، فلا بد من الأخذ بالأسباب المشروعة، فإن ذلك يكون من السفه، ولا يكون هذا توكلاً بل هو تواكل، ولهذا يقول بعض أهل العلم: إن الاعتماد على الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل.

جواز الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه

(إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، هذا مثل قول الله عز وجل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أي: نخصك بالعبادة ونخصك بالاستعانة، لكن إذا كان الإنسان يقدر على شيء وطلب منه أخوه المسلم الإعانة فإن ذلك لا بأس به، كأن يطلب منه أن يشفع له، أو يطلب منه أن يعينه على حمل شيء، كما جاء في الحديث: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها صدقة)، فإذا طلب منه شيء يقدر عليه فإن هذا لا بأس به وليس بمحذور، ولكن الشيء الذي لا يجوز هو سؤال الغائبين كسؤال الجن والملائكة، فهذا هو الذي لا يجوز، بل على الإنسان أن يسأل الله عز وجل، وإذا كان المخلوق الذي معه يقدر على إعانته في شيء فلا بأس أن يطلب منه إعانته، كما جاء في الحديث: (وتعين الرجل في دابته فتحمله -أي: تحمل متاعه- عليها صدقة)، أي: أن ذلك صدقة عليه وعلى نفسك لأنك فعلت أمراً تعود منفعته إلى نفسك، وقد أحسنت إلى نفسك وأحسنت إلى غيرك.

لا ينفع أحد ولا يضر إلا بما كتبه الله تعالى وأراده

ثم إنه عقب ذلك ببيان أن الأمور كلها بيد الله عز وجل، وأن الإنسان يعول على الله عز وجل بسؤاله واستعانته؛ لأنه هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو قادر على كل شيء، وغيره لا يقدر إلا على ما قدره الله عليه، ولا يحصل منه إلا ما قدره الله تعالى وقضاه، فلما ذكر الأمر بسؤال الله عز وجل والاستعانة به عقب ذلك بأن الناس لا ينفعون الإنسان بشيء إلا وقد كتب له، ولا يضرونه بشيء إلا وقد كتب عليه، فلا يحصل في ملك الله إلا ما أراده الله، ولا يحصل في ملك الله شيء لم يرده الله عز وجل؛ بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) أي: أنه لا يحصل بهم شيء غير مقدر؛ بل كل ما يحصل منهم فهو مقدر، فما يحصل منهم من خير لك فهو مقدر لك، وما يحصل منهم من شر عليك فهو مقدر عليك، والله عز وجل سبق قضاؤه وقدره بذلك وسبقت كتابته بذلك، وهو واقع لا محالة.

أي: أن ما قدره الله لك لا بد أن يحصل لك، وما قدره الله عليك من الضرر فلا بد أن يقع عليك، ولا يحصل في ملك الله إلا ما شاءه الله عز وجل، فالعباد لا ينفعون إلا إذا شاء الله عز وجل نفعهم، ولا يضرون أحداً إلا إذا شاء الله ضررهم لذلك الذي أرادوا ضرره، فالأمر كله يرجع إلى مشيئة الله وإرادته وإلى قضائه وقدره سبحانه وتعالى.

الكتابة الشرعية والكتابة الكونية القدرية

قوله: (إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، الكتابة هنا بمعنى: التقدير؛ لأن الكتابة تنقسم إلى: شرعية، وقدرية كونية، وقد مر بنا في الحديث السابع عشر من الأربعين النووية أن الله كتب الإحسان على كل شيء، وتلك كتابة شرعية دينية، وهنا الكتابة كتابة قدرية كونية.

فما قدره الله لا بد أن يوجد، وأما كونه عز وجل أمر بالإحسان وشرع الإحسان فإنه يحصل ما شاء الله تعالى أن يحصل منه، ويتخلف حصول ما شاء الله ألا يحصل منه؛ لأن الإرادة الدينية تقع ممن شاء الله تعالى أن تقع منه، ولا تقع ممن شاء الله ألا تقع منه، لكن الكتابة الكونية لا بد من وقوعها، فكل شيء مقدر لا بد من وجوده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويقول الله عز وجل: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51].

وهذا فيه الإيمان بالقدر، وأن كل شيء مقدر سبق به القضاء والقدر، وأنه لابد من وقوع المقدر، فحيث شاء الله عز وجل أن يحصل للإنسان شيء لا بد أن يوجد، وحيث شاء ألا يحصل فإنه لا سبيل إلى وجوده.

انتهاء الكتابة بما هو كائن إلى يوم القيامة

ثم علل ذلك بقوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وهذا تأكيد للجملتين السابقتين اللتين فيهما إثبات القدر وأنه لا يقع من العباد إلا مقدر، سواء كان خيراً أو شراً فإنه لا يقع منهم إلا شيء قد قدره الله عز وجل.

(رفعت الأقلام)، أي: انتهت الكتابة وفرغ منها في اللوح المحفوظ، وسطر في اللوح المحفوظ ما سطر، وكل ما سجل في اللوح المحفوظ لا بد وأن يقع.

(وجفت الصحف)، أي: أن الكتابة التي حصلت في اللوح المحفوظ قد جف مدادها، بمعنى: أنه فرغ من ذلك وانتهي منه، وأن الله عز وجل قد قدر كل ما هو كائن، ولابد وأن يوجد ذلك المقدر وفقاً لما أراده الله عز وجل وما شاءه سبحانه وتعالى، فاللوح المحفوظ قد كتب فيه ما كتب، ولا بد من وقوع ذلك المكتوب، ولا بد من وقوع ذلك المقدر على وفق ما أراد الله عز وجل أن يوجد عليه ذلك المقدر.

التعرف إلى الله تعالى في الرخاء ينفع في الشدائد

وفي رواية لغير الترمذي : (احفظ الله تجده أمامك) بدل قوله: (تجده تجاهك) في الرواية الأولى، ثم قال: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).

أي: أنك في حال سعتك ورخائك عليك أن تشتغل بطاعة الله عز وجل وبعبادته، حتى إذا أصابتك الشدة تجد من الله عز وجل الفرج وكشف الكرب والشدة، وذلك أن الإنسان إذا عمل في حال رخائه وفي سعته الأعمال الصالحة، فإنه في حال شدته وكربه يكشف الله عز وجل ما به من كرب ويكشف ما به من شدة، وكما قال الله عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وقال يونس عليه السلام: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].

وقصة أصحاب الغار الثلاثة التي ثبتت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من أمثلة ذلك، وذلك أن ثلاثة ممن كانوا قبلنا كانوا يسيرون في فلاة، فآواهم المبيت إلى غار، فأرادوا أن يستريحوا فيه وأن يبيتوا فيه، فباتوا فيه، فنزلت صخرة وسدت باب الغار، فلم يستطيعوا الخروج، فصاروا كأنهم في قبر وهم أحياء لم يموتوا، وليس أمامهم إلا الموت؛ لأنهم داخل الغار وقد سدت الباب صخرة عظيمة، ففكروا واهتدوا إلى أن كل واحد منهم يتوسل إلى الله عز وجل بعمل صالح عمله في حال الرخاء، ويسأل الله عز وجل به ويتوسل إليه عز وجل به ليفرج عنهم ما هم فيه، وهذا هو ما يوضح معنى قوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فتوسل أحدهم إلى الله عز وجل ببره لوالديه، وأنه كان يأتي بالغبوق والحليب الذي كان يحلبه في الليل فيسقي أبويه قبل أن يناما، وفي ليلة من الليالي ندت الإبل وبعدت عن المكان الذي كانت ترعى فيه في غالب أحيانها مما اضطره إلى أن يتأخر، فجاء إليهما وقد ناما، فكره أن يوقظهما، وكره أن ينام خشية أن يستيقظا وقد نام فلا يتمكن من إعطائهما ذلك الغبوق، فوقف ينتظر يقظتهما حتى استيقظا وشربا، فقال: (اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً قليلاً إلا أنهم لا يستطيعون الخروج).

ثم توسل الثاني بتركه الفاحشة مع قدرته عليها، وذلك أنه كان له ابنة عم، وكان يحبها حباً شديداً، ويراودها عن نفسها وهي تمتنع، فألمت بها سنة من السنين، وحصل لها ضيق وشدة وكرب، فطلبت منه أن يساعدها، فعرض عليها ذلك الذي كان يعرضه عليها من قبل، فاستجابت لشدة الحاجة وشدة الفقر والبؤس الذي حصل لها على أن يعطيها مائة دينار، فأعطاها إياها وأراد أن يفعل بها الفاحشة، ولما جلس بين رجليها قالت: يا فلان! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فقام وتركها من أجل الله، وترك الذي أعطاها لها، فإنه لما ذكرته بالله عز وجل خاف من الله، مع أنه قد تمكن ولم يبق بينه وبين فعل الفاحشة شيء، ولكن خوف الله عز وجل وتخويفه بالله عز وجل أثر فيه، فقام وتركها، فقال: (اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً قليلاً إلا أنهم لا يستطيعون الخروج).

فقام الثالث وتوسل إلى الله عز وجل بأنه كان له عمال يعملون عنده، فذهب أحدهم دون أن يأخذ أجرته، فحفظ الأمانة لذلك الشخص ونماها حتى كثرت ونمت، وصار له عدد كبير من الرقيق ومن بهيمة الأنعام، فجاءه بعد مدة فقال: يا فلان! أعطني حقي، فقال: هذا الذي تراه أمامك هو حقك، فظن أنه يهزأ به ويسخر به، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: هو حقك، فأخذه وساقه، فقال: (اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون).

فهذا يبين ويوضح معنى هذه الجملة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فهؤلاء عملوا هذه الأعمال الصالحة في حال رخائهم وسعتهم، والله عز وجل فرج عنهم ما هم فيه من كرب وشدة بأن أزال هذه الصخرة التي سدت باب الغار، وذلك بتوسلهم إليه بأعمالهم الصالحة التي فعلوها في حال رخائهم وفي حال سعتهم، فنفعهم ذلك عند الله عز وجل عندما كانوا في شدة، والله تعالى يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].

كل شيء بقضاء وقدر

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)، هاتان الجملتان معناهما: أن كل شيء لم يقدره الله لك فلا يمكن أن يحصل لك، وكل شيء لم يكتب لك فلن يقع، وكل شيء قدر لك فلا بد وأن يوجد الشيء الذي قدر لك ولن يخطئك أبداً، بل لابد وأن يحصل لك.

وهذا هو معنى الكلمتين اللتين تنبني عليهما عقيدة المسلمين في القضاء والقدر، وهما: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فإن قول: ما شاء الله كان يوافقه: (أن ما أصابك لم يكن ليخطئك) وقول: وما لم يشأ لم يكن، يوافقه: (وما أخطأك لم يكن ليصيبك)، يعني: ما لم يشأه الله فإنه لن يكون.

النصر مع الصبر والفرج مع الكرب

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر)، أي: أن النصر على الأعداء إنما يكون مع الصبر على الجهاد وعدم الفرار، وقد جاء في الحديث: (لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)، فقوله: (لا تتمنوا لقاء العدو)؛ لأن الإنسان قد يتمنى شيئاً ولكنه إذا حصل حقيقة تغير، فقد يؤدي ذلك إلى الفرار فيكون متعرضاً للوقوع في كبيرة من الكبائر التي جاءت في حديث السبع الموبقات، ومنها: (والفرار من الزحف)، (فإذا لقيتموه فاصبروا) أي: إذا ابتليتم فاصبروا ولا تفروا وتنهزموا؛ بل أقبلوا واصبروا.

(واعلم أن النصر مع الصبر)، فلا يكون النصر مع الضعف ومع الخور وعدم التحمل، وإنما يكون بالصبر، وكون الإنسان يصبر فإنه يأتي النصر نتيجة لذلك.

ثم قال: (وأن الفرج مع الكرب) أي: إذا حصلت الشدة وحصل الضيق والتجأ الإنسان إلى الله عز وجل؛ فإن الشدة يعقبها فرج من الله عز وجل.

(وإن مع العسر يسراً)، فإذا حصل العسر والضيق فإنه يعقب ذلك اليسر من الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، وقال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6].

فهذا الحديث حديث عظيم، وهو من جوامع كلم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد شرحه ابن رجب رحمه الله في جزء مستقل لطيف، وشرحه كذلك ضمن الخمسين حديثاً في كتابه جامع العلوم والحكم.

والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

عادة الإمام النووي رحمة الله عليه أنه إذا ورد الصحابي لأول مرة فإنه يذكر كنيته، ولهذا قال هنا: عن أبي العباس ، ويقال: إن الذين عُرفوا بكنية أبي العباس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان هما: عبد الله بن عباس وسهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنهما، فإن هذين الاثنين هما اللذان عرفا بالتكني بهذه الكنية، وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه من صغار الصحابة، وقد روى الكثير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رووا من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يروه غيرهم كثرة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

ومعلوم أن رواية الصحابة للأحاديث إما أن يكونوا سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم سمعوا ذلك من غيرهم من الصحابة ولم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن الصحابي إذا أضاف حديثاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم -سواء كان سمعه هو أو سمعه غيره- فإن ذلك مرفوع وثابت ومتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم.

وقد أخبر ابن عباس أنه كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون خلفه ماشياً، أو أن يكون خلفه راكباً رديفاً له صلى الله عليه وسلم، وقد خاطبه النبي عليه الصلاة والسلام بوصفه كغلام فقال: (يا غلام!) وقال: (ألا أعلمك كلمات!)، وهذا فيه التنبيه إلى أهمية ما سيلقى وما سيذكر بعد هذا الخطاب، وفي هذا حفز للهمة ولفت للانتباه حتى يعي السامع ما يلقى عليه.