شرح الأربعين النووية [31]


الحلقة مفرغة

يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى:

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم .

هذا حديث عظيم من أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فقد اشتمل على عدة أمور:

الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا) فهو نهي عن التحاسد، والحسد: هو أن يتمنى زوال النعمة عن غيره، وسواء تمنى أن تصل إليه أو تخرج من غيره وإن لم تصل إليه، فكل ذلك من الحسد المذموم الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله: (لا تناجشوا) النجش: هو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، وله وجهان: إما أنه يريد أن يحسن إلى البائع بإكثار النقود له، أو يسيء إلى المشتري بزيادة السعر عليه فيتضرر بذلك، وهذا هو النجش الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.

أي: إذا كانت السلعة تباع بالحراج أو بالمزاد العلني وكان للإنسان حاجة فيها وهو يريد شراءها فله أن يزيد، وإن كان لا يريد شراءها، فإنه يتركها ولا يفعل الزيادة من أجل أن ينفع إنساناً ويضر إنساناً آخر.

قوله: (ولا تباغضوا)، أي: لا تأخذوا بالأسباب التي تؤدي إلى البغضاء والعداوة وتنافر القلوب وتباعدها، وحصول الجفوة والتباعد بين المسلمين، بل عليكم أن تأخذوا بأسباب المحبة والمودة، وبما يجلب الوفاق والوئام، حتى لا يكون بدلاً من ذلك الخصام والنزاع والصراع.

قوله: (ولا تدابروا)، أي: أن كل واحد يدبر عن الآخر ولا يريد أن يلقى صاحبه ويسلم عليه ويتحدث معه، وإن لقيه فكل واحد منهما يولي دبره صاحبه؛ لما بينهما من الشحناء والتباغض، فالواجب على كل واحد منهما أن يسعى إلى التقارب والتآلف، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.

قوله: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) وذلك بأن يبيع رجل سلعة على آخر بثمن معين، وكان في مدة خيار يمكنه أن يبقي العقد ويمكن أن يفسخه، فيأتي إليه شخص آخر عنده سلعة ويقول للمشتري: اترك هذه السلعة وافسخ هذا البيع، وأنا عندي لك سلعة مثلها بأرخص منها، فلو اشتريت هذه السلعة بمائة ريال، فأنا أبيعك إياها بخمسين ريالاً أو بستين ريالاً، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا هو بيع المسلم على بيع أخيه المسلم.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وكونوا عباد الله إخواناً) أي: أن هذه الأمور التي مرت والتي جاء النهي عنها تنافي مقتضى الأخوة، بل على المسلمين أن يكونوا إخوة متآلفين متحابين، لا يتحاسدون ولا يتباغضون، ولا يسعى بعضهم إلى أن يظلم أحداً بزيادة في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، وكذلك التدابر، وهو أن يلتقيا فيولي كل واحد منهما صاحبه دبره، لا يريد أن يلقاه لما بينهما من الوحشة والعداوة.

قوله: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه) أي: من مقتضيات هذه الأخوة أنه لا يعمل معه عملاً يكون ظالماً له فيه، بأي نوع من أنواع الظلم، وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر : (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). فمقتضى الأخوة ألا يحصل الظلم منه لأخيه، بل عليه أن يسلمه من ظلمه وألا يصل إليه ظلمه، وإنما يصل إليه منه العدل والإحسان، وقد جاء في الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟! قال: تمنعه من الظلم)، فشأن المسلم أنه لا يظلم أخاه المسلم.

قوله: (ولا يخذله) أي: لا يترك نصرته وهو قادر على نصرته.

فنصرته مظلوماً بأن يكون عوناً له على خصمه لمنع الظلم عنه، وأما إن كان ظالماً فنصرته بأن يمنعه من الظلم وأن يحول بينه وبين الظلم؛ لأنه بذلك يحسن إلى المظلوم بأن يخلصه من ظلم الظالم، ويحسن إلى الظالم بأن يمنعه من الظلم ويحول بينه وبين الظلم، فيكون في ذلك أفاده بسلامته من الظلم الذي هو خطير وعظيم عند الله.

قوله: (لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه) أي: لا يكذب عليه إذا حدثه بحديث، وإنما يصدقه الحديث إذا حدثه.

قوله: (ولا يحقره)، وهذا من مقتضيات التكبر والاستكبار، هو الذي يحصل معه الاحتقار.

قال: (التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ثلاث مرات) معناه: أن التقوى تكون في القلوب، وإذا كانت التقوى في القلوب ظهرت على الأعضاء، كما جاء عن بعض السلف: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال)، وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

والتقوى محلها القلب كما قال الله عز وجل: فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] فأضاف التقوى إلى القلوب، وكذلك في حديث أبي ذر (الحديث القدسي): (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل)، فأضاف التقوى إلى القلب، كما أضاف الفجور إلى القلب في مقابله، حيث قال: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم).

قال: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم), يعني: لو لم يحصل له من الشر غير أن يحقر أخاه المسلم لكان كافياً, والاحتقار نتيجة للاستكبار ونتيجة للترفع والتعالي، بل على الإنسان أن يوقر الكبير ويرحم الصغير ولا يحتقر أحداً من الناس؛ لأن الاحتقار فيه كفر النعمة التي أنعم الله بها على الإنسان، وقد يكون الاستكبار مع عدم النعمة, وهذا أسوأ كما جاء في الحديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله.. وفيهم: عائل مستكبر)؛ لأن الغنى يكون مظنة الاستكبار, أما إذا كان يستكبر مع العيلة ومع الفقر, فإن ذلك يدل على خبث في النفس؛ لأن أسباب الاستكبار غير موجودة.

قوله: (كل المسلم على المسلم حرام, دمه وماله وعرضه), وهذا مما خطب به الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث سأل الناس وهو يخطبهم: أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ أي يوم هذا؟ وفي كلها يقولون: يوم حرام.. بلد حرام.. شهر حرام, فقال عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، وهذا يدلنا على خطورة هذه الأشياء وأن الإخلال فيها ضرره كبير وأثره عظيم؛ لأنه اعتداء على الناس في أنفسهم وفي أموالهم وأعراضهم، ولهذا قال: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه).