شرح سنن أبي داود [525]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلب لذي لب منكن)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه.

حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلب لذي لب منكن! قالت: وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل: فشهادة امرأتين شهادة رجل، وأما نقصان الدين: فإن إحداكن تفطر رمضان، وتقيم أياماً لا تصلي) ].

قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]، وقد تقدم في باب رد الإرجاء، أن أهل السنة والجماعة يقولون بأن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن أهل السنة وسط بين المرجئة وبين المعتزلة والخوارج فيما يتعلق بأسماء الإيمان، والحكم في الآخرة، فهم فيما يتعلق بإطلاق اسم الإيمان وعدم إطلاقه وسط بين المرجئة الذين قالوا: إن كل المسلمين مؤمنون كاملو الإيمان، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا هو جانب التفريط والإهمال والضياع والانفلات من الأحكام الشرعية، ويقابل هذا التفريط إفراط، وهو أن مرتكب الكبيرة يكون كافراً، وهذا عند الخوارج، وأما عند المعتزلة فهو في منزلة بين المنزلتين، ويكون عندهما في الآخرة خالداً مخلداً في النار لا يخرج منها أبد الآباد، فسلبوا منه الإيمان بالكلية، فهذان طرفان متقابلان: تفريط وإفراط، تفريط المرجئة، وإفراط الخوارج والمعتزلة، وأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فعندهم أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً كامل الإيمان، وليس خارجاً من الإيمان كلية، وإنما هو مؤمن ناقص الإيمان، فقول أهل السنة: هو مؤمن، فارقوا به الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: ليس بمؤمن، وأنه قد خرج من الإيمان، فالخوارج قالوا: إنه دخل في الكفر، والمعتزلة قالوا: إنه في منزلة بين الإيمان والكفر، ولكنهم متفقون مع الخوارج في تخليده في النار أبد الآباد، وبقولهم: إنه ناقص الإيمان، فارقوا المرجئة الذين قالوا: إنه كامل الإيمان.

إذاً: فقول أهل السنة: مؤمن ناقص الإيمان، هاتان الكلمتان فيهما تحديد مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة، فلم يسلبوه مطلق الإيمان الذي هو أصله، ولم يعطوه الإيمان المطلق الذي هو الكمال، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، يحب على ما عنده من الإيمان، ويبغض على ما عنده من الفسق والعصيان، فيكون محبوباً باعتبار، ومبغوضاً باعتبار آخر.

ولا مانع من أن يجتمع في الشخص محبة وبغض، فتكون المحبة باعتبار، والبغض باعتبار، كما يقول الشاعر:

الشيب كره وكره أن أفارقه

فاعجب لشيء على البغضاء محبوب

فالشيب؛ إذا نظر إلى ما تقدمه وهو الشباب فليس مرغوباً فيه ولا محبوباً، ولكن إذا نظر إلى ما وراءه وهو الموت صار مرغوباً فيه ومحبوباً، ولا يراد مفارقته إلى ما بعده.

فأهل السنة والجماعة يقولون: إن مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه فلم يدخله النار وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار ولكنه لا يخلده فيها، بل يبقى فيها المدة التي شاء الله عز وجل أن يبقى فيها، ثم يخرجه ويدخله الجنة.

فالمعتزلة والخوراج غلبوا جانب الوعيد وأهملوا جانب الوعد، والمرجئة غلبوا جانب الوعد وأهملوا جانب الوعيد، وأما أهل السنة والجماعة فأخذوا بالوعد والوعيد جميعاً، ولهذا يأتي في القرآن كثيراً الجمع بين الوعد والوعيد؛ للترغيب والترهيب، فإذا جاء ذكر الترغيب فإنه يأتي بعده ذكر الترهيب، كقوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]، فهذا ترغيب وترهيب، وقوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [الأنعام:147]، فهذا ترغيب، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:147]، وهذا ترهيب، وقوله: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، وهذا ترغيب وترهيب، فأهل السنة والجماعة يأخذون بهذا وهذا، ويقول بعض العلماء: إن المسلم يسير إلى الله عز وجل بالخوف والرجاء، فيكون خائفاً راجياً، ويقول بعضهم: إن الخوف والرجاء للمسلم كالجناحين للطائر، فإذا كان الجناحان سليمين فإن الطيران بهما يكون سهلاً ميسوراً، وإذا اختل أحد الجناحين اختل الطيران.

فأهل السنة يجمعون بين الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء، فلا يأخذون بالبعض ويتركون البعض الآخر، وإنما يأخذون الجميع، وعلى هذا فهم وسط في أمور الدنيا، وفيما يتعلق بأحكام الإيمان والكفر، وهم أيضاً وسط في أحكام الآخرة.

قال الإمام أبي داود هنا: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]، ثم أورد جملة من الأحاديث على زيادة الإيمان ونقصانه، وقد قال الإمام البخاري رحمه الله: لقيت أكثر من ألف شيخ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو عند أهل السنة يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) أي: لذي عقل منكن، أي: من النساء، فوصفهن بأنهن ناقصات عقل ودين، ومحل الشاهد منه نقص الدين، فالإيمان يزيد وينقص، وفسر نقصان الدين هنا بأن المرأة يأتي عليها أيام لا تصلي ولا تصوم بسبب الحيض، وهذا -كما هو معلوم- ليس من قبلها، وليس الأمر في ذلك إليها، وإنما هذا شيء كتبه الله عليها، فهو بقضاء الله وقدره، وخلقه وإيجاده، والفرق بينهن وبين الرجال أن الرجال مستمرون في الصيام والصلاة، فعندهم إذاً زيادة في الأعمال في هذه المدة التي لا يصلي فيها النساء ولا يصمن، فيكون في ذلك زيادة ثواب عند الله عز وجل، فتكون الصلاة والصيام عند الرجال باستمرار، ولا يمنعهم من ذلك مانع إلا الأمور الطارئة التي تحصل للرجال والنساء، كالمرض وكالسفر، فهذا النقص يكون لأمر يرجع إلى الإنسان كفعل المعاصي، ويكون بشيء لا يرجع إليه كما جاء في هذا الحديث من كون النساء ناقصات عقل ودين، وسألته النساء عن ذلك فأخبر بأنه يأتي عليها أيام لا تصلي ولا تصوم بسبب الحيض، وأما نقصان العقل فإن شهادتها بشهادة نصف رجل كما جاء ذلك في القرآن فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282].

وهذه المسألة -وهي نقصان العقل في حق النساء- واحدة من خمس مسائل النساء فيهن على النصف من الرجال، فشهادة امرأتين بشهادة رجل، وكذلك الميراث لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، وكذلك في العقيقة؛ فالغلام يعق عنه بشاتين والجارية بشاة واحدة، وكذلك في العتق، (من اعتق عبداً كان فكاكه من النار، ومن اعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار)، والخامسة: الدية، فهذه خمس مسائل النساء فيهن على النصف من الرجال، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا إذا جاءت النصوص تفرق بينهما.

تراجم رجال إسناد حديث (ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلب لذي لب منكن)

قوله:[ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ].

هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ حدثنا ابن وهب ].

ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن بكر بن مضر ].

بكر بن مضر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ عن ابن الهاد ].

هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الله بن دينار ].

عبد الله بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الله بن عمر ].

هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

هل يكتب للحائض إذا انقطعت عن الصلاة والصيام أجر تلك الأيام؟

وقد يقال هنا: أليست الحائض إذا انقطعت عن الصلاة والصيام يكتب لها أجر تلك الأيام مثل الرجل إذا مرض أو سافر فإنه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم؟

فيقول: هذا الحديث يدل على أن الرجل يزيد عليها بالأعمال في مثل هذه المدة التي منعت فيها، وأما ذاك فقد جاء فيما يتعلق بالأشياء التي كانت واجبة على الجميع، فإذا حصل شيء يمنع كالسفر أو المرض فإن الله يكتب له مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم.

ومعلوم أن الإيمان ينقص بالمعصية، وفي هذا الحديث ذكر أنها في هذه الحالة تكون ناقصة دين مع أنها لم تعمل معصية، وبناء على هذا فيكون نقصان دينها إنما هو بالنسبة للرجال، فهم عندهم زيادة بالصلاة، وهن ليس عندهن هذه الصلاة، إذاً ففيهن نقص عن الرجال.

شرح الحديث الوارد في سبب نزول قوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن سليمان الأنباري وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: (لما توجه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله! فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]) ].

أورد أبو داود حديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توجه إلى الكعبة) أي: بعد أن كان متوجهاً إلى بيت المقدس أمر أن يستقبل البيت الحرام، وذلك أن القبلة كانت إلى بيت المقدس، فاستقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة واستقبلها الناس معه، وكان ذلك بعد الهجرة بستة عشر شهراًً، عند ذلك قال جماعة من الصحابة: (ما بال إخواننا الذين كانوا يصلون إلى القبلة الأولى ولم يصلوا إلى هذه القبلة؟)، أي: أنهم لم يدركوا هذا الشيء الذي حصل، (فأنزل الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143])، والمقصود بالإيمان هنا: الصلاة، أي: يضيع صلاتكم إلى البيت المقدس.

وفي هذا إطلاق الإيمان على الصلاة، فهو يدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان؛ فالصلاة هي مجموعة أعمال وقد سماها إيماناً.

وأما من ناحية الزيادة فتظهر في أن الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس أولاً، وكتب الله لهم الحياة حتى أدركوا الصلاة إلى بيت الله المسجد الحرام، فإن عندهم زيادة في الأعمال على من مات قبلهم، لكن قد جاء ما يدل على أن السابقين الأولين ممن تقدم إسلامه، ونصر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القليل منهم لا يساويه الكثير ممن جاء بعد ذلك وتأخر إسلامه، كما جاء في حديث: (لا تسبوا أصحابي) وذلك عندما جرى بين خالد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما بعض الشيء، ومعلوم أن الإنسان كلما طال عمره وحسن عمله فإن ذلك زيادة خير وثواب عند الله عز وجل.

تراجم رجال إسناد الحديث الوارد في سبب نزول قوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم)

قوله: [ حدثنا محمد بن سليمان الأنباري ].

محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود .

[ وعثمان بن أبي شيبة ].

ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي وإلا النسائي فإنه أخرج له في عمل اليوم والليلة.

[ حدثنا وكيع ].

هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سفيان ].

هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سماك ].

سماك هو ابن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن عكرمة ].

هو عكرمة مولى ابن عباس ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عباس ].

ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وجه الاستدلال بقوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم) على كفر تارك الصلاة

استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] على كفر تارك الصلاة، ويمكن أن يكون وجه الاستدلال أنه سمى الصلاة إيماناً، لكن هناك أدلة واضحة تدل على أن ترك الصلاة كفر، كحديث: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الأئمة الذين يجوز الخروج عليهم: (لا ما صلوا). وقد جاء في حديث آخر (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).

شرح حديث (من أحب لله، وأبغض لله... فقد استكمل الإيمان)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة: (عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) ].

أورد أبو داود حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، وقوله: (من أحب لله) حذف فيه المفعول وهو متعلق بمن وبما، والمعنى أحب لله من يحبه الله، وأحب لله ما يحبه الله، والمراد: من يحبه الله من الأشخاص، وما يحبه الله من الأعمال والأقوال، إذاً فالحب يكون للأشخاص وللأقوال وللأفعال التي يحبها الله ويرضى بها، (من أحب لله، وأبغض لله) أي: أبغض من يبغضه الله، وأبغض ما يبغضه الله، (وأعطى لله) أي: من أجل الله، (ومنع لله) أي: من أجل الله، فلا يريد بإعطائه الرياء ولا غير ذلك، وإنما يعطي من أجل الله، ويرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله، وكذلك يمنع وفقاً لما جاء عن الله سبحانه وتعالى، فيكون إعطاؤه من أجل الله، ومنعه من أجل الله، وحبه من أجل الله، وبغضه من أجل الله، فيكون بذلك قد استكمل الإيمان، ولهذا جاء في حديث أنس بن مالك الذي في الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، فالحب يكون في الله ومن أجل الله، وجاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه)، فالحب والبغض من أعمال القلوب، والإعطاء والمنع من أعمال الجوارح، وكلها من الإيمان، وهي تكون نافعة إذا كانت من أجل الله، سواءً كانت من أعمال القلوب أو من أعمال الجوارح.

تراجم رجال إسناد حديث (من أحب لله، وأبغض لله... فقد استكمل الإيمان)

قوله: [ حدثنا مؤمل بن الفضل ].

مؤمل بن الفضل صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ حدثنا محمد بن شعيب بن شابور ].

محمد بن شعيب بن شابور صدوق صحيح الكتاب، أخرج له أصحاب السنن.

[ عن يحيى بن الحارث ].

يحيى بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب السنن.

[ عن القاسم].

هو القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي ، وهو صدوق يغرب كثيراً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.

[ عن أبي أمامة ].

أبو أمامة : هو صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

شرح حديث (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ].

أورد أبو داود حديث أبي هريرة : (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وهذا يدل على زيادة الإيمان؛ لأنه ذكر أن ذلك هو أكمل المؤمنين إيماناً، فمعنى ذلك أن الناس متفاوتون في الإيمان.

قوله: [(أحسنهم خلقاً)]، وهذا يدلنا على فضل الأخلاق الحسنة، وأن صاحبها يكون بهذه المنزلة الرفيعة التي بينها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو أكمل المؤمنين إيماناً، وذلك لأنه يعاملهم بالمعاملة الطيبة، ويخالق الناس بالمخالقة الحسنة، ويعامل الناس كما يحب أن يعملوه، ومعلوم أن الإنسان يحب أن يعامله الناس معاملة طيبة، فعليه أيضاً أن يعامل غيره معاملة طيبة، فيحب لغيره ما يحب لنفسه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفس).

تراجم رجال إسناد حديث (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)

قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ].

هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا يحيى بن سعيد ].

هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن محمد بن عمرو ].

هو محمد بن عمرو بن علقمة الوقاص الليثي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي سلمة ].

هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي هريرة ].

أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.

شرح حديث سعد بن أبي وقاص (يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال: أو مسلم...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال: وأخبرني الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً، فقال سعد : يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أو مسلم، حتى أعادها سعد ثلاثاً، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: أو مسلم، ثم قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إني أعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم لا أعطيه شيئاً؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم) ].

أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جماعة فأعطى رجالاً ولم يعط رجلاً، وهذا الذي لم يعط شيئاً كان أعجبهم إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً وهو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم)، أي: أنه يلقنه ويريد منه أن يقول: مسلم، فأعاد، فأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين السبب وأنه قد يعطي أشخاصاً وغيرهم أحب إليه من هؤلاء الذين أعطوا؛ ذلك أن هؤلاء الذين أعطاهم إنما أعطاهم تألفاً وترغيباً لهم في الإسلام، وخشية أن يحصل منهم نفور وعدم إقبال على الإيمان، فيترتب على ذلك أن يكبوا في النار على وجوههم، ولهذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لما كان في غزوة حنين وحصلت الغنائم الكثيرة كان يعطي بعض المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا حديثاً في عام الفتح؛ تأليفاً لقلوبهم، فحصل في قلوب الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم شيء؛ لكونهم لم يعطوا مثلما أعطي الناس، فجمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكلم معهم، وبين أنه إنما يعطي لغرض ويمنع لغرض، وقال: إنه لم يعطهم شيئاً لما عندهم من الإيمان، ثم قال لهم تلك الكلمات الجميلة التي هي أحسن عندهم من الدرهم والدينار ومن الإبل حتى فرحوا وسروا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (الأنصار شعار، والناس دثار، لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت من الأنصار)، فسروا وفرحوا، فكان يعطي أناساً ولا يعطي أناساً آخرين فيعطي الذين لم يكن عندهم قوة إيمان، أو كانوا حديثي عهد بالإسلام، وكان يتألفهم، فلما قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (وهو مؤمن) قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أو مسلم)؛ وذلك لأن الإيمان درجة كاملة عالية، والإسلام أقل من ذلك فأراد أن يرشد إلى الأصل الذي يشترك فيه جميع المسلمين وهو أصل الإسلام، وأما الإيمان فهو أعلى وأكمل من أصل الإسلام، أخص من الإسلام، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، فقد يكون عنده الاستسلام والانقياد، ولكن لا يكون الإيمان متمكناً من قلبه، ولهذا قال الله عز وجل عن الأعراب: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، أي: لم يتمكن الإيمان في قلوبهم، ومعنى ذلك أن عندهم نقصاً وضعفاً، لكن عندهم الإسلام الذي هو الأصل، وأما الإيمان فهو شيء أعلى من ذلك، ولهذا فالإيمان أخص، والإسلام أعم، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـسعد : (أو مسلم) إشارة منه إلى الحد الذي ليس فيه تزكية، ولهذا كان الواحد من السلف إذا سئل: أنت مؤمن؟ يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقوله: أنا مؤمن إن شاء الله ليس شكاً، ولكن بعداً عن التزكية، فهو مسلم، وأما الإيمان فهو كمال، فلا يدعيه لنفسه، ولا يزكي نفسه, ولكن يقول: أرجو، أو إن شاء الله، ولا يقول: أنا مسلم إن شاء الله، وإنما يجزم.

ثم إن لفظ الإيمان ولفظ الإسلام من الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر فرق بينها في المعنى، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر شمل المعاني التي افترقت عند الاجتماع، فإذا أطلق الإسلام شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا أطلق الإيمان شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا جمع بينهما فسر الإيمان بالأعمال الباطنة، والإسلام بالأعمال الظاهرة، كما في حديث جبريل لما سأله عن الإسلام قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، وهذه أمور ظاهرة، وسأله عن الإيمان فقال (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وهذه أمور باطنة، فلما جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، فأعطى الإيمان ما يتعلق بالباطن، وأعطى الإسلام ما يتعلق بالظاهر، لكن إذا جاء لفظ الإسلام منفرداً مثل قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] فإنه يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وهذا مثل لفظ الفقير والمسكين، فإنه إذا جمع بينهما في الذكر فسر الفقير بمعنى، والمسكين بمعنى، وإذا فصل أحدهما عن الآخر شمل معنييهما عند الاجتماع، فالله تعالى جمع بين الفقير والمسكين في آية تقسيم الصدقات: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، فلما جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، حيث فسر الفقير بأنه من ليس عنده شيء أصلاً، والمسكين بأنه الذي عنده شيء ولكنه لا يكفيه، فهو أحسن حالاً من الفقير، لكن إذا جاء لفظ الفقير مستقلاً فإنه يدخل تحته من ليس عنده شيء، ومن كان عنده شيء لا يكفيه، كما في حديث معاذ بن جبل (فإن هم أجابوك لذلك -أي: إلى الصلاة- فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فلفظ الفقراء هنا يشمل المساكين، وكذلك لفظ البر والتقوى، فإذا جمع بينهما فإن البر يفسر بالأوامر المطلوبة، وتفسر التقوى بالمنهيات، وأما إذا جاء لفظ البر لوحده، وجاءت التقوى لوحدها، فإن البر يشمل الأوامر والنواهي، والتقوى تشمل الأوامر والنواهي، أي: أن الإنسان يتقي الله عز وجل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكذلك البر امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وقد جمع بينهما في قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].

فالخلاصة أن لفظ الإيمان والإسلام من جنس لفظ الفقير والمسكين، ومن جنس لفظ البر والتقوى إذا اجتمعا أو افترقا.

وأما مرتبة الإحسان فهي أكملها، وهي أعلى من الإيمان، وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فكما أنه لا يقال: كل مسلم مؤمن، فكذلك لا يقال: كل مؤمن محسن؛ لأن الإحسان أخص وأعلى من درجة الإيمان.

تراجم رجال إسناد حديث سعد بن أبي وقاص (يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال أو مسلم...)

قوله: [ حدثنا محمد بن عبيد ].

محمد بن عبيد يحتمل أن يكون محمد بن عبيد بن حساب ، ويحتمل أن يكون

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه.

حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلب لذي لب منكن! قالت: وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل: فشهادة امرأتين شهادة رجل، وأما نقصان الدين: فإن إحداكن تفطر رمضان، وتقيم أياماً لا تصلي) ].

قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]، وقد تقدم في باب رد الإرجاء، أن أهل السنة والجماعة يقولون بأن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن أهل السنة وسط بين المرجئة وبين المعتزلة والخوارج فيما يتعلق بأسماء الإيمان، والحكم في الآخرة، فهم فيما يتعلق بإطلاق اسم الإيمان وعدم إطلاقه وسط بين المرجئة الذين قالوا: إن كل المسلمين مؤمنون كاملو الإيمان، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا هو جانب التفريط والإهمال والضياع والانفلات من الأحكام الشرعية، ويقابل هذا التفريط إفراط، وهو أن مرتكب الكبيرة يكون كافراً، وهذا عند الخوارج، وأما عند المعتزلة فهو في منزلة بين المنزلتين، ويكون عندهما في الآخرة خالداً مخلداً في النار لا يخرج منها أبد الآباد، فسلبوا منه الإيمان بالكلية، فهذان طرفان متقابلان: تفريط وإفراط، تفريط المرجئة، وإفراط الخوارج والمعتزلة، وأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فعندهم أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً كامل الإيمان، وليس خارجاً من الإيمان كلية، وإنما هو مؤمن ناقص الإيمان، فقول أهل السنة: هو مؤمن، فارقوا به الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: ليس بمؤمن، وأنه قد خرج من الإيمان، فالخوارج قالوا: إنه دخل في الكفر، والمعتزلة قالوا: إنه في منزلة بين الإيمان والكفر، ولكنهم متفقون مع الخوارج في تخليده في النار أبد الآباد، وبقولهم: إنه ناقص الإيمان، فارقوا المرجئة الذين قالوا: إنه كامل الإيمان.

إذاً: فقول أهل السنة: مؤمن ناقص الإيمان، هاتان الكلمتان فيهما تحديد مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة، فلم يسلبوه مطلق الإيمان الذي هو أصله، ولم يعطوه الإيمان المطلق الذي هو الكمال، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، يحب على ما عنده من الإيمان، ويبغض على ما عنده من الفسق والعصيان، فيكون محبوباً باعتبار، ومبغوضاً باعتبار آخر.

ولا مانع من أن يجتمع في الشخص محبة وبغض، فتكون المحبة باعتبار، والبغض باعتبار، كما يقول الشاعر:

الشيب كره وكره أن أفارقه

فاعجب لشيء على البغضاء محبوب

فالشيب؛ إذا نظر إلى ما تقدمه وهو الشباب فليس مرغوباً فيه ولا محبوباً، ولكن إذا نظر إلى ما وراءه وهو الموت صار مرغوباً فيه ومحبوباً، ولا يراد مفارقته إلى ما بعده.

فأهل السنة والجماعة يقولون: إن مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه فلم يدخله النار وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار ولكنه لا يخلده فيها، بل يبقى فيها المدة التي شاء الله عز وجل أن يبقى فيها، ثم يخرجه ويدخله الجنة.

فالمعتزلة والخوراج غلبوا جانب الوعيد وأهملوا جانب الوعد، والمرجئة غلبوا جانب الوعد وأهملوا جانب الوعيد، وأما أهل السنة والجماعة فأخذوا بالوعد والوعيد جميعاً، ولهذا يأتي في القرآن كثيراً الجمع بين الوعد والوعيد؛ للترغيب والترهيب، فإذا جاء ذكر الترغيب فإنه يأتي بعده ذكر الترهيب، كقوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]، فهذا ترغيب وترهيب، وقوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [الأنعام:147]، فهذا ترغيب، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:147]، وهذا ترهيب، وقوله: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، وهذا ترغيب وترهيب، فأهل السنة والجماعة يأخذون بهذا وهذا، ويقول بعض العلماء: إن المسلم يسير إلى الله عز وجل بالخوف والرجاء، فيكون خائفاً راجياً، ويقول بعضهم: إن الخوف والرجاء للمسلم كالجناحين للطائر، فإذا كان الجناحان سليمين فإن الطيران بهما يكون سهلاً ميسوراً، وإذا اختل أحد الجناحين اختل الطيران.

فأهل السنة يجمعون بين الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء، فلا يأخذون بالبعض ويتركون البعض الآخر، وإنما يأخذون الجميع، وعلى هذا فهم وسط في أمور الدنيا، وفيما يتعلق بأحكام الإيمان والكفر، وهم أيضاً وسط في أحكام الآخرة.

قال الإمام أبي داود هنا: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]، ثم أورد جملة من الأحاديث على زيادة الإيمان ونقصانه، وقد قال الإمام البخاري رحمه الله: لقيت أكثر من ألف شيخ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو عند أهل السنة يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) أي: لذي عقل منكن، أي: من النساء، فوصفهن بأنهن ناقصات عقل ودين، ومحل الشاهد منه نقص الدين، فالإيمان يزيد وينقص، وفسر نقصان الدين هنا بأن المرأة يأتي عليها أيام لا تصلي ولا تصوم بسبب الحيض، وهذا -كما هو معلوم- ليس من قبلها، وليس الأمر في ذلك إليها، وإنما هذا شيء كتبه الله عليها، فهو بقضاء الله وقدره، وخلقه وإيجاده، والفرق بينهن وبين الرجال أن الرجال مستمرون في الصيام والصلاة، فعندهم إذاً زيادة في الأعمال في هذه المدة التي لا يصلي فيها النساء ولا يصمن، فيكون في ذلك زيادة ثواب عند الله عز وجل، فتكون الصلاة والصيام عند الرجال باستمرار، ولا يمنعهم من ذلك مانع إلا الأمور الطارئة التي تحصل للرجال والنساء، كالمرض وكالسفر، فهذا النقص يكون لأمر يرجع إلى الإنسان كفعل المعاصي، ويكون بشيء لا يرجع إليه كما جاء في هذا الحديث من كون النساء ناقصات عقل ودين، وسألته النساء عن ذلك فأخبر بأنه يأتي عليها أيام لا تصلي ولا تصوم بسبب الحيض، وأما نقصان العقل فإن شهادتها بشهادة نصف رجل كما جاء ذلك في القرآن فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282].

وهذه المسألة -وهي نقصان العقل في حق النساء- واحدة من خمس مسائل النساء فيهن على النصف من الرجال، فشهادة امرأتين بشهادة رجل، وكذلك الميراث لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، وكذلك في العقيقة؛ فالغلام يعق عنه بشاتين والجارية بشاة واحدة، وكذلك في العتق، (من اعتق عبداً كان فكاكه من النار، ومن اعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار)، والخامسة: الدية، فهذه خمس مسائل النساء فيهن على النصف من الرجال، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا إذا جاءت النصوص تفرق بينهما.




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2894 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2846 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2839 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2734 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2707 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2698 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2689 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2681 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2658 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2653 استماع