مجمل أصول أهل السنة - الإيمان


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وآله، ورضي الله عن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

يقول المؤلف حفظه الله تعالى: [ رابعاً: الإيمان:

أولاً: الإيمان لغة: التصديق، وفي الشرع: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فهو قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، فقول القلب اعتقاده وتصديقه، وقول اللسان إقراره، وعمل القلب تسليمه وإخلاصه وإذعانه وحبه وإرادته للأعمال الصالحة، وعمل الجوارح: فعل المأمورات وترك المنهيات ].

موضوع الإيمان من أهم المواضيع التي يجب أن يعنى بها كل مسلم؛ لأنه ينبني عليها دينه، والإيمان له مفهوم لغوي عام، وله مفهوم شرعي اصطلاحي، وهو المقصود بإطلاق الإيمان في الكتاب والسنة.

مفهوم الإيمان

لفظ الإيمان من الألفاظ المجملة التي إذا جاء الشرع بتحديدها أو بوصفها على هيئة معينة فإنه يجب التزام هذا الوصف كسائر المصطلحات الشرعية، لأن الأمر لا يخص الإيمان فقط، بل أكثر المصطلحات الشرعية جاء الشرع في التوسع بدلالتها أو بتحديدها، وذلك بوضع مصطلح شرعي إما أن يكون أوسع من المصطلح اللغوي أو يحدده.

مثال ذلك: الصلاة، فالصلاة لغة هي عموم الصلة، ويدخل فيها الدعاء، والتقرب إلى الله بأي عمل، ويدخل فيها كثير من الأعمال اللسانية والقلبية، وعمل الجوارح، وتسمى صلاة لغة، لكن حدد الشرع مفهوم الصلاة بركن الإسلام المعروف، فبين لنا في النصوص الشرعية لأنه يقصد بالصلاة هذه العبادة التي جاءت على هيئة معينة، بركوعها وسجودها ووقتها وشروطها وواجباتها.

إذاً: الشرع حدد معنى الصلاة، فمن هنا إذا أطلق معنى الصلاة في الدين فإنه يعني ركن الإسلام المعروف، الذي جاء الشرع بتحديد هيئته وشروطه.

وكذلك الإيمان له معنى لغوي عام، وهو: التصديق، لكن الشرع وضع للإيمان مفهوماً اصطلاحياً عظيماً يشمل الدين كله، فالإيمان في الشرع هو الدين بمجمله، كما قلنا: إن الإسلام هو الدين بمجمله، والسنة هي الدين بمجمله.

ولكن نظراً لأن مفهوم الدين وردت فيه مصطلحات شرعية، تترادف أحياناً وتختلف أحياناً في بعض معانيها، وتجتمع في أمور، وتختلف في أمور، فالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم سميا الدين الإسلام والإيمان .. إلى آخره.

فالإيمان بالمصطلح الشرعي هو اعتقادات وأقوال وأعمال حددها الشرع، وهذا يشمل عامة الدين.

والإيمان له تعريف موجز كما عبر عنه السلف وهو: قول وعمل.

وتعريف مفصل وهو: اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل الأركان والجوارح، والجوارح هي الأعضاء.

وليس بين التعريفين تعارض، بل الأول المجمل يعتبر تعريفاً حدياً أقرب أو أدق في المعنى اللغوي، لكن نظراً لأن اللغة ضعفت في أذهان الناس، اضطر السلف للتفصيل، وإلا فإن الإيمان في أصل تعريفه هو قول وعمل، والقول يشمل قول اللسان، وقول القلب؛ لأن القلب يعبر عن قوله باللسان.

كما أنه يشمل عمل القلوب الذي هو الأمور الإيمانية من التقوى والصلاح والاستقامة والإنابة والخوف والرجاء والمحبة، وكل هذا يسمى عمل القلب، وعمل القلب وعمل الجوارح هي الأعضاء التي تتمثل بأركان الإسلام الخمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنها قول اللسان وهي عمل اللسان، ثم الصلاة والزكاة والحج وسائر أعمال الإسلام هي إيمان، ومن هنا تدخل في جزء من حقيقة الإيمان، وهي أنها عمل.

وعلى هذا فحقيقة الإيمان الشرعية تشمل الأمرين: الأمور القلبية، والأمور العملية التي هي أعمال الجوارح كما جاء به الشرع، وعلى هذا فيمكن أن نحدد هذا المفهوم بلغة أبسط، وهي: أن الإيمان التزام شرع الله اعتقاداً وعملاً.

إذاً: الإيمان أدخل فيه الاعتقاد والأعمال وهما لا ينفكان، ولا يجوز حصر الإيمان في نوع واحد كالأمور الاعتقادية فقط؛ لأن هذا يخرج الأعمال التي هي جزء من الإيمان، ولا تحصر أيضاً في الأمور العملية؛ لأن هذا يخرج الأمور القلبية من الإيمان، فعلى هذا فالإيمان لا يكتمل تعريفه وحقيقته شرعاً إلا بأن نجمع بين الاعتقاد والقول والعمل.

ولذا فإن الإيمان يزيد وينقص، وهذه تسمى مسائل الإيمان؛ لأن الإيمان يتمثل بأركان هي أركان الإيمان الستة المعروفة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره من الله عز وجل، ويتمثل الإيمان كذلك بالأعمال التي هي أمور الإسلام.

وينقسم الإيمان من حيث حقيقته إلى: أركان الإيمان وإلى مسائل الإيمان، فأركان الإيمان هي الستة المعروفة، وأما مسائل الإيمان فهي: أولاً: أن الإيمان قول وعمل، أو أن الإيمان اعتقاد القلب، ونطق اللسان بالحق، وكذلك عمل الجوارح على مقتضى شرع الله.

ثانياً: أن الإيمان يزيد وينقص.

ثالثاً: أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان.

رابعاً: جواز الاستثناء في الإيمان؛ لأنه راجع إلى أعمال المكلفين، وأعمال المكلفين ليست معصومة، فالمسلم عندما يُسأل: هل أنت مؤمن؟ يجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، مع أنه لا يشرع السؤال أصلاً، ولا ينبغي الجواب أيضاً، لكن إذا ابتلي المؤمن بمثل هذا السؤال فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لا لأنه متشكك في تصديقه؛ لكن لأنه لا يدري عن مصيره، لأن المصير عند الله عز وجل، فهو يرجو ويعلق الأمر بمشيئة الله تفاؤلاً وتبركاً، ويعلق الأمر بمشيئة الله؛ لأن الأمر بيد الله من قبل ومن بعد، فلا يجوز التألي على الله.

دخول الأعمال في مسمى الإيمان

المسألة الثانية: أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وهذا في الحقيقة أمر بدهي، على مقتضى قطعيات النصوص، من الآيات وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأعمال الإسلام، وأعمال المسلمين كلها تدل دلالة قطعية على أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان لا يمكن أن يتم ويكتمل إلا بالأعمال.

وعلى هذا فإن هذه الحقيقة لم تكن محل خلاف في عهد الصحابة والتابعين إلى وقت تابعي التابعين نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني حين ظهرت فرقة يقال لها: المرجئة، وزعموا أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وإن كانت الأعمال مطلوبة منهم شرعاً، فالأوائل منهم كانوا أهل ورع، ولا يستهينون بالأعمال، لكنهم لا يرون أنها تدخل في مسمى الإيمان.

وهذه المقالة ناتجة عن عقدة فلسفية، وراجعة إلى خطأ في الاستدلال، وخطأ في الفهم أيضاً، وتجاوز منهج السلف، وحينما زعمت المرجئة بأن الإيمان هو التصديق، وأن التصديق لا يدخل فيه العمل، بمعنى أنهم أعادوا المصطلح الشرعي إلى المعنى اللغوي فقط، وما من أحد يحصر المصطلح الشرعي في المعنى اللغوي في أي أمر من أمور الشرع إلا ويقع في خطأ فادح، لأن الشرع جاء بإطلاق الألفاظ الشرعية على معانٍ شرعية محددة، ومنها الإيمان، ولو أخذنا الإيمان بمجرد معناه الذي هو التصديق، لأدى هذا إلى كارثة في الدين لأننا حصرنا الدين في مجرد التصديق وأخرجنا المعاني الأخرى من الإيمان، فاستهان الناس بالأعمال.

وعلى هذا فالسلف اضطروا إلى أن يقرروا هذه القاعدة مع أنها بدهية، لأن هناك من شكك فيها.

وأما الأدلة على ذلك فأنا أحصر هذا في دليلين:

الدليل الأول من القرآن: فإن الصحابة رضي الله عنهم لما صرفت القبلة إلى الكعبة بعد بيت المقدس، خاف الذين صلوا من المسلمين في التاريخ الأول وماتوا قبل أن يدركوا صرف القبلة ألا تقبل أعمالهم، ولا إيمانهم، ولا دينهم، فقال الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] يعني: صلاتكم، والصلاة عمل، وسماها الله عز وجل إيماناً.

أما الدليل الثاني: فهو دليلٌ قاطعٌ وواضحٌ جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم وصريح لا يستطيع أحد أن يرده وهو يدل على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: {الإيمان بضع وستون -وفي رواية: بضع وسبعون- شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله} وشهادة أن لا إله إلا الله هي قول وعمل يعني: عمل اللسان، وعمل القلب، ثم قال: {وأدناها إماطة الأذى عن الطريق} وإماطة الأذى عن الطريق عمل، وسماها إيماناً، وعدها من شعب الإيمان.

فالأحاديث في هذا الباب متواترة، وهي تقرر صراحةً بأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان بل لا تكاد تحصر، وتصل إلى حد التواتر، والمتواتر لابد من قبوله.

إذاً: الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأنها جزء من الدين، فالإيمان هو التزام شرع الله، عقيدة وقولاً وعملاً.

زيادة الإيمان ونقصانه

المسألة الثانية: أن الإيمان يزيد وينقص، فإذا قلنا: إن الأعمال من الإيمان، فمن الطبيعي أن الإيمان يزيد وينقص، فهو يزيد الإيمان بزيادة فعل الخيرات، وبزيادة التقرب إلى الله عز وجل، سواء بالأحوال القلبية، أو بالذكر اللساني، أو بأعمال الجوارح والأعضاء، كما يزيد بالصلوات، وبالنوافل، وبالإحسان إلى الناس وبالبر، ويزيد بزيادة الصيام، إلى آخر الأعمال المشروعة.

وينقص بنقص ذلك، كما ينقص نقصاً في الأعمال القلبية، فكلما ضعف إيمان الإنسان، وضعف يقينه ضعف إيمانه، وكلما ضعفت أحواله القلبية من المحبة والرجاء والخشية والتوكل والإنابة واليقين... ضعف الإيمان، وكلما زاد ذلك زاد الإيمان.

وكذلك الأعمال الظاهرة كلما كثر فعل الطاعات من المسلم زاد إيمانه إذا توفر عنده الإخلاص والاتباع؛ لأن زيادة الإيمان مشروطة بشرطين: الإخلاص لله عز وجل والنية الصالحة، واتباع السنة، وإلا فإن بعض الناس قد يتعب في عمل خيرات لا يريد بها وجه الله فيحبط إيمانه، بعكس ما يتصور، فعلى ذلك فإن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالأعمال القلبية وينقص بها، ويزيد بأعمال الأعضاء وينقص بها، فالإنسان إذا توفر عنده الإخلاص واتباع النبي صلى الله عليه وسلم واتباع السنة زاد إيمانه.

الاستثناء في الإيمان

المسألة الثالثة: يجوز الاستثناء في الإيمان، وهل يعني ذلك أن الإنسان يلزمه دائماً أن يقول: إن شاء الله في كل قربة يعملها؟ لا يلزمه، والأصل في الاستثناء في الإيمان وسؤال الناس عن الإيمان أنه من الأمور الحادثة، ولذلك فإن السلف لما بدأت ظاهرة سؤال الناس عن الإيمان اعتبروه بدعة؛ لأن هذه من الأمور المحدثة في الدين، والناس يتركون على ظواهرهم، ويحمل المؤمنون والمسلمون على مجملات الدين وعلى ما هم عليه، ولا يجوز امتحانهم، ولكن إذا وقع السؤال بأن سُئلت أو سئل غيرك: هل أنت مؤمن؟ فالأولى أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو تقول: آمنت بالله وعليه توكلت، ونحو ذلك.

فيجوز أن تقول: إن شاء الله، لكنها غير ملزمة، لكن يجب أن تعتقد أن حقيقة الإيمان مرتبطة بمشيئة الله عز وجل، وبتوفيق الله، فتحقق الإيمان في المؤمن راجع إلى توفيق الله له، فعلى هذا لابد أن يستثني، لا لأنه يشك، إنما يستثني لأنه لا يدري عن المصير؛ ولأنه يقول: إن شاء الله تفاؤلاً، واستعانة بالله، وتوكلاً على الله.

وقوله: (فقول القلب اعتقاده وتصديقه) ويضاف إلى ذلك جميع الأحوال القلبية التي يكون بها الإيمان، مثل: محبة الله ورجائه وخوفه واليقين والإنابة والتوكل، إلى غير ذلك من الأعمال القلبية. والاعتقاد بأن يجزم المسلم بكل ما ثبت في الكتاب والسنة من أصول الدين وثوابته وأحكامه، ويدخل في هذا القلب.

لكن لا بد أن يتعدى ذلك إلى قول اللسان، بأن يعترف الإنسان بلسانه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبمعاني الإيمان والإسلام، وأيضاً يلتزم شرع الله فيما يجب من الذكر اللساني، والذكر اللساني في الصلوات وغيرها، وفي التلبية بل لا يكاد يحصر الذكر اللساني، وكله تعبير عن الإيمان باللسان.

ثم قول اللسان يدخل فيه الإقرار، ويدخل فيه أيضاً الذكر، وعمل القلب كذلك تسليمه وإخلاصه، فمن عمل القلب: التسليم والرضا بشرع الله وحكمه، فهو داخل، بل هذا ثمرة الإيمان، التسليم والرضا والاستعداد للعمل أمر قلبي، لا بد أن تنتج عنه أعمال، ولذلك فإن الله عز وجل جعل العمل امتحاناً لحقيقة الدعوى قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]. فالاتباع هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به من الدين، ومحبة الله هي حقيقة الإيمان، وهي أول أركان العبادة، فمن ادعى أن حب الله هو مجرد دعوى في القلب، فلابد أن يظهر ذلك على أثر أعماله، ومن هنا يتبين لنا حقيقة الإيمان، وأنه قول وعمل، وأنه يدخل في أعمال القلب وأعمال الجوارح.

قوله: (وإخلاصه) أي: صدق النية مع الله، والإخلاص هو صدق التوجه إلى الله، وأن لا يشرك مع الله أحداً في التوجه، والإخلاص هو إخلاص العبادة، وإخلاص الإذعان، وإخلاص اليقين، وإخلاص النية؛ لأن النية تدخل في الأمور القلبية وأمور الأعمال، وكذلك حبه وإرادته للأعمال الصالحة.

وعمل الجوارح هي: أعضاء الإنسان ومنها القلب فهو يدخل مع الجوارح، لكن القلب قد يكون عمله باطنياً، بمعنى أعمال قلبية غير ظاهرة، لكن من البدهي أن الأعمال القلبية لا تصدق ولا تصح إلا إذا أثمرت أعمالاً، والتي هي مجموع الاستقامة على الدين.

فعمل الجوارح هو فعل المأمورات وترك المنهيات، فعل ما أمر الله به من الصلاة وما دونها من جميع الأعمال إلى أقل الأعمال، ثم ترك المنهيات، وهي كل المحرمات والمكروهات وما دون ذلك من المشتبهات.

لفظ الإيمان من الألفاظ المجملة التي إذا جاء الشرع بتحديدها أو بوصفها على هيئة معينة فإنه يجب التزام هذا الوصف كسائر المصطلحات الشرعية، لأن الأمر لا يخص الإيمان فقط، بل أكثر المصطلحات الشرعية جاء الشرع في التوسع بدلالتها أو بتحديدها، وذلك بوضع مصطلح شرعي إما أن يكون أوسع من المصطلح اللغوي أو يحدده.

مثال ذلك: الصلاة، فالصلاة لغة هي عموم الصلة، ويدخل فيها الدعاء، والتقرب إلى الله بأي عمل، ويدخل فيها كثير من الأعمال اللسانية والقلبية، وعمل الجوارح، وتسمى صلاة لغة، لكن حدد الشرع مفهوم الصلاة بركن الإسلام المعروف، فبين لنا في النصوص الشرعية لأنه يقصد بالصلاة هذه العبادة التي جاءت على هيئة معينة، بركوعها وسجودها ووقتها وشروطها وواجباتها.

إذاً: الشرع حدد معنى الصلاة، فمن هنا إذا أطلق معنى الصلاة في الدين فإنه يعني ركن الإسلام المعروف، الذي جاء الشرع بتحديد هيئته وشروطه.

وكذلك الإيمان له معنى لغوي عام، وهو: التصديق، لكن الشرع وضع للإيمان مفهوماً اصطلاحياً عظيماً يشمل الدين كله، فالإيمان في الشرع هو الدين بمجمله، كما قلنا: إن الإسلام هو الدين بمجمله، والسنة هي الدين بمجمله.

ولكن نظراً لأن مفهوم الدين وردت فيه مصطلحات شرعية، تترادف أحياناً وتختلف أحياناً في بعض معانيها، وتجتمع في أمور، وتختلف في أمور، فالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم سميا الدين الإسلام والإيمان .. إلى آخره.

فالإيمان بالمصطلح الشرعي هو اعتقادات وأقوال وأعمال حددها الشرع، وهذا يشمل عامة الدين.

والإيمان له تعريف موجز كما عبر عنه السلف وهو: قول وعمل.

وتعريف مفصل وهو: اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل الأركان والجوارح، والجوارح هي الأعضاء.

وليس بين التعريفين تعارض، بل الأول المجمل يعتبر تعريفاً حدياً أقرب أو أدق في المعنى اللغوي، لكن نظراً لأن اللغة ضعفت في أذهان الناس، اضطر السلف للتفصيل، وإلا فإن الإيمان في أصل تعريفه هو قول وعمل، والقول يشمل قول اللسان، وقول القلب؛ لأن القلب يعبر عن قوله باللسان.

كما أنه يشمل عمل القلوب الذي هو الأمور الإيمانية من التقوى والصلاح والاستقامة والإنابة والخوف والرجاء والمحبة، وكل هذا يسمى عمل القلب، وعمل القلب وعمل الجوارح هي الأعضاء التي تتمثل بأركان الإسلام الخمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنها قول اللسان وهي عمل اللسان، ثم الصلاة والزكاة والحج وسائر أعمال الإسلام هي إيمان، ومن هنا تدخل في جزء من حقيقة الإيمان، وهي أنها عمل.

وعلى هذا فحقيقة الإيمان الشرعية تشمل الأمرين: الأمور القلبية، والأمور العملية التي هي أعمال الجوارح كما جاء به الشرع، وعلى هذا فيمكن أن نحدد هذا المفهوم بلغة أبسط، وهي: أن الإيمان التزام شرع الله اعتقاداً وعملاً.

إذاً: الإيمان أدخل فيه الاعتقاد والأعمال وهما لا ينفكان، ولا يجوز حصر الإيمان في نوع واحد كالأمور الاعتقادية فقط؛ لأن هذا يخرج الأعمال التي هي جزء من الإيمان، ولا تحصر أيضاً في الأمور العملية؛ لأن هذا يخرج الأمور القلبية من الإيمان، فعلى هذا فالإيمان لا يكتمل تعريفه وحقيقته شرعاً إلا بأن نجمع بين الاعتقاد والقول والعمل.

ولذا فإن الإيمان يزيد وينقص، وهذه تسمى مسائل الإيمان؛ لأن الإيمان يتمثل بأركان هي أركان الإيمان الستة المعروفة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره من الله عز وجل، ويتمثل الإيمان كذلك بالأعمال التي هي أمور الإسلام.

وينقسم الإيمان من حيث حقيقته إلى: أركان الإيمان وإلى مسائل الإيمان، فأركان الإيمان هي الستة المعروفة، وأما مسائل الإيمان فهي: أولاً: أن الإيمان قول وعمل، أو أن الإيمان اعتقاد القلب، ونطق اللسان بالحق، وكذلك عمل الجوارح على مقتضى شرع الله.

ثانياً: أن الإيمان يزيد وينقص.

ثالثاً: أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان.

رابعاً: جواز الاستثناء في الإيمان؛ لأنه راجع إلى أعمال المكلفين، وأعمال المكلفين ليست معصومة، فالمسلم عندما يُسأل: هل أنت مؤمن؟ يجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، مع أنه لا يشرع السؤال أصلاً، ولا ينبغي الجواب أيضاً، لكن إذا ابتلي المؤمن بمثل هذا السؤال فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لا لأنه متشكك في تصديقه؛ لكن لأنه لا يدري عن مصيره، لأن المصير عند الله عز وجل، فهو يرجو ويعلق الأمر بمشيئة الله تفاؤلاً وتبركاً، ويعلق الأمر بمشيئة الله؛ لأن الأمر بيد الله من قبل ومن بعد، فلا يجوز التألي على الله.

المسألة الثانية: أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وهذا في الحقيقة أمر بدهي، على مقتضى قطعيات النصوص، من الآيات وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأعمال الإسلام، وأعمال المسلمين كلها تدل دلالة قطعية على أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان لا يمكن أن يتم ويكتمل إلا بالأعمال.

وعلى هذا فإن هذه الحقيقة لم تكن محل خلاف في عهد الصحابة والتابعين إلى وقت تابعي التابعين نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني حين ظهرت فرقة يقال لها: المرجئة، وزعموا أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وإن كانت الأعمال مطلوبة منهم شرعاً، فالأوائل منهم كانوا أهل ورع، ولا يستهينون بالأعمال، لكنهم لا يرون أنها تدخل في مسمى الإيمان.

وهذه المقالة ناتجة عن عقدة فلسفية، وراجعة إلى خطأ في الاستدلال، وخطأ في الفهم أيضاً، وتجاوز منهج السلف، وحينما زعمت المرجئة بأن الإيمان هو التصديق، وأن التصديق لا يدخل فيه العمل، بمعنى أنهم أعادوا المصطلح الشرعي إلى المعنى اللغوي فقط، وما من أحد يحصر المصطلح الشرعي في المعنى اللغوي في أي أمر من أمور الشرع إلا ويقع في خطأ فادح، لأن الشرع جاء بإطلاق الألفاظ الشرعية على معانٍ شرعية محددة، ومنها الإيمان، ولو أخذنا الإيمان بمجرد معناه الذي هو التصديق، لأدى هذا إلى كارثة في الدين لأننا حصرنا الدين في مجرد التصديق وأخرجنا المعاني الأخرى من الإيمان، فاستهان الناس بالأعمال.

وعلى هذا فالسلف اضطروا إلى أن يقرروا هذه القاعدة مع أنها بدهية، لأن هناك من شكك فيها.

وأما الأدلة على ذلك فأنا أحصر هذا في دليلين:

الدليل الأول من القرآن: فإن الصحابة رضي الله عنهم لما صرفت القبلة إلى الكعبة بعد بيت المقدس، خاف الذين صلوا من المسلمين في التاريخ الأول وماتوا قبل أن يدركوا صرف القبلة ألا تقبل أعمالهم، ولا إيمانهم، ولا دينهم، فقال الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] يعني: صلاتكم، والصلاة عمل، وسماها الله عز وجل إيماناً.

أما الدليل الثاني: فهو دليلٌ قاطعٌ وواضحٌ جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم وصريح لا يستطيع أحد أن يرده وهو يدل على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: {الإيمان بضع وستون -وفي رواية: بضع وسبعون- شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله} وشهادة أن لا إله إلا الله هي قول وعمل يعني: عمل اللسان، وعمل القلب، ثم قال: {وأدناها إماطة الأذى عن الطريق} وإماطة الأذى عن الطريق عمل، وسماها إيماناً، وعدها من شعب الإيمان.

فالأحاديث في هذا الباب متواترة، وهي تقرر صراحةً بأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان بل لا تكاد تحصر، وتصل إلى حد التواتر، والمتواتر لابد من قبوله.

إذاً: الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأنها جزء من الدين، فالإيمان هو التزام شرع الله، عقيدة وقولاً وعملاً.

المسألة الثانية: أن الإيمان يزيد وينقص، فإذا قلنا: إن الأعمال من الإيمان، فمن الطبيعي أن الإيمان يزيد وينقص، فهو يزيد الإيمان بزيادة فعل الخيرات، وبزيادة التقرب إلى الله عز وجل، سواء بالأحوال القلبية، أو بالذكر اللساني، أو بأعمال الجوارح والأعضاء، كما يزيد بالصلوات، وبالنوافل، وبالإحسان إلى الناس وبالبر، ويزيد بزيادة الصيام، إلى آخر الأعمال المشروعة.

وينقص بنقص ذلك، كما ينقص نقصاً في الأعمال القلبية، فكلما ضعف إيمان الإنسان، وضعف يقينه ضعف إيمانه، وكلما ضعفت أحواله القلبية من المحبة والرجاء والخشية والتوكل والإنابة واليقين... ضعف الإيمان، وكلما زاد ذلك زاد الإيمان.

وكذلك الأعمال الظاهرة كلما كثر فعل الطاعات من المسلم زاد إيمانه إذا توفر عنده الإخلاص والاتباع؛ لأن زيادة الإيمان مشروطة بشرطين: الإخلاص لله عز وجل والنية الصالحة، واتباع السنة، وإلا فإن بعض الناس قد يتعب في عمل خيرات لا يريد بها وجه الله فيحبط إيمانه، بعكس ما يتصور، فعلى ذلك فإن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالأعمال القلبية وينقص بها، ويزيد بأعمال الأعضاء وينقص بها، فالإنسان إذا توفر عنده الإخلاص واتباع النبي صلى الله عليه وسلم واتباع السنة زاد إيمانه.

المسألة الثالثة: يجوز الاستثناء في الإيمان، وهل يعني ذلك أن الإنسان يلزمه دائماً أن يقول: إن شاء الله في كل قربة يعملها؟ لا يلزمه، والأصل في الاستثناء في الإيمان وسؤال الناس عن الإيمان أنه من الأمور الحادثة، ولذلك فإن السلف لما بدأت ظاهرة سؤال الناس عن الإيمان اعتبروه بدعة؛ لأن هذه من الأمور المحدثة في الدين، والناس يتركون على ظواهرهم، ويحمل المؤمنون والمسلمون على مجملات الدين وعلى ما هم عليه، ولا يجوز امتحانهم، ولكن إذا وقع السؤال بأن سُئلت أو سئل غيرك: هل أنت مؤمن؟ فالأولى أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو تقول: آمنت بالله وعليه توكلت، ونحو ذلك.

فيجوز أن تقول: إن شاء الله، لكنها غير ملزمة، لكن يجب أن تعتقد أن حقيقة الإيمان مرتبطة بمشيئة الله عز وجل، وبتوفيق الله، فتحقق الإيمان في المؤمن راجع إلى توفيق الله له، فعلى هذا لابد أن يستثني، لا لأنه يشك، إنما يستثني لأنه لا يدري عن المصير؛ ولأنه يقول: إن شاء الله تفاؤلاً، واستعانة بالله، وتوكلاً على الله.

وقوله: (فقول القلب اعتقاده وتصديقه) ويضاف إلى ذلك جميع الأحوال القلبية التي يكون بها الإيمان، مثل: محبة الله ورجائه وخوفه واليقين والإنابة والتوكل، إلى غير ذلك من الأعمال القلبية. والاعتقاد بأن يجزم المسلم بكل ما ثبت في الكتاب والسنة من أصول الدين وثوابته وأحكامه، ويدخل في هذا القلب.

لكن لا بد أن يتعدى ذلك إلى قول اللسان، بأن يعترف الإنسان بلسانه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبمعاني الإيمان والإسلام، وأيضاً يلتزم شرع الله فيما يجب من الذكر اللساني، والذكر اللساني في الصلوات وغيرها، وفي التلبية بل لا يكاد يحصر الذكر اللساني، وكله تعبير عن الإيمان باللسان.

ثم قول اللسان يدخل فيه الإقرار، ويدخل فيه أيضاً الذكر، وعمل القلب كذلك تسليمه وإخلاصه، فمن عمل القلب: التسليم والرضا بشرع الله وحكمه، فهو داخل، بل هذا ثمرة الإيمان، التسليم والرضا والاستعداد للعمل أمر قلبي، لا بد أن تنتج عنه أعمال، ولذلك فإن الله عز وجل جعل العمل امتحاناً لحقيقة الدعوى قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]. فالاتباع هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به من الدين، ومحبة الله هي حقيقة الإيمان، وهي أول أركان العبادة، فمن ادعى أن حب الله هو مجرد دعوى في القلب، فلابد أن يظهر ذلك على أثر أعماله، ومن هنا يتبين لنا حقيقة الإيمان، وأنه قول وعمل، وأنه يدخل في أعمال القلب وأعمال الجوارح.

قوله: (وإخلاصه) أي: صدق النية مع الله، والإخلاص هو صدق التوجه إلى الله، وأن لا يشرك مع الله أحداً في التوجه، والإخلاص هو إخلاص العبادة، وإخلاص الإذعان، وإخلاص اليقين، وإخلاص النية؛ لأن النية تدخل في الأمور القلبية وأمور الأعمال، وكذلك حبه وإرادته للأعمال الصالحة.

وعمل الجوارح هي: أعضاء الإنسان ومنها القلب فهو يدخل مع الجوارح، لكن القلب قد يكون عمله باطنياً، بمعنى أعمال قلبية غير ظاهرة، لكن من البدهي أن الأعمال القلبية لا تصدق ولا تصح إلا إذا أثمرت أعمالاً، والتي هي مجموع الاستقامة على الدين.

فعمل الجوارح هو فعل المأمورات وترك المنهيات، فعل ما أمر الله به من الصلاة وما دونها من جميع الأعمال إلى أقل الأعمال، ثم ترك المنهيات، وهي كل المحرمات والمكروهات وما دون ذلك من المشتبهات.