مجمل أصول أهل السنة - توحيد الأسماء والصفات


الحلقة مفرغة

الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وآله، ورضي الله عن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

فموضوع الإيمان يعتبر هو تاج العقيدة، وقمة مباحث العقيدة وموضوعاتها؛ لأنه يتعلق بالله عز وجل .. بأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا شك أن غاية التوحيد هو معرفة الله عز وجل وعبادته والتوجه إليه، وهذا يسمى التوحيد العلمي الاعتقادي، توحيد الله عز وجل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وما يجب له سبحانه، ويسمى التوحيد العلمي؛ لأنه علم يتلقى عن الوحي المعصوم، ويسمى الاعتقادي؛ لأنه يجب أن يعتقد، ولا يجوز لمسلم أن يخل بما يجب لله عز وجل على جهة الإجمال، وما يبلغه أيضاً على جهة التفصيل.

وهذا التوحيد العلمي الاعتقادي أوله ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم ما يترتب على ذلك من ثمرات في قلب المؤمن وسلوكه.

وهناك بعض القواعد المهمة المفيدة التي ينبغي أن يستصحبها كل مسلم في قلبه وعقله وفي نظراته تجاه حقوق الله عز وجل وما يجب له، وتجاه أمور الدين ومسلمات الدين..

وأهم هذه القواعد في باب أسماء الله وصفاته وأفعاله الآتي:

أولاً: أن أسماء الله وصفاته وأفعاله حسنى بالغة الحسن، بالغة الكمال والجمال، فالله عز وجل موصوف بصفات الكمال وبصفات الجمال جملة وتفصيلاً، فجميع أسمائه وصفاته وأفعاله حسنى، كما قال عز وجل: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] فكلها حسنى بإطلاق، وتشتمل على كل معاني الحسن والكمال والجمال.

ثانياً: أنها غاية الكمال في كل شيء.. في معانيها، وفي ألفاظها، وفي حقائقها، وفي ثمارها، وفي غاياتها.

ثالثاً: أنه لا يرد إليها النقص بوجه، أي: أن أسماء الله وصفاته وأفعاله لا يمكن أن يرد فيها ولا إليها ولا حولها لا في الذهن الصافي ولا في قلب المؤمن، لا يمكن أن يرد فيها شيء من تصور النقص في أسماء الله وصفاته وأفعاله.

رابعاً: أنها حقائق وأعلام وأوصاف، حقائق بمعنى أنه يوصف الله بها على الحقيقة، فالأسماء يسمى بها الله عز وجل على الحقيقة، والصفات يوصف الله بها على الحقيقة، والأفعال أيضاً منسوبة إلى الله عز وجل على الحقيقة على ما يليق بجلال الله سبحانه؛ لأن مفهوم الحقيقة قد يتبادر في أذهان بعض الناس أن المقصود بالحقيقة الكيفية، وهذا لا شك أنه منفي؛ لأن الله عز وجل ليس كمثله شيء، لكنه موصوف بالحق، فهو الحق، وأسماؤه حق، وصفاته حق، وأفعاله حق، وعلى هذا فإنها أعلام أي: أنها تطلق على الله، وهو سبحانه علم معروف بآياته وبنعمه وبجميع أنواع المعارف، فإنه عز وجل لا يخفى أمره على أحد، ولذلك قرر الله عز وجل هذه القاعدة لجميع العقلاء يقول: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم:10] فإذا كان كذلك فهو مسمى بأسماء هي أعلام على ذاته، وإن كانت هذه الأسماء تدل على صفات وأفعال، وتدل على معاني الكمال، فهي كذلك أوصاف من حيث مضامينها ومعانيها وحقائقها، فأسماء الله وصفاته حقائق لا مجازات، وهي حقائق لا رموز.

خامساً: أنها توقيفية: فأسماء الله وصفاته وأفعاله على جهة التفصيل موقوفة على ما جاء به النص، فالعقول السليمة والفطر المستقيمة تدرك كثيراً من الكمالات لله على جهة الإجمال، فوجود الله وعظمته وكماله سبحانه، واتصافه بصفات الكمال، وأيضاً إدراك علمه وحكمته وسائر الصفات والمعاني الإجمالية تدرك أكثرها لله عز وجل على جهة التفصيل ولا يمكن إدراك ما يليق بجلال الله عز وجل إلا بما جاء به النص، وعلى هذا فهي توقيفية.

سادساً: أن أسماء الله وصفاته وأفعاله غير محصورة، لأن له الكمال المطلق، ولكن جاءنا بخبر القرآن والسنة عن أسماء الله وصفاته بما يناسب أحوالنا ومداركنا، ولا يعني ذلك أن أسماء الله محصورة بما ورد، وحتى ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (أن لله تسعة وتسعين اسماً) لا يعني ذلك الحصر، إنما يعني ذلك ما يمكن أن يرد إلى مدارك عقول الناس وبتعبيرات وباللسان الذي خاطب الله به البشر، ولذلك فإن أسماء الله لا حصر لها، وكذلك صفاته وأفعاله، لأنه موصوف بالكمال، والكمال لا ينتهي.

وأيضاً فإن ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في نصوص كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه حينما يدعو ربه يقول: (أدعوه بمحامد يلهمني الله إياها) يلهمه من جديد، كذلك الدعاء الآخر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فعلى هذا فإن الله استأثر في علم الغيب عنده، أي: حجبه عنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ومحامده وكماله ما لا يحصى.

هذه بعض القواعد وأهمها والتي ينبغي استحضارها في هذا المقام.

والآن نبدأ بالأصول المتعلقة بتوحيد الله عز وجل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.

أن الأصل في إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل هو إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك من غير تمثيل، والتمثيل يأتي بمعنى التشبيه والتجسيم وغيرها من المعاني التي تقتضي المماثلة، فالله عز وجل تثبت له الأسماء والصفات والأفعال الواردة في الكتاب والسنة من غير أن يمثل ذلك بالخلق، أو يمثل الخلق بالله، فلا يجوز تمثيل الله بخلقه لا جزئياً ولا كلياً، ولا يجوز تمثيل أحد من الخلق بالله، فالتمثيل والتشبيه ممنوع من الطرفين، فلا يشبه الله شيئاً من خلقه ولا شيء من الخلق يشبه الله في الإجمال والتفصيل.

ثم الإثبات يكون من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير أن ننفي عن الله عز وجل الحقائق اللائقة به، بل يجب الإثبات على ما جاء في الكتاب والسنة، وأن ما نثبته لله عز وجل من ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله حق على حقيقته على ما يليق بجلال الله، ولا يجوز أن يقال: هذا مجاز، ولا يؤول ولا يصرف عن معانيه، ولا يقال: إنه يقتضي التشبيه، أو لا بد فيه من قياس.. كل هذا لا يجوز إطلاقاً لأنه غيب، ولأن ما ورد من أسماء الله وصفاته هو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ولذلك جاءت هذه القاعدة في كتاب الله عز وجل بكلمات معدودات، يجب على كل مسلم أن يستحضرها ويجعلها ميزاناً في قلبه، وهي قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

(( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) فلا يماثله شيء من مخلوقاته، ولا هو يماثل شيئاً من مخلوقاته، لا في الجملة ولا التفصيل، لا في العموم ولا في المفردات، ومع ذلك فهو السميع البصير، ولعل من حكمة الله عز وجل حين بدأ بنفي التمثيل قبل الإثبات ليستقر في عقل المسلم وقلبه نفي المشابهة أصلاً قبل أن يثبت، فالمؤمن إذا استحضر أن الله ليس كمثله شيء ثم وردت إليه أسماء الله وصفاته، فإنه قد ثبت في قلبه وعقله القاعدة في أن الله لا يماثله شيء مطلقاً..

فمن هنا تسلم عقيدته وتسلم ذمته ولا يتكلم عن الله بغير علم، كل ذلك مع الإيمان بمعاني ألفاظ النصوص الواردة في الكتاب والسنة وهي حقائق لها معانٍ، وهذه المعاني حق فيما يجب لله عز وجل وما يمكن أن تفسر بمعانٍ تخرج عن مقتضى الحقيقة اللائقة بالله عز وجل، وكل من حاول الخروج عن إثبات الحقيقة وقع في الهلكة والزيغ، وهذا ما حذر الله منه في قوله عز وجل: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، ولذلك ادعى كثير من المبطلين بأن أسماء الله وصفاته وأفعاله من المتشابه نعوذ بالله، كيف تكون من المتشابه! وهي حق بيّن وواضح كالشمس، لكنه اشتبه على أهل الفتنة وعلى أهل الزيغ، فظنوا أنه من المتشابه.

إذاً: أسماء الله وصفاته وأفعاله ليست من المتشابه بل هي من المحكم البيّن ولها معانٍ وحقائق، لكنها تثبت على ما يليق بجلال الله، وما ينبغي لله من الكمال مع نفي المشابهة والتمثيل.

الأصل الثاني: أن التمثيل والتعطيل في أسماء الله وصفاته زيغ وضلال، بل هو كفر، فمن اعتقد أن الله مثل خلقه، أو اعتقد أن أحداً من الخلق مثل الله فهذا كفر وزيغ وضلال، كما يكون من تأويلات الباطنية، وقد يكون بعض التأويلات التي وقع فيها بعض أهل الكلام الذين أولوا بعض أسماء الله وصفاته وأفعاله، إذا ما قصدوا بالتأويل إنكار حقائق أسماء الله وصفاته فهذا يكون من البدع والضلالات، كتأويلات نفاة الصفات من أهل الكلام، ومن ذلك ما يقع خطأ، وقد وقع من بعض أفراد السلف وأئمة السنة تأويلات غير مقصودة وليست منهجاً لهم، إنما هي زلات، فهذه صاحبها لا يكفّر ولا يضلل لكنه يرد إليه خطأه وهو من باب زلات العلماء.

فإذا قلنا: إن التمثيل الخالص والتعطيل الخالص في أسماء الله وصفاته وأفعاله يعتبر كفراً وزيغاً وإلحاداً فما هو التمثيل الممنوع؟

التمثيل: هو تشبيه الله بالخلق أو تشبيه الخلق بالله، تشبيهاً يؤدي إلى أن يعتقد المشبّه أن الله مثل خلقه، أو أن الخلق أو بعض الخلق مثل الله.

أما مسألة وجود التشابه اللفظي فهذه أشكلت على كثير من قليلي الفقه في الدين، الذين يجهلون عقائد السلف وفقههم حيث ظنوا أن مجرد المشابهة اللفظية الموجودة في أسماء الله وصفاته وموجودة أيضاً في بعض صفات الخلق تعني التمثيل، فهرب بعضهم إلى الإنكار زعماً منهم أن الإثبات يقتضي المماثلة وهذا خطأ، لأن التشابه اللفظي لا يعني التشابه في الحقيقة، فمثلاً: الله عز وجل هو الحي، والمخلوق الذي فيه روح يسمى الحي، وهذا تشابه لفظي، فالله عز وجل موصوف بالحياة والإنسان والحيوان الحي موصوف بالحياة، وليست الحياة مثل الحياة، فحياة الله كاملة لا يعتريها فناء ولا محدودية ولا نهاية، وحياة المخلوق لها بداية ونهاية.

إذاً التشابه اللفظي لا يعني وجود المشابهة التي هي التمثيل الممنوع شرعاً، وكذلك في سائر أسماء الله وصفاته والتي يوجد ما يوصف بها الخلق أو موجودة في بعض الخلق، فإن هذا التشابه اللفظي نسبي، وهو في حق الله كمال، وفي حق المخلوق نقص؛ لأنه لا يمكن أن يكون مخلوقاً له صفة كمال، لأن الكمال إنما هو خاص بالله عز وجل.

أما التعطيل فالمقصود به تفريغ ألفاظ أسماء الله وصفاته وأفعاله عن معانيها، وهذا التفريغ يكون بإنكار حقائقها كما فعل كثير من الفلاسفة والجهمية وغيرهم أو يكون أحياناً بإخراجها عن معانيها إلى معانٍ متأولة ومتوهمة وهذا يسمى التحريف ويسمى التأويل.. وكله يعود إلى التعطيل، فتعطيل الشيء هو تفريغه، فتفريغ ألفاظ أسماء الله وصفاته وأفعاله من معانيها الحقيقية، أو الخروج عليها عن حقائقها يعتبر تعطيلاً، لكن إن كان تعطيلاً كاملاً فهو إلحاد، وإن كان تأويلاً فهو من كبائر الذنوب ومن البدع.

ثم هناك أصل ثالث يتفرع عن هذين الأصلين، وهو: أن الله عز وجل غير الخلق، فلا يمكن أن يكون بينه وبين الخلق مشابهة ولا مماثلة ولا اندماج ولا اتحاد ولا حلول، فعلى هذا لا يجوز اعتقاد أن الوجود واحد، أو أن الخالق والمخلوق ممتزجان أو متحدان أو حال أحدهما في الآخر، بل هذا إلحاد وانتقاص لله عز وجل؛ لأن الله سبحانه غني عن الخلق، وهو مستوٍ على عرشه علي على المخلوقات جميعاً، وهو بذاته سبحانه متفرد بالكمال.. متفرد بالأسماء والصفات والأفعال، لا يخالط أحداً من خلقه ولا يخالطه أحد من خلقه، وليس في خصائص الرب ما هو موجود في أحد من الخلق، لا في مفردات الخلق ولا في جميع الخلق، فعلى هذا فإن اعتقاد وحدة الوجود وأن الوجود خالقه ومخلوقه واحد، هذا من أعظم الكفر، ومثله اعتقاد حلول الله في الخلق أو حلول الخلق في الله، أو اعتقاد أن روح الله أو روحاً من الله حلت في أحد من الخلق، كل ذلك يعتبر إساءة مع الله وهو من الكفر؛ لأن الله منفرد، فهو الفرد الصمد، وهو سبحانه لا يمكن أن يختلط بمخلوقاته ولا تختلط به مخلوقاته، كذلك الاتحاد ونحو ذلك من المعاني؛ لأن أصحاب هذا الفكر الضال قد يعبرون عنه بتعبيرات كثيرة، مثل: اتحاد، وحدة الوجود، الحلول، إلى آخره.. هذه معانٍ قد تختلف في بعض تفسيراتها لكنها تجتمع في معنى باطل وهو اعتقاد أن الله عز وجل قد يحل في شيء من الخلق أو يحل فيه شيء من الخلق.

ثم بعد ذلك تأتي قاعدة متعلقة بالركن الثاني من أركان الإيمان، والإيمان أمر خبري علمي.

الإيمان بالملائكة إجمالاً وتفصيلاً بحسب ما جاء في النصوص، فيجب على كل مسلم أن يؤمن إيماناً جازماً بأن هناك خلقاً من مخلوقات الله، اسمها الملائكة على جهة الإجمال، ثم ما ورد من اسم ملك أو وصفه أو عمله أو جنسه أو نوعه يجب أن نؤمن به، فما ورد في القرآن أو السنة فلا بد من الإيمان به في حق الملائكة جملة وتفصيلاً وفي أخبارهم وأحوالهم كله يجب الإيمان به.

فالملائكة خلق من خلق الله، لهم وجود حقيقي وهم عقلاء، عباد لله عز وجل مسخرون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لكنهم غير مبتلين بالابتلاء الذي يبتلى به الجن والإنس، فهم خُلقوا للطاعة، ولذلك كانوا كراماً.

وما صح به الدليل لا بد من الإيمان به من أسمائهم، فممن وردت لنا أسماؤهم مثلاً: جبريل وهو ملك الوحي، وميكائيل وإسرافيل ومالك ورضوان وهاروت وماروت، وأيضاً ورد أن لهم أعمالاً مجملة وأعمالاً خاصة، فمنهم: حملة العرش، وهم من أعظم الملائكة خلقاً وعملاً، ومنهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وملائكة الوحي والمطر ومنهم الكرام الكاتبين الذين يصاحبون كل إنسان ويتعاقبونه، فكل إنسان موكل به أربعة ملائكة إلى أن يموت، اثنان في المساء واثنان في الصباح، وكذلك لهم أوصاف تعمهم وأوصاف تخصهم فهم ذوا أجنحة مثنى وثلاث ورباع وأكثر من ذلك، ولهم مشاركات للمؤمنين يشاركونهم في الجهاد، ويشاركونهم بحضور مجالس الذكر، وهم يحبون المؤمنين ويسددونهم بإذن الله، ويحفظونهم بأمر الله، وهؤلاء الملائكة لهم حقوق يجب أن يراعيها المسلم، ومن ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل ما يؤذي الملائكة خاصة في المساجد كالثوم والبصل والكراث، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم، فهذه الحقوق والرعاية، يجب دائماً أن يستحضرها المسلم، كما يستحضر أيضاً رقابة الله له، وليعلم أن الله رقيب عليه، وهذا معنى الإحسان الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، وهو: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ومن حكمة الله عز وجل أن جعل معنا من المخلوقات رقباء من أهل الفضل والكرم لهم حق وهم في منتهى العبادة والخضوع والذل والعبودية لله تعالى، فيجب أن يستحي منهم الإنسان، ولذلك ورد في وصف عثمان رضي الله عنه أنه تستحيي منه الملائكة؛ لأنه حيي، فتبادلت معه الملائكة هذا الشعور، وكذلك يجب على كل مسلم أن يراعي حضور هؤلاء الكرام.

الأصل الثالث: الإيمان بالكتب المنزلة، وهي الكتب التي أنزلها الله على الأمم بواسطة الرسل والأنبياء، والتي شرع الله فيها الدين والعقيدة والشرائع لكل أمة، وجعل هذه الكتب مرجعاً لتحكيم شرع الله عز وجل وتحقيق رضاه والسعادة للبشرية في الدنيا والآخرة.

وهذه الكتب المنزلة منها ما سمي وذكر لنا، فيجب أن نؤمن أنه حق قبل التحريف، مثل: التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم ونحوها مما ورد في النصوص، وهذه الكتب حق وتضمنت عقيدة صافية وشرائع لكل أمة بحسب ما شرع الله لها من مصالحها، وهذه الكتب كانت سليمة ثم دخلها التحريف والتبديل، ولذلك نسخها الله عز وجل بالقرآن، والكتب الباقية منها كالتوراة والإنجيل لا تزال تشتمل على شيء من الحق، ولذلك لا ترد رداً كلياً إنما تُعرض على ما جاء في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فما وافق الحق فهو حق، وما لم يوافق الحق فهو باطل مما أدخله المحرّفون، وعلى هذا فهذه الكتب نحترمها بأصلها، لكن حينما حُرّفت وبُدّلت، نسخها الله عز وجل وجعل القرآن هو المهيمن والناسخ لها، والقرآن هو أفضلها وأشملها وما قبله طرأ عليه التحريف، ولذلك يجب اتباعه دون ما سبقه من الكتب.

وإن اشتملت هذه الكتب على الحق إلا أن الحق الذي فيها جاء وافياً في كتاب ربنا وفي سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ونظراً لأنه اختلط الحق فيها بالباطل فإن الرجوع إليها يلتبس على المسلم، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم نهياً جازماً قاطعاً حازماً عن أن نجعل هذه الكتب مرجعاً نرجع إليه في ديننا أو في مصالحنا.

ويعني ذلك ما قيل في الملائكة والكتب، وهو أن نؤمن بأن الله عز وجل بعث رسلاً وأنبياءً أقام بهم الحجة على الخلق، وأنهم معصومون وهم أفضل البشر على الإطلاق، وأنهم صلوات الله وسلامه عليهم بلغوا الأمانة وأدوا الرسالة ونصحوا الأمة، وأن منهم عدداً كبيراً ورد في بعض الآثار التي تصل إلى درجة الحسن أن عددهم (124ألفاً)، وأن عدد المرسلين ثلاثمائة وبضعة عشر، وهذا يدل على أن الرسل هم خاصة الأنبياء، وهم أفضل من الأنبياء، وأن الأنبياء في الغالب تبع للرسل وهذا في الجملة، وأفضل الرسل والنبيين هم أولو العزم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الرسل يجب في حقهم الاحترام والتقدير ويجب حماية جنابهم من أن يقدح بهم أو أن يلمزوا أو يتنقص من قدر أحد منهم، فنؤمن بهم جميعاً ولا نفاضل بينهم المفاضلة التي تؤدي إلى العصبية لكنا نعلم قطعاً أنهم يتفاضلون، فأفضلهم جملة أولو العزم من الرسل، وأفضلهم على سبيل الإفراد هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو أفضل الخلق على الإطلاق، ولذلك آتاه الله ما لم يؤتِ أحداً من العالمين، وهو صاحب المقام المحمود في القيامة، والشفاعة العظمى التي لا يمكن أن يحظى بها غيره.

ثم نأخذ جهة الإجمال والتفصيل، فكل ما صح عن أخبار هؤلاء الأنبياء وأوصافهم وأحوالهم فإنه يجب الإيمان به، وكذلك من جاء اسمه أو وصفه بمفرده يجب الإيمان به إذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يبقى الإيمان بسائرهم إجمالاً ولا يجوز أن نشك في نبوة أحد منهم.

وهنا أحب أن أنبّه إلى بدعة وضلالة وقع فيها الكثير خاصة أصحاب النزعة العقلانية الفلسفية الذين يستكبرون ويتعالون عن النبوة والأنبياء، ولديهم شيء من الاغترار بعقولهم في مجال تقرير الدين والغيبيات، ويزعمون أن عيسى عليه السلام ليس نبياً إنما هو داعية مصلح ومجدد لدين موسى، وهو كذلك ولكن لا يعني ذلك أنه ليس بنبي، بل هو من أولي العزم من الرسل، وله من الخصائص ما ليس لغيره أيضاً، وقد خص الله عيسى عليه السلام بخصائص ليست في غيره، لكن هذه الخصائص لا تجعله أفضل النبيين، فإنها خصائص في خصال محدودة معلومة.

وهناك قاعدة أخرى وهي تبع للإيمان بالأنبياء والكتب وهي: الإيمان بأن الوحي قد انقطع بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ادعى أنه ينزل إليه وحي أو يأتيه شيء بمقام الوحي فيحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله، أو يشرّع عقيدة أو عبادة أو نحو ذلك من أمور الدين بدعوى أنه بمنزلة الوحي.. كل ذلك من الضلال، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، واعتقاد خلاف ذلك ضلال مبين وخروج من الإسلام.

الإيمان بكل ما صح عن اليوم الآخر جملة وتفصيلاً، ومن ذلك أشراط الساعة التي تسبق اليوم الآخر، كـالدجال ، والمهدي المنتظر ، وخروج الشمس من مغربها، والخسوفات الثلاثة، ونزول عيسى عليه السلام، والملاحم التي تحدث مما ورد في الأخبار.. كل ذلك يجب الإيمان به؛ لأنه بداية اليوم الآخر وهو إيذان بنهاية الدنيا، وكذلك ما ورد في اليوم الآخر ابتداءً من الموت، والقبر وأحواله، عذابه ونعيمه، والحياة تسمى الحياة البرزخية، الحياة وتفاصيلها التي وردت في الكتاب والسنة قبل البعث كلها جزء من اليوم الآخر فيجب الإيمان بها كما ثبتت، ثم البعث والنشور والحشر، والصحف، والصراط، والميزان، والحوض وغير ذلك مما ثبت به الشرع.. يجب الإيمان به حقيقة، وأنه حق كما ورد، ولا يجوز تأويله ولا تحريفه عن معانيه.

كذلك يدخل في هذا: الإيمان بالجنة وبنعيمها وما ورد فيها بالتفصيل، وأعظم النعيم فيها رؤية المؤمنين لربهم في الجنة بأعيانهم، نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بذلك في الجنة.

كذلك اليقين بعذاب النار وما ورد فيه من تفاصيل.

ما أكثر الذين زلّوا في القدر، إما من باب الوساوس والأوهام أو العقائد الباطلة أو تقليد الأمم فيما قالوه وما زعموه في القدر، كل ذلك مما حدث في كثير من طوائف الأمة التي خرجت عن سبيل المؤمنين، والإيمان بالقدر يعني: أن تؤمن بأن الله قدّر كل شيء من الخير والشر ابتلاء وفتنة، كما قال عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].

وعلى هذا فإن الإيمان بالقدر لا بد له من قواعد؛ لأن من تصور هذه القواعد حتى ولو لم يمكن طالب علم ولا عالماً؛ لأن مسائل القدر قد تكون صعبة، لكن مع ذلك فإن أصولها ومبادئها الأساسية التي تعبدنا الله بها سهلة، ولذلك سأركّز على هذه الجوانب السهلة.

مراتب القدر

إن مبنى الإيمان بالقدر يكون على أربع مراتب، وهذه المراتب إذا تصورها المسلم سهل عليه الكثير مما يرد من أمور القدر:

المرتبة الأولى: العلم، بأن تؤمن وتوقن بأن الله عز وجل بكل شيء عليم، ما كان وما يكون وما سيكون لو كان كيف يكون، فكل ما يحدث في الخلق من صغير وكبير فالله به عليم، ولذلك فقد أشار الله عز وجل لمثل هذا على سبيل تعميق علم الله عز وجل في قلب المسلم فقد ذكر سبحانه بأنه عليم بذات الصدور، بل إن الله عز وجل أنكر على الذين شكوا في بعض علم الله، فقال سبحانه: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] هل يعقل أن يخلق وهو لا يعلم؟ هل يعقل أن من يخلق وهو الله عز وجل يخفى عليه شيء مما خلق؟ بل لابد أن يسبق الخلق علم كامل، ويصاحب الخلق ويلحق بالخلق، فلا يعزب عنه عز وجل مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض..

المرتبة الثانية: الكتابة، وهي أن يعتقد المسلم كما ثبت في النصوص أن الله كتب مقادير كل شيء على الإطلاق من صغير وكبير، ماضٍ ومستقبل.

المرتبة الثالثة: أن كل شيء بمشيئة الله وبتقديره فكل شيء يحدث في الكون فهو بمشيئة الله، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون شيء إلا بتقديره ومشيئته.

المرتبة الرابعة: الإيمان والجزم بأن الله خالق كل شيء، فقد قدر وخلق الخير والشر، كما قال سبحانه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:25] وهذا نقرره لنفي شبهة قد ترد في أذهان بعض الناس وقد يوسوس بها الشيطان عليهم، وهي: هل يمكن أن الله عز وجل يخلق الشر؟ هذا ناتج عن جهل، والله عز وجل قدّر الشر ابتلاء وفتنة، فهو في حقه حكمة؛ لأنه لا يتميز الخير من الشر، والهدى من الضلال، ولا يتميز الصالح من الطالح إلا بوجود الابتلاء بالشر والخير، وأن الله عز وجل قدّر الخير والشر وخلقهما، بإرادته سبحانه من باب الابتلاء والفتنة.

الهداية والإضلال بيد الله تعالى

ثم يتفرع عن هذا مسألة أخرى تسهّل موضوع القدر، خاصة في جانب يشكل على كثير من الناس، وهو جانب الهداية والإضلال، ونحن نعلم أن الله عز وجل يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، وأنه سبحانه لا راد لفضله ولا معقّب لحكمه، ولكن قد يأتي الشيطان ويخنس ويوسوس لبعض الناس، ويقول له: إذا كان الله عز وجل قدّر الضلالة على بعض الخلق فكيف يحاسبون؟

هذا يحتاج إلى شيء من التوازن بين قضيتين إذا وازنا بينهما زالت هذه الشبه، وهذا التوازن هو مقتضى النصوص، وهو أن الله عز وجل حينما قدر الهداية لبعض العباد وقدر لهم الخير، ووعدهم بالفضل والجنة فإن ذلك مبني على علمه سبحانه بماذا سيصنعون، فالله عز وجل علم أن هؤلاء من البشر ومن الجن سيعملون خيراً، وسيختارون طريق الهدى والخير، فقدر لهم ذلك، وبنيت أحكامهم على ذلك.

إذاً: فالله عز وجل قدر الخير والهدى، فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبيّن طريق الخير والهدى، وجعل عند الإنسان التمييز فيه، وأقدره على فعل الخير، وأمره به، وحثه عليه، ووعده عليه.

ثم إنه عز وجل قدر الضلالة ونهى عنها وبين خطرها، وحذر منها، وأقدر العباد عليها ابتلاء وفتنة، ثم توعدهم بعد ذلك وتحقق عليهم الوعد.

فالله عز وجل جبل المكلفين على الحق والهدى، وجبلهم على قبول الضلالة، وهذا أمر قدري، ولذلك قال الله عز وجل: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، وقال سبحانه وتعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3] فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] بعدما قرر الله عز وجل أمور الهداية.

هذه المشيئة مبنية على بيان طريق الحق بوضوح، وطريق الباطل بوضوح، وإعطاء الإنسان الفسحة والاختيار، فإن اختار طريق الضلالة باختياره فليتحمل مسئولية ذلك، وإن اختار طريق الهداية فهو موعود بالخير.. وهذا كله في سابق علم الله؛ لأن بعض الناس قد يقول: ورد في الحديث أن الله عز وجل يرسل ملكاً عند بلوغ الإنسان مائة وعشرين يوماً يكتب مقاديره، ومنها: شقي أو سعيد، ولذلك حينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث للصحابة، قال الصحابة: ففيم العمل ما دام قد كُتب قبل أن ننشأ في الدنيا؟ قال عليه الصلاة والسلام: (اعملوا فكل ميسر لما خُلق له) فهذا ناتج عن علم الله السابق بماذا سيصنع هذا الإنسان، فالله علم في سابق علمه ماذا سيفعل هذا الإنسان فقدّر ذلك على ضوء ذلك، أما أن يكون تحكماً فلا؛ لأن الله عز وجل لا يمكن أن يظلم العباد وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، فيجب أن نوقن بعدل الله وحكمته وهنا يستريح المسلم.

إن مبنى الإيمان بالقدر يكون على أربع مراتب، وهذه المراتب إذا تصورها المسلم سهل عليه الكثير مما يرد من أمور القدر:

المرتبة الأولى: العلم، بأن تؤمن وتوقن بأن الله عز وجل بكل شيء عليم، ما كان وما يكون وما سيكون لو كان كيف يكون، فكل ما يحدث في الخلق من صغير وكبير فالله به عليم، ولذلك فقد أشار الله عز وجل لمثل هذا على سبيل تعميق علم الله عز وجل في قلب المسلم فقد ذكر سبحانه بأنه عليم بذات الصدور، بل إن الله عز وجل أنكر على الذين شكوا في بعض علم الله، فقال سبحانه: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] هل يعقل أن يخلق وهو لا يعلم؟ هل يعقل أن من يخلق وهو الله عز وجل يخفى عليه شيء مما خلق؟ بل لابد أن يسبق الخلق علم كامل، ويصاحب الخلق ويلحق بالخلق، فلا يعزب عنه عز وجل مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض..

المرتبة الثانية: الكتابة، وهي أن يعتقد المسلم كما ثبت في النصوص أن الله كتب مقادير كل شيء على الإطلاق من صغير وكبير، ماضٍ ومستقبل.

المرتبة الثالثة: أن كل شيء بمشيئة الله وبتقديره فكل شيء يحدث في الكون فهو بمشيئة الله، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون شيء إلا بتقديره ومشيئته.

المرتبة الرابعة: الإيمان والجزم بأن الله خالق كل شيء، فقد قدر وخلق الخير والشر، كما قال سبحانه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:25] وهذا نقرره لنفي شبهة قد ترد في أذهان بعض الناس وقد يوسوس بها الشيطان عليهم، وهي: هل يمكن أن الله عز وجل يخلق الشر؟ هذا ناتج عن جهل، والله عز وجل قدّر الشر ابتلاء وفتنة، فهو في حقه حكمة؛ لأنه لا يتميز الخير من الشر، والهدى من الضلال، ولا يتميز الصالح من الطالح إلا بوجود الابتلاء بالشر والخير، وأن الله عز وجل قدّر الخير والشر وخلقهما، بإرادته سبحانه من باب الابتلاء والفتنة.

ثم يتفرع عن هذا مسألة أخرى تسهّل موضوع القدر، خاصة في جانب يشكل على كثير من الناس، وهو جانب الهداية والإضلال، ونحن نعلم أن الله عز وجل يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، وأنه سبحانه لا راد لفضله ولا معقّب لحكمه، ولكن قد يأتي الشيطان ويخنس ويوسوس لبعض الناس، ويقول له: إذا كان الله عز وجل قدّر الضلالة على بعض الخلق فكيف يحاسبون؟

هذا يحتاج إلى شيء من التوازن بين قضيتين إذا وازنا بينهما زالت هذه الشبه، وهذا التوازن هو مقتضى النصوص، وهو أن الله عز وجل حينما قدر الهداية لبعض العباد وقدر لهم الخير، ووعدهم بالفضل والجنة فإن ذلك مبني على علمه سبحانه بماذا سيصنعون، فالله عز وجل علم أن هؤلاء من البشر ومن الجن سيعملون خيراً، وسيختارون طريق الهدى والخير، فقدر لهم ذلك، وبنيت أحكامهم على ذلك.

إذاً: فالله عز وجل قدر الخير والهدى، فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبيّن طريق الخير والهدى، وجعل عند الإنسان التمييز فيه، وأقدره على فعل الخير، وأمره به، وحثه عليه، ووعده عليه.

ثم إنه عز وجل قدر الضلالة ونهى عنها وبين خطرها، وحذر منها، وأقدر العباد عليها ابتلاء وفتنة، ثم توعدهم بعد ذلك وتحقق عليهم الوعد.

فالله عز وجل جبل المكلفين على الحق والهدى، وجبلهم على قبول الضلالة، وهذا أمر قدري، ولذلك قال الله عز وجل: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، وقال سبحانه وتعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3] فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] بعدما قرر الله عز وجل أمور الهداية.

هذه المشيئة مبنية على بيان طريق الحق بوضوح، وطريق الباطل بوضوح، وإعطاء الإنسان الفسحة والاختيار، فإن اختار طريق الضلالة باختياره فليتحمل مسئولية ذلك، وإن اختار طريق الهداية فهو موعود بالخير.. وهذا كله في سابق علم الله؛ لأن بعض الناس قد يقول: ورد في الحديث أن الله عز وجل يرسل ملكاً عند بلوغ الإنسان مائة وعشرين يوماً يكتب مقاديره، ومنها: شقي أو سعيد، ولذلك حينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث للصحابة، قال الصحابة: ففيم العمل ما دام قد كُتب قبل أن ننشأ في الدنيا؟ قال عليه الصلاة والسلام: (اعملوا فكل ميسر لما خُلق له) فهذا ناتج عن علم الله السابق بماذا سيصنع هذا الإنسان، فالله علم في سابق علمه ماذا سيفعل هذا الإنسان فقدّر ذلك على ضوء ذلك، أما أن يكون تحكماً فلا؛ لأن الله عز وجل لا يمكن أن يظلم العباد وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، فيجب أن نوقن بعدل الله وحكمته وهنا يستريح المسلم.