نعمة الأمن


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإنها سبب الطمأنينة والأمن والرزق والرخاء والنِعم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] والظلم في هذه الآية هو الشرك، ويتناول كل ما سواه من أنواع الظلم بالتبع، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الظلم على أنواع ثلاثة: فأولها ظلمٌ لا يقبل من العبد معه عدلاً ولا صرفاً، ولا قليلاً ولا كثيراً، ذلك المعني في قول الله تعالى: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] فإن من جاء بهذا الظلم الكبير -وهو الشرك- فلا حظ له في الأمن ولا الهداية ولا القبول ولا الفوز والنجاة.

والنوع الثاني من أنواع الظلم: وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً بعدوان بعضهم على حقوق بعض، ودماء وأعراض بعض، وأموال بعضهم البعض، فهذا الظلم معفو عنه برد الحقوق إلى أصحابها والتوبة إلى الله جل وعلا.

والنوع الثالث من الظلم الذي تتناوله الآية: ألا وهو ظلم العبد نفسه بالمعاصي والسيئات، والفواحش والخطيئات؛ فهذا الذنب إن كان من الكبائر فلا مغفرة لصحابه إلا بالتوبة الصادقة النصوح، وإن كان من الصغائر على غير إصرار من فاعله فذلك مكفرٌ بقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً [النساء:31] وقول الله جل وعلا: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32] والشاهد كما يقول شيخ الإسلام سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : إن من أتى بنوعٍ من الظلم فقد نقص حظه من الأمن، ومن أتى بالظلم كله فقد فَقَدَ الأمن كله، ومن أقل أو أكثر في الظلم كثر أو قل نصيبه في الأمن بقدر ما فعل.

أسوق هذا -أيها الأحبة- مقدمةً لأقول: إن الأمن نعمة من نعم الله جل وعلا، وكثيرٌ من النعم لا يعرفها أصحابها إلا عند فقدها، فالصحة نعمةٌ لا يعرف تمام فضلها إلا المرضى، والماء نعمةٌ لا يعرف تمام فضلها إلا العطشى، والطعام نعمة لا يعرف حقيقة فضلها إلا الجياع، والكسوة نعمة لا يعرف حقيقة فضلها إلا من كان عريانا، فكل نعمة تعرف بفقدها وبضدها، نعوذ بالله من ضد النعم، ونعوذ بالله من سائر النقم.

معاشر المؤمنين: إننا في نعمة من أعظم النعم التي تفقدها كثير من الأمم ويغبن فيها كثير من الناس، ويسخرونها لغير مرضاة الله وطاعته.

إن من نال أمناً وطمأنينة فحري به أن يسخر هذه النعمة في الدعوة إلى الله وعبادة الله على بصيرة، وشكر نعم الله جل وعلا، لا أن يكون الأمن سبباً للهو والطرب، والعبث والرقص كما هو شأن كثير من العباد والعياذ بالله.

عباد الله: اعلموا أن البشرية وإن جمعوا أموالاً طائلة، وإن نكحوا عدداً من الزوجات، وإن تقلبوا في مختلف مظاهر المدنية، ما قيمة هذا كله بدون أمن؟! ما قيمة المال إذا كنت خائفاً لا تستطيع أن تجاوز بيتك لتشتري به قليلاً أو كثيراً؟! وما قيمة الحدائق ما دمت خائفاً لا تستطيع أن تنعم بظلالها الوارفة، ما قيمة الطرق وأنت خائفٌ لا تستطيع أن تسير أو تتجول فيها؟! ما قيمة الأسواق وأنت خائفٌ لا تستطيع أن تقضي حوائجك منها؟! ما قيمة كل ما تراه من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وشمالك وأنت مضطرب خائفٌ فزعٌ لا تستطيع أن تنال من هذا شيئاً؟!

إذاً: أليست نعمة الأمن مقدمة على نعمة الأموال، وعلى نعمة الثراء، وعلى نعمة المدنية والحضارة، وعلى كل مظاهر النعم التي يتنافس الناس فيها ويحسد أو يغبط بعضهم بعضاً عليها؟

عباد الله: أقول هذا والقلب كله أسى، والكبد مكلوم، والفؤاد مفطورٌ لما حل بإخواننا المسلمين في الكويت من اجتياح بعثي كافر غاشم، على أرض إخواننا المسلمين.

أيها الأحبة: نقول هذا لأننا نعلم أن في البلاد رجالاً ودعاةً وصالحين، وعباد وأتقياء ومؤمنين، نعلم أن كل أولئك يعيشون على هذه الأرض، وأن هذا الأمر الذي حل بهم علم الله أنه أصابنا ما أصابهم وجعلنا نتأسى ونهتم ونغتم لما أصابهم، وهذا واجب كل مسلم، لا أن يقف موقف الشامت أو المتفرح أو الناقد.

فقل للشامتين بنا أفيقوا     سيلقى الشامتون كما لقينا

إذا ما الدهر جر على أناس     حوادثه أناخ بآخرينا

إلى الذين يشمتون بمصائب إخوانهم نقول لهم: الأيام دول: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] فقد يقع بهم كحال مَن شمتوا فيهم، وإن الأيام متقلبة، ولكن المتفرج على كربة أخيه يدفع الغرامة ضعفين، فلا أقل من أن نرفع أكف الضراعة إلى الله جل وعلا أن يرفع عنهم الوباء، وأن يدفع عنهم البلاء، وأن يبعد أولئك الفجرة البعثيين عن أرضهم، ونسأل الله جل وعلا أن يحفظ أعراضهم، نسأل الله أن يحفظ أعراض بناتهم وزوجاتهم ونسائهم، نسأل الله أن يحفظ ذرياتهم، نسأل الله أن يحفظ دماءهم، نسأل الله أن يَمنُّ عليهم بالهداية، وأن يتفضل عليهم بأمن وعفو وعافية وفضلٍ ورعبٍ في قلوب أعدائهم يدفع البلاء عنهم.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.

معاشر المؤمنين: هل سمعتم أن دولة أوروبية اجتاحت دولة أوروبية مثلها، هل سمعتم أن ولاية أمريكية اجتاحت ولاية أمريكية مثلها، هل سمعتم أن أرضاً كافرةً اجتاحت أرضاً كافرة مثلها، حتى ما نراه ونسمعه ونقرأه ونشاهده عبر مختلف الوسائل من أن بلاداً غربية غزت بلاداً غربية أخرى فاعلموا أن حقيقة المغزو فيها هم المسلمون.

إن ما سمعناه ورأينا شيئاً من مشاهده وتابعناه في مصائب ليبيريا من الحكومة القائمة والحكومة المتدخلة التي سطت على أراضيها، واستمرار المذابح على أرض تلك البلاد تشير الإحصائيات أن نسبة الضحايا من المسلمين نالت المرتبة الأولى، حكومة نصرانية تهاجمها جماعة نصرانية والذبح في المسلمين، إنها تمثيلية، إنه مخطط غاشم نحن عنه غافلون.

معاشر المؤمنين: اعلموا أن الأمن ليس بكثرة الجنود، ولا بكثرة الأجهزة، واعلموا أن الأمن ليس بتعدد أنواع وسائل النقل أو الأخبار أو الرصد أو غير ذلك، ولكن الأمن في القلوب، الأمن نعمة يقذفها الله جل وعلا في قلوب العباد، وهذه النعمة نتيجة العبودية لله، والقيام بشرعة والدينونة بدينه وتحكيم أوامره، وتطبيق نهجه، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

أيها الأحبة: أليست أمريكا أكثر الدول جيوشاً؟ أليست أكثرها أجهزة للأمن، وأدقها أجهزة لمكافحة الجريمة ومتابعة الجريمة والإنذار المبكر للجريمة؟ مع ذلك في كل دقيقة حادثة اغتصاب، وفي كل ساعة حادثة قتل، وفي كل نصف ساعة حادثة سرقة، وفي كل لحظة من لحظات الزمن يسجل التاريخ جريمةً من الجرائم، مع أنها من أرقى الدول إن لم تكن أرقى دولة في أسباب الأمن ومكافحة الجريمة!

إذاً: نعلم من هذا أن الأمن ليس بكثرة الجنود ولا الرجال ولا الأجهزة، وإنما الأمن نتيجة عبادة الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ لم يظلموا أنفسهم بشركٍ، أو بظلم بعضهم بعضا، أو بظلم أنفسهم بالذنوب والمعاصي والسيئات: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] وعرف الأمن هنا بـ(أل) التي استغرقت جميع الأمن، الأمن النفسي والعسكري والإغاثي والاجتماعي والاقتصادي، وجميع ما يصدق عليه مسمى الأمن، فإن من عبد ربه من دون وقوع في الظلم فإن له الأمن.

الواجب على الأمة تجاه ما حل بالكويت

عباد الله: ما أنتم فاعلون بعد هذا؟

إن كثيراً منا لما سمعوا وتابعوا الأخبار في لندن ورويتر ووكالات الأخبار ما زادوا على ذلك شيئاً، والله -يا عباد الله- إن كنا نعرف حقيقة نذر الله للعباد، وإن كنا نتعامل مع سنن الله في الكون، فإن من واجبنا بعد أن سمعنا هذا الاجتياح الغاشم لإخواننا المسلمين أن ننظف البيوت من المعاصي، نطهر البيوت من السيئات، ونتوب إلى الله من الفواحش والخطيئات، وما دفع البلاء إلا بتوبةٍ صادقة، وما نزلت عقوبة إلا بذنب وما رفعت إلا بتوبة من ذلك.

فيا معاشر المؤمنين: أين التضرع إلى الله، والله إني كنت أقول في نفسي: لتضجن المساجد بالقنوت في صلاة الفجر لتدعوا للمسلمين في الكويت أن يرفع الله عنهم هذا البلاء وهذا العدوان الغاشم، ولكن يا للأسف! لعل الكثير منا لم يدع لهم في ركوعه أو سجوده، لماذا يا عباد الله؟! أهكذا بلغت بنا الأنانية أن نتفرج على الأحداث؟ كم بيننا وبين هذه النار المحرقة؟ كم بيننا وبين هذا العدوان الغاشم؟ إنه عدوان حل بجيراننا ومع ذلك فهل ما نراه يغير في سلوكنا؟ هل يغير في واقعنا؟ هل يجعلنا أشد عودة إلى الله؟ هل يجعلنا أكثر رغبةً فيما عند الله؟ هل يجعلنا أشد تمسكاً بدين الله جل وعلا؟

إن من أعظم المصائب أن الإنسان يبتلى وينذر بالعقوبة أو بما شابهها ثم بعد ذلك هو لا يدري.

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة     وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

التقوى هي النسب بين الخالق والمخلوق

يا معاشر المؤمنين: اعلموا أننا ولله الحمد والمنة على ما فينا من التقصير والنقص -لأن من بلغ به المدح إلى الإطراء حري أن يحثا في وجهه التراب- فإننا لا نزال بخيرٍ ونعمةٍ في تطبيق حدود الله وتحكيم كتابه، ومع هذا فإننا والله بأمس الحاجة على أن نتتبع كلام الله حرفاً حرفاً وآيةً آية لنطبقه في واقعنا، ونعمل به في مجتمعاتنا، فإن ذلك أول سببٍ يحفظنا الله جل وعلا به، ولن نكون أفضل عند الله من الكويتيين أو من أي دولةٍ من الدول؛ لأننا من أهل نجد أو من أنحاء الجزيرة، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بالتقوى فمن كان أتقاهم لله كان أقربهم منه.

إن بلالاً العبد الحبشي الأسود الذي أكرمه الله بالصحبة لفي أعظم منزل من منازل الملوك والرؤساء وأشراف القبائل، لماذا؟

لأننا نعلم أن هذا الدين كلٌ مكانه فيه بحسب قربه من الله، فإذا كنا نعلم أن الأمن من الله فلا بد أن نتقرب إلى الله بطاعة الله ومرضاته، والبعد عما يسخطه واجتناب ما نهى الله جل وعلا عنه.

فيا معاشر المؤمنين: الخوف الخوف! من العقوبة، والبدار البدار! إلى التوبة، استعدوا وأنيبوا وأسلموا وأخبتوا إلى ربكم، واعملوا أن الأمور وإن كانت تحزُّ في النفس إلا أنه ولله الحمد والمنة -حتى الآن- لم يحصل لأحد إخواننا في الكويت ما ينقل أن بيته اغتصب، أو أن داره دوهمت، أو دخل عليه في عقر داره، لكن هل ننتظر حتى يدخل الفجرة في بيوتهم؟

نعوذ بالله من أن يكون ذلك مما ننتظره أو مما نعده طمأنينة كافية، بل لن نطمئن حتى يخرج إلى أولئك الفجرة من آخر شبر من أراضيهم ويرتدوا على أدبارهم منكسرين.

اللهم لا تجعل ذنوبنا سبباً لما حصل لإخواننا يا رب العالمين! يا أرحم الراحمين!

إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر.