أرشيف المقالات

أحكام الإيلاء

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
أحكام الإيلاء

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فإن الإيلاء له أحكامٌ فقهية، يجب على طلاب العلم معرفتها، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
تعريف الإيلاء:
الإيلاء: هو أن يحلف الرجل بالله تعالى ألَّا يطأ زوجته مدة تزيد على أربعة أشهر قاصدًا إلحاق الضرر بها؛ (منهاج المسلم؛ لأبي بكر الجزائري، صـ327).

مدة الإيلاء:
قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 226، 227].

يتضح من هذه الآية الكريمة أن مدة الإيلاء تكون أكثر من أربعة أشهر، وهذا قول جمهور العلماء، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لا يكون موليًا؛ (الجامع لأحكام القرآن؛ للقرطبي، جـ3، صـ108) (المغني؛ لابن قدامة، جـ11، صـ8).

وتبدأ مدة الإيلاء من الحلف.

روى عبدالرزاق عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن طاوس عن أبيه، قال: الإيلاء أن يحلف ألَّا يمسها أبدًا أو أقل، إذا كان الذي يحلف أكثر من أربعة أشهر؛ (إسناده صحيح) (مصنف عبدالرزاق، جـ6، رقم 11606).

فائدة:
إذا حلف الرجل بالله تعالى ألَّا يكلم زوجته، أو حلف أن يغيظها أو يسيء إليها مع عدم ترك إتيانها مدة أكثر من أربعة أشهر، فإن هذا لا يقع به حكم الإيلاء.

روى عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء، قال: الإيلاء أن يحلف بالله على الجماع نفسه أكثر من أربعة أشهر؛ (إسناده صحيح) (مصنف عبدالرزاق، جـ6، رقم 11603).

تعليق الإيلاء بالمشيئة:
إذا حلف الرجل ألَّا يطأ زوجته مدة أكثر من أربعة أشهر، وقال بعدها مباشرة: إن شاء الله، فإن هذا لا يكون إيلاءً؛ فاليمين المعلقة بالمشيئة لا حنث فيها بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة سليمان بن داود حينما أراد أن يطوف على سبعين امرأة من نسائه في ليلة واحدة، وقال له صاحبه قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركًا له في حاجته))؛ أي: سببًا في إدراكه لحاجته ووصله إليها؛ (لم يحنث؛ أي: لم يقع يمينه) (مسلم، كتاب: الإيمان، حديث 23).

روى عبدالرزاق عن الثوري قال: إذا حلف ألَّا يقرب امرأته، فقال: إن شاء الله، فليس بإيلاء؛(إسناده صحيح) (مصنف عبدالرزاق، جـ6، رقم 11629).

روى مالك، عن نافع، عن عبدالله بن عمر أنه كان يقول: من قال: والله، ثم قال: إن شاء الله، ثم لم يفعل الذي حلف عليه، لم يحنث؛ (إسناده صحيح) (موطأ مالك، جـ2، صـ477).

فائدة:
إذا حلف الرجل ألَّا يطأ زوجته، ثم بدا له أن يأتيها قبل مضي الأربعة أشهر، فله ذلك ويُكفِّر عن يمينه؛ روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خيرٌ، وليكفر عن يمينه))؛ (مسلم، كتاب: الإيمان، جـ3، حديث 13).

ماذا بعد مرور الأربعة أشهر؟
روى البخاري، عن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله: لا يحل لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف، أو يعزم بالطلاق كما أمر الله عز وجل؛ (البخاري، حديث 5290).

روى البخاري عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق؛ (البخاري، حديث 5291).

يتضح من هذه الأحاديث أن مدة الإيلاء إذا انقضت، فإن القاضي يخير المولي بين أمرين: إما أن يأتي زوجته، وإما أن يطلقها، وهذا قول جمهور العلماء؛ (فتح الباري؛ لابن حجر العسقلاني، جـ9، صـ337).

فإذا أتي الرجل زوجته وجبت عليه كفَّارة اليمين، وهو قول أكثر أهل العلم؛ (المغني؛ لابن قدامة، جـ11، صـ38).


وهي إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يأكل أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، وأما إذا رفض الرجل أن يأتي زوجته فإن القاضي يأمره بأن يطلقها تطليقةً واحدةً، فإذا طلقها فإنه يكون طلاقًا رجعيَّا؛ (فتح الباري؛ لابن حجر العسقلاني، جـ9، صـ339).

إلا أن تكون هذه هي الطلقة الثالثة، فتكون المرأة قد بانت من زوجها بينونةً كبرى، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.


قال الشوكاني: ذهب الجمهور إلى أن الطلاق الواقع من الزوج في الإيلاء يكون رجعيًّا؛ (نيل الأوطار؛ للشوكاني، جـ7، صـ48).

طلاق القاضي لزوجة المولي:
إذا رفض المولي أن يأتي زوجته، ورفض أن يطلقها، طلَّق عليه القاضي طلقةً واحدةً رجعيةً؛ دفعًا للضرر الواقع بالزوجة؛ (المغني؛ لابن قدامة، جـ11، صـ46).

قال الإمام الشافعي: إذا أوقف المولي، فطلق واحدة، أو امتنع من الفيء بلا عذر، فطلق عليه الحاكم واحدة، فالتطليقةُ تطليقةٌ يملك فيها الزوج الرجعة في العدة، وإن راجعها في العدة، فالرجعة ثابتة عليه؛ (الأُمُّ؛ للشافعي، جـ5، صـ373).

فائدة:
قال ابن قدامة: إذا خالع الرجل زوجته، أو فسخ نكاحه، فله أن يتزوَّجها في عدتها، في قول جمهور الفقهاء، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، والزُّهْري، والحسن، وقتادة، ومالكٌ، والشافعي، وأصحاب الرأي؛ (المغني؛ لابن قدامة، جـ11، صـ243).

أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام.
 
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣