من هنا نبدأ


الحلقة مفرغة

النكاح مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، وهو سنة من سنن الله تعالى في الحياة، وله حكم عظيمة وفوائد جليلة؛ من بقاء النسك، وتكوين الأسر، وقضاء الوطر، وبناء المجتمع المسلم، وله أركان وشروط لابد من توافرها حتى يكون نكاحاً شرعياً موافقاً لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أحمد الله إليكم الذي هو أهلٌ للحمد على كل حال، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأسأله في مستهل اجتماعنا ولقائنا هذا أن يجعل لي ولكم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل فاحشة أمناً، نسأل الله جل وعلا كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسأله سبحانه وتعالى العزيمة على الرشد، والسلامة في الأمر كله، كما نسأله أن يحبب إلينا دينه، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار كلمته، وأن يرفعنا وإياكم بطاعته، وألا يخزينا أو يذلنا بمعصيته، وأن يبارك لنا فيما أباح لنا.

أيها الأحبة في الله: لا أشك أن من بينكم من هو أجدر بالحديث في هذا الموضوع، ولكن نعاتب أنفسنا بتقصيرنا في أمر دعوتنا، ونلوم أنفسنا بأننا ندَّعي ما ليس لنا.

وكلٌ يدعي وصلاً بليلى     وليلى لا تقر لهم بذاك

قد يسميك بعض إخوانك داعية، وأنت لا تعطي دعوتك إلا فضول الأوقات، ووالله لو قام في المنابر أبناؤها ورجالها لما وقفنا فيها، ولو قام في الساحة علماؤها لما قام أبناؤها، ولكن إذا غاب من تقوم به الكفاية انتقل الأمر إلى من ينوب عنه، وهذا زمنٌ صيَّر التلميذ أستاذاً، وكما قال سفيان الثوري أو سفيان بن عيينة رحمهما الله:

خلت الديار فساد غيـر مسود     ومن الشقاء تفردي بالسؤدد

إننا نعلم أن في صفوفنا رجالاً هم أعلم منا، ونحسبهم ولا نزكي على الله أحداً على قدرٍ من التقى والصلاح، والعلم والفقه والاجتهاد، ولكننا نلومهم أيضاً بأن الكثير قد استعذب الخلوة بالكتب، وتلذذ بالمناجاة دون الاختلاط بالناس، ووجد حلاوة العزلة في البعد عن رؤية المنكرات وأصحابها، وهذا مسلكٌ سهل يسير على النفوس؛ أن تخلو في عزلتها وأن تستعذب جميل الألفاظ والعبارات، والأبيات والنكات والنوادر في الكتب، بعيداً عن الإنكار، ومواجهة الإنكار، ومواجهة أصحاب المنكر، وما يوسوس به الشيطان ويعد به ويخوف به: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].

عفواً أيها الأحبة! أن نبدأ بهذا العتاب، ولكن كما يقول القائل:

فإذا صرخت بوجه من أحببتهم     فلكي يعيش الحب والأحباب

...............     ويبقى الود ما بقي العتاب

لابد أن نكون صادقين حتى في عتابنا، والله جل وعلا كما قال في محكم كتابه: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8] فليس الصدق وحده هو نهاية المطاف أو منتهى الأمر، لا والله. بل حتى الذين ظهر منهم الصدق أو ادعوا الصدق سيسألون عن صدقهم، فما بالكم بغيرهم؟! نسأل الله جل وعلا ألا يفتننا وألا يفتن بنا، وألا يجعلنا وإياكم فتنةً للقوم الظالمين.

وجود الغيرة لدين الله

أيها الأحبة: أوان الشروع في المقصود بدأ، وأقول بتوفيق الله: الغيرة موجودةٌ لدى كثيرٍ من الشباب الصالحين، وحسبك أن ترى دليلاً على الغيرة، أن تجد من يطرق بابك، يكاد أن يكسر أقفاله، فإذا سمعت هذا الطرق الشديد، ظننت أن حريقاً حل بواحدٍ من بيوت أهل الحي، وإذا أزعجك تعليق المنبه ظننت أن الأمر قد انتهى، وأن الكيل قد طفا، وأن الطوفان قد فاض على البسيطة، فإذا فتحت بابك وجدت شاباً غيوراً مخلصاً صادقاً يهز يده في وجهك ويقول: رأيت منكراً في مكان كذا، ورأيت منكراً في مكان كذا، أين المغير؟ أين المنكِر؟ أين من يقول كلمة الحق؟ أين من يتقي الله؟ أين من ينطق بالحق فلا يخشى في الله لومة لائم؟ فحينئذٍ تحمد الله جل وعلا.

وما أكثر أن ترى هذه الصورة في مسجدك أو في بيتك، أو في اجتماعك مع إخوانك، تحمد الله جل وعلا على أن الغيرة لا زالت باقية، وهذا دليل حياة القلوب، وإلا لو كانت القلوب قد ماتت في مجموع الأمة لما وجدت من ينزعج من هذه الصورة، ومن هذه الحال؛ لأن الهوان إذا حل بالنفس لا تجدها تعرف معروفاً، أو تنكر منكراً:

من يهن يسهل الهوان عليه     ما لجرحٍ بميتٍ إيلام

فالحاصل أيها الإخوة! أن الغيرة موجودة لدى كل واحد منكم، التمعُّر، الغضب، الانزعاج، التقلب، التغير موجودٌ لدى كل واحد منكم حينما يرى منكراً من المنكرات، وكما في الأثر: "يكاد في آخر الزمان يذوب قلب المؤمن، كما يذوب الملح في الماء، قيل: لِمَه؟ قيل: مما يرى من المنكر فلا يستطيع تغييره" وهذا والله شعورٌ يطوف ويلم بكل واحدٍ منا ومنكم -أيها الأحبة!- ولكن ليبتلي الله ما في قلوبكم، وليمحص ما في صدوركم، وليتخذ منكم شهداء، ليثبت الذين يرجون الحب والإخلاص للدعوة، والذين يرجون منازل الدعاة، ومجاورة النبي صلى الله عليه وسلم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.

الدعوة خير من العبادة

لا يستوي الذين لا يجدون في واقعهم شيئاً من آلام المعاناة، وحسرة في رؤية المنكر، أو الضعف أو العجز في بعض الأحيان عن تغييره مع الذين لا يلتفتون قليلاً ولا كثيراً، أقول: حتى ولو كانوا ممن صنفوا الكتب أو قاموا الليل وصاموا النهار، واجتهدوا في الهواجر، وقاموا ليالي الشتاء لا يستوي أولئك مع الذين تتغير وجوههم لرؤية المنكرات في هذه الأرض.

إن العبادة أمرٌ قاصر، لا تحتاج فيه إلى مواجهة، ولا تحتاج فيه إلى كثير من المعاناة، أسهل ما عليك أن تأكل لقمة السحر، ثم تضع رأسك على وسادتك، ثم تصلي تتقلب بين بيتك ومسجدك، ثم تعود لتفطر هنيئاً مريئاً، لا تجد شيئاً قد غير ما أنت فيه، أسهل ما عليك أن تفتح كتابك في مكتبتك فتقرأ وتلخص وتجمع، وتُخَرِّج وتُحقق، وهذا خيرٌ عظيم.

وموت العابد القوام ليلاً     يناجي ربه في كل ظلمة

من الذين يبكى عليهم.

ولكن أيها الإخوة! لا يستوي هؤلاء مع الذين يجمعون مع هذا الدعوة والإنكار والتغيير بقلوبهم وبألسنتهم وبأيديهم حسب الضوابط الشرعية المرعية.

إذاً أيها الإخوة: ينبغي أن نعلم أولاً: أن الناس يتفاضلون في دين الله جل وعلا، ليس بقدر عبادتهم في شكلها أو طولها، أو قصرها، وإنما يتفاضلون بحسب ما يقوم في قلوبهم، ولذلك لما ورد عن أبي بكر رضي الله عنه: (أنه لو وضع إيمان الأمة في كفة ووضع إيمان أبي بكر رضي الله عنه في كفة لرجح إيمان أبي بكر بسائر إيمان الأمة) وكيف يرجح إيمان أبي بكر بسائر إيمان الأمة؟ هل يستطيع أبو بكر أن يصوم رمضان بقدر صيام الأمة أجمع؟ هل يستطيع أبو بكر أن يحج ولو في كل لحظة فضلاً عن مرةٍ في كل سنة بقدر حجات أفراد الأمة أجمع؟ لا.

ولكن [أَمَا إنه ما سبقهم بكثير عمل، ولكنه بشيءٍ وقر في قلبه] ولما وقر هذا الأمر في قلبه استحق كرامةً ومنـزلة من عند الله، والفضل لله أولاً وآخراً.

(لما تلا الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30] قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما أحسن من يقال له هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: إنك يا أبا بكر ! ممن يقال له هذا عند موته).

وفيه نزل قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21].

قد يكون الإنفاق يسيراً، لكن الإنفاق في مواجهة المجتمع الجاهلي في بداية الدعوة يكون صعباً جداً، لا سيما وأنت في موقف الضعف، والجاهلية في موقف المنتصر، ويعتق عبداً من عباد الله بلال بن رباح لكي ينضم إلى معسكر الإيمان، الحالة حينئذٍ صعبة جداً.

قد تقول خطبة عصماء في مشهد جمعٍ غفير، ولكن قد تكون كلمة مكونة من سطرين أو من حرفين أبلغ وأعظم وأقوى وأقبل عند الله حينما تكون في موقفٍ فيه الخوف على الروح والنفس، والخوف على الرزق، أو في مواجهة إمامٍ جائر، ينبغي أن يعلم هذا جيداً.

الدعوة ليست حكراً على أحد

ومن هنا نقول لإخواننا في الله: بوسع كل واحدٍ منكم أن يبدأ، وعنوان المحاضرة (من هنا نبدأ) اخترت هذه العبارة لأقول لكل واحدٍ: من هنا تبدأ، من مكانك، من بيتك، من موقعك، من عملك، من وظيفتك، من الحي الذي تسكن فيه، من الجهة التي تأوي إليها، من هنا تبدأ.

وبفضل الله جل وعلا، ومن عظيم وواسع منه وكرمه أن هذا الدين لا يحتاج إلى تصريحٍ حتى تكون واحداً من الدعاة إلى الله فيه، لا يحتاج إلى أن تنال اجتياز المقابلات الشخصية، وإنما تحتاج أن تعلم ما تدعو إليه، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع منا مقالةً فوعاها، فبلغها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع) وهذه مسألة عظيمة (ومن دعا إلى هدى فله أجره، وأجور من عمل به إلى يوم القيامة) ولم يشترط لهذا الداعية أن يكون على هذا القدر، أو المكانة أو المجموع قل أو كثر فيما يحفظ أو يروي أو يفقه أو يعلم، وإنما يكفي أن يدعو ولو إلى مقالة واحدة يدعو إليها يريد بذلك وجه الله جل وعلا.

الأوهام العنكبوتية

في حقيقة الأمر -أيها الإخوة!- كثيرٌ من شبابنا، كثيرٌ من أحبابنا، كثيرٌ من إخواننا -ولعل من بينكم من هو منهم، أو أكون أنا منهم- يبني حول نفسه أوهاماً من خيوط العنكبوت، ويظن أنه إذا تحرك فإن عشرات الأعين تراقبه، وآلاف الأجهزة ترصد حركته، ومئات الناس يسجلون ما يفعل خطوة خطوة، وهذا مما يصدق فيه قول الله جل وعلا: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] يصور لك الشيطان أنك حينما تريد أن تقف على قارعة الطريق وتجد شباباً تريد أن تجلس معهم، فتعطيهم كلمتين، وليس من شرط هذه الكلمة أن يقبلوها، أو يستجيبوا أو يهتدوا، أو يلتزموا بأول وهلةٍ أنت تخاطبهم أو تكلمهم فيها، لا. يظن البعض أنه لو أراد أن يقدم شريطاً أو أراد أن يقدم هدية أن حوله عشرات الأجهزة تراقبه وترصد حركته، ولذلك تجد بعضهم يقول: لا. أنا أختار أسلوباً آخر، أو أنا من الناس الذين لا أرى هذا المنهج، أو هذه الطريقة .. وهلم جراً.

وليت عدم رؤيته لهذا الأمر من اجتهادٍ توصل إليه بعد باعٍ طويل في علمٍ وفقه، وليس كذلك إلا أنه يظن أن حركاته وسكناته مراقبة ومتابعة، وهب أنك توبعت وروقبت في كل صغيرة وكبيرة، هل سيصدك هذا عن الدعوة إلى الله جل وعلا؟ هل سيردك هذا عن الدعوة إلى الله جل وعلا؟ هل هذا سوف يمنعك أن تنال حظك في منازل الأبرار والشهداء والصديقين والصالحين عند الله سبحانه وتعالى؟

إذاً: لماذا نبني هذه الخيوط، يقول لي ذات مرة شاب من الشباب الصالحين: أنا رأيت أربعة رجال يراقبونني، فسقطت ضحكاً، من أنت حتى يراقبك أربعة، أو واحد أو نصف واحد أو امرأة أو نصف امرأة؟ لماذا تخلق حول نفسك هذا الوهم العنكبوتي الذي لا حجة لك به؟ هل عشت في مجتمع الثورة البلشفية؟ أم أنك تعيش في لينين قراد أو تعيش في المجر ، أو في دول الكتلة الشرقية قبل تحول الوضع الشيوعي؟

لماذا تخلق هذا الوضع حول نفسك؟ لست بحاجة أن تتصور هذا، ولكن الشيطان سول لك وخيل، وجعلك تتصور أنك تعيش في هذه الدائرة، وبالمناسبة هذا من الأساليب النفسية التي يؤثر بها على دعاة الإسلام في بعض بلدان العالم، ويسمونها بالمضايقة النفسية أو بعبارة تشابه هذا المعنى، يبدأ الإنسان يتضايق، يرفع السماعة يخشى أن يقول كلمة، يخرج من البيت يخشى أن ينظر إليه أحد، يمد شريطاً يتوقع أن الكاميرا قد صورته، يقرأ كتاباً يظن أنه قد حقق به .. وهلم جراً !!

إن الله جل وعلا قد خلقك حراً، وأبقاك حراً، بل ولعن من أراد أن يجعلك رقيقاً: (ثلاثة لعنهم الله جل وعلا -وذكر منهم- رجلٌ باع حراً فأكل ثمنه) أنت تعيش حراً وستمضي حراً، وستفضي إلى الله حراً، فلا تخلق حول نفسك هالة من الأوهام العنكبوتية التي تتخيل أو تتوقع بها أنك يوم أن تفعل شيئاً في دين الله جلا وعلا سوف تنتهي من قائمة الناس الأسوياء وغيرهم، ربما يأتيك الشيطان ويقول لك: لا حرج. ولكن هذا قد يعرقل مواصلة سيرك الوظيفي، إذا كنت رجلاً طموحاً في الوظيفة وترغب أن ترشح لأعلى المراتب، فانتبه، قف عند حدٍ معين، لا تتمادى بوضع معين حتى تستطيع أن تصل يوماً ما.

وأقول: ربما يكون الإنسان على خطرٍ في معتقده إذا أوغل في هذا الظن واعتقده، وظن أن الخلق يستطيعون أن يكفوا أو يمنعوا رزقاً قسمه الله له.

وكما في حديث ابن عباس الذي تحفظونه: (يا غلام! احفظ الله يحفظك -إلى أن قال- واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) إذا كان الإنسان يخشى على رزقه، فالله جل وعلا هو الذي خلقك وتكفل برزقك: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6] وكما في الحديث: (جاءني جبريل ونفث في روعي: يا محمد! إنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها ...) والله لو بقي لك في الدنيا عشرة ريالات لتقاتلت الدنيا حتى تصل: (لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) ما قال: تشاحوا، تخوفوا، خافوا على الطلب، بل أجملوا في الطلب، أدنى أمرٍ من أمور بإذن الله جل وعلا يكون سبباً لوصول ما كتبه الله جل وعلا لك.

وإذا كان الخيط العنكبوتي الذي ينسجه الشيطان حولك أيها الأخ المسلم بأنك ربما تموت أو ربما ينتهي أجلك، أو ربما تخترم روحك قبل بلوغ أجلها، فهذا أخطر من الذي قبله، أن تعتقد أن قوةً من قوى البشرية تستطيع أن تخترم من أجلك يوماً أو ساعة واحدة قبل تمام أجلك، وكما كان الإمام علي رضي الله عنه يردد أبياته المشهورة:

أي يوميَّ من الموت أفر     يوم لا يقدر أم يوم قدر

يوم لا يقدر لا أرهبه     ومن المقدور لا ينجو الحذر

فلماذا التخوف إذاً؟ أقول: إن كثيراً من الشباب تجد فيهم عزوفاً عن الدعوة إلى الله جل وعلا، ليس كرهاً في الدعوة، وربما ليس عجزاً أو ضعفاً، بل هو قادر، ولو ناقشته لوجدته أفقه منك أيها المحاضر! وأعلم منك أيها الخطيب! وأصلح منك أيها المتكلم! وأجدر وأقدر في مخاطبة الناس، ولكن فيه أمرٌ لا زال ممسكاً به لم يجعله ينطلق في عالم الدعوة إلى الله جل وعلا، ألا وهو الخوف أو الأوهام العنكبوتية التي نسجها حول نفسه، إما على خطرٍ وإما على رزقٍ وإما على موت.

أقول: ليس هذا مجال تفصيل، وهذه الأمور كلها بيد الله، ولكن هذا واحدٌ من الأسباب التي تجعل كثيراً من الشباب يا للأسف يعزف عن هذا الأمر.

مشكلات في طريق الدعوة

الأمر الآخر: أن بعضهم على مقدرة بالغة، جميلة جليلة طيبة، ومع ذلك:

أزف الترحل غير أن ركابنا     لما تزل برحالنا وكأن قد

يا فلان! انطلق، يا فلان! ادع إلى الله جل وعلا، يا فلان! انظر أعداء الله جل وعلا، هذا سافل ساقط خبيث حقير حداثي، جرثومة حداثية .. تبدأ تنشر قصيدة، يأتي من بعده بالتلميع والتعقيب وتسليط الأضواء، والشرح والاختصار، والتحقيق والتخريج فيجعل من كلمة الساقط التافهة مطولة من المطولات.

وأنت يا من تملك هذا! يا من تقدر على أن تأتي بالكثير الكثير! لا تزال تظن أنك لم تستطع، لم تقدر، ولذلك لما تأملت ذات مرة وكنت في زيارة لطلاب جامعة الإمام في السكن الجامعي، فلما نزلنا إلى صلاة المغرب في المسجد، وإذ بالمسجد يمتلئ قرابة ألفي شاب، الله أكبر! جامعة إسلامية وكل هؤلاء أغلبهم قد اجتاز المعاهد العلمية ونال حظاً وافراً من العلوم الشرعية، والأحكام الفرعية، والأصول والفقه، والتفسير، ولا تجد من بين هؤلاء كما في البخاري : (الناس كإبلٍ مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) لا تكاد تخرج من قرابة المائة طالب من ذوي التخصصات الشرعية واحداً أو اثنين أو ثلاثة، كلهم صالحون وعلى درجة من الصلاح والتقى، من قيام الليل، من صيام الإثنين والخميس، لكن أين أثرهم في الدعوة؟ أين بصماتهم في واقعهم؟ أين جهودهم في مجتمعاتهم؟ لا توجد.

وربما بعضهم من أهل منطقة نائية تبعد عن المدينة أو العاصمة أربعمائة كيلو، ثلاثمائة كيلو، قرية بعيدة جداً، وإذا جاء الخميس أو الجمعة أو يوم الأربعاء تجده أول من يخرج من الكلية لزيارة أهله والمكوث معهم بقية الأربعاء والخميس والجمعة، وربما جاء فجر السبت أو مساء الجمعة ما نقل إلى قريته شريطاً أو كتاباً واحداً، وما أقام في قريته درساً واحداً، ما دعا إلى الله جل وعلا في قريته، يذهب ويأوي فقط، تغدو خماصاً وتروح خماصاً، يعني: يذهب جائعاً ويعود جائعاً، أو ربما يروح بطاناً أي: مليئاً لكنه لا ينفق ولا يعطي مما عنده شيئاً، لماذا البخل؟ أهو غرورٌ أم احتقارٌ للذات، إن كان غروراً، أو أن قريتك أو أن مجتمعك حتى ولو كنت في هذه المدينة، أو الحي الذي تسكن فيه ليس بكفءٍ أن تدعوهم إلى الله، أو قد اكتملت جوانب صلاحهم واستقامتهم فليسوا بحاجة إلى طرح مواضيع تنفعهم، أو أنه احتقارٌ للذات، فترى أنك لست بشيء أبداً.

أما إذا كانت المشكلة (مشكلة احتقار الذات) مشكلة نفسية، فهذه تحتاج إلى وقتٍ طويل، وربما بعضهم اجتهدت في زيارته، وبعضهم والله زرته في بيته مراراً: يا فلان! والله إني أجدك أفصح مني، وأفضل مني، وأحسن مني، وأحفظ مني، وأرى لك مكاناً وموقعاً ومنـزلاً، لو نزلت الميدان لنفع الله بك خلقاً عظيماً، فيقول: لا، لا يزال. تقنعه: الذي يقصرني هل يقصرك؟ فصاحة، هل يقصرك معلومات؟ يقول: أنا عندي معلومات أكثر منك، هل يقصرك مقدرة؟ يقول: ربما أنا أكثر جلداً منك، إذاً: ماذا تنتظر؟ يقول: فقط الناس لا يعرفون هذا الشيء ولا يعترفون بهذا الشيء، أو لا يسلمون لي بهذا الشيء، هنا خطرٌ من أمرين:

الأمر الأول: أن المشكلة النفسية لا تزال قائمة.

والأمر الثاني: أنك تريد أن يجتمع الناس لك كما يجتمع الناس لـابن عثيمين وابن باز حينما تلقي محاضرة.

ابدأ ولو لم يحضر معك إلا خمسة، سبعة، عشرة، عشرون .. مائة، المهم ابدأ، وثق بنفسك تمام الثقة، والله جل وعلا حينما يعلم منك الإخلاص والصدق في هذا الطريق سيجمع الناس لك، وسييسر لك وإن لم يحضر معك إلا أربعة، فربما سجل كلامك، وانتقل إلى أضعاف الذين حضروا معك، فنفعهم بإذن الله واهتدى من اهتدى بسبب كلامك هذا ولم تشعر بذلك، ولم تر ذلك إلا في موازين أعمالك يوم القيامة: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] تأتي يوم القيامة وأنت تنظر: يا ربِّ! حسناتي قليلة، يا ربِّ! هفواتي كثيرة:

إلهي لا تعذبني فإنـي     مقرٌ بالذي قد كان مني

يظن الناس بي خيراً وإني     لشر الناس إن لم تعف عني

خائف على نفسك، فإذا البشارة تأتيك في سجل أعمالك: أبشر يا فلان! فقد تقبل الله هدايتك، أو كلمتك أو نصيحتك، أو دعوتك أو محاضرتك، فهدى الله بها فلاناً وفلاناً وفلاناً، وهاهم في موازين أعمالك، فيطيش ميزانك بالحسنات فتكون من أهل الجنة بسبب هذه الكلمة التي ربما ما حضرها إلا أربعة أو خمسة.

أيها الإخوة: ينبغي أن ندرك هذا الأمر جيداً، يقال: إن أحد السلف -ولا يحضرني اسمه الآن- ألف منظومة لا أدري أهي الشاطبية أم الرحبية أم كتاباً غيرهما، لما ألفها في نفسه سراً جعلها في رقعة ورمى بها في البحر، وقال: اللهم إن كانت خالصةً لوجهك فانفع بها، وإن كانت غير ذلك فلا تجعل بها لبشر حظاً ولا نصيباً. فكتب الله لهذه الرقعة أن تطفو ووجدها قومٌ في مركب، فأخذوها وتناقلوها، وما زال الناس يحفظونها ويتدارسونها إلى يومنا هذا، فكلمة الحق حينما تقولها تريد بها وجه الله جل وعلا، والنصيحة والدعوة إلى الله؛ حينما تبذلها تريد بها وجه الله فأنت أديت ما عليك أولاً.

وثانياً: لن تكون أفضل من الأنبياء والرسل، كما في الحديث الصحيح: (وعرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، ورأيت النبي ومعه الرُهيط، ورأيت النبي ومعه الرجل، ورأيت النبي ومعه الرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد) الله أكبر! نبي مؤيد بالوحي والعصمة والمعجزة ولا يأتي معه يوم القيامة أحد، فما آمن معه من قومه إلا قليل: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود:38] وهم قلة، ومع ذلك هل ضاعت ثمار دعوته؟ هل ضاعت أجور أعماله وسعيه؟ لا والله.

إذاً أيها الأحبة: لابد أن نفقه أننا ينبغي أن نبدأ حتى لو كانت البداية مع الجيران في أربعة أشخاص، أو بخمسة أشخاص، ثم قليلاً قليلاً، وإذا كان الإنسان صادقاً مديماً على ما يعمل، مخلصاً لما يعمل، بإذن الله سيأتي اليوم الذي يكون له شأن، ويهتدي على يديه الخلق العظيم.

المشكلة الثانية التي هي مشكلة العقدة النفسية: واسمحوا لي أن أضرب هذا المثل الذي ربما ضربته في أكثر من مكان، يقولون: إنه يوجد رجل كان يعتقد -عنده مشكلة نفسية- عن نفسه أنه حبة شعير، رجل بطوله وعرضه كان يعتقد عن نفسه أنه حبة شعير، ولذلك لا يزور أناساً عندهم دجاج، أو أحداً عنده حمام، لماذا؟ يعتقد عن نفسه أنه حبة شعير وأن الدجاجة أو الحمامة سوف تأكله، فعالجوه، وأقول: حبة الشعير الآن هو بعض إخواننا الذين عنده خيرٌ عظيم لكنه يعتقد أنه ليس بشيء، فهذا رجل لكنه يعتقد أنه حبة، فعالجوه ثلاث سنوات في علاج نفسي واختبارات نفسية حتى تماثل للشفاء وشفي بإذن الله، فلما جاء أوان خروجه من المستشفى، قالوا: هاه يا فلان! بشر اقتنعت أنك رجل، اقتنعت أنك إنسان، ولست بحبة شعير؟ قال: نعم. أنا اقتنعت لكن أقنعوا الدجاج. وهذه مشكلة أن نبدأ ننفخ في شخصية: يا فلان! فيك خير، يا فلان! عندك نفع، يا فلان! عندك مقدرة، يا فلان! عندك معلومات، يقول: أنا مقتنع لكن أقنعوا الناس أيستمعوا إليَّ، أقنعوا الناس أن يستفيدوا مني، اقنعوا الناس أن يتجمهروا لي. يا أخي! أنت ابدأ، دعنا من عقدة الدجاجة والشعيرة هذه، فبإذن الله من سار على دربٍ في إخلاصٍ وصل إلى عاقبة حميدة.

الدعوة لصيقة المعاناة

أيها الإخوة: نقطة أخرى، يظن البعض أن الدعوة تبدأ ومن أول لحظة يرى فيها بنوك الربا تدكدكت على أمها، أي أنه: يظن أنه لم يكن هناك بداية للدعوة، إلا إذا رأى البنوك الشامخة للربا تدكدكت وأصبحت رماداً، وإذا رأى المنكرات كلها قد جابت وانتهت، واضمحلت وتلاشت وفنيت، ومحلات الفيديو والأغاني قد أغلقت وشمعت بالشمع الأحمر، والاختلاط أصبح أبغض ما يكون إلى الناس، والله يا أخي! إذا كنت تظن أنك لن تبدأ بالدعوة إلى الله إلا حينما ننتهي من الربا، وننتهي من الاختلاط ومن الغناء والملاهي، وننتهي من العلمانيين ومن الفساق والفجرة، وأعداء الدعوة الذين يبغضون الحق، فما الحاجة إلى الدعوة أصلاً؟

إن الحاجة تبدأ في هذه الظروف الصعبة التي تجد فيها الربا شامخاً، وتجد فيها الاختلاط يشق طريقه، وتجد فيها الفساد ينخر في المجتمع، وتجد فيها المنافقين يتسللون إلى بصفوف الأمة، حينئذٍ تكون المسئولية أعظم، والواجبات أكبر، والأمانة أخطر، وتتعلق بالأعناق بقدر كل واحدٍ في موقعه ومكانته.

تجد بعضهم يقول: متى يأتي اليوم الذي نجد فيه هذه البنوك كلها أصبحت مصارف إسلامية؟ ومتى يأتي اليوم الذي نجد فيه كل هذه المحلات التي تبيع الملاهي والأفلام الخليعة، وتمارس الترويج للدعارة والزنا والفساد قد انتهت؟ ومتى نجد الاختلاط قد انتهى؟ ومتى ومتى؟ فهو يعيش على هذه الآمال ويعيش على هذه الأماني، لا والله، لسنا بحاجةٍ إلى من يضيع أوقاته وأثمن ساعات حياته التي هي لحظة شبابه، ولحظة حرقته، ولحظة حماسه، لمجرد الآهات والأماني، كلٌ يحسن الآهات:

ولست بمرجعٍ ما فات مني          بليت ولا لعل ولا لو اني

لو أني قلت كذا لفعلت كذا، لو أني كنت كذا لفعلت كذا، أو لعل الأمر كذا، أو ليتني فعلت كذا، كلها لا تجدي في الدعوة شيئاً، أنت صادق فشق طريقك برائحةٍ طيبة ولو كان نتـنُ النجاسات من حولك، تشق طريقك ولو على خيطٍ رفيع، ولو كانت الأشواك عن يمينك ويسارك، تشق طريقك وأنت ترجو حسن العاقبة والخاتمة من عند الله سبحانه وتعالى، ووالله إن لنا في رسول الله أسوةً حسنة كما قال الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب:21] من كان يرجو بعمله أن يلقى الله جل وعلا راضياً عنه لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب:21] أن يكون يوم تكور الشمس، وتنكدر الجبال وتنفطر السماء، وتسجر البحار وتمد الأرض، من كان يرجو في ذلك اليوم من أهل الكرامة ومجالس النور؛ مع الأنبياء والشهداء، مع الذين هم في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، فليبدأ طريقه منذ هذه الأيام، من هذه اللحظة التي يرى فيها أن الحق والباطل أصبح يعيش مواجهة، لم يعد هناك غزل يعيش في الكواليس أو عمل في الخفاء، لا. فليبدأ طريقه صريحاً واضحاً ولا يهدأ له بال، ولا تكتحل له عينٌ بنوم، ولا يلذ بطعام وشراب إلا وهو يمارس هذا العمل، ويجتهد فيه بإذن الله سبحانه وتعالى.

أيها الأحبة: أوان الشروع في المقصود بدأ، وأقول بتوفيق الله: الغيرة موجودةٌ لدى كثيرٍ من الشباب الصالحين، وحسبك أن ترى دليلاً على الغيرة، أن تجد من يطرق بابك، يكاد أن يكسر أقفاله، فإذا سمعت هذا الطرق الشديد، ظننت أن حريقاً حل بواحدٍ من بيوت أهل الحي، وإذا أزعجك تعليق المنبه ظننت أن الأمر قد انتهى، وأن الكيل قد طفا، وأن الطوفان قد فاض على البسيطة، فإذا فتحت بابك وجدت شاباً غيوراً مخلصاً صادقاً يهز يده في وجهك ويقول: رأيت منكراً في مكان كذا، ورأيت منكراً في مكان كذا، أين المغير؟ أين المنكِر؟ أين من يقول كلمة الحق؟ أين من يتقي الله؟ أين من ينطق بالحق فلا يخشى في الله لومة لائم؟ فحينئذٍ تحمد الله جل وعلا.

وما أكثر أن ترى هذه الصورة في مسجدك أو في بيتك، أو في اجتماعك مع إخوانك، تحمد الله جل وعلا على أن الغيرة لا زالت باقية، وهذا دليل حياة القلوب، وإلا لو كانت القلوب قد ماتت في مجموع الأمة لما وجدت من ينزعج من هذه الصورة، ومن هذه الحال؛ لأن الهوان إذا حل بالنفس لا تجدها تعرف معروفاً، أو تنكر منكراً:

من يهن يسهل الهوان عليه     ما لجرحٍ بميتٍ إيلام

فالحاصل أيها الإخوة! أن الغيرة موجودة لدى كل واحد منكم، التمعُّر، الغضب، الانزعاج، التقلب، التغير موجودٌ لدى كل واحد منكم حينما يرى منكراً من المنكرات، وكما في الأثر: "يكاد في آخر الزمان يذوب قلب المؤمن، كما يذوب الملح في الماء، قيل: لِمَه؟ قيل: مما يرى من المنكر فلا يستطيع تغييره" وهذا والله شعورٌ يطوف ويلم بكل واحدٍ منا ومنكم -أيها الأحبة!- ولكن ليبتلي الله ما في قلوبكم، وليمحص ما في صدوركم، وليتخذ منكم شهداء، ليثبت الذين يرجون الحب والإخلاص للدعوة، والذين يرجون منازل الدعاة، ومجاورة النبي صلى الله عليه وسلم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.

لا يستوي الذين لا يجدون في واقعهم شيئاً من آلام المعاناة، وحسرة في رؤية المنكر، أو الضعف أو العجز في بعض الأحيان عن تغييره مع الذين لا يلتفتون قليلاً ولا كثيراً، أقول: حتى ولو كانوا ممن صنفوا الكتب أو قاموا الليل وصاموا النهار، واجتهدوا في الهواجر، وقاموا ليالي الشتاء لا يستوي أولئك مع الذين تتغير وجوههم لرؤية المنكرات في هذه الأرض.

إن العبادة أمرٌ قاصر، لا تحتاج فيه إلى مواجهة، ولا تحتاج فيه إلى كثير من المعاناة، أسهل ما عليك أن تأكل لقمة السحر، ثم تضع رأسك على وسادتك، ثم تصلي تتقلب بين بيتك ومسجدك، ثم تعود لتفطر هنيئاً مريئاً، لا تجد شيئاً قد غير ما أنت فيه، أسهل ما عليك أن تفتح كتابك في مكتبتك فتقرأ وتلخص وتجمع، وتُخَرِّج وتُحقق، وهذا خيرٌ عظيم.

وموت العابد القوام ليلاً     يناجي ربه في كل ظلمة

من الذين يبكى عليهم.

ولكن أيها الإخوة! لا يستوي هؤلاء مع الذين يجمعون مع هذا الدعوة والإنكار والتغيير بقلوبهم وبألسنتهم وبأيديهم حسب الضوابط الشرعية المرعية.

إذاً أيها الإخوة: ينبغي أن نعلم أولاً: أن الناس يتفاضلون في دين الله جل وعلا، ليس بقدر عبادتهم في شكلها أو طولها، أو قصرها، وإنما يتفاضلون بحسب ما يقوم في قلوبهم، ولذلك لما ورد عن أبي بكر رضي الله عنه: (أنه لو وضع إيمان الأمة في كفة ووضع إيمان أبي بكر رضي الله عنه في كفة لرجح إيمان أبي بكر بسائر إيمان الأمة) وكيف يرجح إيمان أبي بكر بسائر إيمان الأمة؟ هل يستطيع أبو بكر أن يصوم رمضان بقدر صيام الأمة أجمع؟ هل يستطيع أبو بكر أن يحج ولو في كل لحظة فضلاً عن مرةٍ في كل سنة بقدر حجات أفراد الأمة أجمع؟ لا.

ولكن [أَمَا إنه ما سبقهم بكثير عمل، ولكنه بشيءٍ وقر في قلبه] ولما وقر هذا الأمر في قلبه استحق كرامةً ومنـزلة من عند الله، والفضل لله أولاً وآخراً.

(لما تلا الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30] قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما أحسن من يقال له هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: إنك يا أبا بكر ! ممن يقال له هذا عند موته).

وفيه نزل قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21].

قد يكون الإنفاق يسيراً، لكن الإنفاق في مواجهة المجتمع الجاهلي في بداية الدعوة يكون صعباً جداً، لا سيما وأنت في موقف الضعف، والجاهلية في موقف المنتصر، ويعتق عبداً من عباد الله بلال بن رباح لكي ينضم إلى معسكر الإيمان، الحالة حينئذٍ صعبة جداً.

قد تقول خطبة عصماء في مشهد جمعٍ غفير، ولكن قد تكون كلمة مكونة من سطرين أو من حرفين أبلغ وأعظم وأقوى وأقبل عند الله حينما تكون في موقفٍ فيه الخوف على الروح والنفس، والخوف على الرزق، أو في مواجهة إمامٍ جائر، ينبغي أن يعلم هذا جيداً.

ومن هنا نقول لإخواننا في الله: بوسع كل واحدٍ منكم أن يبدأ، وعنوان المحاضرة (من هنا نبدأ) اخترت هذه العبارة لأقول لكل واحدٍ: من هنا تبدأ، من مكانك، من بيتك، من موقعك، من عملك، من وظيفتك، من الحي الذي تسكن فيه، من الجهة التي تأوي إليها، من هنا تبدأ.

وبفضل الله جل وعلا، ومن عظيم وواسع منه وكرمه أن هذا الدين لا يحتاج إلى تصريحٍ حتى تكون واحداً من الدعاة إلى الله فيه، لا يحتاج إلى أن تنال اجتياز المقابلات الشخصية، وإنما تحتاج أن تعلم ما تدعو إليه، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع منا مقالةً فوعاها، فبلغها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع) وهذه مسألة عظيمة (ومن دعا إلى هدى فله أجره، وأجور من عمل به إلى يوم القيامة) ولم يشترط لهذا الداعية أن يكون على هذا القدر، أو المكانة أو المجموع قل أو كثر فيما يحفظ أو يروي أو يفقه أو يعلم، وإنما يكفي أن يدعو ولو إلى مقالة واحدة يدعو إليها يريد بذلك وجه الله جل وعلا.

في حقيقة الأمر -أيها الإخوة!- كثيرٌ من شبابنا، كثيرٌ من أحبابنا، كثيرٌ من إخواننا -ولعل من بينكم من هو منهم، أو أكون أنا منهم- يبني حول نفسه أوهاماً من خيوط العنكبوت، ويظن أنه إذا تحرك فإن عشرات الأعين تراقبه، وآلاف الأجهزة ترصد حركته، ومئات الناس يسجلون ما يفعل خطوة خطوة، وهذا مما يصدق فيه قول الله جل وعلا: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] يصور لك الشيطان أنك حينما تريد أن تقف على قارعة الطريق وتجد شباباً تريد أن تجلس معهم، فتعطيهم كلمتين، وليس من شرط هذه الكلمة أن يقبلوها، أو يستجيبوا أو يهتدوا، أو يلتزموا بأول وهلةٍ أنت تخاطبهم أو تكلمهم فيها، لا. يظن البعض أنه لو أراد أن يقدم شريطاً أو أراد أن يقدم هدية أن حوله عشرات الأجهزة تراقبه وترصد حركته، ولذلك تجد بعضهم يقول: لا. أنا أختار أسلوباً آخر، أو أنا من الناس الذين لا أرى هذا المنهج، أو هذه الطريقة .. وهلم جراً.

وليت عدم رؤيته لهذا الأمر من اجتهادٍ توصل إليه بعد باعٍ طويل في علمٍ وفقه، وليس كذلك إلا أنه يظن أن حركاته وسكناته مراقبة ومتابعة، وهب أنك توبعت وروقبت في كل صغيرة وكبيرة، هل سيصدك هذا عن الدعوة إلى الله جل وعلا؟ هل سيردك هذا عن الدعوة إلى الله جل وعلا؟ هل هذا سوف يمنعك أن تنال حظك في منازل الأبرار والشهداء والصديقين والصالحين عند الله سبحانه وتعالى؟

إذاً: لماذا نبني هذه الخيوط، يقول لي ذات مرة شاب من الشباب الصالحين: أنا رأيت أربعة رجال يراقبونني، فسقطت ضحكاً، من أنت حتى يراقبك أربعة، أو واحد أو نصف واحد أو امرأة أو نصف امرأة؟ لماذا تخلق حول نفسك هذا الوهم العنكبوتي الذي لا حجة لك به؟ هل عشت في مجتمع الثورة البلشفية؟ أم أنك تعيش في لينين قراد أو تعيش في المجر ، أو في دول الكتلة الشرقية قبل تحول الوضع الشيوعي؟

لماذا تخلق هذا الوضع حول نفسك؟ لست بحاجة أن تتصور هذا، ولكن الشيطان سول لك وخيل، وجعلك تتصور أنك تعيش في هذه الدائرة، وبالمناسبة هذا من الأساليب النفسية التي يؤثر بها على دعاة الإسلام في بعض بلدان العالم، ويسمونها بالمضايقة النفسية أو بعبارة تشابه هذا المعنى، يبدأ الإنسان يتضايق، يرفع السماعة يخشى أن يقول كلمة، يخرج من البيت يخشى أن ينظر إليه أحد، يمد شريطاً يتوقع أن الكاميرا قد صورته، يقرأ كتاباً يظن أنه قد حقق به .. وهلم جراً !!

إن الله جل وعلا قد خلقك حراً، وأبقاك حراً، بل ولعن من أراد أن يجعلك رقيقاً: (ثلاثة لعنهم الله جل وعلا -وذكر منهم- رجلٌ باع حراً فأكل ثمنه) أنت تعيش حراً وستمضي حراً، وستفضي إلى الله حراً، فلا تخلق حول نفسك هالة من الأوهام العنكبوتية التي تتخيل أو تتوقع بها أنك يوم أن تفعل شيئاً في دين الله جلا وعلا سوف تنتهي من قائمة الناس الأسوياء وغيرهم، ربما يأتيك الشيطان ويقول لك: لا حرج. ولكن هذا قد يعرقل مواصلة سيرك الوظيفي، إذا كنت رجلاً طموحاً في الوظيفة وترغب أن ترشح لأعلى المراتب، فانتبه، قف عند حدٍ معين، لا تتمادى بوضع معين حتى تستطيع أن تصل يوماً ما.

وأقول: ربما يكون الإنسان على خطرٍ في معتقده إذا أوغل في هذا الظن واعتقده، وظن أن الخلق يستطيعون أن يكفوا أو يمنعوا رزقاً قسمه الله له.

وكما في حديث ابن عباس الذي تحفظونه: (يا غلام! احفظ الله يحفظك -إلى أن قال- واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) إذا كان الإنسان يخشى على رزقه، فالله جل وعلا هو الذي خلقك وتكفل برزقك: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6] وكما في الحديث: (جاءني جبريل ونفث في روعي: يا محمد! إنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها ...) والله لو بقي لك في الدنيا عشرة ريالات لتقاتلت الدنيا حتى تصل: (لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) ما قال: تشاحوا، تخوفوا، خافوا على الطلب، بل أجملوا في الطلب، أدنى أمرٍ من أمور بإذن الله جل وعلا يكون سبباً لوصول ما كتبه الله جل وعلا لك.

وإذا كان الخيط العنكبوتي الذي ينسجه الشيطان حولك أيها الأخ المسلم بأنك ربما تموت أو ربما ينتهي أجلك، أو ربما تخترم روحك قبل بلوغ أجلها، فهذا أخطر من الذي قبله، أن تعتقد أن قوةً من قوى البشرية تستطيع أن تخترم من أجلك يوماً أو ساعة واحدة قبل تمام أجلك، وكما كان الإمام علي رضي الله عنه يردد أبياته المشهورة:

أي يوميَّ من الموت أفر     يوم لا يقدر أم يوم قدر

يوم لا يقدر لا أرهبه     ومن المقدور لا ينجو الحذر

فلماذا التخوف إذاً؟ أقول: إن كثيراً من الشباب تجد فيهم عزوفاً عن الدعوة إلى الله جل وعلا، ليس كرهاً في الدعوة، وربما ليس عجزاً أو ضعفاً، بل هو قادر، ولو ناقشته لوجدته أفقه منك أيها المحاضر! وأعلم منك أيها الخطيب! وأصلح منك أيها المتكلم! وأجدر وأقدر في مخاطبة الناس، ولكن فيه أمرٌ لا زال ممسكاً به لم يجعله ينطلق في عالم الدعوة إلى الله جل وعلا، ألا وهو الخوف أو الأوهام العنكبوتية التي نسجها حول نفسه، إما على خطرٍ وإما على رزقٍ وإما على موت.

أقول: ليس هذا مجال تفصيل، وهذه الأمور كلها بيد الله، ولكن هذا واحدٌ من الأسباب التي تجعل كثيراً من الشباب يا للأسف يعزف عن هذا الأمر.

الأمر الآخر: أن بعضهم على مقدرة بالغة، جميلة جليلة طيبة، ومع ذلك:

أزف الترحل غير أن ركابنا     لما تزل برحالنا وكأن قد

يا فلان! انطلق، يا فلان! ادع إلى الله جل وعلا، يا فلان! انظر أعداء الله جل وعلا، هذا سافل ساقط خبيث حقير حداثي، جرثومة حداثية .. تبدأ تنشر قصيدة، يأتي من بعده بالتلميع والتعقيب وتسليط الأضواء، والشرح والاختصار، والتحقيق والتخريج فيجعل من كلمة الساقط التافهة مطولة من المطولات.

وأنت يا من تملك هذا! يا من تقدر على أن تأتي بالكثير الكثير! لا تزال تظن أنك لم تستطع، لم تقدر، ولذلك لما تأملت ذات مرة وكنت في زيارة لطلاب جامعة الإمام في السكن الجامعي، فلما نزلنا إلى صلاة المغرب في المسجد، وإذ بالمسجد يمتلئ قرابة ألفي شاب، الله أكبر! جامعة إسلامية وكل هؤلاء أغلبهم قد اجتاز المعاهد العلمية ونال حظاً وافراً من العلوم الشرعية، والأحكام الفرعية، والأصول والفقه، والتفسير، ولا تجد من بين هؤلاء كما في البخاري : (الناس كإبلٍ مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) لا تكاد تخرج من قرابة المائة طالب من ذوي التخصصات الشرعية واحداً أو اثنين أو ثلاثة، كلهم صالحون وعلى درجة من الصلاح والتقى، من قيام الليل، من صيام الإثنين والخميس، لكن أين أثرهم في الدعوة؟ أين بصماتهم في واقعهم؟ أين جهودهم في مجتمعاتهم؟ لا توجد.

وربما بعضهم من أهل منطقة نائية تبعد عن المدينة أو العاصمة أربعمائة كيلو، ثلاثمائة كيلو، قرية بعيدة جداً، وإذا جاء الخميس أو الجمعة أو يوم الأربعاء تجده أول من يخرج من الكلية لزيارة أهله والمكوث معهم بقية الأربعاء والخميس والجمعة، وربما جاء فجر السبت أو مساء الجمعة ما نقل إلى قريته شريطاً أو كتاباً واحداً، وما أقام في قريته درساً واحداً، ما دعا إلى الله جل وعلا في قريته، يذهب ويأوي فقط، تغدو خماصاً وتروح خماصاً، يعني: يذهب جائعاً ويعود جائعاً، أو ربما يروح بطاناً أي: مليئاً لكنه لا ينفق ولا يعطي مما عنده شيئاً، لماذا البخل؟ أهو غرورٌ أم احتقارٌ للذات، إن كان غروراً، أو أن قريتك أو أن مجتمعك حتى ولو كنت في هذه المدينة، أو الحي الذي تسكن فيه ليس بكفءٍ أن تدعوهم إلى الله، أو قد اكتملت جوانب صلاحهم واستقامتهم فليسوا بحاجة إلى طرح مواضيع تنفعهم، أو أنه احتقارٌ للذات، فترى أنك لست بشيء أبداً.

أما إذا كانت المشكلة (مشكلة احتقار الذات) مشكلة نفسية، فهذه تحتاج إلى وقتٍ طويل، وربما بعضهم اجتهدت في زيارته، وبعضهم والله زرته في بيته مراراً: يا فلان! والله إني أجدك أفصح مني، وأفضل مني، وأحسن مني، وأحفظ مني، وأرى لك مكاناً وموقعاً ومنـزلاً، لو نزلت الميدان لنفع الله بك خلقاً عظيماً، فيقول: لا، لا يزال. تقنعه: الذي يقصرني هل يقصرك؟ فصاحة، هل يقصرك معلومات؟ يقول: أنا عندي معلومات أكثر منك، هل يقصرك مقدرة؟ يقول: ربما أنا أكثر جلداً منك، إذاً: ماذا تنتظر؟ يقول: فقط الناس لا يعرفون هذا الشيء ولا يعترفون بهذا الشيء، أو لا يسلمون لي بهذا الشيء، هنا خطرٌ من أمرين:

الأمر الأول: أن المشكلة النفسية لا تزال قائمة.

والأمر الثاني: أنك تريد أن يجتمع الناس لك كما يجتمع الناس لـابن عثيمين وابن باز حينما تلقي محاضرة.

ابدأ ولو لم يحضر معك إلا خمسة، سبعة، عشرة، عشرون .. مائة، المهم ابدأ، وثق بنفسك تمام الثقة، والله جل وعلا حينما يعلم منك الإخلاص والصدق في هذا الطريق سيجمع الناس لك، وسييسر لك وإن لم يحضر معك إلا أربعة، فربما سجل كلامك، وانتقل إلى أضعاف الذين حضروا معك، فنفعهم بإذن الله واهتدى من اهتدى بسبب كلامك هذا ولم تشعر بذلك، ولم تر ذلك إلا في موازين أعمالك يوم القيامة: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] تأتي يوم القيامة وأنت تنظر: يا ربِّ! حسناتي قليلة، يا ربِّ! هفواتي كثيرة:

إلهي لا تعذبني فإنـي     مقرٌ بالذي قد كان مني

يظن الناس بي خيراً وإني     لشر الناس إن لم تعف عني

خائف على نفسك، فإذا البشارة تأتيك في سجل أعمالك: أبشر يا فلان! فقد تقبل الله هدايتك، أو كلمتك أو نصيحتك، أو دعوتك أو محاضرتك، فهدى الله بها فلاناً وفلاناً وفلاناً، وهاهم في موازين أعمالك، فيطيش ميزانك بالحسنات فتكون من أهل الجنة بسبب هذه الكلمة التي ربما ما حضرها إلا أربعة أو خمسة.

أيها الإخوة: ينبغي أن ندرك هذا الأمر جيداً، يقال: إن أحد السلف -ولا يحضرني اسمه الآن- ألف منظومة لا أدري أهي الشاطبية أم الرحبية أم كتاباً غيرهما، لما ألفها في نفسه سراً جعلها في رقعة ورمى بها في البحر، وقال: اللهم إن كانت خالصةً لوجهك فانفع بها، وإن كانت غير ذلك فلا تجعل بها لبشر حظاً ولا نصيباً. فكتب الله لهذه الرقعة أن تطفو ووجدها قومٌ في مركب، فأخذوها وتناقلوها، وما زال الناس يحفظونها ويتدارسونها إلى يومنا هذا، فكلمة الحق حينما تقولها تريد بها وجه الله جل وعلا، والنصيحة والدعوة إلى الله؛ حينما تبذلها تريد بها وجه الله فأنت أديت ما عليك أولاً.

وثانياً: لن تكون أفضل من الأنبياء والرسل، كما في الحديث الصحيح: (وعرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، ورأيت النبي ومعه الرُهيط، ورأيت النبي ومعه الرجل، ورأيت النبي ومعه الرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد) الله أكبر! نبي مؤيد بالوحي والعصمة والمعجزة ولا يأتي معه يوم القيامة أحد، فما آمن معه من قومه إلا قليل: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود:38] وهم قلة، ومع ذلك هل ضاعت ثمار دعوته؟ هل ضاعت أجور أعماله وسعيه؟ لا والله.

إذاً أيها الأحبة: لابد أن نفقه أننا ينبغي أن نبدأ حتى لو كانت البداية مع الجيران في أربعة أشخاص، أو بخمسة أشخاص، ثم قليلاً قليلاً، وإذا كان الإنسان صادقاً مديماً على ما يعمل، مخلصاً لما يعمل، بإذن الله سيأتي اليوم الذي يكون له شأن، ويهتدي على يديه الخلق العظيم.

المشكلة الثانية التي هي مشكلة العقدة النفسية: واسمحوا لي أن أضرب هذا المثل الذي ربما ضربته في أكثر من مكان، يقولون: إنه يوجد رجل كان يعتقد -عنده مشكلة نفسية- عن نفسه أنه حبة شعير، رجل بطوله وعرضه كان يعتقد عن نفسه أنه حبة شعير، ولذلك لا يزور أناساً عندهم دجاج، أو أحداً عنده حمام، لماذا؟ يعتقد عن نفسه أنه حبة شعير وأن الدجاجة أو الحمامة سوف تأكله، فعالجوه، وأقول: حبة الشعير الآن هو بعض إخواننا الذين عنده خيرٌ عظيم لكنه يعتقد أنه ليس بشيء، فهذا رجل لكنه يعتقد أنه حبة، فعالجوه ثلاث سنوات في علاج نفسي واختبارات نفسية حتى تماثل للشفاء وشفي بإذن الله، فلما جاء أوان خروجه من المستشفى، قالوا: هاه يا فلان! بشر اقتنعت أنك رجل، اقتنعت أنك إنسان، ولست بحبة شعير؟ قال: نعم. أنا اقتنعت لكن أقنعوا الدجاج. وهذه مشكلة أن نبدأ ننفخ في شخصية: يا فلان! فيك خير، يا فلان! عندك نفع، يا فلان! عندك مقدرة، يا فلان! عندك معلومات، يقول: أنا مقتنع لكن أقنعوا الناس أيستمعوا إليَّ، أقنعوا الناس أن يستفيدوا مني، اقنعوا الناس أن يتجمهروا لي. يا أخي! أنت ابدأ، دعنا من عقدة الدجاجة والشعيرة هذه، فبإذن الله من سار على دربٍ في إخلاصٍ وصل إلى عاقبة حميدة.

أيها الإخوة: نقطة أخرى، يظن البعض أن الدعوة تبدأ ومن أول لحظة يرى فيها بنوك الربا تدكدكت على أمها، أي أنه: يظن أنه لم يكن هناك بداية للدعوة، إلا إذا رأى البنوك الشامخة للربا تدكدكت وأصبحت رماداً، وإذا رأى المنكرات كلها قد جابت وانتهت، واضمحلت وتلاشت وفنيت، ومحلات الفيديو والأغاني قد أغلقت وشمعت بالشمع الأحمر، والاختلاط أصبح أبغض ما يكون إلى الناس، والله يا أخي! إذا كنت تظن أنك لن تبدأ بالدعوة إلى الله إلا حينما ننتهي من الربا، وننتهي من الاختلاط ومن الغناء والملاهي، وننتهي من العلمانيين ومن الفساق والفجرة، وأعداء الدعوة الذين يبغضون الحق، فما الحاجة إلى الدعوة أصلاً؟

إن الحاجة تبدأ في هذه الظروف الصعبة التي تجد فيها الربا شامخاً، وتجد فيها الاختلاط يشق طريقه، وتجد فيها الفساد ينخر في المجتمع، وتجد فيها المنافقين يتسللون إلى بصفوف الأمة، حينئذٍ تكون المسئولية أعظم، والواجبات أكبر، والأمانة أخطر، وتتعلق بالأعناق بقدر كل واحدٍ في موقعه ومكانته.

تجد بعضهم يقول: متى يأتي اليوم الذي نجد فيه هذه البنوك كلها أصبحت مصارف إسلامية؟ ومتى يأتي اليوم الذي نجد فيه كل هذه المحلات التي تبيع الملاهي والأفلام الخليعة، وتمارس الترويج للدعارة والزنا والفساد قد انتهت؟ ومتى نجد الاختلاط قد انتهى؟ ومتى ومتى؟ فهو يعيش على هذه الآمال ويعيش على هذه الأماني، لا والله، لسنا بحاجةٍ إلى من يضيع أوقاته وأثمن ساعات حياته التي هي لحظة شبابه، ولحظة حرقته، ولحظة حماسه، لمجرد الآهات والأماني، كلٌ يحسن الآهات:

ولست بمرجعٍ ما فات مني          بليت ولا لعل ولا لو اني

لو أني قلت كذا لفعلت كذا، لو أني كنت كذا لفعلت كذا، أو لعل الأمر كذا، أو ليتني فعلت كذا، كلها لا تجدي في الدعوة شيئاً، أنت صادق فشق طريقك برائحةٍ طيبة ولو كان نتـنُ النجاسات من حولك، تشق طريقك ولو على خيطٍ رفيع، ولو كانت الأشواك عن يمينك ويسارك، تشق طريقك وأنت ترجو حسن العاقبة والخاتمة من عند الله سبحانه وتعالى، ووالله إن لنا في رسول الله أسوةً حسنة كما قال الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب:21] من كان يرجو بعمله أن يلقى الله جل وعلا راضياً عنه لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب:21] أن يكون يوم تكور الشمس، وتنكدر الجبال وتنفطر السماء، وتسجر البحار وتمد الأرض، من كان يرجو في ذلك اليوم من أهل الكرامة ومجالس النور؛ مع الأنبياء والشهداء، مع الذين هم في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، فليبدأ طريقه منذ هذه الأيام، من هذه اللحظة التي يرى فيها أن الحق والباطل أصبح يعيش مواجهة، لم يعد هناك غزل يعيش في الكواليس أو عمل في الخفاء، لا. فليبدأ طريقه صريحاً واضحاً ولا يهدأ له بال، ولا تكتحل له عينٌ بنوم، ولا يلذ بطعام وشراب إلا وهو يمارس هذا العمل، ويجتهد فيه بإذن الله سبحانه وتعالى.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2831 استماع
حقوق ولاة الأمر 2700 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2660 استماع
توديع العام المنصرم 2653 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2555 استماع
أنواع الجلساء 2465 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2464 استماع
الغفلة في حياة الناس 2450 استماع
إلى الله المشتكى 2448 استماع
نساء لم يذكرهنَّ التاريخ 2430 استماع