شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [8]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد:

فكنا نتكلم على ما ظهر في أيامنا من تصحيح وتضعيف لأحاديث السنن التي نقلها أئمتنا، ودعوى البعض بضعف كثير من الأحاديث التي في السنن، فبعد أربعة عشر قرناً من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام ما اطمأن قلبه منها، وألف حديث ضعفها في سنن الترمذي؟ ونحن إخوتي الكرام! نسأل الله جل وعلا خلال بحثنا ألا يثبت معنا في سنن الترمذي مائة حديث، أرجو الله جل وعلا ألا نقف إلا على أقل من خمسين حديثاً ضعفها الإمام الترمذي فلنرى بعد ذلك هل لها ما يجبرها أم لا؟

وقفة مع اجتهاد المتأخرين المعتبر في التصحيح والتضعيف

عندما يأتي معنا الحديث، ومعه مثل هذه الشواهد وهذا الطرق وهذه الروايات التي في الباب، ولو قدر أن هناك شيئاً من الكلام حول رواية فإنه يزول بهذه الطرق المتعددة الكثيرة، موكولاً لاجتهاد الإنسان.

ولكن أي اجتهاد؟ هل كل من يزعم أنه مجتهد يحكم على أحاديث حكم عليها أئمتنا نوافقهم أو نخالفهم؟

عندما تقول لأحدهم: ماذا تفعل؟ يقول: المجتهد له أجران، والمخطئ له أجر، ولو تنزلنا عند هذا فأنا أريد أن أقول للألباني ولغيره: كلامك يحتمل الخطأ أم لا؟

سيقول: قطعاً يحتمل، وإذا قال: إنه هو أو غيره معصوم فقد خرج من عداد العقلاء، نقول له: وكلام أئمتنا نسلم إنه صحيح يحتمل الخطأ، وكلامك صحيح يحتمل الخطأ، فأي الكلامين أقوى، كما قال الحافظ في الرد الإجمالي؟

أريد أن أعلم، فأنت عندما نظرت لهذه التراجم لا يمكن أن تقول: أنا اكتشفت هذه التراجم وكلها نقلتها من تهذيب التهذيب أليس كذلك؟ ومن كلام الحافظ ابن حجر؟ فقد وقف عليها جهابذة أنت لا تأتي قطرة في بحارهم، وقفوا عليها ثم حكموا على الرجل، يعني: هو لو وقف على أقوال لا علم له بها، ما اطلع على هذا فأنت تنقل من كتبهم، وهم بعد أن وقفوا عليها قالوا: حكمنا في هذا الرجل كذا، وأنت تأتي وتقول في كتاب واحد في حديث واحد: ابن حجر مخبط، تلك الكلمة التي تشاع: من أخرج له الشيخان جاوز القنطرة، كل هذه لا حقيقة لها، وتأتي بعدها وتقول: ما قاله الحافظ ابن حجر بأن رواية يحيى بن سليم الطائفي مردودة إذا كانت عن عبيد الله بن عمر وفي هذا خلاف التحقيق، وأنت الذي قلته، فأنت المحقق إذا وجدت من كلامه شيئاً تتقيد به؛ لتتخلص من المعرة والمضرة قلت: ابن حجر يقول هذا، وابن حجر إنما يقرر صحة ما قرره أئمتنا، ومنهم البخاري ، وأنت تقول: هذا خلاف التحقيق، فأنا أريد أن أقول للتنزل معك ومع غيرك: كلامكم صحيح يحتمل الخطأ، وكلام أئمتنا صحيح يحتمل الخطأ، فهل نقدم كلام البخاري أو كلام الألباني ؟

هذه تحتاج الآن لعاقل يعقل وإذا صعدت العقول من البشر فماذا نعمل؟

كما أنكم تقولون: هذا اجتهاد، نسألكم: هل هو خطأ؟ قالوا: لا، هو اجتهاد ونحن إن أخطأنا فلنا أجر، وإن أصبنا فلنا أجران.

نقول: يا جماعة! سدوا باباً ستتلوث به السنة، بهذا الاجتهاد الذي تزعمونه، كل واحد يأتي ويرد السنة ويقول: أنا مجتهد، ويقول ما لم يسبقه إليه إنس ولا جان وهو مجتهد، فلو نحن تنزلنا ضمن كلامكم، فكلامهم صحيح يحتمل الخطأ، وقد شهد الأول والآخر لرفعة قدر أولئك الأسلاف على من جاء بعدهم فلنقتد بسلفنا، أولسنا ندعو إلى السلفية؟ أنا أريد أن أعلم ألسنا نحن ندعو إلى السلفية؟

ما صححه البخاري وأئمتنا المتقدمين هل هؤلاء من أهل البدع؟ أليسوا بسلف؟

لم لا نقف عند كلامهم؟ حديث في صحيح البخاري ولا يوجد بعد ذلك من نماذج أخرى، ولا نعلم ضعيفاً، حسناً، يقرب من الحسن، يحتمل التحسين، يا عبد الله! أنت متردد في كلامك حتى ما تثبت على قول.

هذا لابد من وعيه.

وأقول حقيقة: عندما يقرأ الإنسان في هذه الكتب -التي كما يقال: ألفت لخدمة السنة وغربلتها- والله الذي لا إله إلا هو يرى من التسويف والتشويه ما يذهل الحليم، وسأقرر هذا بحديث واحد فقط ونعود إلى بحثنا.

وأما معالجة هذا الموضوع بحيثياته، فسيأتينا الكلام عليه إن شاء الله في موعظة كاملة لنضع كل شيء في موضعه، ثم بعد ذلك: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس:108].

أنا أريد أن أعلم من هو السلفي؟

أهو الذي يحافظ على ما قرره أئمتنا المحدثون في القرن الثالث والثاني للهجرة، أم الذي يخرج عن أقوالهم في هذا الوقت؟ هذا لابد من تحديده إخوتي الكرام!

مثال على تناقض الألباني في التصحيح والتضعيف

مثال على ذلك: حديث في هذا الكتاب -السلسلة- في صفحة اثنتين وتسعين وأربعمائة، برقم أربع وعشرين وثلاثمائة وألف: (أفشوا السلام، أطعموا الطعام، اضربوا الهام، تورثوا الجنان). يقول: ضعيف أخرجه الترمذي وتكلم عليه، ثم يقول بعد ذلك هنا: وللحديث طرق أخرى دون الفقرة الثالثة يرويه عن أبي ميمونة عن أبي هريرة رضي الله عنه: (قال: قلت: يا رسول الله! إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء، قال: كل شيء خلق من ماء، قال: قلت: يا رسول الله! أنبئني عن أمر إذا أخذت به دخلت الجنة، قال: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام).

يقول: أخرجه ابن حبان وأحمد -انتبه للكلام!- وهذا إسناد ضعيف.

قال الدارقطني : أبو ميمونة عن أبي هريرة وعنه قتادة مجهول يترك، لكن قوله: (أفشوا السلام) إلى آخره، قد صح من حديث عبد الله بن سلام (مرفوعاً) وهو مخرج في الصحيح.

الآن يقول: الحديث ضعيف، عزاه إلى أحمد وابن حبان ويقول في تخريج هذا الحديث في الجزء الثاني من الإرواء صفحة ثمان وثلاثين ومائتين: وله حديث آخر يرويه عنه أبو ميمونة -نفس الحديث السابق ذكره- وفيه لفظة: (وصلوا بالليل والناس نيام) ثم قال: أخرجه أحمد وهو في ابن حبان أيضاً في صفحة ثمانٍ وستين ومائة في موارد الظمآن، والحاكم أيضاً في المستدرك في الجزء الرابع صفحة تسع وعشرين من طريق قتادة عن أبي ميمونة .

قلت -الألباني-: وإسناده صحيح رجاله رجال الشيخين غير أبي ميمونة وهو ثقة كما في التقريب وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

يقول: أبو ميمونة عن أبي هريرة وعنه قتادة مجهول يترك. وحكم على الحديث بالضعف.

هذا الآن حديث واحد في سلسلة الأحاديث قلت عنه: ضعيف، وفي الإرواء قلت: هو حديث إسناده صحيح، في الأول قلت: أبو ميمونة مجهول يترك، وفي الثاني قلت: أبو ميمونة كما في التقريب، في الأول حسنت وصححت وفي الثاني ضعفت، وما أعلمه تراجع؛ لأن التراجعات ما أكثرها.

أقول: هذه التراجعات إذا كنتم تصححون وتتراجعون، وتصححون وتضعفون، وتضعفون وتصححون، فهلا أنصفتم من أول الأمر، ووقفتم عند الذي وقف عليه أئمتنا، أي: هلا وقفت من البداية، ضعفت هذا الحديث في سلسلة الأحاديث الضعيفة، وصححه بعض المعاصرين.

وانظر لكلامه وهو يصححه في الإرواء يقول بعد أن عزاه لـأحمد وابن حبان: ثم رأيت الحديث في المستدرك في الجزء الرابع صفحة تسع وعشرين ومائة هو هنا من الوجه المذكور، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي مع أن أبا ميمونة ورد في الميزان، ونقل عن الدارقطني ما ذكرته آنفاً من التجهيل وأقره، يقول: وأما الحاكم فلعله ظن أن أبا ميمونة هذا هو الفارسي وليس أبا ميمونة الأباط، أو أنه ظن أنهما واحد، والراجح التفريق، وإليه ذهب الشيخان وأبو حاتم وغيره كـالدارقطني فإنه وثق الفارسي كما قال الحافظ في التهذيب عقيبه، فهذا مما يؤيد أنه غير الفارسي ، ووقع في ابن حبان هلال بن أبي أمية وهو خطأ مطبعي أو من النساخ والله أعلم.

ثم رأيت ابن كثير جرى في التفسير على عدم التفريق فقال عقب الحديث: وقد ساقه من رواية أحمد في المسند، وقال: هذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن واسمه سليم والترمذي يصحح له، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً والله أعلم.

قلت: وهذه علة أخرى وهي الإرسال.

يقول: والحديث مما صححه الرفاعي في مختصره، والرفاعي هو الشيخ محمد نسيب الرفاعي الذي كان مع الألباني أكثر من ربع قرن كما يقول عن نفسه، وكما قلت: هذا يحتاج إلى كلام يوضح فيه هذا الأمر، وإلى حجم المرض الذي ينتشر في هذا الوقت في الأمة، كان معه أكثر من خمس وعشرين سنة وعلى طريقته، وكما قلت سابقاً في النصيحة التي وجهتها إلى الشيخ قلت: إن من معك تفرقوا عنك، وبدأ التخاصم بينك وبينهم، فهذا أول أصحابه وعاش معه أكثر من خمس وعشرين سنة وهو الذي اختصر تفسير ابن كثير ، وهذا في الأصل ما كان له في العلم، مع أن الشيخ محمد نسيب عندما يخاطب شيخه الألباني -مع أنه يرد عليه- كان كما يقال: يعطيه رقبته ليذبحه يقول: أنا لا أنازعك في علمك وفي كذا، لكنني أرى قسوة بهذا الكلام، وصرنا مع السلفيين أضحوكة يكفر بعضنا بعضاً، ويلعن بعضنا بعضاً، هذا في رسالة مطبوعة موجودة ضمن كتاب التوصل إلى حقيقة التوسل للشيخ: محمد نسيب الرفاعي ، قلت له: تلاعن ويكفر بعضنا بعضاً، ونحن كنا نحذر من الشرك، وصرنا نتهم بعضنا بالشرك، أنا لا أنازعك فيما أنت عليه، وأنا لا أصل إلى درجتك فلم تقسو عليّ؟

ثم ختم الأمر وقال: على كل حال إذا ندمت على كلامك في، وأنني قد تكلمت بما هو شرك أو كفر وخروج من الملة، إذا ندمت فالندم توبة، وسامحك الله، وإلا فسأتقاضى حقي أمام أحكم الحاكمين، هذا آخر الرسالة المطبوعة.

وهنا يقول: والحديث مما صححه الرفاعي والرفاعي لا يصحح ولا يضعف، بل نقل عن ابن كثير حيث يقول: إسناده على شرط الشيخين، اختصر كلامه وقال: الحديث صحيح.

استمع ماذا يقول الألباني ! يقول: فما أكثر تعديه وظلمه لنفسه وقرائه.

لو قلنا هذه العبارة للألباني؛ لأنك ضعفت الحديث في سلسلة الأحاديث الضعيفة، وصححته في إرواء الغليل فما أكبر ظلمك لنفسك وقرائك، وما أكثر تعديك وعدم وعيك، فما الحال حينئذ؟

يقول: وشاركه في ذلك الصابوني الذي اختصر أيضاً تفسير ابن كثير وزاد عليه أنه عزا التخريج إلى نفسه حيث جعله في الحاشية، وذلك من ديدنه كما كنت نبهت عليه في مقدمة المجلد الرابع من الصحيحة، فعد إليه إن شئت أن تعرف حقيقته -لتسمع السباب والمخاصمة والمشاتمة-.

إخوتي الكرام! هذا حديث هنا يصحح وهنا يضعف، وعندما يضعفه يرد على من صححه.

يا عبد الله! أنت صححته أيضاً، فهل توجه تلك العبارات إلى نفسك؟

إن الواجب أن ما صححه أئمتنا فلنقف عند حدنا ولا نتجاوز قدرنا ولا نعتدى على أئمتنا ولا نظلم أنفسنا.

يقول الإمام الترمذي عليه رحمة الله: وكلا الحديثين مرسل، فكيف وقفنا على رواية بعد ذلك: بأن هذا الإرسال فيه ضعف؟ فلنحمد الله، وليس في ذلك رد على أئمتنا ولا خروج عن أقوالهم، وهذا مسلكنا، وأما من صحح، فنقول له: قف عند حدك لا سيما إذا كان في الصحيحين.

ونحن ينبغي أن نعلم -والله الذي لا إله إلا هو- أنه ليس بيننا وبين أحد مسألة نختصم عليها إلا لله وفي شرع الله، وأما ما عدا هذا فما نريد أن نختصم؛ لأنهم كلهم لنا إخوة، والكبير منهم لنا بمنزلة الأب والوالد، ونحترم الإنسان ما احترم أئمتنا، فإذا جاء ليخرج عن أقوالهم، والله مكانة أئمتنا أعلى من مكانتنا، ولأن تضرب هذه الرقبة بألف سيف مسلول أيسر علي من أن أقبل قول إنسان في هذا العصر بأن حديثاً في صحيح البخاري ضعيف.

أقول: هذا الكلام ضعه في جيبك وانصرف عني، والأمة لو كان فيها من يرعى دين الله لأوقفكم عند حدودكم، لكن ماذا نعمل؟ هذا الكلام لا يمكن أن نقبله، ولا يمكن أن يقبل بحال من الأحوال، فنحن نحبكم ونحب المسلمين أجمعين، لكن ضمن الدائرة الشرعية، فإذا جئتم لتتقدموا على أئمتنا، وليرد المتأخر على المتقدم فنقول: قف عند حدك؛ لأنك جهلت قدرك، فمن باب أولى نحن لا نقدرك، وهذا الكلام مردود عليك، ومع ذلك نسأل الله لك الرحمة والمغفرة، وأن يلهمك رشدك، وأن تعود إلى الصواب الذي قرره أئمتنا أولو الألباب.

الآثار السيئة لفتح باب الاجتهاد في باب التصحيح والتضعيف

وقد ظهرت في كل مكان في هذه الأيام حملات منكرة حول حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، بعضهم بسوء نية وخبث، وبعضهم حقيقة يبحث كما يقول بحثاً، فنقول: هذا مجتهد فيه، لكن هذا الذي هو -إن شاء الله- صادق في نيته ويبحث بحثاً قد مكن أولئك الزنادقة الذين طعنوا في السنة في هذه الأيام بسوء نية، وكنت ذكرت لكم عدداً من الأحاديث في كتاب الفرقان في رسم القرآن لبعض المخرفين ومنه حديث أنس : (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يطوف على نسائه بغسل واحد) ويقول: هذا افتراء، وهذا هراء، وهذا لا ينبغي أن يقبل، وهذا قلة حياء، وغير هذا الكلام مما قرأته.

إذاً: الأمر كما قلت: نحن فتحنا الباب، ونحن قلنا للناس: إن المسألة سهلة، فهي مجرد بحث إن أصبت فلك أجران، وإن أخطأت فلك أجر، وهكذا الزنادقة يدخلون، فيا عبد الله! لابد الآن من النظر إلى المصلحة الشرعية.

أنا أريد أن أعلم أين الذين يلوحون بين الحين والحين بسد الذريعة؟ قفوا الآن عن الكلام والطعن في أحاديث الصحيحين، فعملكم هذا ذريعة إلى التلاعب، لا أقول: تلاعب صغار طلبة العلم بل تلاعب الزنادقة بحديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا قيل لهم: ماذا تفعلون؟ قالوا: يا جماعة! نحن مجتهدون، إن أصبنا -والحمد لله- فلنا أجران، وإلا فنحن على أجر فلم تعيبون علينا؟! إن التصحيح والتضعيف كله اجتهاد فلم تنكرون علينا؟

فانظر أي مفسدة عملنا في الأمة عندما جئنا لنقول: بحث علمي، ونحن نبحث، والقلب ما اطمأن لهذا الحديث وإن كان في صحيح البخاري ، أما اطمأن قلبنا لما فعله أئمتنا؟! سبحان ربي العظيم!

يقول البخاري: عرضت هذا الجامع على أبي زرعة فما قال: فيه علة تركته، وما أودعت فيه إلا صحيحاً.

نقول: لا، قلبنا لا يطمئن لهذا الكلام، ونحن سنحاكمك ونحاكم كل أحد على وفق الأقوال التي جاءت في هذه الكتب في تراجم الرجال، وبعد ذلك نقبل الأحاديث التي صححتموها أو لا، فلنا الخيار.

وإذا قال أحد منهم: نحن مجتهدون، ثم كان منه التناقض فليس هذا مسلكاً جيداً، يقول: حسن، قريب من الحسن، يحتمل التحسين، ضعيف.

يا عبد الله! أنت تحيرت وحيرت الناس أيضا، اثبت على قول.

وهو عندما يريد أن يقول: إنه ضعيف يرتدع ويقول في نفسه: الآن الأمة سيحصل بها ما يحصل، فيأتي بعبارة سهلة يقول: حسن، قريب من الحسن، يحتمل التحسين.. على نحو هذه العبارة، والمسألة سهلة فنقول: إنه ضعيف، وفي الحقيقة عندما يأتي لحديث في الصحيحين يقول عنه: ضعيف، فهذا مثل الإنسان عندما يريد أن يعصي أول مرة مباشرة، تراه يختلج جسده ويقشعر جلده ويقف شعره، فهل تقول: هذا ليس مذنباً وليست هذه المعصية، إن هذا إذا استمرأ هذا وفعله، فإنه بعد ذلك يفعله دون أن يجد غضاضة ودون أن يتمعر وجهه.

وهنا حديث في الصحيحين يقول عنه: ضعيف، نقول: هذه كبيرة، من يقول: حسن، قريب من الحسن، يحتمل التحسين، ثم بعد ذلك ضعيف، ليس هذا عمل المحدثين ولا هذا عمل العلماء، فإنه لا يوجد قواعد علمية تحكم بمثل هذه الأحكام الأربعة، فأرح نفسك والناس، أما أن تجمع هذه وهذه وهذه فهذا تناقض.

وكنت ذكرت مثالاً على هذا في المحاضرة التي كنت تكلمت فيها حول ما أثير من لغط في الموضوعات السابقة:

حديث أنس رضي الله عنه: (حياتي خير لكم ومماتي خير لكم) وقلت: إنه ضعيف، يقول: ضعيف وفيه متهم، كما في ضعيف الجامع، فلم أنت إذا قلت شيئاً يعتبر منك، ونحن إذا قلنا لا يعتبر منا؟ وهنا محمد نسيب الرفاعي يقول: هذا الحديث صحيح كما في تفسير ابن كثير ، فتقول: ما أكثر تعديه وظلمه لنفسه ولقراء كتابه.

لم هذا يا عبد الله؟! هو الآن تابع مقلد يقول لنا كذلك.

أنا الآن عندما آتي وأقول: ( ثلاثة أنا خصمهم ) في الحديث القدسي الصحيح كما في البخاري وأنا أقول: حديث صحيح، تأتي وتقول: عبد الرحيم ظالم لنفسه، ما أكبر ظلمه وتعديه!

لقد صحح الحديث وهو ضعيف، اتق الله في نفسك أيها الإنسان!

أنت تقول: الأمة ليس فيها في هذه الأيام من يعي علم الحديث، وليس فيها من يفهم هذا العلم.

نحن راضون بما حكمت، وإذا كنا لا نفهم فلم تدعونا لتقليدك؟ فلنقلد أئمتنا الكرام.

أقول: هذا الحكم ينطبق عليك قبل أن ينطبق عليَّ، لا نحن ولا أنت خرجنا منه، لكن أنت تقول: لا يوجد في هذا الوقت أحد يدرك علم الحديث ويعيه، والناس كلهم مخبطون ويمزقون من هنا وهناك، وأنا أقول: هذا واقع الأمة كلها وأنت من بينهم، لكن أنت لو خرجت وقلت: هذا وصف، فما العدالة وما هو عمل المقلد؟

أن يقلد من هو حي ليصحح هنا ويخطئ هنا ويقول في حديث واحد: أربعة أحكام مختلفة، وأحياناً يقول: صححت الحديث وهو ضعيف، وسبق نظري إلى سند آخر في الكتاب، ونحو هذا.

يا عبد الله! كيف سنتبعك؟! وكما يقال: هذا علمك لنفسك، وما دام الأمر أنه لا يوجد من يصلك إلى الموازنة، والأمة كلها مقلدة، ولا يوجد من يعي هذا العلم، والله الذي لا إله إلا هو إن العاقل من يقلد البخاري ولا يقلد الألباني ، ويقلد الحافظ ابن حجر والإمام الترمذي .

سيأتينا أن الحديث يقول عنه: حسن، ويقول عنه: ضعيف، ثم يأتي يقول بعد ذلك: إن تحسين الترمذي غير مسلم؛ فإنه يوجد ألف حديث في الترمذي ضعيفة، هذا عدا عن الروايات الأخرى التي لها متابعات وشواهد، كل هذا الكلام لك فقط، ولا يخرج عنك أبداً، وستسأل عنه أمام الله، وهو لا يلزمنا، فنحن نوقن يقيناً أن الترمذي أعلم منك.

الرد على من ضعف أكثر أحاديث سنن الترمذي

فإن قيل: إن أئمتنا قالوا في الترمذي : لا يوثق بتحسينه أحياناً ولا يعتمد. نقول: هؤلاء جهابذة حذاق لا مثلك، هذا كلام جهابذة حذاق مثل ابن حجر يقول: هذا الحديث حسنه الترمذي وصححه، والأمر في الحقيقة بخلاف ذلك، نقول: الأمر إن اتسع للنظر فلنأخذ بكلام ابن حجر وبكلام الترمذي .

أما أن يأتينا إنسان في القرن الرابع عشر للهجرة ويقول: سنن الترمذي فيها ألف حديث كلها ضعيفة، لا يستدل بها لا في أحكام ولا في الفضائل ولا يجوز ذكرها، وهذه ليس لها متابع ولا شاهد، وهي تعادل خمس كتابه، وقد قال الأئمة: تحسين الترمذي فيه تساهل، وبناءً على هذا الكلام فقد فتح باباً كما قلت: واسعاً، فيه تساهل.

أنا أريد أن أقول: إن سنن الترمذي تداوله الأئمة الكرام، ما بين شارحين وما بين راوين، وما بين دارسين، فهل انتقدوا ما انتقدته؟ ليس كذلك، يبقى كما قلت: في النظر مجال، أما أن تأتي وتقول: قالوا كذلك، فأنا إذاً: أدخل حديثاً حديثاً وليس لي علاقة بأحد قبلي أبداً، فأنا أبحث فيها ثم بعد ذلك تبين لي أن فيها قرابة ألف حديث ضعيفة ليس لها متابع ولا شاهد.

إن هذا هو ما يشاهد في هذه الأيام، والسبب في ذلك: أنه لا يوجد من يرعى الأمة، ولا من يملكها، ولذلك كل واحد يتكلم بما يريد، ولو كانت الأمور مضبوطة ما كانت هذه الأراجيف.

وهذا التشوه ما كان يسمع به سابقاً، بينما الآن فتح الباب على مصراعيه، فكل واحد ما بين الحين والحين كتب كتباً لا تحصى في التصحيح والتضعيف، وكل واحد صار كأنه علي بن المديني رحمه الله.

يا عبد الله! قف عند حدك، فالعلم الذي كان عندهم كما قيل: نور السلف وعلم السلف وأدب السلف وخلق السلف، وإذا نظرت إلى أحدهم تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويذكرك بالله، فليس عندهم مهاترات، وأما نحن فقد حولنا العلم إلى خصومات ومشاتمات، فلا بد من وعي هذا الأمر وأن نعرف قدرنا، فإذا كان أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه عندما يسأل عن الأسود بن يزيد -وغالب ظني- وعن علقمة أيضاً أيهما أفضل؟ فيقول: لسنا بأهل لأن نذكرهم فضلاً عن أن نفاضل بينهم.

نحن نذكر هؤلاء الثلاثة وأبو حنيفة تابعي رضي الله عنهم أجمعين، وهم أقرب منه بقليل، يقول: لسنا بأهل أن نذكرهم، فكيف ندخل أنفسنا في المفاضلة بينهم.

لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

عندما يأتي معنا الحديث، ومعه مثل هذه الشواهد وهذا الطرق وهذه الروايات التي في الباب، ولو قدر أن هناك شيئاً من الكلام حول رواية فإنه يزول بهذه الطرق المتعددة الكثيرة، موكولاً لاجتهاد الإنسان.

ولكن أي اجتهاد؟ هل كل من يزعم أنه مجتهد يحكم على أحاديث حكم عليها أئمتنا نوافقهم أو نخالفهم؟

عندما تقول لأحدهم: ماذا تفعل؟ يقول: المجتهد له أجران، والمخطئ له أجر، ولو تنزلنا عند هذا فأنا أريد أن أقول للألباني ولغيره: كلامك يحتمل الخطأ أم لا؟

سيقول: قطعاً يحتمل، وإذا قال: إنه هو أو غيره معصوم فقد خرج من عداد العقلاء، نقول له: وكلام أئمتنا نسلم إنه صحيح يحتمل الخطأ، وكلامك صحيح يحتمل الخطأ، فأي الكلامين أقوى، كما قال الحافظ في الرد الإجمالي؟

أريد أن أعلم، فأنت عندما نظرت لهذه التراجم لا يمكن أن تقول: أنا اكتشفت هذه التراجم وكلها نقلتها من تهذيب التهذيب أليس كذلك؟ ومن كلام الحافظ ابن حجر؟ فقد وقف عليها جهابذة أنت لا تأتي قطرة في بحارهم، وقفوا عليها ثم حكموا على الرجل، يعني: هو لو وقف على أقوال لا علم له بها، ما اطلع على هذا فأنت تنقل من كتبهم، وهم بعد أن وقفوا عليها قالوا: حكمنا في هذا الرجل كذا، وأنت تأتي وتقول في كتاب واحد في حديث واحد: ابن حجر مخبط، تلك الكلمة التي تشاع: من أخرج له الشيخان جاوز القنطرة، كل هذه لا حقيقة لها، وتأتي بعدها وتقول: ما قاله الحافظ ابن حجر بأن رواية يحيى بن سليم الطائفي مردودة إذا كانت عن عبيد الله بن عمر وفي هذا خلاف التحقيق، وأنت الذي قلته، فأنت المحقق إذا وجدت من كلامه شيئاً تتقيد به؛ لتتخلص من المعرة والمضرة قلت: ابن حجر يقول هذا، وابن حجر إنما يقرر صحة ما قرره أئمتنا، ومنهم البخاري ، وأنت تقول: هذا خلاف التحقيق، فأنا أريد أن أقول للتنزل معك ومع غيرك: كلامكم صحيح يحتمل الخطأ، وكلام أئمتنا صحيح يحتمل الخطأ، فهل نقدم كلام البخاري أو كلام الألباني ؟

هذه تحتاج الآن لعاقل يعقل وإذا صعدت العقول من البشر فماذا نعمل؟

كما أنكم تقولون: هذا اجتهاد، نسألكم: هل هو خطأ؟ قالوا: لا، هو اجتهاد ونحن إن أخطأنا فلنا أجر، وإن أصبنا فلنا أجران.

نقول: يا جماعة! سدوا باباً ستتلوث به السنة، بهذا الاجتهاد الذي تزعمونه، كل واحد يأتي ويرد السنة ويقول: أنا مجتهد، ويقول ما لم يسبقه إليه إنس ولا جان وهو مجتهد، فلو نحن تنزلنا ضمن كلامكم، فكلامهم صحيح يحتمل الخطأ، وقد شهد الأول والآخر لرفعة قدر أولئك الأسلاف على من جاء بعدهم فلنقتد بسلفنا، أولسنا ندعو إلى السلفية؟ أنا أريد أن أعلم ألسنا نحن ندعو إلى السلفية؟

ما صححه البخاري وأئمتنا المتقدمين هل هؤلاء من أهل البدع؟ أليسوا بسلف؟

لم لا نقف عند كلامهم؟ حديث في صحيح البخاري ولا يوجد بعد ذلك من نماذج أخرى، ولا نعلم ضعيفاً، حسناً، يقرب من الحسن، يحتمل التحسين، يا عبد الله! أنت متردد في كلامك حتى ما تثبت على قول.

هذا لابد من وعيه.

وأقول حقيقة: عندما يقرأ الإنسان في هذه الكتب -التي كما يقال: ألفت لخدمة السنة وغربلتها- والله الذي لا إله إلا هو يرى من التسويف والتشويه ما يذهل الحليم، وسأقرر هذا بحديث واحد فقط ونعود إلى بحثنا.

وأما معالجة هذا الموضوع بحيثياته، فسيأتينا الكلام عليه إن شاء الله في موعظة كاملة لنضع كل شيء في موضعه، ثم بعد ذلك: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس:108].

أنا أريد أن أعلم من هو السلفي؟

أهو الذي يحافظ على ما قرره أئمتنا المحدثون في القرن الثالث والثاني للهجرة، أم الذي يخرج عن أقوالهم في هذا الوقت؟ هذا لابد من تحديده إخوتي الكرام!

مثال على ذلك: حديث في هذا الكتاب -السلسلة- في صفحة اثنتين وتسعين وأربعمائة، برقم أربع وعشرين وثلاثمائة وألف: (أفشوا السلام، أطعموا الطعام، اضربوا الهام، تورثوا الجنان). يقول: ضعيف أخرجه الترمذي وتكلم عليه، ثم يقول بعد ذلك هنا: وللحديث طرق أخرى دون الفقرة الثالثة يرويه عن أبي ميمونة عن أبي هريرة رضي الله عنه: (قال: قلت: يا رسول الله! إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء، قال: كل شيء خلق من ماء، قال: قلت: يا رسول الله! أنبئني عن أمر إذا أخذت به دخلت الجنة، قال: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام).

يقول: أخرجه ابن حبان وأحمد -انتبه للكلام!- وهذا إسناد ضعيف.

قال الدارقطني : أبو ميمونة عن أبي هريرة وعنه قتادة مجهول يترك، لكن قوله: (أفشوا السلام) إلى آخره، قد صح من حديث عبد الله بن سلام (مرفوعاً) وهو مخرج في الصحيح.

الآن يقول: الحديث ضعيف، عزاه إلى أحمد وابن حبان ويقول في تخريج هذا الحديث في الجزء الثاني من الإرواء صفحة ثمان وثلاثين ومائتين: وله حديث آخر يرويه عنه أبو ميمونة -نفس الحديث السابق ذكره- وفيه لفظة: (وصلوا بالليل والناس نيام) ثم قال: أخرجه أحمد وهو في ابن حبان أيضاً في صفحة ثمانٍ وستين ومائة في موارد الظمآن، والحاكم أيضاً في المستدرك في الجزء الرابع صفحة تسع وعشرين من طريق قتادة عن أبي ميمونة .

قلت -الألباني-: وإسناده صحيح رجاله رجال الشيخين غير أبي ميمونة وهو ثقة كما في التقريب وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

يقول: أبو ميمونة عن أبي هريرة وعنه قتادة مجهول يترك. وحكم على الحديث بالضعف.

هذا الآن حديث واحد في سلسلة الأحاديث قلت عنه: ضعيف، وفي الإرواء قلت: هو حديث إسناده صحيح، في الأول قلت: أبو ميمونة مجهول يترك، وفي الثاني قلت: أبو ميمونة كما في التقريب، في الأول حسنت وصححت وفي الثاني ضعفت، وما أعلمه تراجع؛ لأن التراجعات ما أكثرها.

أقول: هذه التراجعات إذا كنتم تصححون وتتراجعون، وتصححون وتضعفون، وتضعفون وتصححون، فهلا أنصفتم من أول الأمر، ووقفتم عند الذي وقف عليه أئمتنا، أي: هلا وقفت من البداية، ضعفت هذا الحديث في سلسلة الأحاديث الضعيفة، وصححه بعض المعاصرين.

وانظر لكلامه وهو يصححه في الإرواء يقول بعد أن عزاه لـأحمد وابن حبان: ثم رأيت الحديث في المستدرك في الجزء الرابع صفحة تسع وعشرين ومائة هو هنا من الوجه المذكور، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي مع أن أبا ميمونة ورد في الميزان، ونقل عن الدارقطني ما ذكرته آنفاً من التجهيل وأقره، يقول: وأما الحاكم فلعله ظن أن أبا ميمونة هذا هو الفارسي وليس أبا ميمونة الأباط، أو أنه ظن أنهما واحد، والراجح التفريق، وإليه ذهب الشيخان وأبو حاتم وغيره كـالدارقطني فإنه وثق الفارسي كما قال الحافظ في التهذيب عقيبه، فهذا مما يؤيد أنه غير الفارسي ، ووقع في ابن حبان هلال بن أبي أمية وهو خطأ مطبعي أو من النساخ والله أعلم.

ثم رأيت ابن كثير جرى في التفسير على عدم التفريق فقال عقب الحديث: وقد ساقه من رواية أحمد في المسند، وقال: هذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن واسمه سليم والترمذي يصحح له، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً والله أعلم.

قلت: وهذه علة أخرى وهي الإرسال.

يقول: والحديث مما صححه الرفاعي في مختصره، والرفاعي هو الشيخ محمد نسيب الرفاعي الذي كان مع الألباني أكثر من ربع قرن كما يقول عن نفسه، وكما قلت: هذا يحتاج إلى كلام يوضح فيه هذا الأمر، وإلى حجم المرض الذي ينتشر في هذا الوقت في الأمة، كان معه أكثر من خمس وعشرين سنة وعلى طريقته، وكما قلت سابقاً في النصيحة التي وجهتها إلى الشيخ قلت: إن من معك تفرقوا عنك، وبدأ التخاصم بينك وبينهم، فهذا أول أصحابه وعاش معه أكثر من خمس وعشرين سنة وهو الذي اختصر تفسير ابن كثير ، وهذا في الأصل ما كان له في العلم، مع أن الشيخ محمد نسيب عندما يخاطب شيخه الألباني -مع أنه يرد عليه- كان كما يقال: يعطيه رقبته ليذبحه يقول: أنا لا أنازعك في علمك وفي كذا، لكنني أرى قسوة بهذا الكلام، وصرنا مع السلفيين أضحوكة يكفر بعضنا بعضاً، ويلعن بعضنا بعضاً، هذا في رسالة مطبوعة موجودة ضمن كتاب التوصل إلى حقيقة التوسل للشيخ: محمد نسيب الرفاعي ، قلت له: تلاعن ويكفر بعضنا بعضاً، ونحن كنا نحذر من الشرك، وصرنا نتهم بعضنا بالشرك، أنا لا أنازعك فيما أنت عليه، وأنا لا أصل إلى درجتك فلم تقسو عليّ؟

ثم ختم الأمر وقال: على كل حال إذا ندمت على كلامك في، وأنني قد تكلمت بما هو شرك أو كفر وخروج من الملة، إذا ندمت فالندم توبة، وسامحك الله، وإلا فسأتقاضى حقي أمام أحكم الحاكمين، هذا آخر الرسالة المطبوعة.

وهنا يقول: والحديث مما صححه الرفاعي والرفاعي لا يصحح ولا يضعف، بل نقل عن ابن كثير حيث يقول: إسناده على شرط الشيخين، اختصر كلامه وقال: الحديث صحيح.

استمع ماذا يقول الألباني ! يقول: فما أكثر تعديه وظلمه لنفسه وقرائه.

لو قلنا هذه العبارة للألباني؛ لأنك ضعفت الحديث في سلسلة الأحاديث الضعيفة، وصححته في إرواء الغليل فما أكبر ظلمك لنفسك وقرائك، وما أكثر تعديك وعدم وعيك، فما الحال حينئذ؟

يقول: وشاركه في ذلك الصابوني الذي اختصر أيضاً تفسير ابن كثير وزاد عليه أنه عزا التخريج إلى نفسه حيث جعله في الحاشية، وذلك من ديدنه كما كنت نبهت عليه في مقدمة المجلد الرابع من الصحيحة، فعد إليه إن شئت أن تعرف حقيقته -لتسمع السباب والمخاصمة والمشاتمة-.

إخوتي الكرام! هذا حديث هنا يصحح وهنا يضعف، وعندما يضعفه يرد على من صححه.

يا عبد الله! أنت صححته أيضاً، فهل توجه تلك العبارات إلى نفسك؟

إن الواجب أن ما صححه أئمتنا فلنقف عند حدنا ولا نتجاوز قدرنا ولا نعتدى على أئمتنا ولا نظلم أنفسنا.

يقول الإمام الترمذي عليه رحمة الله: وكلا الحديثين مرسل، فكيف وقفنا على رواية بعد ذلك: بأن هذا الإرسال فيه ضعف؟ فلنحمد الله، وليس في ذلك رد على أئمتنا ولا خروج عن أقوالهم، وهذا مسلكنا، وأما من صحح، فنقول له: قف عند حدك لا سيما إذا كان في الصحيحين.

ونحن ينبغي أن نعلم -والله الذي لا إله إلا هو- أنه ليس بيننا وبين أحد مسألة نختصم عليها إلا لله وفي شرع الله، وأما ما عدا هذا فما نريد أن نختصم؛ لأنهم كلهم لنا إخوة، والكبير منهم لنا بمنزلة الأب والوالد، ونحترم الإنسان ما احترم أئمتنا، فإذا جاء ليخرج عن أقوالهم، والله مكانة أئمتنا أعلى من مكانتنا، ولأن تضرب هذه الرقبة بألف سيف مسلول أيسر علي من أن أقبل قول إنسان في هذا العصر بأن حديثاً في صحيح البخاري ضعيف.

أقول: هذا الكلام ضعه في جيبك وانصرف عني، والأمة لو كان فيها من يرعى دين الله لأوقفكم عند حدودكم، لكن ماذا نعمل؟ هذا الكلام لا يمكن أن نقبله، ولا يمكن أن يقبل بحال من الأحوال، فنحن نحبكم ونحب المسلمين أجمعين، لكن ضمن الدائرة الشرعية، فإذا جئتم لتتقدموا على أئمتنا، وليرد المتأخر على المتقدم فنقول: قف عند حدك؛ لأنك جهلت قدرك، فمن باب أولى نحن لا نقدرك، وهذا الكلام مردود عليك، ومع ذلك نسأل الله لك الرحمة والمغفرة، وأن يلهمك رشدك، وأن تعود إلى الصواب الذي قرره أئمتنا أولو الألباب.

وقد ظهرت في كل مكان في هذه الأيام حملات منكرة حول حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، بعضهم بسوء نية وخبث، وبعضهم حقيقة يبحث كما يقول بحثاً، فنقول: هذا مجتهد فيه، لكن هذا الذي هو -إن شاء الله- صادق في نيته ويبحث بحثاً قد مكن أولئك الزنادقة الذين طعنوا في السنة في هذه الأيام بسوء نية، وكنت ذكرت لكم عدداً من الأحاديث في كتاب الفرقان في رسم القرآن لبعض المخرفين ومنه حديث أنس : (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يطوف على نسائه بغسل واحد) ويقول: هذا افتراء، وهذا هراء، وهذا لا ينبغي أن يقبل، وهذا قلة حياء، وغير هذا الكلام مما قرأته.

إذاً: الأمر كما قلت: نحن فتحنا الباب، ونحن قلنا للناس: إن المسألة سهلة، فهي مجرد بحث إن أصبت فلك أجران، وإن أخطأت فلك أجر، وهكذا الزنادقة يدخلون، فيا عبد الله! لابد الآن من النظر إلى المصلحة الشرعية.

أنا أريد أن أعلم أين الذين يلوحون بين الحين والحين بسد الذريعة؟ قفوا الآن عن الكلام والطعن في أحاديث الصحيحين، فعملكم هذا ذريعة إلى التلاعب، لا أقول: تلاعب صغار طلبة العلم بل تلاعب الزنادقة بحديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا قيل لهم: ماذا تفعلون؟ قالوا: يا جماعة! نحن مجتهدون، إن أصبنا -والحمد لله- فلنا أجران، وإلا فنحن على أجر فلم تعيبون علينا؟! إن التصحيح والتضعيف كله اجتهاد فلم تنكرون علينا؟

فانظر أي مفسدة عملنا في الأمة عندما جئنا لنقول: بحث علمي، ونحن نبحث، والقلب ما اطمأن لهذا الحديث وإن كان في صحيح البخاري ، أما اطمأن قلبنا لما فعله أئمتنا؟! سبحان ربي العظيم!

يقول البخاري: عرضت هذا الجامع على أبي زرعة فما قال: فيه علة تركته، وما أودعت فيه إلا صحيحاً.

نقول: لا، قلبنا لا يطمئن لهذا الكلام، ونحن سنحاكمك ونحاكم كل أحد على وفق الأقوال التي جاءت في هذه الكتب في تراجم الرجال، وبعد ذلك نقبل الأحاديث التي صححتموها أو لا، فلنا الخيار.

وإذا قال أحد منهم: نحن مجتهدون، ثم كان منه التناقض فليس هذا مسلكاً جيداً، يقول: حسن، قريب من الحسن، يحتمل التحسين، ضعيف.

يا عبد الله! أنت تحيرت وحيرت الناس أيضا، اثبت على قول.

وهو عندما يريد أن يقول: إنه ضعيف يرتدع ويقول في نفسه: الآن الأمة سيحصل بها ما يحصل، فيأتي بعبارة سهلة يقول: حسن، قريب من الحسن، يحتمل التحسين.. على نحو هذه العبارة، والمسألة سهلة فنقول: إنه ضعيف، وفي الحقيقة عندما يأتي لحديث في الصحيحين يقول عنه: ضعيف، فهذا مثل الإنسان عندما يريد أن يعصي أول مرة مباشرة، تراه يختلج جسده ويقشعر جلده ويقف شعره، فهل تقول: هذا ليس مذنباً وليست هذه المعصية، إن هذا إذا استمرأ هذا وفعله، فإنه بعد ذلك يفعله دون أن يجد غضاضة ودون أن يتمعر وجهه.

وهنا حديث في الصحيحين يقول عنه: ضعيف، نقول: هذه كبيرة، من يقول: حسن، قريب من الحسن، يحتمل التحسين، ثم بعد ذلك ضعيف، ليس هذا عمل المحدثين ولا هذا عمل العلماء، فإنه لا يوجد قواعد علمية تحكم بمثل هذه الأحكام الأربعة، فأرح نفسك والناس، أما أن تجمع هذه وهذه وهذه فهذا تناقض.

وكنت ذكرت مثالاً على هذا في المحاضرة التي كنت تكلمت فيها حول ما أثير من لغط في الموضوعات السابقة:

حديث أنس رضي الله عنه: (حياتي خير لكم ومماتي خير لكم) وقلت: إنه ضعيف، يقول: ضعيف وفيه متهم، كما في ضعيف الجامع، فلم أنت إذا قلت شيئاً يعتبر منك، ونحن إذا قلنا لا يعتبر منا؟ وهنا محمد نسيب الرفاعي يقول: هذا الحديث صحيح كما في تفسير ابن كثير ، فتقول: ما أكثر تعديه وظلمه لنفسه ولقراء كتابه.

لم هذا يا عبد الله؟! هو الآن تابع مقلد يقول لنا كذلك.

أنا الآن عندما آتي وأقول: ( ثلاثة أنا خصمهم ) في الحديث القدسي الصحيح كما في البخاري وأنا أقول: حديث صحيح، تأتي وتقول: عبد الرحيم ظالم لنفسه، ما أكبر ظلمه وتعديه!

لقد صحح الحديث وهو ضعيف، اتق الله في نفسك أيها الإنسان!

أنت تقول: الأمة ليس فيها في هذه الأيام من يعي علم الحديث، وليس فيها من يفهم هذا العلم.

نحن راضون بما حكمت، وإذا كنا لا نفهم فلم تدعونا لتقليدك؟ فلنقلد أئمتنا الكرام.

أقول: هذا الحكم ينطبق عليك قبل أن ينطبق عليَّ، لا نحن ولا أنت خرجنا منه، لكن أنت تقول: لا يوجد في هذا الوقت أحد يدرك علم الحديث ويعيه، والناس كلهم مخبطون ويمزقون من هنا وهناك، وأنا أقول: هذا واقع الأمة كلها وأنت من بينهم، لكن أنت لو خرجت وقلت: هذا وصف، فما العدالة وما هو عمل المقلد؟

أن يقلد من هو حي ليصحح هنا ويخطئ هنا ويقول في حديث واحد: أربعة أحكام مختلفة، وأحياناً يقول: صححت الحديث وهو ضعيف، وسبق نظري إلى سند آخر في الكتاب، ونحو هذا.

يا عبد الله! كيف سنتبعك؟! وكما يقال: هذا علمك لنفسك، وما دام الأمر أنه لا يوجد من يصلك إلى الموازنة، والأمة كلها مقلدة، ولا يوجد من يعي هذا العلم، والله الذي لا إله إلا هو إن العاقل من يقلد البخاري ولا يقلد الألباني ، ويقلد الحافظ ابن حجر والإمام الترمذي .

سيأتينا أن الحديث يقول عنه: حسن، ويقول عنه: ضعيف، ثم يأتي يقول بعد ذلك: إن تحسين الترمذي غير مسلم؛ فإنه يوجد ألف حديث في الترمذي ضعيفة، هذا عدا عن الروايات الأخرى التي لها متابعات وشواهد، كل هذا الكلام لك فقط، ولا يخرج عنك أبداً، وستسأل عنه أمام الله، وهو لا يلزمنا، فنحن نوقن يقيناً أن الترمذي أعلم منك.

فإن قيل: إن أئمتنا قالوا في الترمذي : لا يوثق بتحسينه أحياناً ولا يعتمد. نقول: هؤلاء جهابذة حذاق لا مثلك، هذا كلام جهابذة حذاق مثل ابن حجر يقول: هذا الحديث حسنه الترمذي وصححه، والأمر في الحقيقة بخلاف ذلك، نقول: الأمر إن اتسع للنظر فلنأخذ بكلام ابن حجر وبكلام الترمذي .

أما أن يأتينا إنسان في القرن الرابع عشر للهجرة ويقول: سنن الترمذي فيها ألف حديث كلها ضعيفة، لا يستدل بها لا في أحكام ولا في الفضائل ولا يجوز ذكرها، وهذه ليس لها متابع ولا شاهد، وهي تعادل خمس كتابه، وقد قال الأئمة: تحسين الترمذي فيه تساهل، وبناءً على هذا الكلام فقد فتح باباً كما قلت: واسعاً، فيه تساهل.

أنا أريد أن أقول: إن سنن الترمذي تداوله الأئمة الكرام، ما بين شارحين وما بين راوين، وما بين دارسين، فهل انتقدوا ما انتقدته؟ ليس كذلك، يبقى كما قلت: في النظر مجال، أما أن تأتي وتقول: قالوا كذلك، فأنا إذاً: أدخل حديثاً حديثاً وليس لي علاقة بأحد قبلي أبداً، فأنا أبحث فيها ثم بعد ذلك تبين لي أن فيها قرابة ألف حديث ضعيفة ليس لها متابع ولا شاهد.

إن هذا هو ما يشاهد في هذه الأيام، والسبب في ذلك: أنه لا يوجد من يرعى الأمة، ولا من يملكها، ولذلك كل واحد يتكلم بما يريد، ولو كانت الأمور مضبوطة ما كانت هذه الأراجيف.

وهذا التشوه ما كان يسمع به سابقاً، بينما الآن فتح الباب على مصراعيه، فكل واحد ما بين الحين والحين كتب كتباً لا تحصى في التصحيح والتضعيف، وكل واحد صار كأنه علي بن المديني رحمه الله.

يا عبد الله! قف عند حدك، فالعلم الذي كان عندهم كما قيل: نور السلف وعلم السلف وأدب السلف وخلق السلف، وإذا نظرت إلى أحدهم تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويذكرك بالله، فليس عندهم مهاترات، وأما نحن فقد حولنا العلم إلى خصومات ومشاتمات، فلا بد من وعي هذا الأمر وأن نعرف قدرنا، فإذا كان أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه عندما يسأل عن الأسود بن يزيد -وغالب ظني- وعن علقمة أيضاً أيهما أفضل؟ فيقول: لسنا بأهل لأن نذكرهم فضلاً عن أن نفاضل بينهم.

نحن نذكر هؤلاء الثلاثة وأبو حنيفة تابعي رضي الله عنهم أجمعين، وهم أقرب منه بقليل، يقول: لسنا بأهل أن نذكرهم، فكيف ندخل أنفسنا في المفاضلة بينهم.

لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3975 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3904 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3785 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3784 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3481 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3413 استماع