خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فلا زلنا نتدارس الباب الرابع عشر من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي رحمه الله، وعنوان هذا الباب كما تقدم معنا (باب ما جاء في كراهية ما يُستنجَى به)، قد أورد الإمام الترمذي حديثاً بسنده من طريق شيخه هناد بن السري إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تستنجوا بالعظم ولا بالروث؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن).
فكما هي عادتنا أن نتدارس الحديث ضمن أربعة مباحث، تقدم الكلام على دراسة إسناد هذا الحديث، وبيان درجته، وتخريج الروايات التي أشار إليها الإمام الترمذي بقوله: (وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان الفارسي وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين)، تقدمت معنا هذه المباحث وانتهينا منها ودخلنا في مدارسة المبحث الرابع في فقه الحديث، وقلت: إن الحديث صرح بأن الجن إخوانٌ لنا، وأفاد أيضا أن طعامهم يختلف عن طعامنا.
فإذا كان الأمر كذلك فلا بد من الوقوف على حقيقة هذه الأمة، ألا وهي أمة الجن؛ ضمن ثلاثة مباحث:
أولها: في خَلْقهم ووجودهم، وتقدم معنا الكلام على هذا المبحث؛ وقلت: إنهم مخلوقون؛ لكن من مارج من نار، كما خُلقنا نحن من طين، ولهم وجود وحقيقةً، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن أنكر هذا فهو كافر بالرحمن.
ومن أقر بوجودهم، كما ورد في النصوص؛ لكن تلاعب بالتأويل بحيث يخرجهم بتأويله عن الحقيقة التي هم عليها؛ فحاله كحال من أنكر وجودهم.
والمبحث الثاني: الذي كنا نتدارسه في تكليفهم وجزائهم.
وتقدم معنا، أنه لا خلاف في تكليفهم وأنهم مكلفون كما كُلفنا، نعم قد يُخَصون بأمور كما نُخص نحن بأمور؛ لكن يستوون معنا في التكليف إلا ما قام عليه دليل التخصيص، وهذا كما تقدم معنا أيضا محل إجماع ولا خلاف فيه.
وأما الشق الثاني من المبحث الثاني فيما يتعلق بجزائهم؛ بعقوبتهم ومثوبتهم، فأما الكافر والعاصي منهم فتقدم معنا أيضا أن هذا محل إجماع، وأوردت الآيات، وذكرت الأحاديث التي تنص على عقوبة الكافرين منهم يوم القيامة، ودلت الأحاديث على أن أول من يُكسى حلة من النار إمام الأشرار إبليس عليه وعلى أشكاله لعنات ربنا العزيز.
ووصلنا إلى مثوبة المؤمنين من الجن والطائعين، وقلنا: إن المؤمن الموحد المطيع منهم سيدخل الجنة.
وقلت: نفصل الكلام، وأحكي الأقوال مع أدلتها وترجيح القول المعتمد منها في هذه الموعظة؛ وهذا محل بحثنا.
قلت: إن لأئمة الإسلام في ثواب المطيع منهم ستة أقوال:
أولها وهو الحق: أن طائعهم مثاب ويدخل الجنة، كما أن العاصي منهم يعاقَب ويدخل النار، وسيأتينا تقرير هذا بخمسة أدلة ثابتة واضحة.
القول الثاني: هم في الجنة أيضاً؛ لكن لا يكونون في وسطها ولا في أعلاها؛ إنما هم في ربضها وأطرافها.
والقول الثالث: يدخلون الجنة أيضاً؛ لكن لا يُنعَّمون بالطعام والشراب والمَناكح كما يُنعَّم طائعوا الإنس.
والقول الرابع: الوقف في أمرهم، فلا نتكلم نحو مؤمنهم بشيء، ونفوض الأمر إلى الله جل وعلا.
القول الخامس: يكونون تراباً كسائر الأمم التي ليست مكلَّفة من الحيوانات والبهائم.
والقول السادس وهو آخرها: يكونون بين الجنة والنار على الأعراف.
قول الجمهور بدخول مؤمني الجن الجنة
فحال الجن كحال الإنس تكليفاً وجزاءً، ثواباً وعقاباً، وتقدم معنا أنهم مكلَّفون، وأنهم ينقسمون في هذه الحياة إلى صالح وإلى دون ذلك، وإلى قاسط كافر، كما قال تعالى: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11]، ثم قال: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:15]، فالجن منهم مؤمن مطيع، ومؤمن عاصٍ، وكافر؛ كما هو الحال فينا تماماً. وكما هو الحال في الأمم السابقة، فكما أنهم كُلفوا بما كُلفنا به فحالهم في الثواب والعقاب كحالنا، وقد اتفقنا على أن كافرهم معاقَب، فينبغي أن يُثاب طائعهم، هذا كما قلت هو قول الجمهور، وقد حكاه عن الجمهور عدد من أئمتنا، منهم الشبلي في كتابه: آكام المرجان صفحة سبع وخمسين، والسديسي في لقط المرجان صفحة سبع وسبعين، وابن حجر في فتح الباري في الجزء السادس صفحة ست وأربعين وثلاثمائة، والعيني في عمدة القاري في الجزء الخامس عشر صفحة أربع وثمانين ومائة، وهو في الأشباه والنظائر في مذهب الحنفية لـابن نجيم صفحة ثلاثين وثلاثمائة، والأشباه والنظائر في مذهب الشافعية للسيوطي صفحة واحدة وستين ومائتين، وهكذا في شرح الأشباه والنظائر للحموي شرح كتاب ابن نجيم ، في الجزء السادس صفحة ست وأربعمائة إلى ست عشرة وأربعمائة، وهذا الذي قرره ابن القيم وانتصر له في آخر كتابه: طريق الهجرتين ودار السعادتين، فختم الكلام في هذا الكتاب على حكم الجن في الدنيا والآخرة، وذكر فيهم عشرين صفحةً متتاليةً، في غالب ظني من صفحة خمسمائة وسبع وأربعين إلى خمسمائة وسبع وستين، وهذا موجود أيضاً في روح المعاني في الجزء السابع والعشرين صفحة واحدة وعشرين ومائة، وفي لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية للسفاريني في الجزء الثاني صفحة ثمان عشرة ومائتين، وغير ذلك من كتب أئمتنا، هذا هو قول الجمهور؛ أن طائعهم في الجنة كما أن عاصيهم في النار، وهذا هو اختيار الإمام البخاري في صحيحه، وبوب عليه في كتاب: بدء الخلق باباً يشير به إلى مذهبه فقال: باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم، وسيأتينا ضمن مراحل البحث كيف استدل الإمام البخاري عليه رحمة الله ببعض الآيات على أنهم يثابون كما أنهم يعاقَبون، وهذا الذي رجحه ابن القيم ورفض ما سواه، وهو المعتمَد الذي قال به الإمام الشافعي والإمام أحمد قولاً واحداً، ويُفهم من كلام الإمام مالك ، وإن حُكي عنه أنهم في ربض الجنة، ويُفهَم من كلام الإمام أبي حنيفة ، مع أن له ثلاثة أقوال في المسألة كما ستأتينا ضمن مراحل البحث، وهو القول المقبول.
من أدلة دخول مؤمني الجن الجنة عمومات النصوص الشرعية المقتضية ذلك
أولها: العمومات الواردة في النصوص الشرعية من الآيات البينات وأحاديث خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، وهذا العموم نحو قوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، فساوى بيننا وبين الجن في الخطاب، أعدت للمتقين.
وتقدم معنا أن فيهم صالحاً وفيهم دون ذلك، وفيهم كافراً، وإذا كان الجن فيهم من وصف بالتقوى، فسيدخل الجنة، فهي ليست بخصوص الإنس، والجن مخاطَبون بها كما تقدم معنا، وكلام الله نزل خطاباً للثقلين، وهم مكلَّفون بالإيمان بسيد الكونين عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا أنه أُرسِل إلى الإنس والجن وهذا محل إجماع، إذاً: هذا الخطاب لهم كما هو لنا، وهكذا قول الله جل وعلا في سورة ق: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:31-35]، فهذا الخطاب يستوي فيه الجن مع الإنس.
وهكذا قول الله جل وعلا في سورة البينة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7]، ومنهم الجن؛ فإنهم آمنوا وعملوا الصالحات، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8].
إذاً: هذه النصوص العمومات -ومثلها كثير وكثير- يدخل فيها مؤمنو الجن كما يدخل فيها مؤمنو الإنس، وكما أن عمومات الوعيد: عامةٌ للصنفين. فعمومات الوعد عامة للصنفين، فما هو الدليل على التفريق؟
ودائماً العام يبقى على عمومه حتى يقوم دليل على التخصيص، ولا يجوز أن نخرج الجن من هذه العمومات إلا بدليل ثابت عن خير البريات عليه الصلاة والسلام بأن الجن لا يدخلون في هذه العمومات، ولا يدخلون جنة رب الأرض والسماوات، ولا يوجد هذا كما سيأتينا، وعليه فهذه العمومات لا بد من إعمالها وإجرائها على ظاهرها؛ فيدخل فيها الجن، وهكذا عمومات الأحاديث، فقد تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بدخول المؤمنين الجنة، وما خَص مؤمني الإنس ولا مؤمني الجن، بل عَلَّق هذا بوصف الإيمان، فمن وُجد فيه هذا الوصف الكريم فإنه يدخل جنة النعيم.
ثبت في مسند أحمد والصحيحين وسنن الترمذي ، ورواه أحمد في الزهد أيضاً، وهناد في الزهد، وابن أبي شيبة في مصنفه والطبري في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره وابن المنذر في تفسيره وابن مردويه في تفسيره من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (اقرءوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]).
إذاً: هذا النعيم العظيم أُعد في جنات النعيم لمن فيه هذا الوصف، فهذا الجزاء منوطٌ بمن حصَّل هذا الوصف، وهو: (أعددت لعبادي الصالحين)، وفي الجن صالحون كما تقدم معنا بنص كلام الحي القيوم: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ.
وعلى هذا ينبغي أن نقول: إن مؤمني الجن في الجنة كما أن مؤمني الإنس في الجنة، ولا يجوز لمؤمني الجن أن يقولوا: هذه الآية خاصة بنا، وهذه الوعود الطيبة خاصة بنا، فنحن خوطبنا بها، كما أنه لا يجوز أن نقول معشر الإنس: إنها خاصة بنا، بل هذا خطاب للصنفين، ولمن وُجد فيه هذا الوصف، فكل من كان مؤمناً صالحاً أعد الله له هذا النعيم العظيم؛ (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
وقد ثبت أن دعوة نبينا عليه الصلاة والسلام شاملة للثقلين على اختلاف أجناسهم وأشكالهم وألوانهم، وقد عُلِّقت الأحكام في شريعة الإسلام؛ عُلِّقت بمن هو مسلم وكافر، ومؤمن ومنافق، وبار وفاجر، ومحسن وظالم، فلا يجوز تخصيص صنف بحكم إلا بدليل كما قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء التاسع عشر صفحة ثمان عشرة، وبداية هذا الجزء رسالة ألا وهي: إيضاح الدلالة في عموم رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام للثقلين، فإذن: من وُجد فيه هذا ينال الوعد أو الوعيد، فلا يجوز أن نُخرج أحد الصنفين إلا بدليل، فعندما تجد -مثلاً- الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7]، لا يجوز للعرب أن يقولوا: هذه خاصة بنا، ولا يجوز للذكور أن يقولوا: خاصة بنا، ولا يجوز لأهل مكة أن يقولوا: خاصة بنا، فهذه الآية ما عُلِّقت بذواتٍ معينةٍ، وإنما علقت بصفةٍ، من حصَّلها نال هذا الوعد الذي في هذه الآية.
يقول ابن تيمية عليه رحمة الله: هذه الأحكام عُلِّقت بأوصاف؛ فلا يجوز أن نُخرج منها أحداً إلا بدليلٍ؛ فليست هذه خطاباً للعرب أو للإنس أو للجن أو للذكور، إنما هي خطابٌ لكل مكلَّف يتأتى منه الإيمان والكفر، فمن وُجد منه الإيمان نال الوعد، ومن وُجد منه الكفر نال الوعيد.
فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا [الأحزاب:64]، ما المراد بالكافرين هنا؟ الكافرون العرب فقط؟ أو العجم؟ أو الإنس؟ أو الجن؟
الجواب كل من فيه هذا الوصف، ممن هو مكلَّف ينال هذا الوعيد الذي في هذه الآية.
وبما أن الصفة تعم الجن والإنس -صفة الإيمان، صفة الكفران، صفة النفاق، صفة العصيان- فلا يجوز البتة أن يُخَصَّ منها أحد النوعين، ومن المُحال الممتنع أن يكون الله جل وعلا يخبرنا بخبر عام، وهو لا يريد إلا بعض ما أخبرنا به ثم لا يُبَين ذلك، هذا ضد البيان الذي ضَمِنَهُ لنا ربنا الرحمن، وهذا كلام ابن حزم في الفِصَل في الجزء الثالث صفحة سبع وأربعين ومائة.
إن الأصل أن العام يبقى على عمومه حتى يقوم دليل التخصيص، وهذا الاستنباط -حقيقةً- في منتهى القوة والإحكام والمتانة، ومما يقويه أن عمومات الوعيد تشمل كافر الجن بالإجماع، فكذلك يكونون مخاطَبين بعمومات الوعد بطريق الأوْلى؛ لأن الوعد ينتمي إلى صفة الرحمة والفضل والإحسان؛ فتحققه أوْلى من تحقق الوعيد الذي ينتمي إلى صفة الغضب، ورحمة ربنا غلبت غضبه، فإذا كان كافر الجن يدخل في عمومات الوعيد بالإجماع، فينبغي أن يدخل مؤمنهم في عمومات الوعد بالإجماع.
من الأدلة على أن مؤمني الجن في الجنة أن العقل يؤيد ذلك
وهذا ما أشار إليه الشبلي في كتاب: آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان صفحة تسع وخمسين، وهو الذي قرره ابن القيم في طريق الهجرتين صفحة خمس وستين وخمسمائة؛ فقال: الوعد فضله والوعيد عدله، وفضله من رحمته، وهي تغلب غضبه.
نعم، لا يستقيم في عدل وكرم أرحم الراحمين أن يعاقِب العاصي ممن كلَّفه ولا يثيب المطيع ممن كلَّفه، فكما أن من عصى يعاقَب؛ فمن أطاع يُثاب، هذا دليل العقل، والعقل كما قلت يقوي هذا، ولا يوجبه.
ولِمَ لا يوجبه؟ لأن العقل لا يوجب شيئاً على الله، لأن الثواب محض فضل وكرم وإحسان وَجُود من ربنا الرحمن، والله جل وعلا عندما يثيب المطيع يثيبه فضلاً وكرماً وَجُوداً وإحساناً، لا لأن المطيع له حق واجب على الله جل وعلا، لا ثم لا، ولذلك قال أئمتنا: فإن أُثِبنا فبمحض الفضل، أو نعَذَّبَ فبمحض العدل، وابن القيم كثيراً ما ينشد هذين البيتين في كثيرٍ من كتبه كالوابل الطيب ومدارج السالكين وغير ذلك، فيقول:
ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعيٌ لديه ضائع
إن عُذِّبوا فبعدله أو نُعِّموا فبفضله وهو الكريم الواسع
فلو عَذَّب الله أهل السماوات وأهل الأرض لَعَذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم.
فالعقل يقوي ولا يوجب؛ لأنه لا يجب للمخلوق حق على الخالق سبحانه وتعالى، والله أوجب على نفسه أن يثيبنا كرماً وإحساناً، لا أننا نستحق ذلك أصالةً.
من أدلة دخول مؤمني الجن الجنة ما جاء عن بعض السلف
والشياطين في الأصل -كما تقدم معنا- هم من الجن، والجن: اسم عام، فَخَصَّهم أي: الشياطين؛ لأن الشيطان يطلق على خصوص الكافر من الجن، فيقال له: شيطان، فبما أنه كافر ففيه هذا الوصف فيقابل الملائكة؛ ولذلك قال: الملائكة والشياطين فقط؛ ثم بعد ذلك لما جاء لذكر الجن والإنس قال أيضاً: الجن يدخلون في هذا كما يدخل الإنس، يعني: إن أطاعوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار، وهذا سيدخل معنا في الصنف الثاني؛ وهم شياطين الجن؛ لكن هنا كما قلت: إن أطاعوا دخلوا الجنة كما هو الحال في مؤمن الإنس، وإن عصوا دخلوا النار كما تقدم.
الأثر الثاني: مرويٌّ عن الحسن البصري رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، وأبو الشيخ في العظمة أيضاً، وفي لقط المرجان وغيره.
قال الحسن البصري عليه رحمة الله: الجن كلهم وَلَد إبليس. وتقدم معنا هذا سابقاً عند تقرير كون الجن مخلوقين، فالجن كلهم ولد إبليس، والإنس كلهم ولد آدم قال الحسن: ومن هؤلاء مؤمنون، ومن هؤلاء مؤمنون، وهم شركاؤهم في الثواب وفي العقاب؛ يعني مشتركون، كما أن المؤمن من الإنس يُثاب؛ فالمؤمن من الجن كذلك، قال الحسن البصري: فمن هؤلاء وهؤلاء مؤمناً فهو وليٌّ لله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان، وكأن الحسن البصري عليه رحمة الله بهذا يريد أن يقول: خصوص لفظ الشيطان -هذا اللفظ- لا يطلق على كافر الجن فقط، إنما هو شامل على كل كافر من إنس وجن.
وهذا كما أشار إليه ربنا جل وعلا في سورة الأنعام الآية اثنتي عشرة ومائة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112].
فقال: شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، إذاً من كان كافراً من هؤلاء وهؤلاء فهو في النار، وهو شيطان.
والأثر الثالث عن الضحاك: رواه ابن المنذر في تفسيره، والإمام سفيان الثوري في تفسيره -له تفسيرٌ كـسفيان بن عيينة وطُبع مجلد واحد من تفسير سفيان الثوري كما طُبع مجلد واحد من تفسير سفيان بن عيينة - وهذا الأثر رواه أيضاً منذر بن سعيد البلوطي ، وهو غير ابن المنذر ، وهو يعد من الأئمة الصالحين، وكان يلي رئاسة القضاء في بلاد الأندلس في القرن الرابع للهجرة، وتوفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة للهجرة، ووهم ابن كثير في وفاته فأرَّخَ ترجمته ووفاته في سنة ست وستين وثلاثمائة، ونص الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء السادس عشر صفحة ثلاث وسبعين ومائة، وكذا في سائر كتب التراجم على أن وفاته سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وقيل: إنه وُلِد سنة خمس وستين ومائتين، وعليه فقد عاش تسعين سنةً، وقاله الإمام الذهبي .
كان لا تأخذه في الله لومة لائم، وبلغ من صلاحه وديانته أنه استسقى مرةً -بل مراراً- للمسلمين في الأندلس فسُقوا.
وهو صاحب القصة الشهيرة التي ذكرتها مراراً مع الخليفة الناصر عندما بنى مدينة الزهراء، وبلغ من احتفائه بها أنها كانت تشغله أحياناً عن الصلاة، أي: عن الجماعة، فكان لا يحضر صلاة الجماعة من أجل مراقبة هذا البناء، وهو الخليفة، فلما انتهى منها وأذِن للناس بالدخول عليه، فلما دخلوا وأخذوا مجالسهم وبدأ يسألهم: ماذا ترون في هذه المدينة التي عملناها؟! -مدينة الزهراء في الأندلس- وكل واحد يثني، والشيخ منذر بن سعيد ما نطق، وإنما يبكي، فقال: ما تقول يا أبا الحكم ؟ قال: ما كنت أظن أن إبليس يبلغ منك هذا المبلغ!
ثم قال له: أتفتخر بهذا القصر الذي عملت فيه معنا؟! أما بلغك قول الله جل وعلا: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35]، فبكى الخليفة عليه رحمة الله.
حقيقةً: لا بد من نصحٍ وتذكيرٍ ووعظٍ، فـمنذر بن سعيد البلوطي يقول ابن كثير : كان جامعاً لصنوف من الخير والزهد والتقوى.
روى هذا الأثر عن الضحاك أيضاً كما في كتاب الدر في المكان المتقدم للإمام السيوطي ، ولقط المرجان في المكان المتقدم أيضاً.
قال الضحاك : الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، وسيأتينا استدلال طائفة من أئمتنا بالآيات على دخول الجن الجنة، ضمن الدليل الرابع الآتي بعون الله جل وعلا.
من أدلة دخول مؤمني الجن الجنة الخطاب الذي تكرر في سورة الرحمن
أول هذه الأدلة التي تُصرِّح تصريحاً ظاهراً بأن الجن يدخلون الجنة: ما ورد في سورة عروس القرآن؛ ففيها دلالة على ذلك على وجه التمام، وعروس القرآن.
هي سورة الرحمن، ووردت تسميتها بذلك في أثر ضعيف، رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان، عن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل شيء عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن)، فالعروس يتزين، ويكرر البهجة والفرحة، ويعدد أنواع الزينة، وسورة الرحمن فيها هذا، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]، هذه الآية تقدم معنا أنها كُرِّرَت إحدى وثلاثين مرةً في هذه السورة المباركة، وهذا الحديث ذكره السيوطي في الدر في الجزء السادس صفحة أربعين ومائة، وأورده -أيضاً- في الإتقان، وفي جمع الجوامع، وذكر أيضاً في فيض القدير في شرح الجامع الصغير في الجزء الخامس صفحة ستٍّ وثمانين ومائتين، وهو أيضاً في مشكاة المصابيح، وفي إسناده أحمد بن الحسن الملقب بـدبيس، وهو ضعيف، أورده الإمام النسائي في الضعفاء والمتروكين، وحكى الذهبي في الميزان في الجزء الأول صفحة واحدة وتسعين، وكذا الحافظ في اللسان في الجزء الأول صفحة ثلاث وخمسين ومائة عن الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الجزء الرابع صفحة ثمان وثمانين أنه قال: كان منكر الحديث، وقرأت بخط الدارقطني قال: ليس بثقة.
انظر للدلالة التي في هذه السورة على أن مؤمن الجان يدخل غرف الجنان، في أول السورة ذَكَر الله خَلْق الصنفين، قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:14-15]، وعَدَّد الله جل وعلا بعد ذلك نِعَمه على الصنفين، وبعد كل نعمة يُذكِّرهم بفضله وإحسانه وجوده وامتنانه بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]، وتقدم معنا أن هذا مُوجَّه للإنس والجان، وقد كان موقف الجن نحو هذه الآيات أحسن من موقف الإنس كما في الحديث الصحيح؛ عندما تُلِيَت عليهم فكانوا يقولون عند كل آية فيها تذكير الله لهم بِنِعَمه: (ولا بشيءٍ من آلائك ربنا نُكَذِّب؛ فلك الحمد)، وذَكَر الله جل وعلا في أثناء السورة فقرهم وقهره لهم فقال جل وعلا: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، هذه الآية شاملة للإنس والجان كما سيأتينا؛ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27]، ثم ذَكَر ما سَيَؤُولون إليه بعد فنائهم، وأن الله سَيَحْسِب حسابهم لِيوَفِّي كلّاً بما كَسَب، فقال: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ [الرحمن:31]، ثم أخبرنا الله جل وعلا أنهم عندما يَؤُولون إليه سينقسمون إلى قسمين: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:37-40].
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ، هذا هو الصنف الأول، بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:41-42]، المجرمون من الصنفين اللذين تقدم ذكرهم، ثم انتقل الله إلى ثواب الطائعين فقال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:46-47]، فهذه شملت الصنفين، ثم عَدَّد نعمه فقال: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:48-51]، فلو لم يدخل مؤمنو الجن في هذه الآيات ما قالوا: ما نكذب بشيء من آلاء ربنا.
وهذه الدلالة الظاهرة في أن مؤمني الجن في الجنة، هي التي فهمها سلفنا الكرام، قال الإمام الطبري في تفسيره عند هذه الآية: وكان بعض أهل العلم ينتزع بهذه الآية في أن الجن يدخلون الجنة.
ما معنى ينتزع؟! أي: يستدل بهذه الآية، وينتزع منها الدليل على أن الجن يدخلون الجنة، ثم ذكر ابن جرير في الجزء السابع والعشرين صفحة ثمان وثمانين عند هذه الآية، روى بإسناده عن ضمرة بن حبيب ، ورواه ابن المنذر في تفسيره وأبو الشيخ أيضاً وابن أبي حاتم ، وابن شاهين في كتاب غرائب السنة، كما في الدر المنثور من رواية أرطأة بن المنذر الألهاني ، وهو أبو عدي الحمصي ، ثقة، توفي سنة ثلاث وستين ومائة للهجرة، وحديثه في الأدب المفرد للإمام البخاري ، وأخرج له أهل السنن الأربع إلا الترمذي .
عن أرطأة بن المنذر قال: تذاكرنا عند ضمرة بن حبيب، وهو ضمرة بن حبيب الزبيدي أبو عتبة الحمصي ، ثقة، توفي سنة ثلاثين ومائة للهجرة، حديثه في السنن الأربع، وترجمتهما في التقريب.
يقول أرطأة بن المنذر : تذاكرنا عند ضمرة بن حبيب ؛ أيدخل الجن الجنة؟! فقال ضمرة بن حبيب : نعم، وتصديق ذلك في كتاب الله، ثم تلا قول الله جل وعلا: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، حتى وصل إلى قول الله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [الرحمن:74].
مما يدل على أن هذا النعيم شامل للصنفين؛ وقد ذكرهم في النعيم الأول: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [الرحمن:56]، وذكرهم في النعيم الثاني: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [الرحمن:70]، حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ