خطب ومحاضرات
شرح الترمذي - مقدمات [8]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
إخوتي الكرام! كنا نتدارس مكانة الإمام العلم أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، والذي توفي سنة (279هـ)، عليه وعلى أئمتنا وعلينا معهم رحمة ربنا، هذا الإمام العلم المبارك كنت ختمت ترجمته بقول الإمام الذهبي عليه رحمة الله: بأنه ثقة مجمع عليه، ولا التفات لقول أبي محمد بن حزم في الإمام الترمذي : إنه مجهول.
وتقدم معنا الاحتمالات التي يحتملها هذا الكلام: إما أنه مجهول لأنه لم يطلع عليه، ولم يعرف خبره ولم يقرأ كتابه، فليس عنده علم عنه، وإلى هذا كما تقدم معنا ذهب الإمام الذهبي في تعليل قول الإمام ابن حزم عليهم جميعاً رحمة الله.
والثاني: أن تجهيل ابن حزم للإمام الترمذي من باب تعنته وتشدده وغمطه لعلمائنا الكرام حقهم ومنزلتهم، وإلى هذا كما تقدم معنا ذهب الإمام ابن كثير في البداية والنهاية، والإمام ابن حجر عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا، وسنقف هنا وقفة نعتذر فيها عن هذا الإمام المبارك.
إخوتي الكرام! كنت ذكرت أن علماء أهل السنة المهتدين ينقسمون إلى قسمين:
قسم لم يفارقوا الحق طرفة عين، وقلت: هذا هو غالب علمائنا الكرام، كالأئمة الأربعة وأصحاب الكتب الستة، وهكذا شيوخ الإسلام في كل عصر هم على الحق في اعتقادهم وفي عملهم وفي جميع الأحوال، وهناك صنف من علماء أهل السنة ومن أهل الحق، لكن زلوا في بعض الأحيان بتأويلات بعيدة، وبخطأ بشري، وبضعف إنساني، فهذا الزلل ينبغي أن نطرحه وأن نرده على من صدر منه، ولا يجوز أن نطلق ألسنتنا في أعراض علمائنا.
نعم هناك صنف ثالث من العلماء، وهم كما قلنا: علماء أهل البدع والأهواء، الذين لم يجعلوا الحق مطلبهم ولا غايتهم، إنما أرادوا أن يتلاعبوا بنصوص الشرع المطهر حسب أهوائهم وآرائهم، كما تقدم معنا كعلماء الكلام، وينسحب هذا الحكم على سائر أهل البدع والضلال.
أما الإمام ابن حزم فهو من أئمة الهدى، لكن وجد في حياته عثرات كما تقدم معنا، فلنطرح هذه العثرات وراء ظهورنا، ولنسكت عن الرجل ولا داعي للتشنيع عليه بعد ذلك، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المصطفى عليه صلوات الله وسلامه.
وهذه العثرات تقدم معنا أنه يمكن أن نجمعها في ثلاث عثرات:
أولها -كما قلت-: خوضه في علم الكلام، وهو وإن أقلع عنه، فقد بقي فيه نزعة منه.
ثانيها: إطلاق لسانه في علمائنا الكرام، فتكلم في حقهم بعبارات فجة وفظة، وسب وجدع، ولم يتأدب مع الأئمة، فعوقب من جنس فعله.
إباحة ابن حزم للغناء والمعازف
إخوتي الكرام! قلت: لا خلاف بين أئمتنا علماء الإسلام في تحريم المعازف ومزامير الشيطان، وفقهاء المذاهب الأربعة المتبعة الذين هم أهل الهدى والنهى على أن المعازف والمزامير وجميع آلات اللهو محرمة بلا خلاف بينهم، وتقدم معنا الحديث الشريف الذي يدل على هذا، وهو في صحيح البخاري ، وهو صحيح صحيح، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف )، يذكر الإمام الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن المعازف محرمة، وليس عنده شك في ذلك، ويروي فيه أن رجلاً مر بالإمام أحمد ، وهو غلام رقيق عبد لبعض الناس في ذلك الزمان، ومعه طنبور عود يضرب به، فقام الإمام أحمد إلى هذا الغلام وكسر هذا العود، هذا الطنبور الذي يحمله، فتغيير المنكر واجب، و( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )، كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم وغيره.
فذهب هذا الغلام إلى سيده وقال: اعترضني الإمام أحمد وكسر الطنبور، كسر هذا العود الذي أحمله، قال: أخبرته غلام من أنت؟ قال: لا، قال: أنت حر لوجه الله، قال: علام تكافئني بهذا، لمَ؟ ما الذي جرى مني؟ قال: لو أخبرته غلام من أنت لفضحتني، كنت سأفتضح عند الإمام أحمد ، يقول: سيده مالكه عنده عود عنده طنبور ما يستحيي من الله، يسمع المعازف والمزامير، أنت سترتني، فبما أنك سترتني، أنا أمنُّ عليك بها وأكافئك بالعتق وبنعمة الحرية، أنت حر لوجه الله، وهذا كان سلفنا يتناقلونه ويتواصون به.
عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس عليه وعلى أئمتنا رحمة الله، قال لمؤدب أولاده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الغناء والمزامير التي مبدؤها من الشيطان ونهايتها سخط الرحمن، أول شيء يعتقده الأولاد منك، وتغرسه في قلوبهم أن يبغضوا الغناء، فيعرضوا عن المزامير والمعازف مبدؤها من الشيطان، ونهايته سخط الرحمن، ولذلك قال الإمام الشافعي عليه رحمة الله مخبراً عن حقيقة الغناء، وعما تفعله المزامير والمعازف في الخلق، يقول: خرجت من بغداد وخلفت فيها شيئاً ورائي أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير، آلة يغبرون بها، كالعود للطرب، يصدون بها الناس عن القرآن، يقول: إن آلات اللهو من المعازف والمزامير أحدثها الزنادقة ليشغلوا الناس بها عن القرآن وهذا هو الحاصل، وهذا حقيقةً كلام فقيه بصير يعلم حال هذه الآلة وما يئول إليه أمرها الحقير، يئول أمرها إلى أنها تصد الناس عن القرآن، فالتغبير آلة تصد الناس عن القرآن، وهكذا جميع المعازف وآلات اللهو، فليكن هذا إخوتي الكرام عندنا معلوماً، فقد كان سلفنا يتواصون بهذا.
إباحة ابن حزم النظر إلى المردان والنسوان
وقال العبد الصالح بشر الحافي ، ونقل عن سفيان الثوري عليهم جميعاً رحمة الله أنهما كانا يقولان: مع المرأة شيطان، ومع الأمرد شيطانان يغويان الناس بالنظر إليه، والفتنة به أعظم من الفتنة بالمرأة، مع الأمرد شيطانان.
ولذلك قال سعيد بن المسيب عليه رحمة الله: من رأيتموه يديم النظر إلى المرد فاتهموه. إنما يرى أمرد يسرح نظره إليه، اتهمه.
وقال فتح الموصلي عليه رحمة الله: أدركت ثلاثين من الأبدال من خيار عباد الله الصالحين كانوا يوصونني كل واحد منهم يقول: إياك وصحبة الأحداث! إياك ومجالسة المردان!
والإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية وسع الكلام على هذه المسألة، وبين خطورة النظر إلى المرد في مجموع الفتاوى في عدد من صفحات كتابه، انظروه في المجلد الحادي عشر صفحة (545)، وانظروه في المجلد الخامس عشر صفحة (375)، وصفحة (418)، وانظروه في المجلد الثاني والثلاثين في صفحة (247)، وهذه الآثار التي ذكرتها وغيرها وغيرها مضموم إليها في بيان تحريم النظر إلى المردان، ولذلك الإمام الذهبي عليه رحمة الله في ترجمة محمد بن طاهر المقدسي الذي تقدم معنا، يطلق عليه الإمام الألوسي : ابن النجس بدل محمد بن طاهر ، فهذا كلام باطل أيضاً، ولا ينبغي كما قلنا الفحش في العبارة، اتهمه ابن الجوزي وشيخه محمد بن ناصر وعدد من أئمة الحديث، قالوا: كان إباحياً.
يقول الإمام الذهبي عليه رحمة الله: ماذا تقصدون بالإباحة؟ إن كنتم تقصدون الإباحة المطلقة فمعاذ الله أن يكون محمد بن طاهر المقدسي من الإباحيين، الذين لا يحرمون فرجاً ولا يدينون بدين، إنه أثري متبع من حفاظ هذه الأمة، وإذا كنتم تقصدون بالإباحة إباحة خاصة، وهي إباحة السماع والنظر إلى المردان، قال: هذا هو مذهب الظاهرية، هم عندهم هذا جائز، وهذه معصية، نسأل الله أن يغفر لهم، ولا يجوز أن نقول: إنهم أهل إباحة، وهم إباحية، لا، هي زلة ومعصية، لكن هذا مذهبهم، مذهب الظاهرية يجوز الاستماع إلى الغناء وإلى جميع المعازف والمزامير باختلاف أشكالها وألوانها، والنظر إلى النساء والمرد بشرط أن تضبط فرجك، هذا باطل قطعاً وجزماً، كما تقدم معنا، فهو إمام، لكن له هذه العثرات فلنحذرها، وعندما أطلق لسانه في الإمام الترمذي ، وأطلق لسانه في أبي القاسم البغوي ، وهكذا في غيرهما، فلنطرح هذا وراءنا ولنقل: هذا من عثراته وزلاته، ونسأل الله أن يغفر لنا وله، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
والأمر الثالث: قلت: مع أنه يابس في العلل والمناسبات في الأحكام الشرعية، إلا أنه انماع في باب العشق والنظر المحرم وسماع آلات اللهو، وفتح باب القياس، واعتبر العلل والمناسبات، فكما أنه يجوز سماع الأصوات المطربة من الطيور الشجية والعصافير وغير ذلك، فيجوز إذاً سماع أصوات المعازف والمزامير على اختلاف أنواعها وألوانها، بل توسع فيما يزيد على ذلك في إطلاق النظر إلى المردان وغيرهم، وقال: المحرم أن يستعمل الإنسان فرجه فيما حرم عليه، وأما أن يطلق نظره إلى المردان أو إلى النسوان، وهناك ضبط للفرج فلا حرج في ذلك، إذا لم يكن في القلب تعلق بهذا، وهذا كما قلت من باب فساد خلطه في الأمرين: ألغى العلل والمناسبات في الأحكام الشرعية، وفتح باب العلل والمناسبات لهذه المسائل الردية الغوية، وكنت تكلمت على موضوع الغناء والمعازف والمزامير في الموعظة الماضية، وأريد أن أذكر شيئاً قليلاً يتعلق بهذا الأمر لننتقل للجوانب الأخرى من حياة ابن حزم .
إخوتي الكرام! قلت: لا خلاف بين أئمتنا علماء الإسلام في تحريم المعازف ومزامير الشيطان، وفقهاء المذاهب الأربعة المتبعة الذين هم أهل الهدى والنهى على أن المعازف والمزامير وجميع آلات اللهو محرمة بلا خلاف بينهم، وتقدم معنا الحديث الشريف الذي يدل على هذا، وهو في صحيح البخاري ، وهو صحيح صحيح، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف )، يذكر الإمام الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن المعازف محرمة، وليس عنده شك في ذلك، ويروي فيه أن رجلاً مر بالإمام أحمد ، وهو غلام رقيق عبد لبعض الناس في ذلك الزمان، ومعه طنبور عود يضرب به، فقام الإمام أحمد إلى هذا الغلام وكسر هذا العود، هذا الطنبور الذي يحمله، فتغيير المنكر واجب، و( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )، كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم وغيره.
فذهب هذا الغلام إلى سيده وقال: اعترضني الإمام أحمد وكسر الطنبور، كسر هذا العود الذي أحمله، قال: أخبرته غلام من أنت؟ قال: لا، قال: أنت حر لوجه الله، قال: علام تكافئني بهذا، لمَ؟ ما الذي جرى مني؟ قال: لو أخبرته غلام من أنت لفضحتني، كنت سأفتضح عند الإمام أحمد ، يقول: سيده مالكه عنده عود عنده طنبور ما يستحيي من الله، يسمع المعازف والمزامير، أنت سترتني، فبما أنك سترتني، أنا أمنُّ عليك بها وأكافئك بالعتق وبنعمة الحرية، أنت حر لوجه الله، وهذا كان سلفنا يتناقلونه ويتواصون به.
عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس عليه وعلى أئمتنا رحمة الله، قال لمؤدب أولاده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الغناء والمزامير التي مبدؤها من الشيطان ونهايتها سخط الرحمن، أول شيء يعتقده الأولاد منك، وتغرسه في قلوبهم أن يبغضوا الغناء، فيعرضوا عن المزامير والمعازف مبدؤها من الشيطان، ونهايته سخط الرحمن، ولذلك قال الإمام الشافعي عليه رحمة الله مخبراً عن حقيقة الغناء، وعما تفعله المزامير والمعازف في الخلق، يقول: خرجت من بغداد وخلفت فيها شيئاً ورائي أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير، آلة يغبرون بها، كالعود للطرب، يصدون بها الناس عن القرآن، يقول: إن آلات اللهو من المعازف والمزامير أحدثها الزنادقة ليشغلوا الناس بها عن القرآن وهذا هو الحاصل، وهذا حقيقةً كلام فقيه بصير يعلم حال هذه الآلة وما يئول إليه أمرها الحقير، يئول أمرها إلى أنها تصد الناس عن القرآن، فالتغبير آلة تصد الناس عن القرآن، وهكذا جميع المعازف وآلات اللهو، فليكن هذا إخوتي الكرام عندنا معلوماً، فقد كان سلفنا يتواصون بهذا.
الأمر الشنيع الذي أباحه الإمام ابن حزم حقيقة وهو مما يستحى من ذكره، كون الإنسان يطلق نظره إلى المردان وإلى النسوان، ويقول: قلبي أنا أضبطه وأملك فرجي! والله هذا باطل كذب لا حقيقة له، والله جل وعلا أمرنا أن نغض أبصارنا: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، وأما القياس الفارغ بأنه كما يجوز أن ينظر إلى الورود والرياحين، يجوز أن ينظر إلى المرد من المخلوقين، فهذا كلام باطل، نظرة تزرع في القلب شهوة كفى بها فتنة، تريد أن تقيس هذه على النظرة إلى الوردة الحسناء، سبحان ربي العظيم! قياس مع الفارق، أنت ألغيت القياس في الأحكام الشرعية، ثم جئت تقيس في باب العشق، وقد كان أئمتنا يحذرون من النظر إلى المرد أشد من تحذيرهم من النظر إلى النساء، فهذا العبد الصالح إبراهيم النخعي عليه رحمة الله، كان يقول: أحذركم مجالسة المردان ففتنتهم كفتنة النساء.
وقال العبد الصالح بشر الحافي ، ونقل عن سفيان الثوري عليهم جميعاً رحمة الله أنهما كانا يقولان: مع المرأة شيطان، ومع الأمرد شيطانان يغويان الناس بالنظر إليه، والفتنة به أعظم من الفتنة بالمرأة، مع الأمرد شيطانان.
ولذلك قال سعيد بن المسيب عليه رحمة الله: من رأيتموه يديم النظر إلى المرد فاتهموه. إنما يرى أمرد يسرح نظره إليه، اتهمه.
وقال فتح الموصلي عليه رحمة الله: أدركت ثلاثين من الأبدال من خيار عباد الله الصالحين كانوا يوصونني كل واحد منهم يقول: إياك وصحبة الأحداث! إياك ومجالسة المردان!
والإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية وسع الكلام على هذه المسألة، وبين خطورة النظر إلى المرد في مجموع الفتاوى في عدد من صفحات كتابه، انظروه في المجلد الحادي عشر صفحة (545)، وانظروه في المجلد الخامس عشر صفحة (375)، وصفحة (418)، وانظروه في المجلد الثاني والثلاثين في صفحة (247)، وهذه الآثار التي ذكرتها وغيرها وغيرها مضموم إليها في بيان تحريم النظر إلى المردان، ولذلك الإمام الذهبي عليه رحمة الله في ترجمة محمد بن طاهر المقدسي الذي تقدم معنا، يطلق عليه الإمام الألوسي : ابن النجس بدل محمد بن طاهر ، فهذا كلام باطل أيضاً، ولا ينبغي كما قلنا الفحش في العبارة، اتهمه ابن الجوزي وشيخه محمد بن ناصر وعدد من أئمة الحديث، قالوا: كان إباحياً.
يقول الإمام الذهبي عليه رحمة الله: ماذا تقصدون بالإباحة؟ إن كنتم تقصدون الإباحة المطلقة فمعاذ الله أن يكون محمد بن طاهر المقدسي من الإباحيين، الذين لا يحرمون فرجاً ولا يدينون بدين، إنه أثري متبع من حفاظ هذه الأمة، وإذا كنتم تقصدون بالإباحة إباحة خاصة، وهي إباحة السماع والنظر إلى المردان، قال: هذا هو مذهب الظاهرية، هم عندهم هذا جائز، وهذه معصية، نسأل الله أن يغفر لهم، ولا يجوز أن نقول: إنهم أهل إباحة، وهم إباحية، لا، هي زلة ومعصية، لكن هذا مذهبهم، مذهب الظاهرية يجوز الاستماع إلى الغناء وإلى جميع المعازف والمزامير باختلاف أشكالها وألوانها، والنظر إلى النساء والمرد بشرط أن تضبط فرجك، هذا باطل قطعاً وجزماً، كما تقدم معنا، فهو إمام، لكن له هذه العثرات فلنحذرها، وعندما أطلق لسانه في الإمام الترمذي ، وأطلق لسانه في أبي القاسم البغوي ، وهكذا في غيرهما، فلنطرح هذا وراءنا ولنقل: هذا من عثراته وزلاته، ونسأل الله أن يغفر لنا وله، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
هل في حياة الإمام ابن حزم جوانب إيجابية، أنت تقول: إنه من أئمة الهدى؟ لا شك، وكل من ترجم له أقر بأن هذا الإمام بلغ رتبة الاجتهاد، فحقيقة هو من الأئمة الراسخين، لكن مع زلات صدرت منه، فلنطرح هذه الزلات، ولنعرف للرجل قدره وحقه، قال الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ: قلت: ابن حزم رجل من العلماء الكبار، فيه أدوات الاجتهاد كاملة، تقع له المسائل المحررة، كما تقع له المسائل الواهية، وهذا يقع لغيره، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المصطفى عليه صلوات الله وسلامه.
إذاً: رجل -كما قلنا- فيه أدوات الاجتهاد، وهو إن شاء الله إن أصاب له أجران، وإن أخطأ فخطؤه مغفور، وله أجر على اجتهاده، ونسأل الله أن يغفر لنا وله وللأئمة المسلمين أجمعين، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إذاً: مع الزلات هو إمام علم، حسناً ما موقف العلماء بعد ذلك نحوه؟ حقيقة زهد فيه كثير من الناس والسبب في هذا كما قلت أنه عندما سب وجَدع، سُبَّ وجُدِّع، والحقيقة أنه دائماً يضيع الحق بين إفراط وتفريط، فإذا هو قصر فلا ينبغي أن نقصر نحن.
من جملة من لم ينصف الإمام ابن حزم كما سيأتينا أبو بكر بن العربي صاحب أحكام القرآن، وصاحب عارضة الأحوذي، فقد تكلم فيه بكلام سيئ ككلام ابن حزم في العلماء الصالحين، وكما قلت: لا ينبغي أن نداوي الداء بداء، والإنصاف ينبغي أن نتحلى به، وأن نكون مع الحق في جميع أحوالنا، والإنصاف عزيز عزيز عزيز، رحمة الله على الإمام أبي سليمان الخطابي ، وهو من علماء القرن الرابع للهجرة، يقول في كتابه العزلة، وهذا في القرن الرابع، -أي: قبل زمن ابن حزم بمائة سنة، يقول: أنت في زمن قل فيه من يعرف، وأقل منه من ينصف، الذي يعرف الحق قليل، والذي ينصف ممن يعرف الحق أقل من القليل، رحمة الله على الإمام الشافعي عندما قال هذه الحكمة الحكيمة: ليس شيء أقل من الإنصاف. أقل شيء في هذه الحياة الإنصاف، وهي أن تحكم على الإنسان بما يستحق دون إفراط وتفريط، دون غلو ودون جفاء، ليس شيء أقل من الإنصاف، والإنصاف ينبغي أن يتحلى به المؤمن، ولا يتم الإيمان في الإنسان حتى ينصف من نفسه، وينصف عباد الله أجمعين.
ولذلك ثبت في صحيح البخاري في كتاب الإيمان، باب: إفشاء السلام من الإيمان، ثم ساق الإمام البخاري أثراً عن عمار بن ياسر معلقاً بصيغة الجزم، وهو موقوف عليه من كلامه، قال: وقال عمار : ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان: الإنصاف من نفسك، والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالم. ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان: أن تنصف الناس، وأن لا تطري، وأن لا تجحف، ثم تنفق وأنت بحاجة إلى هذا المال، وتؤثر على نفسك، والإنفاق من الإقتار، أي: من قلة، والحالة الثالثة: أن تبذل السلام للعالم، لمن عرفت ولمن لم تعرف، وهذا الأثر الذي علقه الإمام البخاري عليه رحمة الله في صحيحه على هذا الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنهما بصيغة الجزم، وصله الإمام أحمد في كتاب الإيمان، ويعقوب بن شيبة في مسنده، موقوفاً على عمار ، لكنه موصول، أي: ذكر مبدأ السند من هؤلاء الأئمة إلى عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، والأثر رواه البزار في مسنده والبغوي في شرح السنة، كما رواه ابن أبي حاتم في كتاب العلل، لكن مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام متصلاً من طريق عمار بن ياسر ، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان: الإنصاف من نفسك والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام إلى العالم )، ورواية البزار والبغوي وابن أبي حاتم كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح فيها كلام؛ لأن الرواية من طريق عبد الرزاق صاحب المصنف، وعبد الرزاق قد تغير في آخر حياته، واختلط في حفظه، والذين رووا عنه هذه الرواية كان هذا في آخر حياته وبعد اختلاطه، فروايتهم هذا الأثر عن عمار مرفوعاً إلى نبينا المختار عليه الصلاة والسلام ضعيفة من حيث السند، ثم قال الحافظ : وعلى كل حال فالأثر له حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، سواء رفعه عمار إلى النبي عليه الصلاة والسلام أو لا؛ لأن هذا لا يقال من قبل الرأي: ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان، من كلام عمار ، لكن له حكم الرفع إلى نبينا المختار عليه الصلاة والسلام: الإنصاف من نفسك، والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام إلى العالم، الإنصاف قليل، فينبغي أن ننصف نحن، يعني: مع الحبيب والبعيد، والعدو والصديق، وأن نعامل الناس كما أمر الله بالقسطاس المستقيم، فلا ينبغي أن يحملنا شنآن قوم وبغض قوم على عدم إعطائهم حقهم، بل ينبغي أن نحكم بالعدل مع كل أحد، فإذا أحسن نقول: أحسنت، وإذا أساء نقول: أسأت.
طرح جوانب الزلل عند ابن حزم والاستفادة مما سواها
وقد بلغ من إنصاف نبينا عليه الصلاة والسلام أنه صدق الشيطان في حق قاله، ومذهبه الإنصاف، يصدر من الشيطان كلمة حق فيصدقه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: هذا حق، خذوه من الشيطان، وأنا أبين لكم أنه حق في شريعة الإسلام، وإن قاله الشيطان، لكنه حق: ( صدقك وهو كذوب )، والحديث في صحيح البخاري ، ورواه الإمام النسائي في السنن الكبرى، وأبو نعيم في دلائل النبوة، وابن مردويه في تفسيره، وابن جريج في فضائل القرآن، ولفظ الحديث طويل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( وكلني النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ تمر الصدقة في رمضان )، صدقة الفطر وكلني أن أحفظها، والصدقة كانت تصب في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ويصبح كومة كالبيضة، وهذا دليل على جواز إخراج صدقة الفطر قبل يوم الفطر، كما كان الصحابة يخرجونها، والذي يظهر والعلم عند الله أنه إذا دخلت العشر الأواخر يرخص للمسلمين أن يخرجوها من أجل أن يكون لإمام المسلمين ولإمام الحي نظر في توزيعها على المحتاجين، إما قبل صلاة عيد الفطر، وإما قبل ذلك، الأمر فيه سعة إن شاء الله، يقول: ( وكلني النبي عليه الصلاة والسلام بحفظ تمر الصدقة صدقة رمضان، يقول: فبينا أنا أحرس هذا التمر، وهو المسجد، يقول: جاء شيخ كبير فبدأ يحثو من التمر في ثيابه، يريد أن يملأ ثوبه، وأن يسرق تمراً، فقبضت عليه، قلت: تسرق من تمر الصدقة، والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني شيخ كبير وذو عيال، وأنا فقير محتاج، وأعاهدك على أن لا أعود )، يعني: هذه زلة، لكن الدافع إليه الحاجة، ولكن لا أعود مرة ثانية، فاتركني ولا ترفعني إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فرق له أبو هريرة رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام وتركه، ( ولما حضر صلاة الفجر مع النبي عليه الصلاة والسلام، بعد الصلاة تبسم نبينا عليه الصلاة والسلام في وجه
( ففي صلاة الفجر تبسم النبي عليه الصلاة والسلام في وجهه وقال: ما فعل أسيرك البارحة؟ فقال: يا رسول الله! شيخ كبير ذو حاجة وعيال، وزعم أنه لن يعود، قال: كذبك وسيعود، يقول: فعلمت أنه سيعود لقول النبي عليه الصلاة والسلام أنه سيعود، هذا ما فيه شك، فجاء في الليلة الثالثة فقبض عليه، قال: فقير وذو عيال وشيخ كبير، قال: لأرفعنك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام )، لو كنت أفقر أهل الأرض، هذه ثالث ليلة، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، مرة مرتين وهذه ثالثة، فالمتوقع والذي ينبغي أن تقف عند حد، ( قال: إن تركتني علمتك شيئاً إذا قلته لا يقربك شيطان حتى تصبح، ولن يزال عليك من الله حافظ )، أعلمك شيئاً إذا قلته عند المساء لا يقربك شيطان حتى الصباح، ويحفظك حفيظ من قبل الله الحفيظ سبحانه وتعالى حتى تصبح.
قال أبو هريرة -وكانوا أحرص شيء على الخير، كأنه الآن يريد أن يبرر تركه له في المرة الثالثة-: نحن أحرص الناس على الخير. ولهذا قال: في هذا القول الذي سأتعلمه فائدتان: حفيظ من الله حتى الصباح ولا يقربني شيطان، إذاً: هذه مصلحة، يعني: يغتفر بجانبها ترك هذا السارق. قال الشيطان لـأبي هريرة : اقرأ آية الكرسي إذا أخذت مضجعك لا يقربك شيطان حتى تصبح، ولن يزال عليك من الله حفيظ، حافظ.
( يقول: فتركته، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يزعم أنني إذا قرأت آية الكرسي لا يقربني شيطان حتى أصبح، ولن يزال علي من الله حفيظ حافظ، قال: صدقك وهو كذوب )، في هذه الجملة صدق، وهذا هو الإنصاف، فما صدق فيه يقول: صدق، لكن هو كذوب، فاحذره من أن يغرك بعد ذلك بخداعه وتلبيسه، صدقك، انظر إلى هذا الإنصاف، ووضع الشيء في موضعه.
وهذا الإمام حتماً له زلل، وذكرناه، ونطرحه وراء ظهورنا، لكن لا داعي بعد ذلك لشدة القول في الحق.
إذاً: بعض العلماء قابلوه بالمثل إن لم يزيدوا على فعله، ووفوه كما يقال: الصاع صاعين، وما هكذا تورد الإبل!
تعليق الذهبي على موقف ابن العربي من ابن حزم
من جملة عبارات أبي بكر بن العربي يقول: نشأ عندنا في الأندلس أمة سخيفة تسورت على مرتبة ليست لها، وتكلمت بكلام لا تفهمه، يقول: وحالهم في ذلك كحال إخوانهم من الخوارج عندما قالوا لـعلي رضي الله عنه: لا حكم إلا لله، وهذا كلام حق، لكن يريدون به باطلاً، يعني: علي يحكم الشيطان وهؤلاء كذلك يقولون: لا نعول على أحد من الأئمة، صدق الله وكذب مالك ، اتق الله في نفسك، صدق الله وصدق الإمام مالك ، والإمام مالك لا يقول إلا ما قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام، أم تريد أن تجعل كفتيه متقابلتين، الله والإمام مالك ، وأنت مع الله ولست مع الإمام مالك ؟ هذا ضلال، هذا الذي يستعمله ابن حزم ، ونحن لا يجوز لنا أيضاً أن نأتي ونطلق هذه العبارة أيضاً على ابن حزم : أمة سخيفة، ثم ذكر عن ابن حزم أنه سخيف الرأي، وبدأ يتكلم عليه بعبارات لعلها أغلظ من العبارات التي تكلم بها ابن حزم في علمائنا الكرام. وكما قلت: انحراف قوبل بانحراف، وضاع الحق في وسط هذا الانحراف، وهذا غلط.
إخوتي الكرام! لا يجوز بحال أن نعقد مقابلة ومقارنة وموازنة بين أئمتنا وبين ربنا وبين نبينا عليه الصلاة والسلام، والله لو فعلنا هذا لكان هذا هو الكفر، يعني: أناس يقولون: تتبع أبا حنيفة أو تتبع رسول الله عليه الصلاة والسلام! أتتبع الإمام أحمد أو تتبع القرآن؟! أهذا يقال؟! هذا الذي يقوله ينبغي أن يعزر أما يستحي من الله؟ وهل الإمام أحمد وشيخه الشافعي وشيخه مالك ومن قبلهم أبو حنيفة جعلوا أنفسهم نداً لله حتى تأتي وتقول: تتبع القرآن والسنة أو تتبع الأئمة؟! كلام باطل، وموازنة لا حقيقة لها، وتمويه على الناس بالباطل، ومن يقول: صدق الله وكذب فلان من الأئمة نقول: على رسلك، صدق الله وصدق هذا، إن هذا ما قال شيئاً إلا مما قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام، فاعرف قدرك، ولا داعي للشطط، إذا لم يرق لك هذا الحكم، ولا ظهر لك وجهته، فالتمس له عذراً على أقل تقدير، ولا تجعله مقابلاً نداً لله الجليل، وإلا فسيأتي من بعدك فلا يروق له الحكم الذي استنبطته أنت من الكتاب والسنة، وسيقول فيك ما قلته في العلماء قبلك، والنهاية بعد ذلك كل واحد يضلل الآخر، هذا ضلال، فلا يجوز بحال أن نجعل الأئمة في منزلة تقابل منزلة الله ومنزلة رسوله عليه الصلاة والسلام، لا يجوز بحال، الأئمة كلهم شراح حديث ومفسرو قرآن، فكيف ستعقد بعد ذلك موازنة بينهم وبين الله وبين رسوله عليه الصلاة والسلام! هذا كلام باطل، وهل جاءنا القرآن والسنة إلا من طريق أئمتنا.
فلنع هذه القضية إخوتي الكرام ولا يلبسن علينا ملبس، قل: كنت حنفياً، ثم اهتديت بعد ذلك والتزمت بالسنة، يا رجل أما تتق الله في كلامك؟! وسمعت مرة بأذني بعض غلاظ الأكباد ولا زال على قيد الحياة، قال: كنت وثنياً لأنني مالكي، وتبت الآن كما تاب عمر ، فقلت له: أما تتق الله؟! تجعل المالكية كالوثنية؟! قال: هم ورب الكعبة عابدو وثن، هم والشيوعية عند الله سواء، اختلفت طرقهم فتوحدت غاياتهم! ألا تستحي من الله؟! الإمام مالك علم من أعلام المسلمين.
إذا ذكر العلماء فـمالك النجم الثاقب:
وصححوا استغناء ذي الشهرة عن تزكية كمالك نجم السنن
أعلم الناس بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، أيقال: من يتبعه وثني؟ وتبت من المذهب المالكي كما تاب عمر ؟! نعوذ بالله، هو لو كان لمذاهب الأئمة سلطان في هذه الأيام، وجاء إنسان وقال: يا جماعة! هذه المسألة يريد أدلة وكذا، لقلنا: يوجد مجال لبحثك. لا يوجد لا حكم لا للشافعي ولا لـمالك ولا لـأحمد ولا لـأبي حنيفة ، شريعة الغاب تنفذ في العباد، وجئنا بعد ذلك مع هذه البلية التي نزلت علينا؛ لئلا نخرج منها جئنا نزيد البلاء بلاء وتطاولاً على أئمتنا الذين حطوا رحالهم في الجنة أكثر من ألف سنة، كان وثنياً لأنه مالكياً!
فلا يجوز إخوتي الكرام أن نعقد مقارنة على الإطلاق بين أئمتنا الأتقياء وبين خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، هؤلاء أو هذا، من تتبع؟ نتبع النبي عليه الصلاة والسلام عن طريق أئمتنا الكرام، وكل شيء لا يقرره أئمتنا مردود عليه، الشيء الذي لا يقدره أئمتنا، هذا ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فقف عند حدك، فأتقى الناس لله وأعلم الناس بما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام أئمتنا الكرام، أما تأتي بعد ذلك في آخر الزمان كما يقال: دبر الزمان: تتبعون الإمام مالك أو تتبعون النبي عليه الصلاة والسلام؟! هذا لا يقال إخوتي الكرام، هذا شطط وسفاهة، والله من يقوله ينبغي أن يضرب على فمه حتى يوقف عند حده، هذا كلام يقال في أئمتنا الكرام؟!
فالإمام ابن حزم عندما أطلق لسانه بمثل هذه العبارات جاءه أبو بكر بن العربي الذي توفي سنة (543هـ)، وتقدم معنا ابن حزم : (456هـ)، بينهما قرابة مائة سنة، يعني: فوق التسعين سنة، فجاء يقول عنه وعن الظاهرية: أمة سخيفة وابن حزم سخيف! أئمته فيما يقول: الخوارج الذين قالوا: لا حكم إلا لله، فليس لنا بـعلي أي صلة، وعلي لا يحتكم إلى الله، وابن حزم عندما يقول: صدق الله وكذب مالك ، ولا نتبع الأئمة ونريد فقط حكم الله وحكم النبي عليه الصلاة والسلام، هذه الدعوات التي يطلقها سبقه فيها الخوارج: أمة سخيفة لا عقل لها ولا تعي ما تقول، وهل الأئمة كانوا على خلاف ما كان عليه نبينا الرسول عليه الصلاة والسلام؟! لا، ثم لا، وهل علي حكم شرع الشيطان في يوم من الأيام حتى نقول له: لا حكم إلا لله؟ وهل خرج عن حكم الله طرفة عين؟ لكن كما قال علي : كلمة حق أريد بها باطل، وهنا كذلك تتبعون: القرآن أو الأئمة؟! كلمة حق، لكن يراد منها باطل، ألا وهو تضليل الأئمة، والإيهام بأن الأئمة على غير القرآن وعلى غير سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فـأبو بكر بن العربي أطلق هذه العبارات فيه.
هذا الكلام الذي ذكرته وذكره الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء كما تقدم معنا في الجزء الثامن عشر صفحة (188)، وأعاد نظيره في الجزء العشرين صفحة (502) في المجلد العشرين من سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي بكر بن العربي ، في الجزء الثامن عشر في ترجمة ابن حزم ، أما في المجلد العشرين في ترجمة أبي بكر بن العربي فيقول: كان أبو بكر بن العربي -مناصراً لـابن حزم - يحط عليه بنفس ثائرة، بخلاف أبيه، ثم قال: إن أبا بكر بن العربي قد بلغ رتبة الاجتهاد، وتقدم معنا ابن حزم كذلك، قال الإمام الذهبي : ولم أنقم على أبي بكر بن العربي إلا إقذاعه في ذم أبي محمد بن حزم واستجهاله له، وابن حزم أوسع دائرة منه في العلوم، وأحفظ منه بكثير، وقد أصاب في أشياء، أي: ابن حزم ، وأجاد، وزلق في مضايق كغيره من الأئمة، والإنصاف عزيز.
وقال في ترجمة ابن حزم في المجلد الثامن عشر معلقاً على كلام ابن العربي ، وعلى عظمة ابن العربي في العلم: لا يبلغ رتبة أبي محمد بن حزم ولا يكاد، فرحمهما الله وغفر لهما.
يقول: ابن حزم أخطأ في حق الأئمة الأشهاد، لكن هذا الخطأ لا نقابله بخطأٍ أشد، فإذا كانت منزلة الترمذي أعلى من منزلة ابن حزم بلا شك، فمنزلة ابن حزم أعلى من منزلة أبي بكر بن العربي ، فلنتأدب مع بعضنا، ولا يتطاول كل منا على الآخر، فإذا تطاول ابن حزم طرحنا تطاوله وراء ظهورنا، وأنصفناه بعد ذلك، ولا ينبغي أن نجحفه ولا أن نزيد عليه.
ابن حزم عنده إحسان كثير، زل في ثلاثة جوانب كما قلنا، نطرحها وراء ظهورنا ونستغفر له، ونقول ما أمرنا الله أن نقوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
وقد بلغ من إنصاف نبينا عليه الصلاة والسلام أنه صدق الشيطان في حق قاله، ومذهبه الإنصاف، يصدر من الشيطان كلمة حق فيصدقه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: هذا حق، خذوه من الشيطان، وأنا أبين لكم أنه حق في شريعة الإسلام، وإن قاله الشيطان، لكنه حق: ( صدقك وهو كذوب )، والحديث في صحيح البخاري ، ورواه الإمام النسائي في السنن الكبرى، وأبو نعيم في دلائل النبوة، وابن مردويه في تفسيره، وابن جريج في فضائل القرآن، ولفظ الحديث طويل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( وكلني النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ تمر الصدقة في رمضان )، صدقة الفطر وكلني أن أحفظها، والصدقة كانت تصب في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ويصبح كومة كالبيضة، وهذا دليل على جواز إخراج صدقة الفطر قبل يوم الفطر، كما كان الصحابة يخرجونها، والذي يظهر والعلم عند الله أنه إذا دخلت العشر الأواخر يرخص للمسلمين أن يخرجوها من أجل أن يكون لإمام المسلمين ولإمام الحي نظر في توزيعها على المحتاجين، إما قبل صلاة عيد الفطر، وإما قبل ذلك، الأمر فيه سعة إن شاء الله، يقول: ( وكلني النبي عليه الصلاة والسلام بحفظ تمر الصدقة صدقة رمضان، يقول: فبينا أنا أحرس هذا التمر، وهو المسجد، يقول: جاء شيخ كبير فبدأ يحثو من التمر في ثيابه، يريد أن يملأ ثوبه، وأن يسرق تمراً، فقبضت عليه، قلت: تسرق من تمر الصدقة، والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني شيخ كبير وذو عيال، وأنا فقير محتاج، وأعاهدك على أن لا أعود )، يعني: هذه زلة، لكن الدافع إليه الحاجة، ولكن لا أعود مرة ثانية، فاتركني ولا ترفعني إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فرق له أبو هريرة رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام وتركه، ( ولما حضر صلاة الفجر مع النبي عليه الصلاة والسلام، بعد الصلاة تبسم نبينا عليه الصلاة والسلام في وجه
( ففي صلاة الفجر تبسم النبي عليه الصلاة والسلام في وجهه وقال: ما فعل أسيرك البارحة؟ فقال: يا رسول الله! شيخ كبير ذو حاجة وعيال، وزعم أنه لن يعود، قال: كذبك وسيعود، يقول: فعلمت أنه سيعود لقول النبي عليه الصلاة والسلام أنه سيعود، هذا ما فيه شك، فجاء في الليلة الثالثة فقبض عليه، قال: فقير وذو عيال وشيخ كبير، قال: لأرفعنك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام )، لو كنت أفقر أهل الأرض، هذه ثالث ليلة، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، مرة مرتين وهذه ثالثة، فالمتوقع والذي ينبغي أن تقف عند حد، ( قال: إن تركتني علمتك شيئاً إذا قلته لا يقربك شيطان حتى تصبح، ولن يزال عليك من الله حافظ )، أعلمك شيئاً إذا قلته عند المساء لا يقربك شيطان حتى الصباح، ويحفظك حفيظ من قبل الله الحفيظ سبحانه وتعالى حتى تصبح.
قال أبو هريرة -وكانوا أحرص شيء على الخير، كأنه الآن يريد أن يبرر تركه له في المرة الثالثة-: نحن أحرص الناس على الخير. ولهذا قال: في هذا القول الذي سأتعلمه فائدتان: حفيظ من الله حتى الصباح ولا يقربني شيطان، إذاً: هذه مصلحة، يعني: يغتفر بجانبها ترك هذا السارق. قال الشيطان لـأبي هريرة : اقرأ آية الكرسي إذا أخذت مضجعك لا يقربك شيطان حتى تصبح، ولن يزال عليك من الله حفيظ، حافظ.
( يقول: فتركته، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يزعم أنني إذا قرأت آية الكرسي لا يقربني شيطان حتى أصبح، ولن يزال علي من الله حفيظ حافظ، قال: صدقك وهو كذوب )، في هذه الجملة صدق، وهذا هو الإنصاف، فما صدق فيه يقول: صدق، لكن هو كذوب، فاحذره من أن يغرك بعد ذلك بخداعه وتلبيسه، صدقك، انظر إلى هذا الإنصاف، ووضع الشيء في موضعه.
وهذا الإمام حتماً له زلل، وذكرناه، ونطرحه وراء ظهورنا، لكن لا داعي بعد ذلك لشدة القول في الحق.
إذاً: بعض العلماء قابلوه بالمثل إن لم يزيدوا على فعله، ووفوه كما يقال: الصاع صاعين، وما هكذا تورد الإبل!
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] | 4047 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] | 3982 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] | 3908 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] | 3796 استماع |
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] | 3773 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] | 3571 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] | 3488 استماع |
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] | 3467 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] | 3420 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] | 3419 استماع |