خطب ومحاضرات
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.
اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فلا زلنا نتدارس ترجمة أمنا الحصان الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه.
فقد تقدم معنا أن أمنا عائشة رضي الله عنها هي راوية الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في الباب الخامس من أبواب الطهارة في جامعه، ولفظ الحديث عنها رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك)، قال أبو عيسى : هذا حديثٌ حسنٌ غريب.
تقدم وأن قلت: سنتدارس ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها ضمن ستة أمور، مضى الكلام على الأمور الخمسة من هذه الأمور الستة، وشرعنا في الموعظة الماضية في مدارسة الأمر السادس ألا وهو: حب ربنا جل وعلا لأمنا، وغيرته عليها، ودفاعه عنها، وقلت: سأقتصر على أمرين اثنين في هذا الأمر السادس.
الأول: وهو تسببها رضي الله عنها في مشروعية التيمم لهذه الأمة، وثبوت هذا الحكم الشرعي إلى يوم القيامة ببركتها، وما هذه البركة منها بأول بركات آل أبي بكر رضي الله عنهم وأرضاهم، فبركاتهم كثيرة، جزاهم الله عنا وعن دينه خير الجزاء.
وأما الأمر الثاني الذي يظهر فيه حب الله لأمنا عائشة رضي الله عنها وغيرته عليها، ودفاعه عنها: تبرئتها رضي الله عنها وأرضاها مما افتري به عليها، وقذفت به، وهي الطاهرة المطهرة، الصديقة بنت الصديق ، حبيبة حبيب الله على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه.
أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها اتهمت بأمرٍ اتهم به صالحون وأنبياء مباركون قبلها، لكن غيرة الله على أمنا عائشة ودفاعه عنها زاد على غيرته وعلى دفاعه عمن افتري عليه من الأنبياء والصالحين قبلها؛ وما ذلك إلا لمكانتها في نفسها ومن نبينا عليه الصلاة والسلام؛ ولأجل ذلك نزلت تبرئتها كما تقدم معنا في ست عشرة آيةً من القرآن، بدأت من الآية الحادية عشرة كما تقدم معنا إلى نهاية الآية السادسة والعشرين من سورة النور كما سأتلوها عليكم إن شاء الله.
وسيأتينا في نهاية دفاع الله عن أمنا عائشة رضي الله عنها في هذه الآيات أن نبي الله يوسف، ونبي الله موسى على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه اتهما بما اتهمت به أمنا عائشة ، وبرئا بما يدل على طهارتهما وطيب معدنهما، لكن براءتهما لا تعدل البراءة التي حصلت لأمنا عائشة ، فهذه برئت بوحيٍ يتلى من كلام الله جل وعلا يتعبد به المسلمون إلى يوم الدين، وأما أولئك فبرئوا بما يدل على طهارتهم كما سيأتينا، لكن البراءة دون هذه البراءة، فهناك ظهر أمرٌ علم الناس بذلك الأمر صدق هذا النبي وطهارته، أما هذه فآياتٌ تتلى، وهكذا الصديقة مريم عليها وعلى سائر الصديقات رحمة الله ورضوانه برئت، وبراءتها حصلت بشيءٍ لا يعدل براءة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، برئت بمعجزةٍ كما سيأتينا، لكن دون آياتٍ تتلى، وهكذا العبد الصالح جريج افتري عليه واتهم وبرأه الله جل وعلا، وأثبت طهارته كما سيأتينا، لكن تلك البراءة دون ما حصل لأمنا عائشة رضوان الله عليها من براءةٍ بهذه الآيات التي أنزلها رب الأرض والسموات.
إخوتي الكرام! سأتلو هذه الآيات، وأبين ما فيها من دلالاتٍ وأوجزها في عشرة أمور فقط تدل على دفاع الله عن أمنا عائشة رضي الله عنها، وعلى حبه لها، وغيرته عليها، وعلى تكذيب ما نسب إليها، ثم أختم هذه الأمور العشرة بأمرين: أمر يتعلق بوالد أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وأنه أفضل هذه الأمة على الإطلاق بعد نبينا عليه الصلاة والسلام كما أشارت إلى ذلك هذه الآيات التي نزلت في تبرئة ابنته الطاهرة المطهرة، والإشادة بفضله رضي الله عنه وأرضاه، ثم بعد ذلك أذكر إن شاء الله حديث الإفك الطويل، وأبين من خرجه وسأتلو الآيات، ثم نشرع في بيان دلالتها على تبرئة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ * الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:11-26].
هذه الآيات أنزلها ربنا جل وعلا في الدفاع عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وتبرئتها، واستمعوا للدلالات التي فيها.
أول هذه الآيات فيه دليلٌ على أن ما قذفت به رضي الله عنها وأرضاها إفكٌ مفترى وكذبٌ مبين، إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ [النور:11]، فهو إفك، والله جل وعلا ما سمى الذين ذكروا هذا من المنافقين وأشاعوه ووشوا به وأرجفوا به، وإنما عبر عنه باسمٍ موصول ليسجل عليهم بما في حيز الصلة، فقال: (إن الذين)، وهذا اسمٌ موصول، بعد ذلك حيز الصلة أنهم (جاءوا بالإفك).
تعريف الإفك وأصله اللغوي
يقول الله جل وعلا في سورة الأحقاف: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأحقاف:27-28]، هم زعموا أن هذه الآلهة تمنعهم وتنصرهم وتدافع عنهم، وهذا إفك؛ لأن الآلهة لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها نفعاً ولا ضراً.
قال أئمتنا: وأصل الإفك مأخوذٌ من الأفك، وهو القلب والصرف، وذلك يشمل أشنع الكذب وأبلغه وأعظمه، ويشمل البهتان الذي يصدأ الإنسان عندما يسمعه من قبل من يفتري عليه ويكذب عليه، إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11].
وجه كون قذف المنافقين لعائشة إفكاً
أولها: المعروف من حالها الحصانة والحصافة والتقى لله عز وجل، وتقدم معنا في الأمر الخامس تعظيم الله، والشفقة على خلق الله عز وجل، فهي التي تقوم بمقاصد الدين، فمثل هذه ينبغي أن يثنى عليها، وأن تحب، وأن تجل، وأن تكرم، أما أن يفترى عليها، فهذا هو عين الإفك.
الأمر الثاني: امتيازها بشرف النسب، فهي بنت الصديق أفضل هذه الأمة بعد رسول الله على نبينا وآله وأصحابه صلوات الله وسلامه.
الأمر الثالث: امتيازها بشرف السبب، فهي زوجة المعصوم، ولعصمة نبينا عليه الصلاة والسلام ينبغي أن تعصم زوجته أيضاً، إذاً هي في نفسها طاهرة مطهرة، حصان نقية، والحصان صفةٌ في المرأة العفيفة التي تبالغ في العفة، كما أن الحصان بالكسر صفةٌ في الخيل الجيدة، وسمي الحصان حصاناً؛ لأنه يحصن راكبه من الهلاك، ويمنعه من إدراك الأعداء، فلا يدركونه؛ لأن الحصان هو الآلة المفضلة في الجهاد، وهو الذي يصلح للكر وللفر، ويقاتل مع المقاتل، فيكر ويفر، والحصان إذا كان جواداً فسرعته تزيد على سرعة السيارة، فإذا كانت السيارة تقطع في الساعة مائة كيلو أو مائة وعشرين أو أكثر فسرعة الحصان المسرع تزيد، ثم هو يقاتل، قيل: وسمي حصاناً؛ لأنه يمنع ماءه، فيصونه فلا يضعه في غير محله فهو كريم لا ينزو إلا على نجيبة، فليس حاله كحال الحمر وغيرها، والحَصان هي التي صانت نفسها، فهذا حِصان، وتلك: حَصان، فالحِصان هي الخيل المعروفة، والحَصان بالفتح هي المرأة العفيفة الطاهرة النقية، كما قال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [التحريم:12].
إذاً: هؤلاء أتوا بالإفك؛ لأن المعروف من أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها الطهارة والنقاء والصفاء، والمبالغة في الحياء، فهي التي كانت تحتجب من المبصرين والعميان، من الأحياء والأموات، هذه بعد ذلك تبذل عفتها وتدنس حياءها وفرجها؟! حاشاها من ذلك!
إذاً: الذين قذفوها أتوا بالإفك؛ لأنه خلاف المعروف من حالها، ولا يتناسب هذا مع شرف نسبها، ولا مع شرف سببها، ففيها هذه الصفات التي لا توجد في غيرها من النساء الطاهرات، فقذفها إفكٌ قبيح، عليه براهين على أنه كذب وبهتان وافتراء، إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11].
إذاً هذه الدلالة الأولى في الآية، يقول الله من بدايتها: هذا إفك، يعني: لولا وقوع هؤلاء السفهاء في عرض هذه التقية الصديقة من النساء، لما كان هناك داعي لإنزال هذه الآيات، ومعلومٌ لكل أحد أنه لا يليق هذا بها وبحالها رضي الله عنها وأرضاها.
والإفك: هو كل شيء مصروف عن وجهه الذي يحق وينبغي أن يكون عليه، كل شيءٍ ينبغي أن يكون على جهةٍ سويةٍ سديدة، فصرفته عن جهته، وعن حقه الذي ينبغي أن يكون عليه، وعن الوضع الذي ينبغي أن يستقر عليه يقال له: إفكٌ، ولذلك يقول الله جل وعلا مشيراً إلى هذا المعنى في سورة التوبة: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30]، (أنى يؤفكون): يصرفون ويقلبون من الحق إلى الباطل، هذا إفك، وهنا: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11]، ويقول ربنا جل وعلا مشيراً إلى هذا المعنى للإفك في سورة الجاثية: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الجاثية:7-9]، هذا هو الأفاك، الذي يقلب الأمور عن حقائقها، وعن وجهها السليم السديد، فهو أفاكٌ أثيم، إذا تتلى عليه آيات الله يعرض عنها، كأنه لم يسمعها، وإذا علم من آيات الله شيئاً فبدلاً من أن يمتثلها ويقوم بموجبها يتخذها هزواً، هذا هو الإفك، وما رميت به أمنا عائشة رضي الله عنها إفك كذلك، وهنا: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية:7]، فالإفك -إذاً-: هو الشيء الباطل المقلوب عن الجهة السديدة المحكمة الرشيدة.
يقول الله جل وعلا في سورة الأحقاف: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأحقاف:27-28]، هم زعموا أن هذه الآلهة تمنعهم وتنصرهم وتدافع عنهم، وهذا إفك؛ لأن الآلهة لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها نفعاً ولا ضراً.
قال أئمتنا: وأصل الإفك مأخوذٌ من الأفك، وهو القلب والصرف، وذلك يشمل أشنع الكذب وأبلغه وأعظمه، ويشمل البهتان الذي يصدأ الإنسان عندما يسمعه من قبل من يفتري عليه ويكذب عليه، إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11].
وأطلق الله جل وعلا على قذف أمنا عائشة رضي الله عنها لفظ الإفك؛ لأن الذين رموها قلبوا الأمر عن وجهه، الأمر الرشيد في أمنا عائشة رضي الله عنها هو أنها تستحق منا الثناء والمحبة والإجلال والإكبار، ففيها ثلاث صفات لا توجد في غيرها من النساء:
أولها: المعروف من حالها الحصانة والحصافة والتقى لله عز وجل، وتقدم معنا في الأمر الخامس تعظيم الله، والشفقة على خلق الله عز وجل، فهي التي تقوم بمقاصد الدين، فمثل هذه ينبغي أن يثنى عليها، وأن تحب، وأن تجل، وأن تكرم، أما أن يفترى عليها، فهذا هو عين الإفك.
الأمر الثاني: امتيازها بشرف النسب، فهي بنت الصديق أفضل هذه الأمة بعد رسول الله على نبينا وآله وأصحابه صلوات الله وسلامه.
الأمر الثالث: امتيازها بشرف السبب، فهي زوجة المعصوم، ولعصمة نبينا عليه الصلاة والسلام ينبغي أن تعصم زوجته أيضاً، إذاً هي في نفسها طاهرة مطهرة، حصان نقية، والحصان صفةٌ في المرأة العفيفة التي تبالغ في العفة، كما أن الحصان بالكسر صفةٌ في الخيل الجيدة، وسمي الحصان حصاناً؛ لأنه يحصن راكبه من الهلاك، ويمنعه من إدراك الأعداء، فلا يدركونه؛ لأن الحصان هو الآلة المفضلة في الجهاد، وهو الذي يصلح للكر وللفر، ويقاتل مع المقاتل، فيكر ويفر، والحصان إذا كان جواداً فسرعته تزيد على سرعة السيارة، فإذا كانت السيارة تقطع في الساعة مائة كيلو أو مائة وعشرين أو أكثر فسرعة الحصان المسرع تزيد، ثم هو يقاتل، قيل: وسمي حصاناً؛ لأنه يمنع ماءه، فيصونه فلا يضعه في غير محله فهو كريم لا ينزو إلا على نجيبة، فليس حاله كحال الحمر وغيرها، والحَصان هي التي صانت نفسها، فهذا حِصان، وتلك: حَصان، فالحِصان هي الخيل المعروفة، والحَصان بالفتح هي المرأة العفيفة الطاهرة النقية، كما قال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [التحريم:12].
إذاً: هؤلاء أتوا بالإفك؛ لأن المعروف من أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها الطهارة والنقاء والصفاء، والمبالغة في الحياء، فهي التي كانت تحتجب من المبصرين والعميان، من الأحياء والأموات، هذه بعد ذلك تبذل عفتها وتدنس حياءها وفرجها؟! حاشاها من ذلك!
إذاً: الذين قذفوها أتوا بالإفك؛ لأنه خلاف المعروف من حالها، ولا يتناسب هذا مع شرف نسبها، ولا مع شرف سببها، ففيها هذه الصفات التي لا توجد في غيرها من النساء الطاهرات، فقذفها إفكٌ قبيح، عليه براهين على أنه كذب وبهتان وافتراء، إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11].
إذاً هذه الدلالة الأولى في الآية، يقول الله من بدايتها: هذا إفك، يعني: لولا وقوع هؤلاء السفهاء في عرض هذه التقية الصديقة من النساء، لما كان هناك داعي لإنزال هذه الآيات، ومعلومٌ لكل أحد أنه لا يليق هذا بها وبحالها رضي الله عنها وأرضاها.
الدلالة الثانية في دفاع الله عنها، وتبرئته لها، وفي ذلك حبٌ لها من الله جل وعلا غيرةً عليها: هذا الإفك أتى به عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11].
حقيقة لفظ العصبة
إذاً: هذه جماعة عصبة لها شأن قبيح خبيث، وكل جماعة لا بد لها من قائد في الخير أو في الشر، والذي تولى كبره منهم قائدهم الماكر عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، إذاً (والذي تولى كبره) بكسر الكاف وضمها، وبالضم قرأ يعقوب فقط من العشرة، وقرأ التسعة بالكسر، قال أئمتنا: هما مصدران لكبر الشيء بمعنى عظم، والذي تولى كبره، يعني: معظمه، ونشره، وإشاعته بين الناس، وهو رئيس المنافقين، وقيل: إن الضم بمعنى معظم الشيء، والكسر بمعنى بداية الشيء، والأمران مجتمعان في هذا الخبيث، هو الذي قام بمعظم الإفك، وهو الذي ابتدأه واخترعه، وقال: ما نجت منه ولا نجا منها! وأرجف به ونشره بين الناس، فهو الذي ابتدأ، وهو الذي تحمل الدعاية له، والإثم الأكبر فيها.
إذاً: لفظ العصبة جماعةٌ متعاضدةٌ متناصرة، ومنه قول إخوة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف:14]، نحن إخوة، أحد عشر ولداً نتعاضد ونتناصر ويأتي ذئب يأكل منا أخانا، إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ [يوسف:14]؟! نحن عصبة نتعاضد نتناصر، ونحمي أخانا من أن يأكله الذئب.
وإلى ذلك أشار الله أيضاً في سورة القصص: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76]، أي: جماعة متعاضدة وعندهم قوة لا يستطيعون أن يحملوا مفاتيح خزائن قارون من كثرتها وثقلها، إذاً: هؤلاء الذين افتروا الإفك عصبة ولم يقع الأمر كما يقال: فلتة وبدون تدبير، بل هو أمر دبر بليل وبخفاء من قبل عصبة متعاضدة على الشر وعلى النيل من عرض النبي عليه الصلاة والسلام، والعصبة ذكر أئمتنا لها حداً لا تتجاوزه ولا تزيد عليه، فقيل: هي من ثلاثة إلى عشرة، وبعضهم قال: من عشرة إلى خمسة عشرة، وأقصى ما قيل وهو الذي ذكره الرازي في تفسيره: من عشرة إلى أربعين، ولا يمكن أن تزيد العصبة على ذلك، المقصود أنهم شرذمة قليلة، هذا ما أجمع عليه الصحابة الكرام، وما أقره أهل اللغة والأحلام، تكلم به عصبة سفهاء اجتمعوا في الخفاء وقالوا: نريد أن ننال من خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، دبروا مكيدة، ابحثوا عن مطعن نطعن به على محمد عليه الصلاة والسلام، فوجدوا في تأخر أمنا عائشة رضي الله عنها عن البيت مجالاً للطعن، فتعاونوا وتساعدوا وتعاضدوا على هذا الافتراء، وكلام الأعداء لا يبالي به الأصدقاء.
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كامل
إن هذا عدو، فانتبه للآية الأولى قبل نهايتها، يعطي الله الدلالات من البداية فيقول لأهل العقول: انتبهوا! هؤلاء عصبةٌ أتوا بإفك، من أجل الطعن في عِرض نبي الله المختار على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه.
قد يقول قائل: العصبة قد تكون عشرة ولفظ العشرة يفيد التواتر، والتواتر يفيد العلم القطعي، ولا يشترط عدالة ولا ضبط ولا إيمان ولا كفر في رواية المتواتر، فلا نبحث لا في عدالة ولا في ضبط، لكن عندنا شرطٌ واحد هنا غير موجود وهو إحالة العادة تواطؤهم على الكذب، فلو اجتمع مائة في هذا الوقت في اجتماع سري وخرجوا بعد ذلك بكلام، هؤلاء مائة خبرهم يفيد التواتر في الأصل، لكن عندنا قرينة ترد خبرهم وتجعله دون خبر الواحد، وهو الافتراء والتواطؤ، لكن لو قدر أن هذا الخبر نقله مائة، واحدٌ من هذا الحي، واحدٌ من ذاك الحي، واحدٌ كبير، وواحدٌ صغير، ولا رابطة بينهم ولا اتفاق ولا اجتماع، فإننا نقول: هذا يفيد التواتر، وأنت مضطر إلى التصديق رغم أنفك؛ لأنه لا يمكن إلا أن يكون هذا الأمر قد وقع، فهؤلاء عندما نقلوه والعادة أحالت تواطؤهم على الكذب دل على قطعيته وثبوته، أما هنا فهب أنهم بلغوا عشرة، وأن نقل العشرة يفيد التواتر، فهذا التواتر لا يساوي بولة كلب؛ لأنه بواسطة عصبةٍ واجتماع.
قد يتواطأ أحياناً طلاب فصل من الفصول وعددهم مائة على الكذب على أستاذٍ من الأساتذة، ويذهبون يقولون: قال في الفصل كذا وهم كلهم كذابون، فلا يقال بعد ذلك عند التحقيق: هؤلاء مائة نأخذ بكلامهم ولا نكذبهم؛ لأن عندنا قرينة على التواطؤ والافتراء.
ويشترط في المتواتر أيضاً أن يسندوه إلى شيءٍ محسوس من سماع أو رؤية، فهل أنتم سمعتم هذا عن أمنا عائشة وعن صفوان ، وأنهما قالا: نحن فعلنا، وشهد عشرة على ذلك، أو رأيتم؟ لا يوجد إلا هذا، إما سماع وإما رؤية، وما عدا هذا فكذبٌ لا شك فيه، ولذلك يقول الله جل وعلا: عصبة متعصبة متعاضدة متناصرة مجتمعة على الضلال والباطل، أتوا بإفك، وهذا الإفك لم يقع اعتباطاً، وإنما وقع بتدبيرٍ ومكر، إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11].
الموقع الإعرابي لكلمة (عصبة) وأثر ذلك على المعنى
وذهب بعض المفسرين إلى أن (عصبة) بدل من ضمير الفاعل في (جاءوا)، والخبر: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ [النور:11]، وعليه عندما قال: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ [النور:11]، أراد أن يبين حالة الجائين بالإفك والقائلين لهم فقال: إنهم عصبة، وهذا مع احتمال اللغة له كما ذكر أئمتنا المفسرون فالقول الأول أولى وأنجى.
وقوله: (منكم)؛ لأنهم في الظاهر ينتسبون إلى الإسلام، فمنكم، أي: من المسلمين من بني آدم من الذين يعيشون معكم في المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه يظهرون الإيمان ويبطنون النفاق والكفران، إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11].
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] | 4047 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] | 3982 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] | 3907 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] | 3795 استماع |
شرح الترمذي - مقدمات [8] | 3788 استماع |
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] | 3773 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] | 3571 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] | 3488 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] | 3420 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] | 3419 استماع |