شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس الباب الرابع عشر من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وعنوان هذا الباب كما تقدم معنا مراراً: باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به.

وقد أورد الإمام الترمذي في هذا الباب حديث سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن).

قال الإمام أبو عيسى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

فكما تقدم معنا مراراً، من ضمن الحديث على أن الجن إخوانٌ لنا وطعامهم يختلف عن طعامنا، فقلت: لا بد من التعرف على هذه الأمة الكبيرة العظيمة التي تقابل أمة الإنس ألا وهي أمة الجن .. عالم الجن، وتقدم معنا أننا سنبحث في شأنهم ضمن ثلاثة مباحث:

أولها: فيما يتعلق بخلقهم ووجودهم، وتقدم معنا الكلام على هذا مفصلاً.

ثانيها: فيما يتعلق بتكليفهم وجزائهم، وهذا أيضاً انتهينا منه.

والمبحث الثالث: الذي يتضمن -كما قلت- اثني عشر أمراً في أوجه الاتفاق والافتراق بين الإنس والجن، أما فيما يتعلق بأوجه الافتراق فذكرت أربعة، وفيما يتعلق بأوجه الاتفاق -وهي الأولى- ذكرت أربعة أمور:

أولها: فيما يتعلق بخلقهم وموتهم، يخلقون ويموتون كما هو الحال في الإنسي تماماً.

الثانية: فيما يتعلق بتصنيفهم، وهم مكلفون ونحن كذلك.

الثالثة: فيما يتعلق بانقسامهم إلى مؤمن وكافر، طائع وعاصي، كما هو الحال فينا.

الرابع: حالهم في الآخرة كحالنا في الآخرة، فريق في الجنة وفريق في السعير.

وقلت: هذه الأمور يتفق فيها الإنس والجن.

أما الأربعة الأمور الأخرى فيما يختلف حالهم عنا، ونختلف به عنهم، أو عن الافتراق بينا وبينهم فقد ذكرت أيضاً أربعة أمور، ثم نبحث الأمر الرابع منها:

أولها: عنصر خلقهم يختلف عن عنصر خلقنا كما تقدم معنا.

والثاني: في رؤيتهم لنا وعدم رؤيتنا لهم.

والثالث: في سكنهم، وقد مر الكلام على هذا.

ورابع هذه الأمور: طعامهم يختلف عن طعامنا، فلهم طعام غير طعامنا خصوا به كما سيأتينا ضمن مراحل البحث إن شاء الله.

وأما الأمور الأخرى وهي صلتنا بهم فقلت: سنبحث أيضاً في ذلك ضمن أربعة أمور:

أولها: فيما يتعلق بالاستعانة بهم.

وثانيها: فيما يتعلق بمناكحتهم، أي: المناكحة بين الإنس والجن.

وثالث الأمور: في تلبس الجني بالإنسي.

ورابع الأمور: في تحصن الإنسي من الجني.

فكنا نتدارس أوجه الافتراق بيننا وبينهم، ووصلنا إلى الأمر الرابع ألا وهو: طعامهم، وقلت: هذه القضية سنبحث فيها ضمن أيضاً مرحلتين:

المرحلة الأولى: في إثبات أن الجن يأكلون كما نأكل عن طريق المضغ والبلع، ومن قال: إنهم يأكلون عن طريق التكلم أو أنهم لا يأكلون مطلقاً فهذا كما تقدم معنا لا دليل عليه وهو باطل، وقد ذكرت أدلة كثيرة تقرر أنهم يأكلون كما نأكل، ثم بعد ذلك تكميلاً للبحث قلت: والشيطان مع أنه يأكل هو وجميع الجن فهو في أكله خسيس خبيث، فيلعق القصعة ويأكل اللقمة التي تسقط منه، وأيضاً يأكل بصورة مزرية ممتهنه فيأكل بشماله، وهذا حال العصاة من الجن، والمؤمنون من الجن يفعلون كما يفعل المؤمنون من الإنس، كما أن العصاة من الإنس يأكلون بصفة مرذولة مستهجنة، وهكذا العصاة من الجن.

فقد كنا نبحث في هذا القضية ألا وهي الأكل بالشمال، وتقدم معنا أن الإنسان إذا أكل ولم يسم الله استحل الشيطان ذلك الطعام، وسيأتينا أن الإنسان إذا أكل بشماله يستحل الشيطان أيضاً ذلك الطعام.

وعليه؛ فهناك أمران يستحل بهما الشيطان الطعام: إن أكل ولم يسم، أو إذا أكل بشماله، فإذا وجد من الإنسان مثل هاتين الحالتين عند طعامه أو شرابه فإن الشيطان يشاركه في طعامه وشرابه كما سيأتينا إن شاء الله.

رواية جابر بن عبد الله في النهي عن الأكل بالشمال

وأوردت بعض الأحاديث التي تقرر هذا وتدل عليه، فذكرت حديث ابن عمر رضي الله عنه أول الأحاديث، وأتبعته بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، وبحديث أنس ، وهذا تقدم الكلام عليه.

جاء في حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه تقدم معنا ( أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يأكل الرجل بشماله، أو يشرب بشماله، أو يمشي في نعل واحدة ). وكنت ذكرت بعض الحكم في موضوع عدم المشي في نعل واحدة، فقلت: من أجل أن يساوي الإنسان بين أعضائه وبين رجليه، واللابس المنتعل راكب، فلا يجوز أن ينعل رِجلاً دون أخرى.

والأمر الثاني قلت: من أجل يصبح ذلك أعدل في مشيته، خشية ألا يسقط ويتعثر عندما يمشي.

والأمر الثالث: الصورة تكون مزرية، ثم قلت: لعل هذه أيضاً مشية الشيطان فهي مكروهة لذلك، وأخبرني بعض الإخوة الكرام أنه وردت بعض الأحاديث تقرر ذلك، ورجعت إلى هذا وكنت قرأتها وذهلت عنها، هي ضمن آكام المرجان، وقد قرأته ثلاث مرات -لا أبالغ- سابقاً، وبعد البحث تأكدت أيضاً أن الحديث أيضاً من غير الطريق الذي رواه الإمام الشبلي في آكام المرجان، فهو عزاه عند الإمام حرب الكرماني تلميذ الإمام أحمد ، وله كتاب في مسائل الإمام أحمد في مجلدين هي أحسن ما نقل من علم الإمام أحمد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وروى الحديث أيضاً الإمام الطحاوي في مشكل الآثار، وقرر أن المشي بنعلٍ واحدة هي مشية الشيطان.

وعليه؛ فمشية الشيطان لا مانع أن يضم إليها تلك العلل؛ لأنها صورة مزرية فالإنسان لا تعتدل حالته عندما يمشي، ولا يسوي بين أعضائه، وزاد الإمام البيهقي حكمة خامسة فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء العاشر، صفحة عشرة وثلاث مائة، فقال: هذا أيضاً من باب الشهرة، فإذا لبس في إحدى رجليه والأخرى لم ينتعل فيها فهذا يؤدي إلى الاشتهار بين الناس؛ لأنه يتميز عنهم بلباس مخصوص أو بحالة مخصوصة، فمنهي عن شيء فيه شهرة.

إذاً: هذه عدة حكم يمكن أن تجمع إلى بعضها مع اعتبار الحكمة الأولى ألا وهي: أن الانتعال في رجل واحدة هذه هيئة مذمومة هي هيئة الشيطان، والحديث -كما قلت إخوتي الكرام- حديث صحيح ذكره الإمام الشبلي في آكام المرجان صفحة واحد وتسعين ومائة، وبوب عليه الباب الثامن عشر بعد المائة في بيان مشي الشيطان في نعل واحدة، والحديث أيضاً -كما قلت- في مشكل الآثار للإمام الطحاوي في الجزء الثاني صفحة اثنين وأربعين ومائة، وكما قلت لكم: نسب الحديث إلى حرب تلميذ الإمام أحمد ، وهو حرب بن إسماعيل الكرماني توفي سنة ثمانين ومائتين للهجرة، يعني: بعد قرابة أربعين سنة من موت الإمام أحمد عليه وعلى أئمتنا جميعاً رحمة ربنا.

قال حرب: حدثنا محمد بن نذير الدمشقي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الليث بن سعد ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يمش أحدكم في نعل واحدة، فإن الشيطان يمشي في نعل واحدة ).

قال حرب: وسمعت أحمد: يكره أن يمشي الرجل في نعلٍ واحدة كراهية واحدة، يعني: قولٌ واحد ما له في ذلك قولان، مكروه أن يمشي الإنسان في نعلٍ واحدة وفي خف واحد.

قال حرب: حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي رزين عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها ). سقطت (فلا)، في الطباعة: (إذا انقطع شسع أحدكم يمشي في الأخرى حتى يصلحها)، هذا خطأ قطعاً وجزماً والصحيح: ( فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها ).

وهذا الحديث الذي رواه حرب -هو الحديث الثاني- رواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه الإمام مسلم في صحيحه، ورواه النسائي في السنن، وهو أيضاً من رواية أبي هريرة كالحديث الأول، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير من رواية شداد بن أوس رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا انقطع شسع نعل أحدكم فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها). وعليه أن يخلع الثانية ويمشي حافي الرجلين، ولا يمشي في نعلٍ واحدة حتى يصلح الشسع الذي انقطع.

والشسع هو: الخيط والسير الذي يربط به الحذاء أو النعل ليستمسك، فإذا انقطع فلا يمشِ في نعلٍ واحدة حتى يصلحها.

وقد ثبت في الكتب الستة إلا سنن النسائي من رواية أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمشِ أحدكم في نعلٍ واحدة ولا في خف واحد، لينعلهما جميعاً -يعني: لينتعل في رجليه جميعاً- أو ليخلعهما جميعاً ). فهذه رواية الإمام مسلم، ولفظ البخاري : ( أو ليحفهما جميعاً ). يعني من الحفاء، والمقصود إما أن ينتعل في الرجلين أو أن يخلع النعلين الاثنتين ويمشي حافياً، فالرواية صحيحة ثابتة، والنهي -كما قلت- إنما هو عن المشي بنعل واحدة؛ لأن هذا من مشية الشيطان مع العلل الأخرى، فهذا ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

والإمام حرب روى هذا الحديث من طريق محمد بن نذير الدمشقي قال: حدثني الوليد بن مسلم . والإمام الطحاوي رواه من طريق الربيع بن سليمان المرادي، قال: حدثنا ابن وهب ثم اتفقا: حدثنا الليث ، فـالليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج عن أبي هريرة ، فهذا محل الاتفاق في رواية الطحاوي ورواية حرب الكرماني عليهم جميعاً رحمة الله.

وحرب ترجمه أئمتنا فانظروا ترجمته الطيبة العطرة في سير أعلام النبلاء في الجزء السادس عشر صفحة أربع وأربعين ومائتين، وعلق الإمام الذهبي على مسائل حرب وهي في مجلدين فقال: قلت: مسائل حرب من أنفس كتب الحنابلة؛ لأنه تلميذ الإمام أحمد مباشرة، ونقل عنه أربعة آلاف نسخة، ولو لزمه من البداية لزاد النقل عنه؛ لأنه كما كان يخبر عن نفسه يقول: كنت متصوفاً في أول أمري، يعني: يسلك طريق الزهد والعبادة والرعاية ومحاسبة النفس ولا يتفرغ للعلم ولا للرواية، ثم لما أقبل على العلم حتماً تأخر أخذه عن هؤلاء الأئمة الكرام، وهذا ينقله أبو يعلى في طبقات الحنابلة عنه، في الجزء الأول صفحة خمسٍ وأربعين ومائة، وانظروا أيضاً ترجمته الطيبة في تذكرة الحفاظ في الجزء الثاني صفحة ثلاث عشرة وست مائة، ومما نقله عن شيخه إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا أنه قال: الناس يحتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الغذاء والماء، ثم علل الإمام أحمد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا هذا فقال: العلم تحتاجه في كل وقت، وأما الماء والغذاء فتحتاج إليهما في اليوم مرة أو مرتين. فالعلم لا يمر عليك وقت إلا ويجب أن تعلمه، يعني: ما ينبغي أن تقوم به نحو ربك مما يطرأ عليك من أحوال، فلا يستغني الإنسان عن العلم طرفة عين، وأما الغذاء وشرب الماء من أجل البقاء في هذه الحياة فيحتاج الإنسان إليهما مرة أو مرتين في اليوم، يكفيه ويحفظه.

فكما قلت إخوتي الكرام: هذه العلة ثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أن المشي في نعلٍ واحدة هذا من عمل الشيطان، الحديث رواه حرب الكرماني، كما رواه الإمام الطحاوي في مشكل الآثار وهو صحيح.

رواية عبد الله بن محمد الأنصاري في النهي عن الأكل بالشمال

الرواية الرابعة من الروايات التي كنا نستعرضها في التحذير من الأكل بالشمال، وأن هذه هي صفة الشيطان الضال، رواها الإمام أحمد في المسند والطبراني في معجمه الكبير، كما في مجمع الزوائد في الجزء الخامس صفحة ستٍ وعشرين، وقال الإمام الهيثمي : رجاله ثقات.

ولفظ الحديث عن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري -وهو من رجال أبي داود ، حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه مقبول- عن امرأة من أصحاب النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قالت: ( دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا آكل بشمالي، وكنت امرأةً عشراء ) بوزن: حمراء، يعني: أستعمل الشمال في طعامي وشرابي وقضاء حوائجي، قالت: ( وكنت امرأة عثراء، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم يدي -عندما كانت تأكل بشمالها- قالت: فسقطت اللقمة )، فالنبي عليه الصلاة والسلام ضرب يد هذه المرأة المباركة الصحابية التي هي من قوم عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وهو ولد الذي أري الأذان في نومه رضي الله عنهم أجمعين، قالت: ( فضرب النبي صلى الله عليه وسلم يدي فسقطت اللقمة فقال: لا تأكلي بشمالك وقد جعل الله لك يميناً، ثم قال: أطلق الله يمينك ) يعني: جعل الله لك يميناً مطلقة تتصرفين فيها كما تتصرفين في الشمال، ( وعلام تأكلين باليسرى؟ قالت: فتحولت شمالي يميناً فما أكلت بها بعد )، يعني: استجابت لإرشاد النبي عليه الصلاة والسلام، فصارت السهولة التي كانت تباشرها بيدها الشمال حسب ما اعتادت انقلبت إلى اليمين فصارت تأكل وتأخذ وتعطي بها، وصارت كأنها بمنزلة الشمال عندها في اليسر، فالذي يتوجه إلى الله جل وعلا بشيء يعينه الله كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

فالإنسان إذا اعتاد الكتابة والأكل والشرب والأخذ والإعطاء بشماله يصعب عليه أن يداول هذا بيمنه، لكن إذا عزم فسوف يعينه ربنا الأكرم سبحانه وتعالى.

ويذكرون في ترجمة هارون الرشيد أنه دخل عليه أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة عليهم جميعاً رحمة الله، وكان يشرب نوعاً في ذاك الوقت من التي يقال عنها: مكسرات كالتنباك، وليس الدخان الذي حصل في العصر المتأخر يشبهه في ذلك الوقت، فـهارون الرشيد يشربه وينشطه، فليس مسكراً أو مخدراً حقيقياً، لكنه ممنوع أيضاً، فقال له أبو يوسف : لا يليق هذا بك يا أمير المؤمنين، أنت خليفة وتشرب هذا النوع من الشراب المستهجن؟

فقال هارون الرشيد: الأمر كما تقول لكن تغلبني نفسي، يعني: لا أستطيع أن أتحكم بها، فقال: عزمة من عزمات الرجال يا أمير المؤمنين أي: أين العزم الذي عند الرجال؟ همم الرجال تخلع الجبال، وأنت ليس عندك قدرة على أن تمنع نفسك عن دخان؟ قال: فامتنع عنه هارون بعد ذلك.

وكان من أمارات الفتوة شرب الخمر عند العرب وعند الصحابة رضي الله عنهم، ويقولون: إنها تدعو إلى الكرم، وإنها تكسب الإنسان غيرة، والحقيقة أن الكثير عنده غيرة عظيمة على عرضه بخلاف -نسأل الله العافية- من يتعاطى المخدر، فذاك يصاب بالدياثة ولا يفكر في عرضه.

ولذلك قال تعالى: وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا [البقرة:219]. ولما نزل قوله: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [المائدة:91] قالوا: انتهينا، يعني: إذا وجدت العزيمة الصادقة فالله جل وعلا يعين العبد، ولذلك في هذه الأيام هناك من يشرب الدخان فيقال له: امتنع، فيقول: يصعب علي، فهو بنفسه يمتنع عندما يأتي شهر رمضان ومعلوم أن الصيام فريضة، فلا يمكن أن يفطر فتراه يمسك نفسه، إذن فالذي أمسك نفسه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس يستطيع أن يمدد الإمساك إلى طلوع الفجر بعد ذلك، ولو صبرت يوماً أو يومين لانتهيت، يعني: حاله كحال الطفل عندما يفطم من الرضاع من لبن أمه، فيصعب عليه في اليوم الأول واليوم الثاني، وبعد ذلك لو أعطته أمه الثدي لعافه وكرهه ونفر منه، وهنا كذلك.

ولذلك هذه المرأة المباركة رضي الله عنها وأرضاها، لما ضرب النبي عليه الصلاة والسلام يدها وسقطت اللقمة، قال: ( كيف تأكلين بشمالك وقد جعل الله لك يميناً؟ أطلق الله يمينك ). وهذه بركة اتباعها للنبي عليه الصلاة والسلام والاقتداء به والالتزام بهديه، تقول: فتحولت شمالي يميناً وما أكلت بها بعد.

رواية عبد الله بن أبي طلحة في النهي عن استعمال الشمال في الأكل والشرب

الرواية الخامسة رواها الإمام أحمد في المسند أيضاً، كما في مجمع الزوائد في الجزء الخامس صفحة ستٍ وعشرين في المكان المشار إليه آنفاً، ورجال الإسناد رجال الصحيح، كلهم ثقات أثبات لكنه مرسل فقط، فـعبد الله بن أبي طلحة من التابعين، وليس من الصحابة الكرام الطيبين رضي الله عنهم أجمعين، أبوه صحابي، وهو تابعي، ولذلك روى الحديث وهو تابعي ورفعه إلى النبي عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه، وهذا هو المرسل: ما رفعه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام سواءً كان التابعي صغيراً أو كبيراً.

ولفظ الحديث: عن عبد الله بن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أكل أحدكم فلا يأكل بشماله، وإذا شرب فلا يشرب بشماله، وإذا أخذ فلا يأخذ بشماله، وإذا أعطى فلا يعطِ بشماله ).

أما موضوع الأكل والشرب فقد تقدم معنا في الروايات الصحيحة في صحيح مسلم وغيره، وتقدم معنا عن نافع أنه كان يزيد في الرواية التي رواها عن ابن عمر ، وكان نافع يزيد: ولا يأخذ بها ولا يعطي، وقلت: سيأتينا هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الروايات وهذه منها: (وإذا أخذ فلا يأخذ بشماله، وإذا أعطى فلا يعطِ بشماله)، فالعلة في ذلك أن هذا تشبه بالشيطان؛ لأن الشيطان يأكل ويشرب ويأخذ ويعطي بشماله، فالحديث -كما قلت- في المسند ورجاله رجال الصحيح إلا أنه مرسل، وكما قلت مراراً: إذا ضمت الروايات إلى بعضها تبين لنا ثبوت الحكم الشرعي بيقينٍ عن نبينا الأمين عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه.

رواية عائشة رضي الله عنها في النهي عن الأكل والشرب بالشمال

الرواية السادسة: رواها الإمام أحمد في المسند أيضاً والطبراني في معجمه أيضاً، كما في المجمع في الجزء الخامس صفحة خمس وعشرين، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وفي إسناد أحمد -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- رشدين بن سعد، قال عنه الإمام الهيثمي : وهو ضعيف وقد وثق، ورشدين حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه ضعيف، وقال: رجح أبو حاتم ابن لهيعة عليه، يعني: ابن لهيعة أحسن حالاً من رشدين بن سعد، وضعف رشدين لا من قبل عدالته، إنما من قبل صدقه، وكان من الصالحين الذين صرفوا عنايتهم للتعبد، ففيه كان أئمتنا يقولون: تأخذه غفلة الصالحين، أي: المتعبدين الذين لا يعتنون بالروايات ولا يضبطونها، وقد توفي سنة ثمانٍ وثمانين ومائة، وهو من رجال الترمذي وسنن ابن ماجه عليهم جميعاً رحمة الله.

وفي إسناد الطبراني ابن لهيعة ، وحديثه حسن كما تقدم معنا، وحكم عليه الحافظ في التقريب بأنه صدوق، وتقدم معنا أنه طرأ عليه الاختلاط وهو من رجال مسلم والسنن الأربع إلا سنن النسائي كما تقدم معنا مراراً.

فعندنا طريقان لحديث أمنا عائشة : طريق فيه ابن لهيعة وطريق فيه رشدين يتقوى كل منهما بالآخر، يضاف إلى هذه الشواهد التي مرت معنا وتشهد لهذا الحديث.

ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من أكل بشماله أكل الشيطان معه، ومن شرب بشماله شرب الشيطان معه ). وكنت قد ذكرت أن الشيطان يستحل الطعام لأحد أمرين: إذا لم تسم وإذا أكلت بشمالك، إذا شربت بشمالك وأكلت بشمالك شاركك الشيطان في فعلك، وهكذا إذا لم تسم، ولذلك لا بد من طرد الشيطان بهذين الأمرين: التسمية والأكل باليمين، وحقيقة في هذه الأيام ترى بعض الناس يسمي، وتراهم أحياناً من كبار السن لكن لا أعلم ما الذي أصاب الأمة في هذه الأيام، فتراه يشرب أو يأخذ الشيء بشماله، وعندما تكلمه إما يقول أحياناً: عادة، أو يقول أحياناً: ما انتبهت.

يا عبد الله! الشيطان يوسوس لك عند أكلك إن سميت على أن تأكل بشمالك ليستحل الطعام فلا بد من أن تحصن نفسك بهذين الحصنين: أكل باليمين، وتسمية عندما تأكل، فإذا تخلف أحدهما أكل الشيطان معك وشاركك، وهذا تفشى في أوساط المسلمين العامة، ولعله لا يسلم منه إلا من ينتبه ويتيقظ، وبعض الناس ترى عليهم علامة الخير والصلاح لكن عدم الانتباه وعدم اليقظة والبصيرة. هذا في الحقيقة معيب، وأما بعض العتاة الذين يتعمدون الأكل بالشمال؛ لأن هذا من علامة الرقي والمدنية، ولأنه من عادة الكفار الأكل والشرب بالشمال، و8هذا يريد أن يشرب بالشمال ويأكل بالشمال حتى يقال عنه: متطور، فهذا موضوع آخر.

رواية عمر بن الخطاب في النهي عن الأكل والشرب بالشمال

الرواية السابعة: رواها الطبراني في معجمه الكبير، كما في المجمع في الجزء الخامس صفحة ستٍ وعشرين، من طريق عبيد الله بن عمر عن الزهري ، قال الحافظ الهيثمي في المجمع: ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات، وعبيد الله بن عمر تقدم معنا لكن ليس هو هذا المذكور، فالذي تقدم معنا عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، ذاك تقدم معنا أنه ثقة ثبت، وليس هو المراد هنا، وهنا عبيد الله بن عمر ، لذلك قال: لم أعرف من هو الذي روى عن الزهري ، أما ذاك فتقدم معنا أنه ثقة ثبت، وأن أحمد بن صالح قدمه على الإمام مالك في روايته عن نافع ، وقدمه ابن معين فيما رواه عبيد الله بن عمر عن القاسم عن أمنا عائشة على رواية الزهري في روايته عن عروة عن أمنا عائشة ، يعني: عبيد الله بن عمر بن حفص إذا روى عن القاسم عن أمنا عائشة فهذه مُقدَّمة عند ابن معين على رواية الزهري عن عروة عن أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين، وقلت: إن حديثه في الكتب الستة لا يراد به هذا، وهناك أيضاً راوٍ آخر اسمه عبيد الله بن عمر القرشي البصري، وهو شيخ لـابن المبارك حكم عليه الحافظ بأنه مقبول من السادسة، وهو من رجال سنن النسائي ، والله أعلم بحال هذا الإنسان الذي يقول عنه الإمام الهيثمي : لم أعرفه، والحديث من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يأكل أحدكم بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ) والرواية مع جهالة عبيد الله بن عمر يشهد لها ما تقدم من روايات صحيحة أخبرت أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله.

رواية أبي هريرة في النهي عن الأكل والشرب بالشمال

الرواية الثامنة: رواها أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، رواها الإمام ابن ماجه في سننه والإمام أحمد في مسنده، قال الحافظ المنذري في الترهيب والترغيب في الجزء الثالث صفحة ثمانٍ وعشرين ومائة: بإسناد صحيح، ولفظ الحديث من رواية أبي هريرة عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليأكل أحدكم بيمينه، وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه، وليعط بيمينه ). وهذا شاهد لرواية نافع التي كان يزيد فيما رواه عن