ديوان الإفتاء [773]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة، والنعمة المسداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فأسأل الله عز وجل أن يعلمني وإياكم علماً نافعاً، وأن يرزقنا عملاً صالحاً، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.

قد تقدم الكلام في الحلقة السابقة عن شروط الصلاة، وعرفنا أنها على أنواع ثلاثة:

شروط الوجوب، وهما شرطان: البلوغ، وعدم الإكراه على تركها.

وشروط الصحة، وهي ستة: الإسلام، وترك المبطلات، والطهارة من الحدث، والطهارة من الخبث، وستر العورة، واستقبال القبلة.

وشروط الوجوب والصحة معاً، وهي ستة أيضاً: العقل، ودخول الوقت، والنقاء من دم الحيض والنفاس، والقدرة على الطهارة المائية أو الترابية، وبلوغ دعوة الأنبياء، وعدم النوم والغفلة.

وإذا علم بأن من شروط صحة الصلاة الطهارة من الحدث، فينبغي أن يعلم بأن الطهارة من الحدث على نوعين:

طهارة صغرى، ونعني بها: الوضوء.

وطهارة كبرى، ونعني بها: الغسل.

تعريف الوضوء والدليل على فرضيته

والكلام في هذه الحلقة إن شاء الله وما يليها عن الطهارة الصغرى التي هي: الوضوء.

الوضوء في اللغة: مشتق من الوضاءة، بمعنى: الحسن والنظافة، يقال: رجل وضيء وامرأة وضيئة، كما في الحديث الصحيح بأن النبي صلى الله عليه وسلم حول وجه الفضل بن العباس لما نظر إلى المرأة يوم العيد، وقال صلى الله عليه وسلم : ( رأيت شاباً وضيئاً وامرأة وضيئة فلم آمن عليهما الشيطان ).

وقد قيل:

والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء

وأما الوضوء في الشرع فهو: غسل أعضاء مخصوصة على صفة مخصوصة مع الاقتران بالنية.

وهذا الوضوء شرط في صحة الصلاة بإجماع المسلمين؛ لقول ربنا الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]، وهذه الآية هي السادسة من سورة المائدة، وقد نزلت في بعض أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أمنا عائشة رضي الله عنها: ( حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فذهب، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث ناساً في طلبه، فنزلت آية التيمم ).

وقد بين نبينا عليه الصلاة والسلام أن الصلاة لا تصح إلا بهذا الوضوء، فثبت عنه أنه قال: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، وثبت من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور )، وأجمع المسلمون على أن الوضوء شرط في صحة الصلاة.

تشريع الوضوء في الأمم السابقة

وهنا مسألة وهي: متى شرع الوضوء؟

الجواب: ليس الوضوء خاصاً بهذه الأمة، بل كان معروفاً في الأمم التي كانت قبلنا، ويدل على ذلك الحديث الثابت في الصحيح في قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، لما ذهب مع زوجه سارة عليها السلام ودخلت على فرعون مصر فمد يده إليها، فـسارة رضي الله عنها قامت تتوضأ وتصلي، وكذلك في قصة جريج العابد رضي الله عنه، فهو لما رمي بالزنا مع تلك المرأة البغي قام فتوضأ وصلى ودعا ثم طعن في خاصرة الغلام، وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: أبي الراعي فلان.

وهذا مثل العبادات الأخرى، فأصول العبادات كانت موجودة في شرائع الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك نقرأ في القرآن وصف نبي الله إسماعيل عليه السلام قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً [مريم:54-55]، ونقرأ أيضاً في وصف المسيح عليه السلام: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً [مريم:31-32]، وكذلك سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كلهم دعا إلى توحيد الله عز وجل، وهذا هو أصل الدين، وكلهم كان يصلي ويصوم ويتصدق، ونحن نقرأ في القرآن: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

فكذلك الوضوء كان معروفاً في شرائع الأنبياء قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولما فرضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه جبريل فعلمه الوضوء والصلاة، كما في سنن الدارقطني .

مواطن الوضوء الواجب

والوضوء وضوءان: وضوء واجب، ووضوء مسنون أو مندوب.

أما الوضوء الواجب ففي ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: عند إرادة الصلاة، قال تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ).

الحالة الثانية: عند الطواف بالبيت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا: ( أن الطواف صلاة غير أنه أبيح فيه الكلام )، وأول ما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة تطهر ثم طاف بالبيت.

الحالة الثالثة: عند مس المصحف؛ لأن الله عز وجل قال: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا يمس القرآن إلا طاهر ).

إذاً: الوضوء واجب عند إرادة أمور ثلاثة:

أولها: الصلاة فريضة كانت أو نافلة.

ثانيها: الطواف واجباً كان أو تطوعاً.

ثالثها: مس المصحف.

مواطن الوضوء المستحب

وأما الوضوء المندوب فقد حثنا عليه الشرع وأمرنا به في مواطن:

ومن ذلك: وضوء الجنب إذا أراد أن ينام قبل أن يغتسل، يعني: لو أن إنساناً أتى أهله ثم أراد أن يؤخر الغسل فيندب له أن يتوضأ قبل أن ينام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كان إذا أتى أهله فأراد أن ينام توضأ )، ولما سئل عليه الصلاة والسلام: ( أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ فليرقد ).

ومن الوضوء المستحب: الوضوء للنوم، لو أن إنساناً أراد أن ينام فإن من السنة أن يتوضأ؛ لأن نبينا عليه الصلاة والسلام أخبرنا: ( أنه إذا توضأ العبد ثم نام بات معه ملك يكلؤه، كلما تقلب على فراشه قال الملك الموكل: اللهم اغفر له فقد بات الليلة طاهراً! )، فمن السنة أن ينام أحدنا على طهارة.

ومن الوضوء المسنون: الوضوء من حمل الميت؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ )، والأمر للندب لا للوجوب، كما فهم ذلك الصحابة رضوان الله عليهم.

ومن الوضوء المسنون: الوضوء لذكر الله، فلو أن إنساناً أراد أن يذكر الله عز وجل تسبيحاً أو تحميداً أو تهليلاً أو تكبيراً، أو أراد أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، أو حسبي الله ونعم الوكيل ونحو ذلك، فخير له أن يكون على طهارة؛ ( لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى حاجته فسلم عليه أحد الناس، فما رد عليه السلام حتى أقبل على جدار فضرب عليه ومسح يديه ووجهه، ثم رد عليه السلام وقال: إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة ).

ومن الوضوء المندوب: عند حمل كتب العلم، فلو أن إنساناً لا يريد أن يمس المصحف، لكنه مثلاً يريد أن يحمل كتاباً من كتب التفسير أو الحديث أو العقيدة أو الفقه أو السيرة ونحو ذلك من الكتب التي تحوي علماً نافعاً، فإنه يندب له أن يكون على طهارة من باب تعظيم شعائر الله، قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

أحاديث في فضل الوضوء

وقد وردت في فضل الوضوء أحاديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم: ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا توضأ العبد فمضمض فاه خرجت كل خطيئة أصابها بفمه مع الماء، أو قال: مع آخر قطر الماء، فإذا غسل وجهه خرجت كل خطيئة أصابتها عيناه مع الماء أو قال: مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرجت كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو قال: مع آخر قطر الماء، حتى تخرج خطاياه من تحت أظافره ).

وقال عليه الصلاة والسلام: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟! قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط ).

فأخبرنا صلوات ربي وسلامه عليه بأن الوضوء كفارة للذنوب؛ وقال صلى الله عليه وسلم: ( وأن العبد إذا توضأ ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية )، والحديث في صحيح مسلم، وزاد الترمذي في روايته: ( اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين! )، يعني: الإنسان يتوضأ ثم يأتي بهذا الذكر: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين!

فالطهارة سبب لمحبة الرب، وسبب لدخول الجنة، وسبب لتكفير الذنوب وحط الخطايا، ثم إنه يكسو وجه العبد نوراً، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن أمتي يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل )، قال أهل العلم: المراد بذلك الإسباغ، وأصل الغرة: بياض في جبهة الفرس، وأصل التحجيل بياض يكون في قوائمه، فالإنسان يهتم بإسباغ الوضوء، ولنتذكر قول نبينا صلى الله عليه وسلم: ( ويل للأعقاب من النار ).

إخوتي وأخواتي! الوضوء عبادة، وهذه العبادة على شرائط أحكمتها السنة، وهي مشتملة على فرائض وسنن وفضائل، وكذلك للوضوء مكروهات ومبطلات، وهذا كله يحتاج إلى تفصيل، وسنبين إن شاء الله بأن فرائض الوضوء سبع، وأن سننه ثمان، وأن فضائله عشر، وسنبين أن موجبات الوضوء أو نواقض الوضوء كما يسميها بعض علمائنا تنقسم إلى: أحداث، وأسباب، وما ليس بسبب ولا حدث، وهذا كله نذكر أدلته إن شاء الله من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.

أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من التوابين، وأن يجعلنا من المتطهرين، وأن يتقبل منا أجمعين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والكلام في هذه الحلقة إن شاء الله وما يليها عن الطهارة الصغرى التي هي: الوضوء.

الوضوء في اللغة: مشتق من الوضاءة، بمعنى: الحسن والنظافة، يقال: رجل وضيء وامرأة وضيئة، كما في الحديث الصحيح بأن النبي صلى الله عليه وسلم حول وجه الفضل بن العباس لما نظر إلى المرأة يوم العيد، وقال صلى الله عليه وسلم : ( رأيت شاباً وضيئاً وامرأة وضيئة فلم آمن عليهما الشيطان ).

وقد قيل:

والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء

وأما الوضوء في الشرع فهو: غسل أعضاء مخصوصة على صفة مخصوصة مع الاقتران بالنية.

وهذا الوضوء شرط في صحة الصلاة بإجماع المسلمين؛ لقول ربنا الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]، وهذه الآية هي السادسة من سورة المائدة، وقد نزلت في بعض أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أمنا عائشة رضي الله عنها: ( حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فذهب، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث ناساً في طلبه، فنزلت آية التيمم ).

وقد بين نبينا عليه الصلاة والسلام أن الصلاة لا تصح إلا بهذا الوضوء، فثبت عنه أنه قال: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، وثبت من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور )، وأجمع المسلمون على أن الوضوء شرط في صحة الصلاة.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ديوان الإفتاء [485] 2820 استماع
ديوان الإفتاء [377] 2648 استماع
ديوان الإفتاء [263] 2530 استماع
ديوان الإفتاء [277] 2530 استماع
ديوان الإفتاء [767] 2504 استماع
ديوان الإفتاء [242] 2475 استماع
ديوان الإفتاء [519] 2462 استماع
ديوان الإفتاء [332] 2442 استماع
ديوان الإفتاء [303] 2404 استماع
ديوان الإفتاء [550] 2403 استماع