ديوان الإفتاء [332]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، والبشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لصالح القول والعمل، وأن يجنبنا الإساءة والزلل، وأن يعيننا على ما فيه رضاه.

وفي عصر هذا اليوم يوم السبت الأول من جمادى الآخرة اختتمت دورة طيبة المباركة، ووزعت جوائزها على المتفوقين من الرجال والنساء، هذه الدورة التي دُرس فيها علم العقيدة، وعلم أصول الفقه، وعلم السيرة النبوية، ودُرست فيها بعض القضايا المعاصرة، وتدافع للاستماع إليها، واستذكار دروسها، والجلوس للامتحان فيها الموفقون من الرجال والنساء، وقُدمت جوائزها من إخواننا في شركة المحاميد، جزاهم الله خيراً، وأخلف عليهم، وبارك في أموالهم وأعمارهم، وأقول بأن من الأمور التي تسترعي الانتباه أن يكون الحاصل على المركز الثاني امرأة قد كف بصرها، سلبت نعمة البصر، لكن نور الله بصيرتها، ونور قلبها، وهداها للعناية بالعلم الشرعي، قال الله قال رسوله، ولا شك أن هذه بادرة طيبة، والتفاتة خيّرة، وهي مما يزرع الأمل في القلوب بأن الناس مقبلون - والحمد لله - على هذا العلم المبارك.

إخوتي وأخواتي! لا بد أن أذكر في هذا المقام بأن ربنا جل جلاله قد رفع شأن العلم والعلماء، فقرنهم بذاته الشريفة، وملائكته الكرام، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وبين جل جلاله بأن أهل العلم وغيرهم لا يستوون، فقال تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، بعدما قال: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]، وبين جل جلاله أن العلماء هم أهل الخشية فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وأنهم مرفوعون عند الله درجات فقال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، وما أمر ربنا جل جلاله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يدعو بالاستزادة من شيء إلا من العلم فقال: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:113-114]، وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم أخبر فيها ( بأن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، وأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وأن الأنبياء عليهم السلام ما ورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا علماً نافعاً، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعثه الله معلماً فقال سبحانه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2] أي السنة وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].

إخوتي وأخواتي! إذا كان لا بد من ذكرى في هذه المناسبة الطيبة، من هذه الإذاعة الطيبة والقناة الطيبة إذاعة طيبة وقناتها، فلا بد أن أذكر بجملة من الأمور التي يجدر بطالب العلم أن ينتبه إليها:

الأمر الأول: الإخلاص في طلب العلم

الأمر الثاني: تقديم الأهم على المهم

ثانياً: يا طالب العلم! ابدأ بالأهم فالمهم، فإن العلم كثير، والعمر قصير، ولو أن الإنسان أراد أن يصيب العلم كله، فسيفقده كله، وكما قيل: أعط للعلم كلك يعطك بعضه، فالإنسان يعتني بمهمات المسائل وأصول القواعد، وما يقربه إلى الله عز وجل، ثم بعد ذلك يتوسع شيئاً فشيئاً، فلا بد من أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره، وهذا أحد الوجوه في تأويل قول ربنا جل جلاله: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].

الأمر الثالث: عدم احتقار الفائدة وإن صغرت

ثالثاً: يا طالب العلم! لا تحتقر الفائدة وإن صغرت، وإن قلّت، فإن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يأتي الرجل من الأعراب، فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجيبه ونحن نسمع. ولما جاء الأعرابي فقال: يا رسول الله! المرء يحب القوم ولما يلحق بهم. فسكت عليه الصلاة والسلام حتى نزل قول الله عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: المرء مع من أحب. يقول أنس : فوالله ما فرحنا بشيء بعد الإسلام فرحنا بسؤال الأعرابي، وجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وإني أُشهد الله أني أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبا بكر و عمر، وأسأل الله يحشرني معهم، وإن لم أعمل بعملهم ).

الأمر الرابع: عدم الاكتراث بقلة المستفيدين والمستمعين

رابعاً: ربما يوفقك الله لتتحدث في مسجد من المساجد، أو توجه خطابك لجماعة من الناس، فلا تكترث بقلة من يستفيد، فإن بعض الناس يضيق صدره، ويعظم كربه، لو تكلم فانفض الناس من حوله، وتذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغشى الناس في الأسواق، وفي المواسم، يقول لهم: ( قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا)، وكان يقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله، تملكوا بها العرب والعجم)، فتارة يرمونه بالسحر، وتارة يرمونه بالكهانة، وتارة يرمونه بالجنون، وكان صلى الله عليه وسلم يطوف بالناس يدعوهم إلى الله، وخلفه رجل أحول وضيء يقول: لا تصدقوه فإنه كذاب، لا تصدقوه فإنه مجنون، فكان الناس يسألون: من هذا؟ فيقال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله، والرجل الذي خلفه هو عمه أبو لهب ، فكان الناس يقولون: عمه أدرى به. إذا قال عمه: إنه مجنون، فهو كذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم يتحمل هذا كله، حتى أظهر الله شأنه، وأعلى مقامه، وكان دينه خير الأديان صلوات الله وسلامه عليه، فلا تكترث بقلة من يستفيد.

الأمر الخامس: عدم المبالاة بالإهانة الشخصية

خامساً: لا تتأثر بالإهانة الشخصية إذا سلم لك دينك، فربما يتعدى عليك بعض الناس فيتهمونك في ذاتك، وتذكر أن هذا طريق الأنبياء، قال تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:52-53] ، وتذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه من قال له: والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل. وتذكر أن سعداً رضي الله عنه قال بعض الناس عنه: إنه لا يحكم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يسير بالسرية، ولا يحسن الصلاة. وهكذا المصلحون والدعاة إلى الله، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر تعرضوا للإهانات، فلا بد من الصبر في هذا كله، قال تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].

الأمر السادس: الاستفادة من الشيخ وإن كان فيه نقص

سادساً: استفد من الشيخ وإن كان فيه نقص، فقد يكون الشيخ الذي تتلقى عنه العلم فيه نقص في بعض الجوانب، فربما يكون متقناً للتفسير، لكنه عيي في الفقه، وربما يكون بارعاً في الفقه، لكنه متعثر في علم الحديث مثلاً، فلا يحملنك نقص الشيخ في مجال ما على أن تدعه فإن الكمال عزيز، وعهد المجتهد المطلق الذي حوى العلوم، وعهد العالم الموسوعي لعله ولى أو كاد، فإذا كان الشيخ يتقن فناً واحداً فاستفد منه في هذا الفن، وتذكر أن علماء كباراً من أمثال أبي حامد الغزالي أو غيره من أهل العلم كان عندهم نقص في بعض جوانب من العلوم، لكن هذا لم يمنع الأمة من أن تستفيد منهم.

الأمر السابع: الصبر على جفوة الشيخ وغلظته

سابعاً: اصبر على جفوة الشيخ وغلظته أحياناً، فقد يكون فيه بعض شدة أو غلظة فاصبر على ذلك، ولا تتأثر، واعلم بأن الله عز وجل يكافئك، فإن عبد الله بن عباس رضي الله عنه لما ازدحم الناس على بابه، وكثر من يريدون أن يأخذوا العلم عنه، قيل له: كيف بلغت ذلك؟ قال: ذللت طالباً، فعززت مطلوباً. أي: لما كنت طالباً ذللت، فقد كان رضي الله عنه يأتي فيطرق باب الصحابي فيقال له: إنه قائل. أي نائم نومة القيلولة، فيبقى ابن عباس على بابه في حر المدينة، تسفي عليه الريح، أي: تثير عليه التراب والغبار، إلى أن يخرج الصحابي للصلاة، فيجده جالساً عند الباب، فيقول له: ما جاء بك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هلا أرسلت إلي فآتيك؟ يعني إكراماً للنبي عليه الصلاة والسلام، فيقول له ابن عباس : أنت أحق أن يؤتى إليك. فما مضت على ذلك سوى سنوات معدودات حتى ازدحم الناس على باب ابن عباس ؛ لأنه ذل طالباً، فعز مطلوباً، رضي الله عنه.

الأمر الثامن: لزوم التواضع

ثامناً: التواضع التواضع، الزم التواضع، واجعله دينك وديدنك، قدوتك نبي الله موسى عليه السلام الكليم، وهو من أولي العزم، ومع ذلك لما علم أن رجلاً بمجمع البحرين عنده من العلم ما ليس عنده تواضع وذهب إليه، واستأذنه في صحبته، وأثبت له أنه معلم، وأنه راشد، قال له: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] ولما قال له الخضر : لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67] فرد عليه موسى عليه السلام قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69] فتواضع لله يا طالب العلم! وتواضع لعباد الله:

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه إلى طبقات الجو وهو وضيع

الأمر التاسع: تعليم الناس العلم وترك الخوض فيما لا يعلم

تاسعاً: كن للعامة، احرص على أن تعلم الناس، وعلى أن تنفق مما آتاك الله، فإن الإنسان إذا أنفق من العلم الذي عنده ولو كان قليلاً بارك الله له في علمه وأجرى الألسنة بالدعاء له، والثناء عليه، ولا تكتم الفائدة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من سئل عن علم يعلمه فكتمه؛ ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة ) ، وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159].

ثم لا تقل على الله ما لا تعلم، فإن العلم ثلاثة كما قال عمر رضي الله عنه: كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري، ولا أدري نصف العلم، كما قال الشعبي رحمه الله، وقال ابن عباس: وا بردها على الكبد، قيل له: وما ذاك؟ قال: أن يُسأل الإنسان عن ما لا يعلم، فيقول: لا أعلم. وقال علي رضي الله عنه: خمس إذا سافر العبد فيهن إلى اليمن كن عوضاً له من سفره: لا يخشى عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحيي أن يتعلم ما لم يعلم، ولا يستحيي أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، ومنزلة الصبر من الدين كمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس ذوي الجسد.

إخوتي وأخواتي! هذه كلمات أحببت أن أهديها لكم، رجاء أن ينفعني الله وإياكم بها في ختام هذه الدورة المباركة، وأحثكم على أن تشاركوا في هذه الدورات، وأن تتلقوا العلم، وأن تنثروه وتنشروه وتذيعوه بين الناس، فإنه لا يهلك الناس حتى يكون العلم سراً. كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.