أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 25 دقائق .
َصصُ أقصوصة من اثيل مانن حب في روما للأستاذ دريني خشبة يخطئ من يحسب أن الحب وقف على جماعة الأرستقراطيين من الناس، وخاصة الحب الرفيع السامي، الذي هو ينبوع آدميتنا والذي تبتعثه السماء في قلوبنا ليصهرها بآلامه الحلوة، وأشجانه الجميلة؛ وليفجر منها دموع الرحمة والمودة والحنان.

وقد ينمو الحب في كوخ من قش، كما ينمو في قصر، وقد يكون في الكوخ أصدق منه في البيت ذي العماد، وقد يكون في ركن منسي، أصفى منه في جنة فيحاء.

وهكذا كان حب هذا الفتى ميشيل، الخادم الفقير في أحد فنادق روما لله ما أقسى المقادير! لقد كان ميشيل، الفتى الإيطالي المرح، أحق بأن يكون شاعراً يودع روحه في قصائد رنانة، ينشدها ويتغنى بها، لا خادماً ينضد الوسائد، ويُعنى بالسُّرر، ويَنْفض السجاجيد.

و.

ينظف أحذية النازلين!! وكانت له أم لولاها ما اضطر لأن يعمل كي يكفلها، إذ مات عنها زوجها في السنوات الأولى من البناء بها.

وكان يؤوب إليها آخر كل نهار بحبه لها، وحرصه على إسعادها، ثم بليرات قليلة تشفي السغب، وتضمن السَّتْر، وتقيم أَوَدَ الحياة.
وكان ميشيل يحب الموسيقى، ويغرم بالقصص الإيطالية، ويشغف بمآسي الحب، وكان يتمنى له وفق إلى أن يكون واحداً من أولئك الأبطال الذين يملأون الروايات بالدموع والآهات، وإن لم يعيشوا مع ذاك إلا في أدمغة مبتدعيهم من الكتاب والمؤلفين وكانت تعمل معه في الفندق فتاة لم تكن في رأيه أول الأمر شيئاً مذكوراً، وإن يكن شعرها الذهبي يلفت نظره أحياناً، وساقاها الجميلتان اللتان لهما ظلال خفيفة من بنفسج الأبنين تثيران في قلبه (استلطافاً) لم يفكر مرة في أنه ينتج حباً أو يتأصل فيكون غراماً.

لا.

لم يفكر ميشيل مطلقاً في أن هذه الفتاة البائسة مثله، ستكون حلمه وأمنيته، وأنه من أجلها سيقضي أطول لياليه مسهداً كما يقضي الشعراء لياليهم في عوالم شاسعة من المنى والأحلام وكان ميشيل ينقطع عن العمل نصف يوم عطلة في كل أسبوع وكانت الفتاة ماريا، من أجل ذلك ترهق بالعمل، وكان يرهقها أكثر، وجودها مع نادل آخر شرس الطباع، لئيم الخلق، يدعى فراري.

كان يتعمد أن يترك لها كل عمل مجهد، على أن يستخف هو باليسير الأقل.

وكان فراري ينقطع عن العمل أمسية واحدة كل أسبوع كما ينقطع ميشيل، وطالما كان يختار أمسيته في نفس اليوم الذي كان ينقطع فيه زميله، فكانت ماريا المسكينة توزع نفسها على جميع أنحاء الفندق، وكان بهو الطعام يتعبها أكثر من كل شيء، لاختلاف أمزجة الآكلين وكثرة طلباتهم، وضرورة مراعاة ترتيب النداءات، وإلا فالويل لماريا من هؤلاء (السياح) الإنجليز المتغطرسين الذين يغشون هذا الفندق دائما وقد لحظ ذلك ميشيل، فكان يتعمد أن يبقى في أمسيته، دون أن يذهب لإجازته، ناسياً أن أمه العجوز الرؤوم المريضة المشفية على الموت، تنتظره ليسمر إليها، ويخفف عنها آلامها.
.
كان ميشيل ينسى هذا الواجب المقدس، ولكنه كان لا يلتفت إلى أن في عمله هذا تقصيراً، بل بالعكس من ذلك، كان يرى فيه إنسانية سامية، وعطفاً تحتمه عليه رجولته، على هذه الفتاة ذات الشعر الذهبي والساقين اللتين لهما ظلال جميلة من بنفسج الأبنين.

ولم يفكر ميشيل مرة أنه فجر الحب ينبلج في قلبه، وأنها أنفاس الغرام العطرية تجذبه كالفراش إلى هذه الزهرة الحلوة الغضة.

كلا.

بل لم يفكر قط في أن أمه الرؤوم المريضة كانت أحوج إليه وإلى لحظات ينفقها عليها، من هذه الفتاة اللعوب الطروب ذات الفم الدقيق، ماريا التي تعمد ألا يغادر الفندق ليساعدها وليخفف عنها هذا العبء الهائل، من رفع الأطباق وجمع الأكواب، وتنضيد البهو، وتلميع الموائد.

حتى لا يهان هذا الشعر الذهبي المغدودن الذي يرف كأنفاس الحور على صدرها الناهد وظهرها العاجي، وحتى لا ترهق الساقان الملفوفتان اللتان لهما هذا السحر الجميل المنعكس من بنفسج الأبنين!! ولم تشكره ماريا قط، ولم تتعب تفكيرها في السبب الذي كان يصرف زميلها عن التمتع بإجازته القصيرة، وكانت كلما همت بعمل شاق من أعمال البهو، وأقبل هو مهرولا ليؤديه نيابة عنها أنغضت برأسها الذي يتخابث صغيراً في شفق الشعر الذهبي، ومضت لطيتها، تاركة لميشيل أن يقوم بكل عسير شاق من أعمال الصالة.

ووقفت تعبث بدمية أو بباقة من الزهر، أو تصلح صورة أو تسقي أصيصاً.

وكان الفتى مع ذاك يخالسها نظرات كالودق يخرج من بين السحاب، وكان مع ذاك أيضاً لا يشعر بتعب ولا يناله إعياء.

وكان يسعد سعادة لم يكن يعرفها كلما سمع صوت ماريا يرن في فضاء البهو الكبير، فيرن جرسه الفضي في جوانحه، ويوقظ فيها أمانيه لتي كان يتصورها لياليه الخاليات ولا يظفر بتحقيقها وأخيراً عرف أنه الحب.
وكانت مفاجأة حلوة لروحه الصادية أن تروى أول ما تروى من هذه الكأس المترعة بمفاتن ماريا ذات الشعر الذهبي، والساقين الملفوفتين في بنفسج الأبنين.

وكانت مفاجأة حلوة كذلك أن تتبرج الدنيا القبيحة هكذا فتصبح جميلة سافرة بسامة، بعد أن كانت عبوساً قمطريراً معتمة حين كان قلبه لا يعرف الحب.

ويصبح كل ما حوله ضاحكاً يتأرج ويتبرج ويهتز كما تهتز الأعطاف بالبشر ولكن ميشيل كان حيياً.

وكان كلما هم بمحادثة ماريا عما يجيش من حبها في قلبه ارتبك وانعقد لسانه، والتوت الكلمات فكأنها من حديد لا يلين، وخفق قلبه وأزلزل، وهرب الدم من خديه، فينصرف حزيناً محسوراً.

ولكن نظرة واحدة إلى شعر ماريا وساقيها كانت تعيد ابتهاجه، وترد صوابه، فيرضى بالصمت الذي لا يد له في غيره.
وظل حبه دفيناً في قلبه يشفه ويضنيه؛ وظل هو قانعاً راضياً بأن يكون في جوار ماريا دائماً.

وفي ظلها الوارف أمسية من كل أسبوع؛ يحمل عنها أوزارها، ويقوم بكل ما يشفق عليها أن تؤديه من مشاق وكأنما لحظ الخبيث فراري، الكهرباء التي تزلزل أركان ميشيل فأقسم ليكيدن له؛ وكان فراري فَتىً لَعَّاباً يجيد إلى درجة الخطورة إعمال عينيه وقسمات وجهه، ويتقن زخرفة الكلمات التي تقع عليها قلوب العذارى كما يقع الفراش في النيران.

وكان هو الآخر يرى في ماريا غادة لم تخلق لهذا العناء، وكان يزن جمالها بعقله لا بقلبه.

أي أنه كان يراها تصلح كزوجة نافعة تجلب اليسر والرخاء للرجل الذي يحظى بها، لأنها لو عملت في فندق آخر لحصلت على أضعاف ما تحصل عليه هنا.

ولم لا؟ أليس لها هذا الشعر الذهبي الذي هو في نفسه كنز؟ أليس لها هذا الجسم الممشوق والقد المعتدل، والخطى الراقصة التي تلفت الأنظار وتكهرب القلوب؟! إذن لينافس فراري زميله ميشيل.
وليطلب من مديرة الفندق استبدال أمسيته التي يستريح فيها ليعمل مع ماريا حين يكون ميشيل في إجازته، وليظفر فراري بكل ما تصبو إليه نفسه، وليتهم ميشيل، وليلفق له التهم، ولتصدق المديرة الحمقاء ما يُتهم به الفتى البائس الذي قضى عليه سوء طالعه أن يعاشر هؤلاء اللئام وأن يأكل من أيديهم كفافه، في حين كان ينبغي أن يكون شاعراً أو أديباً يسمو بأدبه على الأدباء.

لا على خدم الفنادق.

مسكين ميشيل! لقد كدر عليه هذا الإبليس المقتدر الملفق صفو حبه المضمر الذي يلذه بقدر ما يشقى به.

وأثاره ومزق قلبه ما رأى من العلائق بين ماري وبينه، ما لم يستطع هو أن يظفر بشيء منه برغم كده وتضحيته وحرصه على التقرب من الفتاة والتودد إليها وأخذت الدنيا تسمج مرة ثانية في عين الفتى، وتكتسي سربالاً أسود اللون قاتماً.

وعادت نفسه الأديبة الشاعرة تختلج بما تختلج به نفوس الشعراء البائسين.

وعاد يوماً إلى داره فوجد أمه تعالج سكرات الموت.

فلما رأته أشارت إلى صليبها وهي لا تقوى على حمله، فأدناه من فمها فقبلته، ونظرت إليه بعينين مغرورقتين، ثم تمتمت بكلمات هي من غير شك دعاء له؛ ثم لفظت آخر أنفاسها.

فذعر ميشيل وانخلع قلبه وطفق يبكي ويُعول، وينظم ألحانه فيسرها في نفسه ولما عاد إلى الفندق بعد ثلاثة أيام، كان يحدث نفسه - إذ هو منطلق في الطريق - أن ماريا لابد عاطفة عليه، معزيته أحسن العزاء وألطفه، جالسة إليه تواسيه وتذهب عنه الحزن.

وكان يتصورها معه في بهو المطعم تلاطفه وتظهر له الألم من أجل وفاة أمه.

وأنه مستطيع لابد أن يظهرها على حبه، وأن يتعرف لها بمكنون قلبه.

وصمم على أن يكون جريئاً مقداماً هذه المرة وأن ينتهز الفرصة ليقهر هذا العذول: فراري، وأن ينحيه عن فتاته مهما كلفه ذلك، فإن لم تصخ له وتنصره عليه، فلينصرف عن هذه الدنيا المخادعة، ولْيَلُذ بأطراف الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، فلن يعدم لقيمات تسد مسغبته، وقطرات من ماء تبل أواره.

وهكذا تداعت هواجسه، وتسلسلت أفكاره؛ وكان كلما تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فذهب به مذاهب شتى.

حتى إذا وصل إلى الفندق، وتسلم عمله، راح يتنسم ماريا ويتشمم عبيرها، ولكنه، وا أسفاه، لم يجد عندها شيئاً!! إنها سراب بقيعة!! لقد ذهبت ماريا.

وذهب فراري.

وذهبا معاً في يوم واحد، وفي لحظة واحدة، ولسبب لم تستطع مديرة الفندق أن تذكره لميشيل، لأنها لم تستطع أن تعرفه!! وضاقت عليه الأرض بما رحبت؛ وكيف لا تضيق وقد فقد أمه وفقد هواه في أسبوع واحد؟ لقد فقد القلب الذي كان يعفو والقلب الذي كان لا يعرف.

فقد في الأول المحبة والظل الوارف، والتسامح والرضى؛ وفقد في الثاني هذا الأمل الذي حبب إليه الحياة، وجعلها حلوة مشرقة بسامة، لأنها تضم ماريا.

ماريا ذات الشعر الذهبي الهفهاف، والوجه المتألق المشرق، والساقين ذاتي الظلال من بنفسج الأبنين؟ أين ذهبت ماريا يا ترى؟ أين ذهب بها الشيطان فراري إن كانت قد ولت معه؟ ولماذا ذهبا معاً؟ لقد كانت تضيق به، وتشكو منه، ولا تكاد تستنشق هواء يشركها فيه؟ فأين ذهبا معاً؟ ولم ذهبا هكذا من دون أن يعلم أحد؟ وانطلق ميشيل يطوي الطريق السادرة النائمة في ظلال البلوط والصنوبر، المؤدية إلى ضاحية تيفولي، وهو ينظر بعينين موجعتين محزونتين إلى هذه الشمس الرومانية الغاربة، التي تتوهج كالجمرة الكبيرة في هشيم الطبيعة، وينظم في أعماقه ألحانه، ويستمع إلى خرير الجداول مختلطاً برنين الناقوس الكبير الذي يحيي بدقاته السماء، ويسألها للناس الرحمة.

ولقد بدا له أن يعرج إلى هذا البيت المنيف من بيوت الله فيصلي له، ويسجد ويخبت، لعل روح ماريا تكون معه فتسجد هي الأخرى، وترق له، وتكفر عما أعرضت عنه.

بيد أنه مضى في طريقه لا يلوي على شيء، لأن هذه فكرة واحدة من آلاف الفِكَر التي كانت لا تفتأ تطيف برأسه وهو لا يعي واشتد خبَله، وظمئت روحه إلى ماريا ظمأ شديداً، وصار يلتمس لها المعاذير من هذا النكران الذي ما تعمدته ولا قصدت إليه لأنها لم تكن تدري ما يضمره لها من هيام في سويدائه، وظل يهتف باسمها في نومه كما يتغناه في يقظته، لكنه كان يتغنى به كما يتغنى الصوفي المجذوب أسراره.

وهو لا يدري ما يقول!! وجلس مرة يقلب صحائف مجلة إنجليزية فوقع بصره على صورة ماريا.

ماريا بعينها!؟ يا عجبا! ومن أين لماريا هذا الصيت البعيد والذكر المنتشر؟ إنها كانت مثله لا تعرف كلمة إنجليزية واحدة، وهذه مجلة للآداب والمسرح، وليس معقولاً أيضاً أن تكون ماريا قد التحقت بالمسرح الإنجليزي نجمة عظيمة من أنجمه، وليس معقولاً أيضاً أن تكون قد أصبحت في أيام معدودات أديبة واسعة الإلمام بأدب هذه اللغة الإنجليزية التي كان يحسبها ميشيل - لصعوبتها في نظره - من لغات الشياطين! فما ماريا وهذه المجلة الإنجليزية يا ترى؟ وما لها هي وما للأدب الإنجليزي والمسرح الإنجليزي؟! ونظر أسف الصورة ليقرأ اسم صاحبتها.

ولشد ما كانت دهشته عظيمة هائلة إذ وجد اسم صاحبة الصورة (إيزابل هايس)!! المؤلفة الكبيرة والقصصية البارعة، التي طالما قرأ لها روائع وآيات مترجمة إلى لغته الإيطالية؟! لا بأس.

إنه لم يحصل مرة على صورة ماريا، وهاهي ذي صورة إيزابل لا تفترق عنها في شيء.

فليحتفظ إذن بها، وليجعلها بين شموع وضاءة تلتهب بالقبس المقدس الذي يتأجج ملء قلبه.

وليصلَّ لها كل مساء وحين يصبح.

وليذكر في فمها الرقيق الصغير تلك الأقحوانة التي كانت تنفرج عنها شفتا حبيبته.

ولتباركه الصورة المستعارة بكلمات صامتة لا تبين، فقد كانت ماريا لا تبين كذلك.

وليرَ هو في وجهها الوضاء جمالاً جديداً كل يوم جديد، وليعش على الأماني يبهرجها لنفسه، ولا بأس من أن يضع الصورة كلما نام تحرسه عند رأسه.

وبالاختصار، لتكن حياته أحلاماً في أحلام.
غير أن الفندق صار شيئاَ كريهاً لا يطاق، لأن ماريا لم تعد ترسل في أجوائه أنفاسها.

بيد أنه مع ذاك جميل محبب لأن في كل ركن من أركانه ذكرى لماريا تغذي أحلام ميشيل، وترسل دموعه كلما جفت؛ وهو مع ذاك أيضاً هيكل حبه الأول الذي استيقظ فيه قلبه من سبات العدم فخفق بنعمة الهوى.

لهذه المتناقضات سيقيم ميشيل فيه.

وليكن رئيس الخدم بعد شهر أو شهرين، وليتضاعف راتبه، وليشتر بجانب كبير منه كثيراً من قصص إيزابل هايس التي لم يقرأها، لأنه أصبح يرى في آثار هذه الكاتبة الإنجليزية روح ماريا.

.
وليحاول أن يتعلم الإنجليزية ليقرأ المؤلفة في لغتها، وليفشل في هذه المحاولة، فقد أوري إحساساً شريفاً نحو صورة لسيدة تشبه ماريا، وكفى بذلك برهاناً على وفائه لذكرى فتاة لم تعرف قط أنه يهواها.
وأقبل فوج من (السياح) عظيم من أغنياء الإنجليز فنزلوا في هذا الفندق، وأعجبوا بحديقته إعجاباً شديداً، فقد كانت ظلال الأبنين البنفسجية تعكس على نضرتها وخضرتها ألواناً شعرية تصول فيها الأرواح وتجول وحان موعد الغداء فانتشر النازلون في بهو المطعم الوردي، وجلسوا إلى موائدهم مسرورين فرحين، وراح النُّدل بينهم وجاءوا، هذا يحمل الأطباق الحافلة، وذاك يحمل الماء المثلوج، وثالث الكامخ الإيطالي اللذيذ.

وأشرف ميشيل على الجميع بملابسه الناصعة، ووجهه الحزين الباسم، فطفق يأمر هذا ويشير إلى ذاك، ويدعو هذه ويحث تلك، والسياح مقبلون على آكالهم وأشرباتهم آخذون في سمر هامس، وكلام رقيق.

شأن السادة الإنجليز في كل فج.
ثم وقف ميشيل أمام حسناء إنجليزية فجأة ولم يرم! ما له وقف هكذا كالتمثال ويداه مقبوضتان! إنه لا ينبس ولا يتحرك! بل سمر عينيه في السيدة المشغولة عنه بطعامها وشرابها، ولما يأبه للنداءات والأجراس التي تهتف به من كل صوب!.

ودهش النازلون فجعلوا يحدجونه وإن لم يشتغلوا به عن طعامهم ثم استبطأته المديرة فانطلقت إليه كي ترى.

فلما وجدته يقف عن كثب قريباً من السيدة الإنجليزية لكزته لكزة هينة لينة، لكنه لم ينتبه.

فنظرت المديرة إلى السيدة السائحة نظرات سريعة فعرفت كل شيء - أستميحك عذراً يا سيدتي فهذا النادل ميشيل أديب مشغوف بك، يقرأك ويكب على قراءتك، وليست لك قصة أو درامة منقولة إلى الإيطالية إلى وقد اقتناها.

والأعجب من كل ذلك أنه اقتنى صورتك من إحدى المجلات التي تكتبين فيها، ووضعها في إطار ثمين، وأولاها من عنايته ما لم يول حياته الخاصة! أندريا! أندريا! وأقبل الخادم أندريا فقالت له المديرة: - انطلق إلى غرفة ميشيل فأحضر صورة السيدة إيزابل هايس! ونظرت السيدة الأديبة إلى صورتها فدهشت لاحتفاظ النادل الإيطالي بها، وشاع فيها برغم طبعها الإنجليزي المعروف إحساس بالكبرياء والزهو.

حتى إذا فرغت من طعامها هتفت بميشيل وسمحت له بالجلوس إليها يكلمها وتكلمه.
.
وكانت تجيد الإيطالية فكان الحديث بينهما جميلاً جذاباً ذا شجون.
ومما سحر ميشيل أنه سمع من فم الأديبة الإنجليزية صوت ماريا، ورأى فوق رأسها سلوكا هفهافة من الذهب تشبه شعر حبيبته، ووجد الجسم السمهري الممشوق هو هو جسم صاحبته وقوامها.
.
ولم يكن باقياً إلا أن تكون الأديبة إيطالية.
.
ونادلة.
.
لتكون ماريا.
. وسكنت إيزابل في الطابق العلوي في الغرفة الأخيرة من البهو الكبير.

واستدعت المديرة فأوصتها ألا يرتفع للخدم ضجيج ولا لغط لأنها اختارت هذه الغرفة لتخلو إلى نفسها فتكتب ما هو مطلوب منها من القصص.

وطمأنتها المديرة.

وذهبت وأقبل فوج آخر من السياح، فنهضت المديرة تدبر له الغرف اللازمة.

وكانت قريباً من غرفة إيزابل غرفة تقوم للبهو مقام مخزن.

فاستدعت ميشيل وخادمة أخرى لتساعده في نقل الصناديق والأمتعة المحفوظة بها.

ثم أمرتهما أن يلزما السكينة والصمت، وألا يقطعا على النازلة في الغرفة رقم 17 هدوءها.

(لأنها تكتب لك قصة رائعة يا ميشيل!) وامتثل الخادمان، وأخذا يحملان ما بالغرفة.

ولم يبق إلا هذا الصندوق الثقيل الذي لا يعرفان ماذا كان بداخله.

فلما أخرجاه من الغرفة، وشرعا يحملانه في البهو.
انفلت من يد الخامة فهوى إلى الأرض، وانتثر ما بداخله من أطباق وزجاج، فصار هشيماً، وأحدث في البهو صوتاً مزعجاً كأنما هوى الفندق كله وصار أنقاضاً على أنقاض.

وأقبلت المديرة ترغي وتزبد وتصخب، وتلعن وتسب.

وبرزت إيزابل كالمجنونة لأن كل أفكارها طارت كالحمام من برج رأسها.

- كما عبرت هي - واجتمع السياح والخدم يشهدون ويتسلون بدافع الفضول.

ثم التفتت المديرة إلى ميشيل، وهي تنظر في الوقت نفسه إلى إيزابل وقالت له: (أما أنت أيها المشئوم فمفصول من عملك، ولا حاجة للفندق بك!) وغضب الفتى وإن لم يتكلم.

وقبل أن يذهب لشأنه هتفت به الأديبة الإنجليزية وواسته بكلمة، ثم صافحته، ودست في يده ورقة مالية كبيرة.

واعتذرت مع ذاك إليه، لأنها كانت سبب ما لحق به من أذى.
ولم يذهب ميشيل البائس ليأخذ متاعه ويمضي.

بل انطلق كالمجنون يذرع طرقات روما العتيدة، حتى كان عند تخومها.

وهو ما يزال قابضاً على الورقة المالية، ولا يدري ما هي؟! ثم نظر في البطاح القريبة فرأى ضاحية تيفولي ببلوطها الرائع وحورها الجميل، وشجر السرو المعجب البارز في جنباتها.

فانطلق في طريقه إليها.

حتى إذا بلغها، كان قد نال منه الجهد، وأحس بتعب شديد.

ولم يكن ثمة مكان يستريح به إلى هذه الفنادق الهائلة التي تشتهر بها هذه الضاحية.

فلم يبال.

ودخل أول واحد منها، ثم انحط على كرسي كبير عند مائدة، وأسند رأسه وراح يحلم بماريا.

وبأيام ماريا.

ويسكب دموعاً حارة.
له الله! كم ألف فكرة طافت برأسه الثائر وقلبه المشبوب!! ثم أقبلت نادلة فهمست به وهو في سكراته: ماذا يطلب.

بيد أنه كان غارقاً في هواجسه وأحلامه، فلم ينظر إلى الفتاة.

ومدت هي يدها الصغيرة اللينة توقظه.

أو تنبهه.

فرفع رأسه قليلاً.

لكنه أحسن كأنما الدنيا تدور به، وكأنما الأرض تسوخ تحت قدميه.

وصرخ يقول: - ماريا.

أنت هنا.
؟ وانهمرت دموع الفتى المسكين تغسل خديه الأشحبين.

وقالت ماريا تجيبه، وكأنما حُلّت عقدة السحر.

(أجل يا ميشيل أنا.

هنا! فمن جاء بك؟)
- لقد طردوني يا ماريا.

فذهب قلبي يبحث عنك حتى اهتدى إليك.
- شكراً للمقادير يا عزيزي.

ولكن.

أما تزال تحبني؟ - وكيف عرفت يا ماريا؟ - لقد كنت أحسبك تعبث بي.

وهذا ما جعلني أفر مع فراري غليظ الكبد، وأتزوجه في نابلي.

نابلي! آه لهذه البلدة المتوحشة!! - أنتِ؟ تزوجت من فراري.
؟ - أجل.

ولكنه كان زواجاً منحوساً.

لقد عشت معه ثلاثة أشهر، كانت نكداً كلها.

والحمد لله.

لقد قتل في شجار نشب بينه وبين عصبة من رعاع نابلي، فأراحني الله منه.
- إذن أنت خالصة الآن لي؟! -.
؟.
- إذن هلمي يا ماريا.

هلمي.
- أهذه ورقتك؟ ماذا؟ ورقة مالية كبيرة.

بخمسين ليرة؟! - لا.

إنها ليست لي، ولكنها لسيدة إنجليزية تصدقت بها علي.
واستقالت ماريا من فورها.

وانطلقت مع ميشيل إلى روما.

وقوبلا في الفندق مقابلة ثائرةً صخابة.

ولقيتها المديرة بالترحاب، وبالغت في الاعتذار لميشيل، لأنها علمت أنه لم يتسبب في تهشيم الصندوق.

ولكن الفتى ازور عنها، وسأل الكاتب ظرفاً كبيراً من الورق وضع فيها الورقة المالية.

وصعد إلى الطابق العلوي فاستأذن على إيزابل هايس الأديبة الإنجليزية فأذنت له.

ولم يجلس، بل قدم إليها الظرف بما فيه.

وانطلق شاكراً وحمل متاعه.

وصحبته ماريا إلى بيته القديم الذي لم يدخله مذ ماتت أمه.

وهناك، طفق الحبيبان ينفضان غبار الموت والفقر والذكريات المشجية عن الأثاث القديم.

وكشف في صندوق أمه عن فضل قليل من المال كان حسْبه للعقد على ماريا، ولحياة ثلاثة أشهر كانت كلها عسلاً.

وكتب خلالها قصته.

وباعها بمبلغ كبير من المال.
وعاش في ظل ماريا.

من أنبغ الأدباء الإيطاليين (ملخصة) دريني خشبة

شارك الخبر

المرئيات-١