خطب ومحاضرات
نقد الآخرين
الحلقة مفرغة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه!)، وهذا الحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وأبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (33).
فقوله صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه) القذى: هو ما يقع في العين أو في الماء والشراب من نحو تراب ووسخ أيَّ قاذورات أو أذى أو تراب يقع، سواء في العين أو في الماء أو في الشراب، فيطلق عليه القذى.
إذاً المقصود به الأشياء الهينة الصغيرة التي تكاد لا تدرك، يبصرها الإنسان ويفتح عينيه لها ما دامت في عين أخيه -يعني: أخاه في الإسلام- وفي نفس الوقت ينسى الجذع في عينه، والجذع هو واحد جذوع النخل، وهذه من المبالغة، وكأن جذع شجرة موجود في عينه من العيوب، ثم هو يتجاهله ولا يشتغل بإصلاحه، في حين أنه يدقق ويتحرى مع الآخرين بحيث يدرك عيوبهم مع خفائها.
فيؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان لنقصه ولحب نفسه يدقق النظر في عيب أخيه، فيدرك عيب أخيه مع خفائه، فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به، ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لعيوب الناس وتتبعها لكف عن أعراض الناس، ولسد باب آفات اللسان وأعظمها الغيبة، يقول الشاعر:
عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دما
وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى
وقال الإمام أبو حاتم بن حبان رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه، ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من عيب أخيه، وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه، ومن ذمهم ذموه.
يقول الشاعر:
المرء إن كان عاقلاً ورعاً أشغله عن عيوب غيره ورعه
كما العليل السقيم أشغله عن وجع الناس كلهم وجعه
كما أن العليل السقيم أو المريض يشغله الألم الذي يجده في مرضه عن ألم غيره، فكذلك ينبغي للإنسان أن يشتغل بعيب نفسه عن عيب غيره على حد قول الشاعر:
أي: الجراح التي في غيري لا تداوي الجراح التي فيَّ، وقوله (ما به به وما بي بي) يعني: الأولى أن يشتغل الإنسان بالعيوب التي في نفسه.
وعن مجاهد قال: ذكروا رجلاً -يعني: كأنهم ذكروا عيوب هذا الرجل- فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك).
وهذا علاج لهذا الداء على الإنسان أن لا يسهو ولا يغفل عنه، وهو أنه إذا هم أن يتكلم في عيوب الآخرين فليفكر أولاً وليذكر عيوب نفسه وينشغل بها، فسيجد فيها غنية عن أن يشتغل بعيوب الآخرين، فهذا من أدوية هذا الداء (إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك)، فإذا فتشت سوف تجد كثيراً جداً يشغلك إصلاحه في نفسك عن الاشتغال بذم غيرك.
وقال أحد السلف: إن من تصرف في نفسه فعرفها صحت له الفراسة في غيره وأحكمها.
وعن بكر قال: تساب رجلان، فقال أحدهما: محلمي عنك ما أعرف من نفسي. يعني: تشاتما وسب أحدهما الآخر، فرد الشخص المسبوب فقال له: محلمي عنك -يعني: الذي يجعلني أتحلم وأصبر عن أن أرد عليك بالمثل- ما أعرف من نفسي. يعني: أنا أعرف أن في نفسي من العيوب الكثير، فهذا يجعلني عوناً لك عليها، ولست أتخذ موقف الدفاع عنها؛ لأن فيها من العيوب ما تستحق به أن تُذم، ولذلك قال له: محلمي عنك ما أعرف من نفسي.
وقيل للربيع بن خثيم رحمه الله تعالى: ما نراك تغتاب أحداً؟ فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذم الناس ثم أنشد:
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل
ولقي زاهد زاهداً فقال له: يا أخي! إني لأحبك في الله. فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله -يعني: بدل أن تحبني في الله- فقال له الأول: لو علمت منك ما تعلم من نفسك لكان لي فيما أعلم من نفسي شغل عن بغضك.
يقول الشاعر:
قبيح من الإنسان أن ينسى عيوبه ويذكر عيباً في أخيه قد اختفى
ولو كان ذا عقل لما عاب غيره وفيه عيوب لو رآها قد اكتفى
وعن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه. يعني: هذا يدل على أنه إنسان غافل؛ حيث يشتغل بتراب وقع على ثوب غيره أو نملة تمشي على ثوبه، في حين أن داخل ثيابه هو العقارب والحيات والآفات تنهش فيه، فيشتغل بهذا الذي لا يعنيه -وهو أمر يسير مهما كان- عن هذا الأمر الخطير الذي يحدث به.
وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: (كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس) أي: لأنه إذا اشتغل الإنسان بخطايا وبعيوب الناس لا شك أن هذا سيشغله عن إصلاح نفسه، وبالتالي تكثر خطاياه، ولا يتوب منها، ولا يعاتب نفسه؛ لأنه غير متفرغ لإصلاح نفسه.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير.
وهذه إشارة إلى أسباب هذا الداء، وهو حب وتتبع عيوب الناس، وتصيد أخطاء الآخرين، وسبب الحسد والبغي هو حب الرياسة وشهوة الرياسة، وهي الشهوة الخفية، فما من أحد أحب الرياسة إلا حسد -يحسد الآخرين- وبغى، وتتبع عيوب الناس؛ لأنه يكره أن يُذكر الآخرون بخير، وبالتالي يحاول دائماً أن يهزمهم ويحطمهم ويكشف عيوبهم من أجل أن تكون له الرياسة والعلو.
وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً، ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين.
فقوله: (كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً) أي: هو في نفسه ليس من الصالحين، وليس رجلاً صالحاً.
وقوله: (ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين) أي: يغتابهم ويذكر عيوبهم.
وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم.
وقال الشاعر:
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله ستراً عن مساويك
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيك
وسمع أعرابي رجلاً يقع في الناس والأعراب هم البدو الرحل الذين لا يعيشون في المدن، ولا يسمعون القرآن، ولا يحضرون دروس العلم، والأصل فيهم الجهل والجفاء إلا ما استثني، كما ذكر الله تبارك وتعالى في سورة التوبة، لكن هذا الأعرابي مع ذلك نطق بالحكمة، ونطق بما تدل عليه أحدث الاتجاهات في علم النفس الحديث، حيث إنهم يفرحون بهذه الأشياء، ويظنون أنهم هم الذين أوجدوا هذه العلوم، لكن انظر هذا الأعرابي مع بساطته عبر بما يطلقون عليه الآن: (الحيل الدفاعية) التي يسلكها الإنسان ليدفع عن نفسه العوص والعيب، ومنها حيلة الإسقاط، أي: يسقط أخطاءه على الآخرين، فهو يشعر بعيب معين في نفسه، فكي يلفت النظر بعيداً عن أن ينتبه الناس إلى هذا العيب الذي هو في نفسه يرمي الناس بما فيه من العيوب، وكلما كثرت فيه هذه العيوب كلما كثر تتبع هذه العيوب في الناس، فهي حيلة من الحيل الدفاعية بالاصطلاح الحديث في علم النفس، فهذا الأعرابي سمع رجلاً يقع في أعراض الناس، فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها -أي: للعيوب- يطلبها بقدر ما فيه منها. أي: فكثرة الاشتغال بعيوب الناس تدل على وجود نفس هذه العيوب في نفسه هو، فهي عبارة عن عملية دفاعية بكونه يسقط هذه العيوب على الآخرين.
يقول: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها.
وأجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب
أي: صاحب العيوب. وقال الشاعر:
شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل
فالإنسان لو في جسمه جروح مكشوفة، وفيها الدم وفيها كذا وكذا، فتجد الذباب يحب أن يتتبع مواضع العلل والداء كي يقف عليها، فكذلك هناك أناس لهم هواية التفتيش في القمامة، فترى أحدهم عنده هذه الهواية، ويحب التفتيش في القمامة، فما يقع إلا على العلل، ولا يذكر محاسن الآخرين، لكن دائماً يفتش في القمامة، ويقلب هذه الأشياء، وهذا ما يعبر عنه الشاعر بقوله:
شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل
وهذا التفتيش في القمامة ليس فقط على مستوى العلاقات الفردية، لكن يوجد أيضاً فيما يُسمى زوراً بالبحوث التاريخية، يزعمون أنهم يكتبون أو يبحثون بحوثاً علمية وتاريخية، ثم هم ما يقعون إلا على مواضع المؤاخذة في التاريخ الإسلامي، فمثلاً: ما يعرفون عن معاوية رضي الله تعالى عنه إلا كذا وكذا وكذا، وينسون أنه صحابي، وأنه خال المؤمنين، وأنه كاتب الوحي، وأنه المجاهد في سبيل الله، وأنه الحاكم بشريعة الله، كل هذا يُنسى، ويُركز فقط على المآخذ، سواء على معاوية رضي الله تعالى عنه مثلاً، أو على الدولة الأموية، أو على الدولة العباسية، وينسون أن واجب كل مسلم من أهل السنة أن يكون له ولاء لكل هذه الولايات الإسلامية أو الخلافات الإسلامية، سواء أكانت راشدة -بلا شك- أو أموية أو عباسية؛ لأنها في الجملة كانت خلافة إسلامية ترفع راية الشريعة، وتحكم بكتاب الله تبارك وتعالى، فينشغلون بذم تاريخ بعض السابقين وبعض الصور التاريخية السابقة بهدف التنفير من هذا التاريخ، وقطع اعتزاز الخلف بهذا السلف بالتركيز فقط على عيوبهم، ولو سلكوا المنهج المثيل لأمسكوا عما شجر بينهم، ولأمسكوا عن هذه العيوب، ولقالوا ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وقال ابن السماك : سبعك بين لحييك. يعني أن كل إنسان يجب أن ينظر إلى لسانه هذا المحبوس في قفصين: قفص من عظم وقفص من لحم، فالعظم هو الأسنان، واللحم هو الشفتان، فلا يتمكن اللسان من أن ينطق ويخرج الكلام إلا بأن يخرج من بين هذين القفصين وهذين السجنين.
فشبهه بالسبع بأنه يوجد داخل هذا الفم سبع -أي: أسد- لو فتحت له الباب لخرج ولأكل الناس، ونال من أعراضهم، وأهلك صاحبه، ولذلك يقول ابن السماك : سبعك بين لحييك -يعني: بين فكيك- تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور. أي: فرغت من غيبة الأحياء وغيبة الرائح والجائي، وبعد أن انتهيت من الأحياء انتقلت إلى الأموات، فأخذت أيضاً تنبش الموتى، وتذكر عيوب الموتى، فأنت تؤذي الموتى في قبورهم، وتؤذي أقرباءهم من الأحياء، وتؤذي نفسك.
قال: قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم.
(فما ترثي لهم) أي: ألا تشفق عليهم؟ وقد انقطع عملهم وفنيت أجسادهم وتحللت وانتهوا، والآن هم في دار الجزاء؟ فلذلك أدبنا النبي صلى الله عليه وسلم مع الأموات -حتى لو كانوا من الظلمة أو الفسقة أو المقصرين- أننا لا نذكر عيوبهم، قال عليه الصلاة والسلام: (اذكروا محاسن موتاكم -يعني: أمسكوا عن عيوبهم-؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) أي: ما عملوه في فترة الحياة الآن هم يحاسبون عليه، فأنت دعه وربه، ولا داعي أن تنشغل أيضاً بذم الموتى.
قال: قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم.
فهل تعتقدون أن نبش الموتى فقط هو حفر القبر من جديد وسرقة الأكفان؟ وهل هذا هو النبش؟
الجواب: لا بل النبش له معنىً آخر لا يقتصر على الاستيلاء على الكفن كما يفعل النباشون، ولذا قال ابن السماك : وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم، فإذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال.
هنا يرشد ابن السماك إلى ثلاثة أشياء وثلاث صفات وخصال إذا التزمها الإنسان منعته من إطلاق لسانه بذكر عيوب الآخرين.
قال: أما واحدة فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك؟! أي: فيك نفس العيب الموجود في هذا الشخص، وأنت تذمه بسببه، فمن أولى بالذم؟
قال: ما ظنك بربك -يعني: أن يفعل بك- وأنت تذكر أخاك بأمر هو فيك؟!
الثانية: ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكاماً لمقته إياك.
الثالثة: ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك؟! أما سمعت: (ارحم أخاك واحمد الذي عافاك).
يعني: إما أنك مبتلىً بشيء مثل الذي فيه، وإما أن تفعل شيئاً أشر مما يفعله هو فالعيب عندك أشد، وإما أن يكون الله قد عافاك من هذا العيب، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! إذا كان الله قد عافاك من هذا العيب وبرأك منه، فهل جزاء هذه النعمة أن تشتغل بذم الآخرين، أم أنك تحمد الله سبحانه وتعالى، وترحم العصاة؟!
روي عن المسيح عليه السلام أنه قال: (لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).
يقول الشاعر:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين
وقال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت باذان المدايني يقول: رأيت أقواماً من الناس لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وزالت عنهم تلك العيوب، ورأيت أقواماً لم تكن لهم عيوب اشتغلوا بعيوب الناس فصارت لهم عيوب.
قوله: (فصارت لهم عيوب) يعني: فانكشفت عيوبهم التي كانت مستورة.
ولعل في قاعدة (الجزاء من جنس العمل) -هذه القاعدة العدلية الإسلامية- زاجر للذين يخوضون في عيوب الناس، فيكفون عن الاشتغال بها خشية أن يعاملهم الله سبحانه وتعالى بما تقتضي هذه القاعدة، وهي أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن البلاء -كما يقولون- موكل بالقول.
فعن إبراهيم قال: إني لأرى الشيء مما يعاب ما يمنعني من غيبته إلا مخافة أن أبتلى به. أي أنه يرى شيئاً يُعاب، ويخشى أن يغتاب صاحبه، فإذا اغتابه وذمه بهذا العيب يخشى أن يعاقبه الله سبحانه وتعالى بأن يُبتلى بنفس هذا الشيء.
ويقول الأعمش : سمعت إبراهيم يقول: إني لأرى الشيء أكرهه، فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا ما مخافة أن أُبتلى بمثله.
وقال عمرو بن شرحبيل رحمه الله: لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكتُ منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع. يعني: لخشيت أن يعاقبني الله سبحانه وتعالى بأن يجعلني أفعل نفس هذا الشيء الذي صنعه هذا الرجل الذي رضع العنز.
وقال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه، فقضى أمير المؤمنين معاوية حاجة المسور ، ثم خلا به -انفرد به- فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة -يعني: على أمير المؤمنين معاوية وبني أمية- ما فعل طعنك على الحكام المسلمين الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن. أي: دعنا من هذا الموضوع ولا يجوز أن نتكلم فيه دعنا من هذا وأحسن. قال: لا والله! لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب علي. يعني: صارحني بما تعيبه علي، وقل لي مباشرة. فقال المسور : فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينت له. فقال معاوية رضي الله عنه : لا أبرأ من الذنب، فهل تعد لنا -يا مسور- ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك المحاسن؟
أي: كما أحصيت هذه العيوب هل تضع بجانبها في الكفة الأخرى المحاسن التي نليها من إصلاح أمر المسلمين، والجهاد في سبيل الله، وفتح البلاد، وتمصير الأمصار، ونشر الإسلام وغير ذلك من المحاسن التي يفعلها أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه؟
قال: فهل تعد لنا -يا مسور- ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك المحاسن؟ قال: ما تُذكر إلا الذنوب. قال معاوية : فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك -يا مسور- ذنوب في خاصتك تخشى بأن تهلك إن لم تُغفر؟ قال: نعم. قال: فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؟ أي: فما الذي يجعلك أولى مني بأن ترجو مغفرة الله وعفو الله في هذه العيوب أو في هذه الذنوب؟ قال معاوية : فوالله! ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي. أي: الإصلاح الذي يحصل على يدي بصفتي أميراً للمؤمنين أكثر مما تلي أنت باعتبارك واحداً من الرعية.
قال: ولكن -والله- لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه، وإني على دين يُقبل فيه العمل، ويُجزى فيه بالحسنات، ويُجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها. قال المسور : فخصمني.
يعني: غلبني.
قال عروة : فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه. يعني: دعا له بعد هذه المناظرة.
وعن أبي راشد قال: جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر ، فقال: إني رسول إخوانك من أهل البصرة إليك، فإنهم يقرئونك السلام ويسألونك عن أمر هذين الرجلين: علي وعثمان، وما قولك فيهما؟ فقال: هل غير؟ قال: لا. قال: جهزوا الرجل -أي: أعدوا له متاعه كي يسافر فوراً في الحال إلى حيث أتى- فلما فُرغ من جهازه قال: (اقرأ عليهم السلام، وأخبرهم أن قولي فيهم: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]).
وعن شريك قال: سألت إبراهيم بن أدهم عما كان بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، فبكى، فندمت على سؤالي إياه، فرفع رأسه فقال: إنه من عرف نفسه اشتغل بنفسه، ومن عرف ربه اشتغل بربه عن غيره.
وقال الشافعي : قيل لـعمر بن عبد العزيز : (ما تقول في أهل صفين؟ قال: تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أخضب لساني بها).
قال الرياشي رحمه الله تعالى:
لعمرك إن في ذنبي لشغلاً لنفسي عن ذنوب بني أمية
على ربي حسابهم جميعاً إليه تناهى علم ذلك لا إليه
وليس بضائري ما قد أتوه إذا ما الله يغفر ما لديه
يعني: أنت في القبر لن تُسأل، ويوم القيامة لن تُحاسب على ذنوب بني أمية، فهذا لا يعنيك في شيء، (ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فكون الناس -حتى الآن- يشتغلون بذم بني أمية هذا الانخراط وقوف في خندق واحد مع أعداء الإسلام؛ لأن لهم غرضاً خبيثاً من وراء إبراز هذه المآخذ والمبالغة فيها، بل وحشو هذه الأخبار بالكذب، كل هذا هو من أجل تنفير الناس من ماضي المسلمين، ومحاولة تصوير التاريخ الإسلامي أنه ما هو إلا عبارة عن صراع على السلطة فحسب، وأنه ليس دعوة ربانية ولا هداية إلهية، وإنما هو أغراض شخصية ومطالب دنيوية، فمن أجل ذلك يحاولون إبراز السلف الصالح رحمهم الله تعالى في هذه الصورة المنفرة للتنفير وللصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، فينخدع الأغرار ممن يجارون هذا المنهج الخبيث، ويسمون الخوض في شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وما وقع منهم بحثاً علمياً، والعلم منه براء، بل هم مزورون كذابون.
ولذلك نجد هذه الظاهرة لا يهتم بها أساساً ولا يسقي شجرتها الخبيثة إلا أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمستشرقين وتلامذتهم وأذنابهم من أعداء الإسلام كـطه حسين ، وغيرهم ممن وضعوا السموم في الآبار الإسلامية، حتى يسمم شباب المسلمين بهذه المفاهيم، فإذا صوروا الصحابة أنهم كانوا طلاب دنيا فقدت الثقة بهم، وبالتالي لا يرغب الناس في إعادة هذا المجد وهذا التاريخ الإسلامي.
وكون هذا إذا صدر من أعداء الإسلام فهذا وضع طبيعي ومتوقع منهم، لكن الأمر الشنيع أن يصدر هذا ممن ينتسب زوراً إلى الإسلام! في حين أن من أصول أهل السنة والجماعة الإمساك عما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ لأن هذا مقتضى قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، فالعجيب أن هناك بعض المنتسبين لبني البشر بل للإسلام يتعبدون بالغل على الصحابة، كالشيعة الروافض في إيران وغيرهم، فإنهم يتعبدون بذلك، ويعتبرون أن الاشتغال بلعن معاوية وبلعن أبي بكر وعمر عبادة يثاب عليها أكثر من ذكر الله -والعياذ بالله- كما لبس الشيطان عليهم، وهذا من الأمور العجيبة!
وأعجب منه أيضاً أنا نرى بعد هذه الحملة التي حصلت ضد التنظيم الشيعي الذي اكتشف يخرج أيضاً أعداء الإسلام من بين البحور في الإعلام يدافعون عن الشيعة، ويقولون: ينبغي أن نذكر محاسن الشيعة وكذا وكذا. المهم أنهم في كل معركة بين أهل السنة وأهل الإسلام وبين أعدائهم ينضمون إلى الصف المعادي؛ لأجل إضعاف المسيرة الإسلامية، فالله حسيبهم.
عن الهيثم بن عبيد الصيدلاني قال: سمع ابن سيرين رجلاً يسب الحجاج ، فقال: مه أيها الرجل -أي: انصت وتعقل وتفكر-! إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملت قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج. أي أنه يقول له: كف عن هذا، ولا تضيع وقتك بالاشتغال بسب الحجاج ، مع أن الحجاج رجل ظالم فعل ما فعل من الكبائر، لكن انظر إلى هنا إلى طريقة تفكير ابن سيرين ، حيث إنه يدل الإنسان على أن يشتغل بعيب نفسه حتى لو كان في غيره من العيوب ما الله به عليم.
فيقول: مه أيها الرجل! إنك لو وافيت الآخرة -أي: إذا قامت القيامة ووقفت بين يدي الله سبحانه وتعالى- فأيهما أخطر عليك: أقل ذنب أنت عملته بنفسك، أم أعظم ذنب عمله الحجاج ؟ الجواب: ما عملته أنت بنفسك ، فلهذا ينبغي أن تخاف من ذنبك أكثر من ذنوب غيرك؛ لأن هذا سوف يضرك إن لم يتب الله عليك.
قال ابن سيرين : إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج ، واعلم أن الله عز وجل حكم عدل، إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه شيئاً فشيئاً أخذ للحجاج ممن ظلمه، فلا تشغلن نفسك بسب أحد.
أي أن الله سبحانه وتعالى حكم عدل، فإذا أنت جاوزت الحد وبغيت على الحجاج نفسه -مع أن الحجاج كان ظالماً وباغياً- فالله سبحانه وتعالى حكم عدل، وإن أخذ من الحجاج لمن ظلمه - الحجاج - شيئاً فشيئاً للمظلومين الذين ظلمهم الحجاج ؛ لأنه سوف ينتقم الله من الحجاج إن شاء ذلك، ويأخذ من الحجاج بقدر ظلمه لهؤلاء الناس، لكن بجانب ذلك أيضاً الله سبحانه وتعالى لأنه حكم عدل سوف يأخذ للحجاج ممن ظلم الحجاج ، فإذا أنت اشتغلت بذنبه وسبه وبغيت في ذلك فلا تأمن أن الله سبحانه وتعالى سوف يعاقبك بأن ينتقم منك من أجل الظلم الذي ظلمته الحجاج ، فلا تشغلن نفسك بسب أحد.
تلك بعض الفوائد التي استقيناها من مشكاة قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه)! وجاء في بعض الروايات: (وينسى الجذع معترضاً في عينه) أي: كأن جذع شجرة موجود في عينه من العيوب، ومع ذلك ينسى هذا الذي أمام عينه من عيوب نفسه، ويشتغل بأبسط شيء في عيوب أخيه، ففي تدبر هذا الحديث الشريف والتفكر فيه ما يزجر الإنسان عن التمادي في الاشتغال بعيوب غيره؛ لأن أوجب الواجبات أن يصلح الإنسان نفسه؛ لأنه لن يلي إصلاحها غيره، فهذا متعين عليه، ومن سنة القتال أن يبدأ المقاتل بالعدو الأقرب فالأقرب، ومن أقرب الأعداء بالنسبة للإنسان نفسه التي بين جنبيه، فهي أقرب عدو قريب منه، فينبغي أن يشتغل الإنسان بهذا العدو أولاً، ولا يشتغل بغيره في حين يدع العقارب والحيات والآفات تنهش في جسمه وتؤذيه في دينه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
قصتنا مع اليهود | 2627 استماع |
دعوى الجاهلية | 2562 استماع |
شروط الحجاب الشرعي | 2560 استماع |
التجديد في الإسلام | 2514 استماع |
تكفير المعين وتكفير الجنس | 2505 استماع |
محنة فلسطين [2] | 2466 استماع |
انتحار أم استشهاد | 2438 استماع |
تفسير آية الكرسي | 2404 استماع |
الموت خاتمتك أيها الإنسان | 2396 استماع |
وإن عدتم عدنا | 2395 استماع |