ما الهم الذي تحمله؟


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

الموضوع كما سمعتم: ما الهم الذي تحمله، وهذا الموضوع لعلي ما اخترته إلا قبل أن آتي لهذا المجلس، ولأنه يهم كثيراً من الملتزمين قبل العوام، ولهذا تجد كثيراً من الملتزمين إنما التزامهم في الظاهر، أما همه فقلبه أبعد ما يكون عن الالتزام، سله من صباحه إلى مسائه، من يومه إلى ليله، بم تفكر؟

ماذا يشغل قلبك؟ ما الهم الذي تحمله؟

أقصى شيء الدوام والوظيفة والمعاش، أو الدارسة إن كان طالباً، أو الزوجة أو الأولاد، أو البيت والأثاث والقسيمة، ثم ماذا؟

ثم لا شيء، ثم أن ينام على الفراش ليستيقظ ويبدأ يوماً جديداً، هذا همه، هذا حاله، هذا تفكيره، ولهذا كثير من الناس يفرح لما يرى اللحية ما شاء الله على حالها، والإزار قصير، وهذا شيء مطلوب وطيب، ولكن ادخل في قلبه، لا تجد أثراً من أثر الالتزام، ولهذا الله جل وعلا ما ينظر يوم القيامة إلى صورنا ولا إلى أجسامنا ولكن ينظر إلى القلوب، ولهذا الله جل وعلا يقول: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] أي قلب هذا القلب السليم؟

قلب تجده إن جاء وكبر في الصلاة همه في الدنيا، هل هذا القلب سليماً؟!

قلب إن خلا بمحارم الله تلذذ وتعلق بها بل انتهكها، هل هذا القلب سليم؟!

قلب إن قرأ القرآن فهو لا يفكر إلا بالدنيا، وإن بكى في الصلاة فإنما يبكي على مصيبة أو على عزيز فقده ولا يبكي لتأثره بالقرآن، ولهذا فإن الله جل وعلا في أكثر الآيات يخاطب القلوب دون الأجساد، فيقول الله سبحانه وتعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] القلب هو الذي يجعل الله عز وجل عليه الران، المعصية تلو المعصية، والنظرة، ثم أغنية، ثم غيبة، ثم نميمة، ثم عقوق ... حتى يجعل الله عز وجل على القلب ران، بل أشد من الران قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المنافقون:3] الطبع على القلب، بل القفل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

ولهذا نتكلم عن الهم الذي يشغل قلبك، أسألك بالله واسأل نفسك في هذا المجلس، بم تفكر؟ وما الذي يشغل همك من الصباح إلى المساء؟

ما الذي يطغى على تفكيرك وعلى قلبك؟

هل هي الدار الآخرة؟

هل هي سكرات الموت؟

ألا تفكر بهذه الأمور؟

أم أنك إن فكرت بها فتأخذ حيزاً قليلاً من همك، أما الغالب: المعاش، والدنيا، والقسيمة، والسيارة، والزوجة، والأولاد، والسفر، ومتاع الدنيا قال تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء:77].

هم الآخرة

يقول يوسف: قال لي سفيان الثوري: ائتني بالماء، يقول: فقربت إليه كوزاً من ماء، ليقوم في الليل، يقول: فاقترب من الماء، ووضع يده على خده، يقول: فتركته وذهبت ونمت، يقول: فاستيقظت لصلاة الفجر، فجئت إليه فإذا هو على الحال التي تركته عليها، فقلت له: يا أبا عبد الله ما زلت على الحال التي تركتك عليها؟

قال: نعم، على هذه الحال.

قال: ولم؟

قال: هم الآخرة، ولهذا من الناس من أخلصهم الله بهذا: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ [ص:46] ما هي الخالصة؟ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46].

كان بعضهم يصلي، فيبكي وتسيل دموعه وتهراق، ولا يشعر من بجنبه أنه يبكي، أين همه؟ همه في الآخرة.

وكان بعضهم كما تقول زوجة مسروق تقول: كان يصلي الليل، حتى تجلس خلفه وتبكي، تبكي رأفة على حاله، ورحمة به، تقول: فإذا أذن الفجر زحف كما يزحف البعير لم؟ همه الآخرة قال تعالى: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

حتى قال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها) إذا أراد أن ينام خوف النار يفزعه فيوقظه، وإذا أراد أن يتلذذ بالفراش حب الجنة يطيره، حتى قالت بنية لأبيها: يا أبتي! مالي أرى الناس ينامون وأنت ما تنام، نومك قليل؟ فقال هذا الرجل -اسمع لتلك الكلمات ثم انظر لحالنا وهمومنا-: يا بنية! خوف أبيك من النار أذهب عنه النوم.

عثمان بن عفان ثالث الخلفاء، يقول ابن عمر: أنزل فيه قول الله جل وعلا: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ [الزمر:9] في الليل ما ينام، حتى قيل: إنه كان يختم القرآن كله في ليلة.

دخل عليه الخوارج، وهو في غرفته، طلب الصحابة أن يقاتلوا دونه فأبى، قال: ما تقاتلون اتركوهم، فدى الأمة بدمه، دخلوا عليه واقتحموا الباب، ثم طعنوه تسع طعنات، أشقى القوم طعنه تسعاً قال: أما ثلاث فلله، وأما ست فلشيء وقر في الصدر. وكذب، تسع كلها ليست لله، طعنه فسال الدم على المصحف فبكت زوجته وقالت: قتلتموه، وإنه ليحي الليل بالقرآن. انظر الهموم، يمشي على الأرض وهمه في الآخرة، همه أن يدخل الجنة، همه أن ينجو من النار، حتى قال: [والله لو كنت بين الجنة والنار، وما أدري إلى أيهما أصير، لتمنيت أن أصير رماداً].

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ [الزمر:9] من الذي جعله ساجداً وقائماً في الليل والناس نيام؟

بل الناس أمام الملهيات، وفي المباحات، ويتلذذون بالفرش والنساء، أما من هو ساجد وقائم لم؟

ما الهم الذي يشغل قلبه؟ قال تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

هل يشغل قلبك هم الدار الآخرة أم أنك نسيت؟ حتى صرت من الذين يصلون ولم يصلوا، ينقرها ولا يدري ماذا صلى، وبم قرأ الإمام، ولم يتذكر يوماً خشع فيه من قراءة القرآن، من السلف من قتل ومات بآية، تعرف ما هذا الآية؟

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16] أي قلوب هذه؟ قلوب ملأتها الدنيا، وفتن الدنيا، حتى أصبحت تكبر وكأنها ما كبرت، بل جاءني أحد الناس يشتكي يوماً من الأيام -ولن أنسى هذا السؤال- يقول: والله أفكر في المعصية حتى في السجود، حتى في السجود أقرب ما يكون العبد من ربه، أي قلب هذا؟ بل أي هم هذا؟

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16].

ألا يأتيك هم -أخي الكريم- أنك يوماً من الأيام سوف تكون طريح الفراش.

الحسن البصري يدخل يوماً من الأيام على البيت، فيقول له أهله: يا أبا سعيد! العشاء، فيقول: كلوا عشاءكم، فيقولون له: يا أبا سعيد! برد العشاء، فيقول لهم: كلوا عشاءكم، فقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه، رأيت رجلاً يحتضر: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99].

لا تقل أخي الكريم! أنا أصبحت أفضل من غيري، والحمد لله عندي بعض الأعمال الصالحة، عند الممات يتبين كل شيء، ويظهر ما في القلب، همك الذي يشغلك سوف تتلفظ به عند الموت، بل يخرج الله عز وجل السرائر: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9].

إن لم يكن في الموت، فعند اللقاء عند الله جل وعلا، رجل قلبه يتعلق بأمرد صبي، فلما حانت ساعة وفاته قال:

أسلم يا راحة العليل     ويا شفاء المدنف في النحيل

رضاك أشهى إلى فؤادي     من رحمة الخالق الجليل

فقالوا له: اتق الله، ماذا تقول؟ أخرج الله ما في قلبه، إن كان حب مردان، أو أموال، أو تجارات وعقارات، أو أثاث، أو فتن الدنيا، أو تعلق قلبه ببيت أو سيارة أو أولاد أو زوجات، فسوف يظهر الله ما في قلبه حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] عند الممات يقولها لكن هل تنفعه؟! ولتتخيل أخي الكريم تلك اللحظات التي فيها تنازع الموت، تخيل ولعلها تكون الليلة الأخيرة هذه، وسل نفسك هل أنت مستعد لهذه اللحظات؟ أم أن ملك الموت سوف يطرق عليك الباب، أو يستأذن منك قبل أن ينزع الروح منك؟ أم أنك يا عبد الله سوف يؤخرك الله حتى ترجع الأمانات إلى أهلها، وتتوب من بعض المعاصي التي بينك وبين الله، لا يعلم عنها إلا الله جل وعلا؟

ولهذا الإمام أحمد لما أشغله هذا الهم، وأقلقه ذلك الهم، يوم من الأيام جاءه رجل فقال له شعراً، فقام الإمام أحمد من مجلسه، وكان حوله التلاميذ والأصحاب، فدخل في غرفة وأغلق الباب، فانتظروه فتأخر، فاقترب أحدهم يستمع إلى الإمام أحمد خلف الباب، يردد الشعر نفسه وهو يبكي:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل     خلوت ولكن قل علي رقيب

لا تقل: ما في أحد، أغلقت الباب، ويفتح التلفزيون وينظر، ما في أحد؟

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل     خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة     ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

لهونا لعمر الله حتى تتابعت     ذنوب على آثارهن ذنوب

فيا ليت أن الله يغفر ما مضى     ويأذن في توباتنا فنتوب

عمر بن الخطاب، انظر إلى الهم الذي أشغله، يقال: كان يُرى في وجهه خطان أسودان من البكاء.

أخي الكريم: كانوا لا ينامون الليل من الهم الذي يقلقهم، حتى كان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل كله بآية، وهي قوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] يرددها ويبكي، ليلة من الليالي تقوم عائشة فتسمع النبي صلى الله عليه وسلم في الليل يبكي، فتقترب فإذا هو في السجود، تعرف ماذا يقول؟

يقول: (اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي) انظر الهم الذي يقلقهم.

هم الأمة

من الهموم أخي الكريم التي لا بد أن تشغلك، هم هذه الأمة، هم إصلاحها، ألا يقلقك؟ ألا يؤثر في قلبك؟

عندما تخرج من بيتك ولا يخرج أحد للصلاة غيرك ألا تضطرب أخي الكريم؟

عندما تقوم للفجر إن كنت من مصلي صلاة الفجر، أنك تمشي في الشارع لوحدك، ولا تسمع إلا قرع نعليك، ألا يحزنك؟

ألا يهمك هذا؟ ألا يصيبك بالحزن أن ترى في كل يوم تزداد بيوت الربا التي تحارب الله جهاراً نهاراً؟

ألا يحزنك ويقلقك لما ترى في الشارع هذه متبرجة، وهذه مع فلان، وهذه كاشفة عن رأسها، وتلك حاسرة عن ساعديها، ألا يحزنك يا عبد الله؟

إن هذا الهم قتل محمداً عليه الصلاة والسلام، حتى تقول عائشة: [كان يجلس -آخر عمره في الصلاة، تعرف لمَ؟ تقول-: مما حطمه الناس، مما حطمه الناس] ألا تحمل هذا الهم يا عبد الله؟

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف:6].

همه إن لم يكن في الموت وفي القبر وفي القيامة وفي الجنة والنار فإنه في هموم الأمة، يحزن ويتألم، حتى قام من مجلسه وهاجر من مكة إلى الطائف، خرج إلى الطائف على قدميه الشريفتين، ودخل على رءوساء القوم وكبراءهم، حتى قال قائلهم قبحه الله: أما وجد الله غيرك ليرسله. وقال الآخر: إن كنت صادقاً فلن أجيبك، وإن كنت كاذباً فأنا أكبر وأشرف وأعلم من أن أجيبك.

فتبعوه بالحجارة، يلحقهم الصبيان والعبيد والسفهاء، وهو يمشي حتى قال عليه الصلاة والسلام: (انطلقت -اسمع إلى الرواية- قال: هائماً على وجهي فلم استفق إلا بـقرن الثعالب) تخيل من شدة الهم، ما يدري أين استفاق، مشى فلم يستفق إلا بـقرن الثعالب، فجاءه ملك الجبال قال: (مرني أطبق عليهم الأخشبين -ترتاح، يزول الهم، يزول كل شيء- قال: لا. أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) وكان لسان حاله، يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ [يوسف:108].

أين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تعرف من هم؟

أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي الدعاة إلى الله هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، هل هذا الهم الذي تحمله؟

ما الهم الذي تحمله يا عبد الله، هل تحمل هم الأمة؟

باخع نفسك، أي: قاتل نفسك على آثارهم: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف:6].

أيها الإخوة الكرام! إن القلب بعض الأحيان يكاد يتفطر إن كان في القلب إيمان، إن كان في القلب إسلام، لما ترى شباباً لا يصلون، بل بعضهم يضحك عليك لما تصلي، وجاءني أحدهم والله يقول لي بعد أن صلينا الظهر، قال: لا زلتم تصلون، الناس قد وصلوا القمر وأنتم لا زلتم تصلون، بل صارت الأسئلة الآن في حكم تارك الصلاة: هل يجوز أن يزوج أو لا يجوز أن يزوج؟

والله يا إخوة! يدمى القلب ويحزن القلب من حال هذه الأمة، قبل أيام خرجت من البيت حتى -أيها الأخ الكريم- يصيبك بعض الهم، لتنشغل على حال هذه الأمة، خرجت من البيت فإذا بزحام، والسيارات مجتمعة، وأصوات رنات السيارات والناس قد خرجت، فذهبت مسرعاً فإذا بالشوارع مغلقة، ما الخبر؟ وإذا الناس قد نزلوا من السيارات يرقصون، ما الذي جرى؟

وبعضهم يصور، وأغلقوا الشوارع، وكأن لسان حالي يقول: إن فلسطين لعلها حررت، الحمد لله، بل لعل مشكلة كشمير انتهت بفضل الله، أم لعله والحمد لله طبق شرع الله عندنا، يفرح الناس، يحق لهم أن يفرحوا بهذا، ولسان حالهم يرد، فيقولون: لا، بل فريقنا فاز في لعبة القدم.

أي سخف مدمر     عن فساد الشعوب نم

وإلى أي خيبة     هبطت هذه الأمم

ألف مليون أصبحوا     كثغاء بشط يم

ومُصلى نبيهم     بيد اللص يقتسم

أنا أقسمت بالذي     برأ الكون من عدم

وكسا ثوب عزة     كل من بالهدى اعتصم

إن قنعنا بسخفنا     وركنا إلى النعم      

فخطى الخصم ماضيات     من القدس للحرم

عندها يندم الجميع     يوم لا ينفع الندم

فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ [هود:116] أولوا عقل، أولوا نهى، ألوا ألباب، هؤلاء هم صفوة الخلق، من هم يا رب؟

أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ [هود:116] هم هؤلاء أهل العقل، بل ما يستحق غيرهم أن يكونوا ألو بقية، ألو نهى، وألوا ألباب.

جاءني قبل أيام ضابط في المباحث، يقول: يا شيخ! ما طلعت من المخفر إلا الساعة الرابعة صباحاً، قلت: ما الخبر؟ قال: قبضنا على مزرعة أو حوطة كلها ممتلئة بالشباب والشابات دعارة، يقول: وكلهم أو أغلبهم من أهل هذه البلد، إخواننا وأخواتنا، يقول: وجئت إلى فتاة ليست كبيرة -صغيرات أكثرهن- فقلت لها: كيف خرجت من البيت؟ أهلك أين هم؟

تقول: أهلي يظنون أنني من خيرة الفتيات، ويحسبون أنني من أشرف الفتيات، قلت: كيف إلى الفجر ما يدرون عنكِ؟

قالت: قلت لهم: إنني في عرس.

أين الرجال؟ أين أولو الغيرة؟ أين أصحاب الحمية؟

أين الدعاة إلى الله جل وعلا؟

صار هم بعضهم -للأسف- أنه يحضر هذا المجلس ثم يشرب شاهي وقهوة، ويقلب كف على كف ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.

لا حول ولا قوة إلا بالله تقولها بعد أن تبذل الأسباب، بعد أن يشغل قلبك فتسجد في الليل وأنت تبكي تقول: اللهم أمتي أمتي، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، ولهذا ذلك الذي آمن من قوم إسرائيل من قوم فرعون ماذا قال؟

يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29] ولهذا قال في خاتمة كلامه: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ [غافر:44].

أيها الناس: تحركوا! وليشغلنا على الأقل الهم في البداية، لأنه إذا دخل هذا الهم في القلب وصلحت هذه المضغة، صلح الجسد كله، فتجده إما متكلماً أو كاتباً أو ناشراً أو موزعاً أو طارقاً للأبواب، أما إذا فسدت هذه المضغة، فتجده يصد، ويقول للداعية: ماذا تفعل؟ الفساد أكبر منك، يا أخي! ما تستطيع أن تفعل شيئاً، ويأتي المريض الثاني فيقول: الحمد لله نحن بخير، نحن أفضل من غيرنا، ولكن الخطأ باقٍ، والمنكر يبقى منكر، والربا من الموبقات، والزنا من المحرمات، والفواحش من أسباب هلاك الأمم، لابد أنك ترضى بهذا وتصدق هذا، ولهذا زينب لما قالت: { أنهلك وفينا الصالحون!؟ } فينا صالحون الحمد لله، يتبجح بها بعض الناس، فينا الحمد لله أهل الصلاة، أهل المساجد، والصائمون والمتصدقون نعم، لا نشك بهذا، ولكن قال: { نعم إذا كثر الخبث } ما الهم الذي تحمله؟

أسألك بالله أيها الأخ الكريم! هل همك لا زال -بعد هذه الكلمات- في أثاث سوف تشتريه بعد أيام؟

أم لا زال همك في شهادة سوف تحصل عليها بعد أشهر؟

أم همك لا زال في سفر سوف تسافره بالصيف؟!

أم همك لا زال في سيارة سوف تركبها بعد أيام؟!

همك بم يا عبد الله؟!

ما الهم الذي تحمله؟

نعم. لا تنسى نصيبك من الدنيا، ولكن لا تطغى عليك الدنيا: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء:77]. #

يقول يوسف: قال لي سفيان الثوري: ائتني بالماء، يقول: فقربت إليه كوزاً من ماء، ليقوم في الليل، يقول: فاقترب من الماء، ووضع يده على خده، يقول: فتركته وذهبت ونمت، يقول: فاستيقظت لصلاة الفجر، فجئت إليه فإذا هو على الحال التي تركته عليها، فقلت له: يا أبا عبد الله ما زلت على الحال التي تركتك عليها؟

قال: نعم، على هذه الحال.

قال: ولم؟

قال: هم الآخرة، ولهذا من الناس من أخلصهم الله بهذا: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ [ص:46] ما هي الخالصة؟ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46].

كان بعضهم يصلي، فيبكي وتسيل دموعه وتهراق، ولا يشعر من بجنبه أنه يبكي، أين همه؟ همه في الآخرة.

وكان بعضهم كما تقول زوجة مسروق تقول: كان يصلي الليل، حتى تجلس خلفه وتبكي، تبكي رأفة على حاله، ورحمة به، تقول: فإذا أذن الفجر زحف كما يزحف البعير لم؟ همه الآخرة قال تعالى: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

حتى قال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها) إذا أراد أن ينام خوف النار يفزعه فيوقظه، وإذا أراد أن يتلذذ بالفراش حب الجنة يطيره، حتى قالت بنية لأبيها: يا أبتي! مالي أرى الناس ينامون وأنت ما تنام، نومك قليل؟ فقال هذا الرجل -اسمع لتلك الكلمات ثم انظر لحالنا وهمومنا-: يا بنية! خوف أبيك من النار أذهب عنه النوم.

عثمان بن عفان ثالث الخلفاء، يقول ابن عمر: أنزل فيه قول الله جل وعلا: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ [الزمر:9] في الليل ما ينام، حتى قيل: إنه كان يختم القرآن كله في ليلة.

دخل عليه الخوارج، وهو في غرفته، طلب الصحابة أن يقاتلوا دونه فأبى، قال: ما تقاتلون اتركوهم، فدى الأمة بدمه، دخلوا عليه واقتحموا الباب، ثم طعنوه تسع طعنات، أشقى القوم طعنه تسعاً قال: أما ثلاث فلله، وأما ست فلشيء وقر في الصدر. وكذب، تسع كلها ليست لله، طعنه فسال الدم على المصحف فبكت زوجته وقالت: قتلتموه، وإنه ليحي الليل بالقرآن. انظر الهموم، يمشي على الأرض وهمه في الآخرة، همه أن يدخل الجنة، همه أن ينجو من النار، حتى قال: [والله لو كنت بين الجنة والنار، وما أدري إلى أيهما أصير، لتمنيت أن أصير رماداً].

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ [الزمر:9] من الذي جعله ساجداً وقائماً في الليل والناس نيام؟

بل الناس أمام الملهيات، وفي المباحات، ويتلذذون بالفرش والنساء، أما من هو ساجد وقائم لم؟

ما الهم الذي يشغل قلبه؟ قال تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

هل يشغل قلبك هم الدار الآخرة أم أنك نسيت؟ حتى صرت من الذين يصلون ولم يصلوا، ينقرها ولا يدري ماذا صلى، وبم قرأ الإمام، ولم يتذكر يوماً خشع فيه من قراءة القرآن، من السلف من قتل ومات بآية، تعرف ما هذا الآية؟

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16] أي قلوب هذه؟ قلوب ملأتها الدنيا، وفتن الدنيا، حتى أصبحت تكبر وكأنها ما كبرت، بل جاءني أحد الناس يشتكي يوماً من الأيام -ولن أنسى هذا السؤال- يقول: والله أفكر في المعصية حتى في السجود، حتى في السجود أقرب ما يكون العبد من ربه، أي قلب هذا؟ بل أي هم هذا؟

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16].

ألا يأتيك هم -أخي الكريم- أنك يوماً من الأيام سوف تكون طريح الفراش.

الحسن البصري يدخل يوماً من الأيام على البيت، فيقول له أهله: يا أبا سعيد! العشاء، فيقول: كلوا عشاءكم، فيقولون له: يا أبا سعيد! برد العشاء، فيقول لهم: كلوا عشاءكم، فقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه، رأيت رجلاً يحتضر: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99].

لا تقل أخي الكريم! أنا أصبحت أفضل من غيري، والحمد لله عندي بعض الأعمال الصالحة، عند الممات يتبين كل شيء، ويظهر ما في القلب، همك الذي يشغلك سوف تتلفظ به عند الموت، بل يخرج الله عز وجل السرائر: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9].

إن لم يكن في الموت، فعند اللقاء عند الله جل وعلا، رجل قلبه يتعلق بأمرد صبي، فلما حانت ساعة وفاته قال:

أسلم يا راحة العليل     ويا شفاء المدنف في النحيل

رضاك أشهى إلى فؤادي     من رحمة الخالق الجليل

فقالوا له: اتق الله، ماذا تقول؟ أخرج الله ما في قلبه، إن كان حب مردان، أو أموال، أو تجارات وعقارات، أو أثاث، أو فتن الدنيا، أو تعلق قلبه ببيت أو سيارة أو أولاد أو زوجات، فسوف يظهر الله ما في قلبه حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] عند الممات يقولها لكن هل تنفعه؟! ولتتخيل أخي الكريم تلك اللحظات التي فيها تنازع الموت، تخيل ولعلها تكون الليلة الأخيرة هذه، وسل نفسك هل أنت مستعد لهذه اللحظات؟ أم أن ملك الموت سوف يطرق عليك الباب، أو يستأذن منك قبل أن ينزع الروح منك؟ أم أنك يا عبد الله سوف يؤخرك الله حتى ترجع الأمانات إلى أهلها، وتتوب من بعض المعاصي التي بينك وبين الله، لا يعلم عنها إلا الله جل وعلا؟

ولهذا الإمام أحمد لما أشغله هذا الهم، وأقلقه ذلك الهم، يوم من الأيام جاءه رجل فقال له شعراً، فقام الإمام أحمد من مجلسه، وكان حوله التلاميذ والأصحاب، فدخل في غرفة وأغلق الباب، فانتظروه فتأخر، فاقترب أحدهم يستمع إلى الإمام أحمد خلف الباب، يردد الشعر نفسه وهو يبكي:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل     خلوت ولكن قل علي رقيب

لا تقل: ما في أحد، أغلقت الباب، ويفتح التلفزيون وينظر، ما في أحد؟

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل     خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة     ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

لهونا لعمر الله حتى تتابعت     ذنوب على آثارهن ذنوب

فيا ليت أن الله يغفر ما مضى     ويأذن في توباتنا فنتوب

عمر بن الخطاب، انظر إلى الهم الذي أشغله، يقال: كان يُرى في وجهه خطان أسودان من البكاء.

أخي الكريم: كانوا لا ينامون الليل من الهم الذي يقلقهم، حتى كان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل كله بآية، وهي قوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] يرددها ويبكي، ليلة من الليالي تقوم عائشة فتسمع النبي صلى الله عليه وسلم في الليل يبكي، فتقترب فإذا هو في السجود، تعرف ماذا يقول؟

يقول: (اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي) انظر الهم الذي يقلقهم.