عنوان الفتوى : سبب اختلاف الفقهاء في القدر المجزئ من مسح الرأس
أعلم أن أبا حنيفة والشافعي أجازا مسح بعض الرأس في الوضوء في الثابت من مذهبهما, فأريد أن أعرف ما استدلوا به من أحاديث، وصحتها، وأفعال أو أقوال، دون رأي من سيادتكم، لكي يكون الأمر حياديًّا قدر الإمكان.
وأعلم أيضا أنه قد يكون مسح الرأس كله أولى بالصواب، وخروجا من الخلاف. ولكن أريد أدلة كل مذهب منهما، وأدلة المذاهب الأخرى. وأشكركم على الفائدة العظيمة، والجهود الواضحة لسيادتكم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فينبغي الرجوع الى مظان هذه المسألة في كتب الفقهاء حتى تقف على أدلة الفريقين، ولكن للفائدة ننقل لك كلام ابن رشد في سبب اختلاف الفقهاء في القدر المجزئ من مسح الرأس.
قال في بداية المجتهد: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ مِنْهُ. فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُهُ كُلُّهُ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَسْحَ بَعْضِهِ هُوَ الْفَرْضُ، وَمِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ مَنْ حَدَّ هَذَا الْبَعْضَ بِالثُّلُثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّهُ بِالثُّلُثَيْنِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَحَدَّهُ بِالرُّبُعِ، وَحَدَّ مَعَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْيَدِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْمَسْحُ، فَقَالَ: إِنْ مَسَحَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ لَمْ يُجْزِهِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَمْ يَحُدَّ فِي الْمَاسِحِ وَلَا فِي الْمَمْسُوحِ حَدًّا.
وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي الْبَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا مَرَّةً تَكُونُ زَائِدَةً مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ " تُنْبِتُ " بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ مِنْ " أَنْبَتَ "، وَمَرَّةً تَدُلُّ عَلَى التَّبْعِيضِ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَخَذْتُ بِثَوْبِهِ وَبِعَضُدِهِ، وَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ (أَعْنِي كَوْنَ الْبَاءِ مُبَعِّضَةً) وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ.
فَمَنْ رَآهَا زَائِدَةً أَوْجَبَ مَسْحَ الرَّأْسِ كُلِّهِ; وَمَعْنَى الزَّائِدَةِ هَاهُنَا كَوْنُهَا مُؤَكِّدَةً، وَمَنْ رَآهَا مُبَعِّضَةً أَوْجَبَ مَسْحَ بَعْضِهِ. وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ هَذَا الْمَفْهُومَ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. اهـ
وقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وَكَانَ مَعْقُولًا فِي الْآيَةِ أَنَّ مَنْ مَسَحَ مِنْ رَأْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَلَمْ تَحْتَمِلْ الْآيَةُ إلَّا هَذَا وَهُوَ أَظْهَرُ مَعَانِيهَا، أَوْ مَسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ، وَدَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى أَنْ لَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ مَسْحُ الرَّأْسِ كُلِّهِ، وَإِذَا دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَنْ مَسَحَ شَيْئًا مِنْ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ .....(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ. اهـ من كتاب الأم.
وراجع الفتوى: 222718. وما أحالت عليه.
والله أعلم.