شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين, ورضي الله عن الصحابة أجمعين, وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً, وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك, سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فكنا نتدارس باب ما جاء في فضل الطهور، وهو من أبواب الطهارة من جامع الإمام الترمذي عليه رحمات رب العالمين، وقد أورد في هذا الباب حديثاً عن أبي هريرة رضي الله عنه, ساقه من طريق شيخيه إسحاق بن موسى الأنصاري وقتيبة بن سعيد رحمهما الله.

ولفظ الحديث عن نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء, فإذا غسل يديه خرجت كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب ). قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

وبعد أن تدارسنا ما يتعلق برجال الإسناد انتقلنا إلى مدارسة المبحث الثاني في فقه الحديث وبيان معناه، وقلت: سنتدارس أمرين اثنين في فقهه ومعناه:

الأمر الأول: في الخطايا التي تكفر بالوضوء والطاعة.

والأمر الثاني: في كيفية خروج الخطايا والذنوب من بدن المتوضئ المتطهر.

أما الأمر الأول: فتدارسنا قسماً كبيراً منه فيما مضى, ولعلنا أن ننتهي منه في هذه الموعظة.

تقدم معنا أن الذنوب تنقسم إلى قسمين اثنين: ذنوب بين العبد وربه جل وعلا, وذنوب بينه وبين عباد الله جل وعلا، وهو المسمى بحقوق العباد.

والتقصير الذي يجري من الإنسان في حق الرحمن ينقسم ثلاثة أقسام: قسم لا يغفر ولا يكفر بالاتفاق وهو الشرك والكفر, فلابد من التوبة عنه والإقلاع عنه, والله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

وقسم آخر, وهو: الصغائر, وتقدم معنا أن الصغائر تكفر بالطاعات باتفاق أئمة الناس, فمن اجتنب الموبقات وفعل الطاعات فإنه تغفر له الصغائر إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]. وهذان الأمران كما تقدم معنا لا خلاف فيهما. ‏

بقي معنا القسم الثالث ألا وهو الكبائر, وقلت: تعريف الكبيرة: كل ذنب فيه حد مقدر في هذه الحياة أو وعيد شديد بعد الممات، فمن فعل هذا الذنب الكبير هل يكفره بطاعة الله الجليل إذا توضأ وصام وصلى وحج واعتمر وجاهد, هل يكفر عنه هذا الذنب الكبير؟ هذا ما كنا نتدارسه.

وقد تقدم معنا مع الأدلة أن المعتمد عند أهل السنة وهذا قول الجمهور وهو الحق أنه لا بد من توبة من الكبائر من أجل مغفرتها وتكفيرها, فالطاعات لا تغفر بها الكبائر ولا تكفرها ولا تسقطها, إذ لا بد من توبة صادقة بين العبد وبين ربه جل وعلا.

وقلت: إنه ورد عن بعض علمائنا الكرام أن الكبائر تغفر بطاعة الرحمن، من الوضوء والصلاة والحج وسائر الطاعات التي يقوم بها الإنسان, وبينت أدلة هذا القول, وقلت مع صحتها -أي الأدلة- وصراحتها على المطلوب و( أن من صام رمضان غفر له ما تقدم من ذنبه ) بل وما تأخر, وهكذا ( من قام رمضان ), وهكذا ( من قام ليلة القدر ), وهكذا ( من حج خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) وغيرها من الأحاديث صحيحة، مع أنها تدل دلالة واضحة على ذلك، لكن قلنا: الشأن في توجيه هذه الأحاديث وفهمها على حسب نصوص الشريعة الأخرى، فهذه عدة من ربنا الكريم بمغفرة الذنوب للإنسان إذا حج وصام وقام رمضان وقام ليلة القدر.

وهذه العدة مقيدة بوجود شروط وانتفاء موانع, فإذا وجدت شروط الطاعات -لتكون مقبولة- من توبة إلى الله، وإنابة إليه، فالله جل وعلا يغفر ما سلف من عبده من الموبقات والكبائر التي بينه وبين ربه جل وعلا وأما إذا لم يتب منها فهو ظالم.

وهذه الطاعة من صلاة أو حج أو صدقة لا زال فيها نقص، وهل قبلت منه أو لا؟ العلم في ذلك عند الله؛ فالصلاة إذا ما نهتك عن الفحشاء والمنكر فإنها لا تزيدك من الله إلا بعداً، والحج إذا لم يصدر من تقي, والله لا يتقبل العمل إلا من المتقين, والذي يصر على معصية رب العالمين فليست فيه هذه الصفة.

ولذلك قلنا: لابد من أن يتوضأ الإنسان كما أمر, وأن يصلي كما أمر, وأن يحج ويعتمر كما أمر، وتحقيق كل هذا لا يكون إلا بتوبة صادقة مخلصة لله جل وعلا, فمن تاب وفعل الطاعات فإنه تغفر له الموبقات, فرحمة الله واسعة, فمن يشرب الخمر -نسأل الله العافية- ويزني ويفعل كثيراً من المنكرات ثم تاب إلى الله وصام وصلى وحج فإنه حتماً له ضمان عند الله بأنه يغفر له ذنوبه, ورحمته واسعة, وهو أكرم الأكرمين, وهو رب العالمين سبحانه وتعالى.

وعليه، تلك الأحاديث -كما قلت- صحيحة, وتدل على أن الذنوب تغفر, لكن هذه الدلالة مقيدة بما لو وجدت الطاعات بالكيفية التي يحبها رب الأرض والسماوات, إذا ما تاب الإنسان وفعل الطاعات.

وهل سيعذب على الموبقات التي لم يتب منها؟

قطعاً وجزماً أنه ستقع المقاصة, فلو قدر أن السيئات بقيت بعد المقاصة, والحسنات انتهت هل سيعذب؟

أمر هذا إلى الله جل وعلا ليس لأحد من خلقه، وهو تحت مشيئته إن شاء عذبه, وهذا عدل من رب العالمين, وإن شاء غفر له وهذا فضل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فلا نجزم بوقوع العقوبة عليه, بل نقول: استحق العقوبة وتأهل لوقوعها عليه, لكن هل سيعاقب أو لا؟ هذا مرده إلى رب العالمين، الذي لا يسأل عما يفعل والعباد يسألون عن كل تصرفاتهم، فإن غفر فمن يمنعه؟! وهو الرحمن الرحيم، وإن عذب فبعد إقامة الحجة وقطع العنق, ولا يظلم ربك أحداً سبحانه وتعالى.

وبعد فهذا خلاصة ما تقدم معنا من تقرير وكلام حول الصغائر والكبائر، وعلى هذا التفصيل تصبح الذنوب أربعة أقسام: حقوق العباد وسيأتي تفصيلها، والشرك لا يغفر، والصغائر تغفر، والكبائر المعتمد أنه لابد لها من توبة.

أما التبعات وهي: حقوق العباد وظلمهم فيما يتعلق بأبدانهم وأموالهم وأعراضهم، فإذا ظلم الإنسان غيره بأن ضربه أو قتله أو سرق ماله أو أكل حقه أو تكلم عليه وشتمه وسبه، فهذه تبعات وكلها حقوق العباد, فهل تغفر وتكفر بالطاعات والحج والصيام وقيام ليلة القدر وقيام ليال رمضان والوضوء والصلاة؟

إذا كانت الكبائر التي بينك وبين الله لا تغفر إلا بتوبة، فمن باب أولى حقوق العباد لا تغفر إلا بتوبة.

ومن شروط التوبة في هذا الباب أن ترد المظالم والحقوق إلى أصحابها؛ لأن التوبة إذا كانت من معصية بينك وبين ربك كشرب خمر مثلاً وترك طاعة واجبة، فالواجب في التوبة أن تقلع عن ذلك الذنب, وأن تعزم ألا تعود, وأن تندم على ما صدر منك, ورحمة الله واسعة بعد ذلك.

وأما إذا كانت المعصية متعلقة بينك وبين العباد فهذه الثلاث لابد منها: أن تقلع وتندم وتعزم على عدم ظلم العباد، ثم ترد الحقوق إلى أصحابها، وتسترضيهم وتمكنهم من القصاص إذا قتلتهم أو من إقامة حد القذف عليك إذا قذفتهم, أو من رد للأموال إذا ظلمتهم في أموالهم، هذا لابد منه، وبدونه لم تحصل التوبة النصوح الصادقة.

نقل عن بعض أئمتنا أن الطاعات تكفر صغائر السيئات وكبائر الخطايا والموبقات, وتكفر أيضاً التبعات أي: حقوق الناس ورحمة الله واسعة.

وظاهر ما تقدم نقله من كلام ابن حزم وابن تيمية وكلام ابن المنذر وما يشير إليه كلام الإمام أحمد على وجه العموم أن طاعة الوالدين وبرهما يكفر الكبائر مطلقاً وما قيد هذا بحق العباد.

فظاهر ما تقدم من نقل يشمل الكبائر المتعلقة بينك وبين ربك, وبينك وبين عباده، وانضاف إلى ذلك كلام سفيان بن عيينة أيضاً حيث قال: طاعة الصيام تكفر المعاصي بأسرها سواء كانت بينك وبين ربك أو بينك وبين خلقه.

وهذا القول ذكره الحافظ ابن حجر , وأريد أن أذكر أدلته, وأوضح هذه الأدلة؛ لنكون على بينة من أمرنا إن شاء الله.

قال الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح في الجزء الثالث صفحة ثلاث وثمانين وثلاثمائة عند شرح الحديث المتعلق بفضل الحج: ( من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) ( خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، وقد تقدم معنا الحديث وتخريجه, وهو في أعلى درجات الصحة.

يقول الحافظ : ( رجع كيوم ولدته أمه ) أي: بغير ذنب, كما يولد الإنسان ليس عليه عيب من العيوب ولا خطيئة من الخطايا.

يقول: وظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر والتبعات، وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك, وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

حديث العباس بن مرداس رواه ابن ماجه في سننه, وهو في الجزء الثاني صفحة اثنتين بعد الألف، ورواه البيهقي في السنن في الجزء الخامس صفحة مائة وثمانية عشرة، ورواه الإمام أحمد في المسند في الجزء الرابع صفحة عشرة، ورواه البيهقي أيضاً في البعث والنشور، ولفظه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة عند غروب الشمس ), والناس سيفيضون إلى مزدلفة دعا نبينا عليه الصلاة والسلام وهو بنا رءوف رحيم، دعا لأمته عشية عرفة, وهي الحجة الوحيدة التي حجها نبينا عليه الصلاة والسلام, دعا لأمته من كان منهم معه ومن يأتي إلى يوم القيامة, ولنا في هذا الدعاء نصيب كبير ( فأجيب: أني قد غفرت لهم ما عدا المظالم ) أي: أغفر لأمتك الكبائر والصغائر إلا المظالم, فهذه لابد من استيفاء حقوق أصحابها، لابد من ذلك: ( فإني آخذ للمظلوم منه ) أي: آخذ للمظلوم حقه من الظالم الذي ظلمه.

قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ( أي رب! إن شئت أعطيت المظلوم الجنة ) ويربح حقيقة عندما يعفو عن الظالم، يعني: لو قلت للمظلوم: تدخل الجنة إن تعف عمن ظلمك؟ فإنه يقول: أعفو عنه وأقبل رجليه وأدخلوني الجنة.

النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أي رب! إن شئت أعطيت المظلوم الجنة وغفرت للظالم )؛ ولأن رحمتك واسعة فسترضي المظلوم وتغفر الظالم؛ ولأن الحق يبقى بينك وبينه, أي: أنت تضمن هذه الظلامة, وتتحملها فترضي المظلوم وتعطيه مقابل مظلمته جنتك, التي فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, فتعطي المظلوم هذا ثم تغفر للظالم, فأنت أرحم الراحمين, وأكرم الأكرمين.

( فلم يجب )، أي: ما أجابه الله فيه، ( فلما أصبح بمزدلفة أعاد النبي عليه الصلاة والسلام سؤاله فدعا لأمته فأجيب إلى ما سأل، أن الله يغفر لأمته الصغائر والكبائر والتبعات المظالم، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: تبسم فقال له أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها ) نزلنا الآن وأفضنا من عرفات في المشعر الحرام وهذا مكان عبادة وسعي وحركة وسنذهب إلى منى فهذه ساعة ليس من عادة الإنسان أن يضحك فيها، فما الذي أضحكك؟

فقال عليه الصلاة والسلام: ( إن عدو الله إبليس لما علم أن الله استجاب دعائي, وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه, ويدعو بالويل والثبور, فأضحكني ما رأيت من جزعه )، رواه ابن ماجه عن عبد الله بن كنانة بن العباس بن مرداس أن أباه أخبره عن أبيه.

تخريج حديث العباس بن مرداس: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة ...

والحديث في إسناده ضعف ففيه راويان مجهولان عبد الله بن كنانة مجهول كما قال الحافظ في التقريب, وهو من رجال أبي داود وابن ماجه , ووالده كنانة بن العباس بن مرداس أيضاً مجهول, فالحفيد والأب مجهولان والعباس بن مرداس صحابي.

يقول الإمام المنذري : ورواه البيهقي ولفظه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء, فأوحى الله إليه أني فعلت إلا ظلم بعضهم بعضاً, وأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها، فقال: يا رب! إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خيراً من مظلمته, وتغفر لهذا الظالم فلم يجبه تلك العشية, فلما كان غداة مزدلفة أعاد الدعاء فأجابه الله: أني قد غفرت لهم، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له بعض أصحابه: -وهم أبو بكر وعمر خاصة أصحابه رضي الله عنهم أجمعين- يا رسول الله! تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها, قال: تبسمت من عدو الله إبليس, إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثو التراب على رأسه ) رواه البيهقي من حديث ابن كنانة المتقدم عبد الله بن كنانة عن كنانة عن العباس بن مرداس رضي الله عنه.

وخرج لهما أبو داود لكن غير هذا الحديث، فهذا الحديث لا يوجد في سنن أبي داود .

يقول الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة مائتين واثنتين: رواه البيهقي من حديث ابن كنانة بن العباس بن مرداس السلمي ولم يسمه -يعني ابن كنانة - واسمه عبد الله ولم يسمه عن جده العباس .

ثم قال -أي البيهقي -: وهذا الحديث له شواهد كثيرة, وقد ذكرناه في كتاب البعث, فإن صح بشواهده ففيه الحجة على أن الله يغفر الصغائر والكبائر والتبعات, إن صح بهذه الشواهد مع وجود مجهولين في هذا الإسناد وهو يثبت إذا ما شهد له, وسأذكر بعض الشواهد، فإن صح بشواهده ففيه الحجة, وإن لم يصح فإنه يكون ضعيفاً.

ولا تظنوا أننا نقضنا أمراً معلوماً من الدين بالضرورة أو خالفنا شريعة محكمة، لا، فإن الله يقول: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وظلم العباد بعضهم بعضاً دون الشرك، هذا هو مدلول الآية، وليس في ذلك خلاف بنص من نصوص الشريعة المطهرة.

تقوية حديث أنس: (وقف النبي بعرفات وقد كادت الشمس...) لحديث العباس بن مرداس

ومن شواهد الحديث أيضاً لكن بسند ضعيف في كتاب الزهد لـعبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وقد كادت الشمس أن تئوب ) أي: أن تغرب وتجبر، ( فقال: يا بلال ! استنصت لي الناس، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت الناس، فقال: معشر الناس! أتاني جبريل عليه السلام آنفاً فأقرأني من ربي السلام, وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات. فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! هذا لنا خاصة؟ قال: هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب ).

هذا الحديث خلاصة الكلام حوله كما قلت: إسناده ضعيف وفيه مجهولان، لكن إن صح بشواهده ففيه الحجة وإلا فمدلوله لا يخالف أمراً ثابتاً في الشرع، بل نصوص الشرع تشهد له بالجملة، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وظلم العباد بعضهم بعضاً دون الشرك فهو تحت المشيئة، ورحمة الله جل وعلا واسعة.

تقوية حديث ابن عمر: (كنت جالساً...) لحديث العباس بن مرداس

والحديث الثاني الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر ، قال: هذا نص الشاهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك، وله شاهد من حديث ابن عمر عند الطبراني والبزار ، وقال البزار : روي من وجوه، ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق.

ورواه ابن حبان في صحيحه، في صفحة أربعين ومائتين من موارد الضمآن إلى زوائد ابن حبان , ورقم الحديث ثلاث وستون وتسعمائة.

قال الحافظ الهيثمي في المجمع في الجزء الثالث صفحة خمس وسبعين ومائتين: رجال البزار موثقون.

وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة سبعين: هذه طريق لا بأس بها، ورواتها كلهم موثقون.

ولفظ حديث ابن عمر قال: ( كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم بنفسي في منى، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف، فسلما ثم قالا: يا رسول الله! جئنا نسألك، فقال: إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت )، أي: قبل أن تسألا أنا أخبركما ما الذي جئتما تسألان عنه، وإن شئتما أن أنصت وتسألاني فعلت، فأنتما بالخيار، ( فقالا: أخبرنا يا رسول الله! ) أي: أخبرنا عن أسئلتنا وأجب عليها، والله جل وعلا يطلع نبيه عليه الصلاة والسلام على غيبه، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:26-28].

( فقال الثقفي للأنصاري: سل, فقال: أخبرني يا رسول الله! ) يعني: أخبرني عن الأسئلة التي جئت أسأل عنها.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( جئت تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام وما لك فيه) أي: تقصد من بيتك بيت الله الحرام، وما لك في هذا الطريق من أجر ( وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما، وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك فيه، وعن نحرك وما لك فيه، وعن حلقك رأسك وما لك فيه، وعن طوافك بعد وما لك فيه ) طواف الإفاضة، وفي رواية: ( وعن حلقك رأسك مع طوافك وما لك فيه )، يعني: الحلق بعد طواف الإفاضة وما لك فيه؟

فقال: ( والذي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسأل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفاً ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة )، فكل خطوة من بيتك إلى بيت الله الحرام يكتب لك حسنة، وتحط عنك خطيئة، ( وأما ركعتاك بعد الطواف فهما كعتق رقبة من بني إسماعيل )، - ( ومن أعتق رقبة أعتقه الله من النار )- ( وأما طوافك بالصفا والمروة فكعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله يهبط إلى السماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة، يقول: عبادي جاءوني شعثاً من كل فج عميق يرجون رحمتي )، وفي رواية: ( يرجون جنتي ولو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمذخور ) يعني: مخبأ ومدخر لك عند الله ويكون لك ذخراً، ( فمذخور لك عند ربك، وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة ويمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما يستقبل فقد غفر لك ما مضى ).

رواه الطبراني في الكبير والبزار واللفظ له، وقال: قد روي هذا الحديث من وجوه, ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق، وقال الهيثمي -كما ذكرت لكم- في المجمع رجال البزار موثقون، ورواه ابن حبان في صحيحه كما سبق.

والحافظ الهيثمي عليه رحمة الله في صنيعه في الترغيب والترهيب يقضي بتحسين الحديث، وقد صدره بلفظ: (عن) ثم تكلم في آخر الحديث بما يشير إلى ثبوته، فلا نعلم له أحسن من هذا الطريق.

قال المنذري : وهذه طريق لا بأس بها، رواتها كلهم موثقون، وقد رواه ابن حبان في صحيحه.

إذاً: حديث ابن عمر يشهد لحديث العباس بن مرداس ، والحديث المتقدم ( من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه )، يشهد لحديث العباس بن مرداس .

تقوية قول ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين) لحديث العباس بن مرداس

ووجد أيضاً شاهد آخر يشهد لهذا عن ابن عباس رضي الله عنهما, وإسناد الحديث فيه ضعف لكن الشواهد إذا كثرت تتعاضد، رواه الطبري في تفسيره في الجزء الرابع صفحة ثلاث وعشرين ومائتين، من الصفحة التي حققها الشيخ أحمد شاكر وهي في تفسير قول الله: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا قضيت حجك فأنت مثل ما ولدتك أمك )، كلفظ الحديث المتقدم معنا ( رجع كيوم ولدته أمه ) وكحديث ابن عمر ، وحديث العباس بن مرداس رضي الله عنهم أجمعين.

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الأحاديث هو أحد احتمالين معتبرين قويين في تفسير قول الله جل وعلا: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، بعد يوم النحر من أيام التشريق، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، هذا في المبيت في منى والبقاء فيها، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].

إذاً: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، الآية تحتمل قولين اثنين: أي: ليس عليه ذنب ولا قصور إذا كان تقياً، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، ( يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).

وتحتمل الآية معنىً ثانياً وهو: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، ولا ذنب في تعجله أي في نفسه بذهابه إلى أهله إذا طاف طواف الإفاضة وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، أيضاً: ولا ذنب في تأخره، وكأن الله يقول: الأمران مستويان، إن شئت أن تتعجل بعد إتمام اليومين، وإن شئت أن تبقى إلى اليوم الثالث بعد يوم النحر، فأنت مخير، كلاهما لا إثم عليك في فعله ولا حرج عليك، بشرط أن تتقي محذورات الحج، وإذا بقيت في منى, وإن كنت محرماً فلا تتعرض للطيب ولا لغيره انتبه لهذا، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، المحذورات؛ لأن الحج لا زال هناك شيء من شعائره، وهو أن من مناسكه الرمي، وبعد ذلك عليك طواف الوداع إن كنت قد طفت طواف الإفاضة.

وعلى كل حال لا إثم عليه في تعجله ونفره، ولا إثم عليه في تأخره وبقائه. وعلى القول الأول في تفسير الآية: لا إثم عليه أي: خرج من ذنوبه، ثم تحتمل الآية معنيين:

الأول: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، أي: إذا حج وكان متقياً في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه، فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه أيضاً، لكن بشرط حصول التقوى من الحاج، فإذا كان متقياً لربه سقطت عنه جميع الذنوب، ولا إثم عليه.

وهذا التفسير منقول عن علي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس في أسانيد صحيحة رضي الله عنهم أجمعين، أنه من تأخر أو من تعجل كلهم غفرت ذنوبه بشرط أن يحج لله ( فلا يرفث ولا يفسق )، كمدلول الحديث، ونقل عن جم غفير من التابعين، عن مجاهد وعن إبراهيم النخعي وعن عامر الشعبي وعن معاوية بن قرة رضي الله عنهم أجمعين.

والآية تحتمل معنىً ثانياً على القول الأول: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، قالوا: لمن اتقى المحذورات التي منعه الله من فعلها فيما بقي من عمره، أي: عاد تقياً، فإذا عاد تقياً فما تقدم منك غفر, ورحمة الله واسعة، لكن بشرط فهذه مغفرة مقيدة بقيد: وهو أن لا تعود إلى المحذورات وإلى المحرمات وإلى الخطايا، فإذا أسأت بعد مغفرتك تؤاخذ بما كان قبل حجك وما كان بعده.

وهكذا إذا أسلم الإنسان وحسن إسلامه يكفر الله عنه كل خطيئة عملها ومضت، وهذا يعني أنه يغفر له ما تقدم، وإذا أساء بعد ذلك فإنه يحاسب على ما تقدم وعلى ما تأخر؛ لأن هذه المغفرة ينبغي أن يحافظ عليها, وأن لا يفرط فيها، فغفر ما تقدم يعني التزم طاعة الله جل وعلا.

فإذا أحسن الإنسان في الإسلام يغفر له ما تقدم، وإذا أساء في الإسلام يعاقب بعد ذلك على الإساءات التي جرت منه. وهنا كذلك هذه التوبة، غفر لك بشرط أن يلازم التقوى في المستقبل، وهذا التفسير الثاني منقول عن أبي العالية وعن إبراهيم النخعي أيضاً.

وعليه: خلاصة معنى الآية: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، أي: يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهذه الآية تحتمل أمرين: تحتمل إذا اتقى الله في حجه، وتحتمل إذا لازم التقوى فيما بقي من عمره، والأمران متلازمان، فمن اتقى الله في حجه فإنه سيحفظ من المعاصي، ولو قدر أنه وقع فيما لا تنفك عنه طبيعة البشرية والجبلة الإنسانية فإنه يكون مغفوراً مكفراً عنه كما تقدم معنا في توجيه الأحاديث في مغفرة الذنوب المتقدمة والمتأخرة، إنما لابد من هذين الأمرين، تقواه في فعل الحج، فإن قبل الحج فيترتب عليها تقواه بعد الحج، وهذا علامة القبول أن يكون حالك بعد الحج كما يحبه الله، فهذا دليل قبول الحج، وإذا لم يقبل فإنك تعود بعد الحج كما كنت أو أسوأ مما كنت، ونسأل الله العافية وحسن الخاتمة.

والمعنى الثاني للآية: فلا إثم عليه في تعجله ونفره، ولا إثم عليه في تأخره وبقائه، هذا معنى الآية الثاني.

إذاً: هذه الآية أيضاً تشهد لحديث العباس بن مرداس وابن عمر وابن عباس والأحاديث المتقدمة؛ لأن الذنوب تغفر إذا فعل الإنسان طاعة وقبلها الله جل وعلا منه.

تقوية حديث أنس في قضاء الله بين المتخاصمين يوم القيامة لحديث العباس بن مرداس

وروي أيضاً حديث عن أنس -وسبق مروياً عنه- لكنه ضعيف، ورد في مستدرك الحاكم في الجزء الرابع صفحة ست وسبعين وخمسمائة، وصححه، وقد تعقبه الإمام الذهبي ؛ لأن فيه عباداً وهو ضعيف، وشيخه لا يعرف.

ورواه الإمام ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن كما ذكر ذلك الإمام شيخ الإسلام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء الرابع صفحة خمسمائة وسبعة، ورواه أيضاً أبو يعلى والبيهقي في البعث.

ولفظ حديث أنس رضي الله عنه كما في مستدرك الحاكم قال: ( بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر : ما أضحكك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي قال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة, فقال أحدهما: رب خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله تعالى للطالب: فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء )، أنت أخذت حقوقك منه، والحسنات التي عنده كلها أخذتها، ثم تطالبه وما بقي عنده حسنات، وأنت لك عليه حقوق فأخذت لك من حقوقه جميع حسناته حتى نفذت حسناته وبقيت لك حقوق وأنت تطالب، ما العمل؟ ( فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا رب! فليحمل من أوزاري )، يوجد حل وأنت الحكم العدل، حسناته ما وفت فليتحمل أوزاري؛ لأكون نقياً, وهذه الحسنات تزيد في رفعتي وعلو درجتي عندك، قال: ( وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبكاء عند ذلك )، حسناته انتهت فما العمل؟ قال: سنأخذ من أوزاره، ثم قال: ( إن ذلك اليوم عظيم، يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب المظلوم ) الذي ظلم من قبل هذا الظالم ( ارفع رأسك فانظر في الجنان, فرفع رأسه فقال: يا رب! أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا؟ أو لأي صديق هذا؟ أو لأي شهيد هذا؟.. لكن الله يصلح بين المسلمين )، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

علق عليه الإمام الذهبي في تخليص أحاديث المستدرك قائلاً: قلت: عباد ضعيف، وهو عباد بن شيبة الحبطي ، ويقال: عباد بن الزبير روى عن سعيد بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه هذا الحديث، وروى عن غير سعيد بن أنس .

وقال عنه في الميزان وتبعه الحافظ في اللسان في الجزء الثالث صفحة ثلاثين ومائتين: ضعيف.

وعلى كل حال لم يصل الضعف فيه إلى درجة الترك والنكارة, ومن باب أولى إلى درجة الترك.

وقال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به من المناكير، وإذا كان الحديث منكراً حقيقة، فأحاديث كثيرة صحيحة وضعيفة تشهد له في الجملة، ومنها الذي تقدم معنا ( رجع كيوم ولدته أمه )، وقول الله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

وأما سعيد بن أنس لأنه يقول: عباد ضعيف وشيخه لا يعرف، وهو سعيد بن أنس الراوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال الحافظ في اللسان وأصل الكلام للذهبي في الميزان : سعيد بن أنس عن أنس بن مالك في المظالم، أي: روى حديثاً في المظالم وهو هذا، لا يتابع عليه.

قال العقيلي : عصري مجهول، وذكره ابن حبان في الثقاة، وقال: روى عنه عباد بن شيبة الحبطي الذي تقدم معنا.

هذا حديث من ناحية الإسناد ضعيف، لكن وجد ما يشهد له من أصول الشرع وقواعده كما يقال في الجملة.

والحديث في إسناده ضعف ففيه راويان مجهولان عبد الله بن كنانة مجهول كما قال الحافظ في التقريب, وهو من رجال أبي داود وابن ماجه , ووالده كنانة بن العباس بن مرداس أيضاً مجهول, فالحفيد والأب مجهولان والعباس بن مرداس صحابي.

يقول الإمام المنذري : ورواه البيهقي ولفظه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء, فأوحى الله إليه أني فعلت إلا ظلم بعضهم بعضاً, وأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها، فقال: يا رب! إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خيراً من مظلمته, وتغفر لهذا الظالم فلم يجبه تلك العشية, فلما كان غداة مزدلفة أعاد الدعاء فأجابه الله: أني قد غفرت لهم، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له بعض أصحابه: -وهم أبو بكر وعمر خاصة أصحابه رضي الله عنهم أجمعين- يا رسول الله! تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها, قال: تبسمت من عدو الله إبليس, إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثو التراب على رأسه ) رواه البيهقي من حديث ابن كنانة المتقدم عبد الله بن كنانة عن كنانة عن العباس بن مرداس رضي الله عنه.

وخرج لهما أبو داود لكن غير هذا الحديث، فهذا الحديث لا يوجد في سنن أبي داود .

يقول الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة مائتين واثنتين: رواه البيهقي من حديث ابن كنانة بن العباس بن مرداس السلمي ولم يسمه -يعني ابن كنانة - واسمه عبد الله ولم يسمه عن جده العباس .

ثم قال -أي البيهقي -: وهذا الحديث له شواهد كثيرة, وقد ذكرناه في كتاب البعث, فإن صح بشواهده ففيه الحجة على أن الله يغفر الصغائر والكبائر والتبعات, إن صح بهذه الشواهد مع وجود مجهولين في هذا الإسناد وهو يثبت إذا ما شهد له, وسأذكر بعض الشواهد، فإن صح بشواهده ففيه الحجة, وإن لم يصح فإنه يكون ضعيفاً.

ولا تظنوا أننا نقضنا أمراً معلوماً من الدين بالضرورة أو خالفنا شريعة محكمة، لا، فإن الله يقول: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وظلم العباد بعضهم بعضاً دون الشرك، هذا هو مدلول الآية، وليس في ذلك خلاف بنص من نصوص الشريعة المطهرة.

ومن شواهد الحديث أيضاً لكن بسند ضعيف في كتاب الزهد لـعبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وقد كادت الشمس أن تئوب ) أي: أن تغرب وتجبر، ( فقال: يا بلال ! استنصت لي الناس، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت الناس، فقال: معشر الناس! أتاني جبريل عليه السلام آنفاً فأقرأني من ربي السلام, وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات. فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! هذا لنا خاصة؟ قال: هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب ).

هذا الحديث خلاصة الكلام حوله كما قلت: إسناده ضعيف وفيه مجهولان، لكن إن صح بشواهده ففيه الحجة وإلا فمدلوله لا يخالف أمراً ثابتاً في الشرع، بل نصوص الشرع تشهد له بالجملة، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وظلم العباد بعضهم بعضاً دون الشرك فهو تحت المشيئة، ورحمة الله جل وعلا واسعة.

والحديث الثاني الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر ، قال: هذا نص الشاهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك، وله شاهد من حديث ابن عمر عند الطبراني والبزار ، وقال البزار : روي من وجوه، ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق.

ورواه ابن حبان في صحيحه، في صفحة أربعين ومائتين من موارد الضمآن إلى زوائد ابن حبان , ورقم الحديث ثلاث وستون وتسعمائة.

قال الحافظ الهيثمي في المجمع في الجزء الثالث صفحة خمس وسبعين ومائتين: رجال البزار موثقون.

وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة سبعين: هذه طريق لا بأس بها، ورواتها كلهم موثقون.

ولفظ حديث ابن عمر قال: ( كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم بنفسي في منى، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف، فسلما ثم قالا: يا رسول الله! جئنا نسألك، فقال: إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت )، أي: قبل أن تسألا أنا أخبركما ما الذي جئتما تسألان عنه، وإن شئتما أن أنصت وتسألاني فعلت، فأنتما بالخيار، ( فقالا: أخبرنا يا رسول الله! ) أي: أخبرنا عن أسئلتنا وأجب عليها، والله جل وعلا يطلع نبيه عليه الصلاة والسلام على غيبه، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:26-28].

( فقال الثقفي للأنصاري: سل, فقال: أخبرني يا رسول الله! ) يعني: أخبرني عن الأسئلة التي جئت أسأل عنها.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( جئت تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام وما لك فيه) أي: تقصد من بيتك بيت الله الحرام، وما لك في هذا الطريق من أجر ( وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما، وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك فيه، وعن نحرك وما لك فيه، وعن حلقك رأسك وما لك فيه، وعن طوافك بعد وما لك فيه ) طواف الإفاضة، وفي رواية: ( وعن حلقك رأسك مع طوافك وما لك فيه )، يعني: الحلق بعد طواف الإفاضة وما لك فيه؟

فقال: ( والذي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسأل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفاً ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة )، فكل خطوة من بيتك إلى بيت الله الحرام يكتب لك حسنة، وتحط عنك خطيئة، ( وأما ركعتاك بعد الطواف فهما كعتق رقبة من بني إسماعيل )، - ( ومن أعتق رقبة أعتقه الله من النار )- ( وأما طوافك بالصفا والمروة فكعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله يهبط إلى السماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة، يقول: عبادي جاءوني شعثاً من كل فج عميق يرجون رحمتي )، وفي رواية: ( يرجون جنتي ولو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمذخور ) يعني: مخبأ ومدخر لك عند الله ويكون لك ذخراً، ( فمذخور لك عند ربك، وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة ويمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما يستقبل فقد غفر لك ما مضى ).

رواه الطبراني في الكبير والبزار واللفظ له، وقال: قد روي هذا الحديث من وجوه, ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق، وقال الهيثمي -كما ذكرت لكم- في المجمع رجال البزار موثقون، ورواه ابن حبان في صحيحه كما سبق.

والحافظ الهيثمي عليه رحمة الله في صنيعه في الترغيب والترهيب يقضي بتحسين الحديث، وقد صدره بلفظ: (عن) ثم تكلم في آخر الحديث بما يشير إلى ثبوته، فلا نعلم له أحسن من هذا الطريق.

قال المنذري : وهذه طريق لا بأس بها، رواتها كلهم موثقون، وقد رواه ابن حبان في صحيحه.

إذاً: حديث ابن عمر يشهد لحديث العباس بن مرداس ، والحديث المتقدم ( من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه )، يشهد لحديث العباس بن مرداس .


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4047 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3907 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3795 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3788 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3772 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3571 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3487 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3466 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] 3419 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3419 استماع