مناهضة أزياء النساء قديما
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
ً
للأستاذ كوركيس عواد
بلغت النساء في عصرنا مبلغاً عظيماً من التفنن في ضروب الملبس وابتكار صنوفه. فأضحينا نرى أو نقرأ بين الفينة والأخرى عن زي جديد يشيع بين طبقات منهن، ثم لا يلبث أن ينقلب أمره فيصبح قديماً مستهجناً في أنظارهن، فيهمل استعماله ويعدل عنه إلى غيره ومثل هذا التقلب بين الأزياء لا يمكننا عده بدعة جديدة أو أمراً مستحدثاً؛ فإن من يتصفح الأسفار القديمة، لا يعتم أن تستوقفه أخبار من هذا القبيل.
وما يلفت الأنظار إليه بوجه خاص، ما كانت تلقاه بعض الأزياء من معارضة واستنكار ممن كانت بأيديهم مقاليد الحكم والتدبير.
وقد وجدنا أحد المؤلفين الأقدمين، وهو ابن الأخوة القرشي الشافعي، المتوفى سنة 729 للهجرة (1328م) ينعى على نساء عصره ما انتهين إليه من سوء الحال في الأزياء المتكلف فيها والتصنع الممقوت في المظهر، كما يبدو من عبارته التالية: (والنساء في هذا المقام أشد تهالكا من الرجال، ولهن محدثات من المنكر أحدثها كثرة الإرفاه والإتراف، وأهمل إنكارها حتى سرت في الأوساط والأطراف.
فقد أحدثن الآن من الملابس ما لا يخطر للشيطان في حساب، وتلك لباس الشهرة التي لا يستتر منها اسبال مرط ولا أدنى جلباب.
ومن جملتها أنهن يعتصبن عصائب كأمثلة الأسنمة، ويخرجن من جهارة أشكالها في الصورة المعلمة) وكانت بعض أزياء النساء قد أصابت مقاومة عنيفة، لما كانت تنطوي عليه من غرابة وتبذل، فعمد أكابر القوم إلى إبطالها بما وسعته طاقتهم وأسعفهم سلطانهم.
ومن الشواهد على ذلك ما رواه ابن إياس في حوادث سنة 751 هـ (1350 م) من أن السلطان الملك الناصر أبا المحاسن حسن بن الملك الناصر محمد بن المملوك المنصور قلاوون (أبطل ما أحدثه النساء من القمصان التي خرجت في كبر أكمامها عن الحد، وأبطل ما أخرجوه من الأزر الحرير والأخفاف الزركش؛ فأشهروا المناداة في القاهرة بإبطال ذلك، فرجعت النساء عن ذلك) ونظير ذلك ما حكاه ابن كثير في أحداث سنة 762 هـ (1360م) أن (في العشر الأوسط من جمادي الآخرة، نادى مناد من جهة نائب السلطنة حرسه الله تعالى في البلد (دمشق)، إن النساء يمشين في تستر، ويلبسن أزرهن إلى أسفل من ثيابهن، ولا يظهرن زينة ولا يداً.
فامتثلن ذلك) ومثله ما رواه شمس الدين محمد بن طولون، عن ناصر الدين ابن شبل المحتسب أنه في سنة 830 هـ (1426 م) (أنكر على النساء لبس الطواقي، ومنعهن، وبالغ حتى أحرق بعض القصع على رؤوسهن بما عليها من المناديل، فامتنع النساء من الخروج) وكانت بعض النساء ينتهزن الفرص للخروج إلى المتنزهات والظهور بأزيائهن المختلفة، بما لا يكون مرضياً في بعض الأحيان؛ فكن يلقين ممانعة من أولي الأمر وامتعاضاً من مسلكهن البعيد عن الاحتشام.
فمن ذلك ما نقله المقريزي في بعض كتبه، واليك كلامه بحرفه: (وقال جامع سيرة الناصر محمد بن قلاوون: وفي سنة ست وسبعمائة (1306)، رسم الأميران بيبرس وسلار بمنع الشخاتير والمراكب من دخول الخليج الحاكمي (خارج القاهرة) والتفرج فيه بسبب ما يحصل من الفساد والتظاهر بالمنكرات اللأتي تجمع الخمر، وآلات الملاهي، والنساء المكشوفات الوجوه، المتزينات بأفخر زينه من كوافي الزركش والقنابيز والحلي العظيم، وينصرف على ذلك الأموال الكثيرة، ويقتل فيه جماعة عديدة.
ورسم الأميران المذكوران أن لمتولي الصناعة بمصر أن يمنع المراكب من دخول الخليج المذكور، إلا ما كان فيه غلة أو متجر أو ما ناسب ذلك.
فكان هذا معدوداً من حسناتهما ومسطوراً في صحائفهما) ومثل هذا الإنكار والمنع شئ كثير في كتب التاريخ والأدب لا يسعنا استقصاؤه في هذه النبذة.
وقد اكتفينا بذكر بعض الأمثلة، لما فيها من فائدة بكونها تطلعنا على بعض أصناف ملابس وأزياء النساء كانت شائعة بين القوم في المائتين السابعة والثامنة للهجرة ولا نريد أن نطيل الكلام الآن على الأوامر الجائرة التي أصدرها الحاكم بأمر الله في هذا الصدد.
فهي في جملتها إجحاف بحقوق النساء وإرهاق لهن، ولم يكن فيها ما يستند إلى عقل ويحتكم إلى منطق، إنما كان ذلك دأبه في غالب أوامره ونواهيه.
من ذلك ما رواه ابن تغرى بردى في حوادث سنة 404 هـ (1014 م) أنه (منع النساء من الخروج من بيوتهن.
وقتل بسبب ذلك عدة نسوة) (بغداد) كوركيس عواد