شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصالحين المصلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فكنا نتدارس الطرق الحسان التي يحصن بها أهل الإيمان أنفسهم من عتاة الجان، وهذه الطرق التي يحصنون بها أنفسهم تنقسم إلى طريقين اثنين:

الأول: طريق ينبغي أن يحصنوا أنفسهم منه، وألا يدخل الشيطان إليهم منه.

والثاني: طريق ينبغي أن يفعلوه، وأن يقوموا به، فالأول: من باب التخلية، والثاني: من باب التحلية.

أما الأول: فتقدم معنا ويدور على سبعة أمور:

أولها: حفظ الخطرات، وثانيها: حفظ اللحظات، وثالثها: حفظ اللفظات، ورابعها: حفظ الخطوات، وخامسها: حفظ السمع الذي هو آلة لسماع الأصوات، وسادسها: أن يحفظ بطنه, وسابعها: أن يحفظ فرجه, فهذه هي الأمور السبعة.

وأما الثاني: فيدور على أمور ثمانية ينبغي أن يقوم بها، وأن يتحلى بها، وأن يفعلها:

الأول: أن يكثر الاستعاذة بالله من الشيطان.

والثاني: أن يكثر من قراءة القرآن.

والثالث: أن يكثر من ذكر الله على الدوام.

والرابع: أن يكثر من الصلاة والسلام على نبينا خير الأنام, عليه صلوات الله وسلامه.

والأمر الخامس: أن يحافظ على الطهارة.

والسادس: أن يلازم الجماعة.

والسابع: أن يبذل ما في وسعه في تحصيل العلم, فهو أربح تجارة.

والثامن: أن يكثر من الصوم ما استطاع, فهو حصن حصين له من الشبهات والشهوات.

مر الكلام على الأمر الأول والثاني والثالث من الأمور السبعة الأولى، وشرعنا في الأمر الرابع ألا وهو حفظ الخطوات.

وقررت ما يتعلق بالخطوات: وأن الإنسان إذا استعمل هذه الخطوات فيما أمر الله به فهنيئاً له, ترفع له الدرجات, وتكفر عنه الخطيئات، وإذا استعملها في غير ذلك فشقاءً له.

وأن كل من يخطو خطوة إما أن يخطو لله وبالله وفي الله، وإما أن يخطو لحظ نفسه وللشيطان.

وقد أشار إلى هذا المعنى ربنا الرحمن في سورة الإسراء؛ فقال جل وعلا: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:61-65] .

وتقدم معنا شرح هذه الآيات؛ فقوله سبحانه: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64] أي: وناد وادع مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64], فكل داع إلى معصية الله فهو بوق الشيطان، ويدخل في هذا الغناء الذي هو أعظم ما يحرك النفوس إلى المنكرات والرذيلات.

وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء:64]، فقوله: (أجلب عليهم) من الجلب وهو الصياح، أي: استخدمهم.

(ورجِلك): وهو: بكسر الجيم هذه قراءة حفص وبقية القراء قرأوها بإسكان الجيم (ورجْلك)، وقلت: الرجل جمع راجل، كصحب صاحب، وتجر تاجر، وركب راكب ونظائر هذا.

فقراءة الجمهور، وقراءة حفص : ورِجِلك بكسر الجيم هي لغة في الرجل، يعني: جمع راجل رجل، لغة فيها ورجلك بالسكون ورجلك بالكسر؛ وعليه فالقراءتان بمعنى واحد، كما يقال: قصر بالسكون وقصِر بالكسر، وهنا رجْل بالسكون ورجِل بالكسر.

وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء:64] ، بخيلك كل راكب في معصية الله، ورجِلك بالكسر ورجْلك بالسكون كل ماشٍ في معصية الله.

وعليه فالإنسان عندما يخطو خطوة إما أن يخطو في طاعة وإلى طاعة، وإما أن يخطو في معصية وإلى معصية، ولذلك أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام وأتباعه من أهل الإيمان أن يسألوا ربهم أن يدخلهم مدخل صدق، وأن يخرجهم مخرج صدق.

والدخول إلى الصدق والخروج من أجل الصدق هو المدخل والمخرج إن لم يكونوا لله وبالله وفي الله؛ كما قال الله جل وعلا: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [الإسراء:80] .

أمر الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام، وهذه الأمة أن يسألوا ربهم أن يجعل لهم لسان صدق، فقص الله جل وعلا علينا خبر خليله الكريم نبي الله إبراهيم أنه سأل ربه ذلك وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84]، وهو الثناء الذي يكون بحق خالص، بصدق لله جل وعلا.

وهكذا أخبرنا الله جل وعلا أن المؤمنين الذين يدخلون لله ويخرجون لله يقدمون على قدم صدق عند الله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس:2] ، وهو ما يقدمون عليه من الكرامة التي ينالونها عند الله جل وعلا والمنزلة؛ لأنهم قدموا عملاً صالحاً وخطوات مباركة في هذه الحياة.

ولذلك أخبرنا الله أنهم يستقرون ويمكثون في مقعد صدق: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55] ، وآثر هنا لفظ المقعد على لفظ المجلس فلم يقل: في مجلس صدق بدلاً عن (مقعد صدق)؛ لأن المقعد قعود مع تمكن ولبث واطمئنان واستقرار، وأما المجلس فليس كذلك، فهو قعود ليقوم.

وهذه الأمور الخمسة لا يصل الإنسان إلى الأخير منها إلا بعد أن يتصف بالأول، فيكون قد دخل مدخل صدق، وخرج مخرج صدق، وسأل ربه أن يجعل له لسان صدق فحصل له، فلما كان عمله لله خلد الله ذكره في هذه الحياة، فيقدم بعد ذلك على مكان صدق، وجزاء صدق وخير عند الله جل وعلا، فهناك يمكث بعد ذلك في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

إن هذه الخطوات لا بد من أن نصونها عن الآفات، فكل ماش إما أن يمشي في طاعة الله، وإما أن يمشي في طاعة الشيطان.

ولقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن الإنسان إذا خرج من بيته واستعان بربه وتوكل عليه والتجأ إليه فر الشيطان منه؛ لأنه صار خروجه في الله، فما خرج لحظ نفسه، ولا لطاعة الشيطان، ولا لمعصية للرحمن، إنما عندما خرج استعان بالله على خروجه، فاستمع لتقرير هذا من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام:

ثبت في سنن الترمذي وأبي داود والسنن الكبرى للنسائي ، وصحيح ابن حبان ، ورواه أبو يعلى ، وابن السني ، والضياء المقدسي في المختارة كما في جمع الجوامع للإمام السيوطي في الجزء الأول، صفحة خمس وخمسين، والحديث إسناده صحيح ثابت، من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: حسبك).

إذاً: بهذا تكون قد أتيت بأعظم ما يؤتى به، وصرت في حصن حصين وجنة قوية، وحسبك أنك صرت في خير: (هديت وكفيت ووقيت)، هديت إلى الصواب والرشد، وكفيت كل آفة، ووقيت من كل مكروه.

(حسبك، هديت وكفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟).

إذاً: هنا خرج مخرج صدق.

وروى ابن ماجه في سننه في الجزء الثاني، صفحة تسع وسبعين بعد المائتين والألف من سننه، ورواه الطبراني في كتابه الدعاء كما نص على ذلك البوصيري في كتابه مصباح الزجاجة في زوائد سنن ابن ماجه في الجزء الثالث، صفحة إحدى عشرة ومائتين، ولفظ الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا خرج الرجل من باب بيته)، وفي رواية: (إذا خرج الرجل من داره كان معه ملكان موكلان به، فإذا قال: باسم الله قالا له: هديت) .

هناك يقال: حسبك، من القائل؟ الملكان الموكلان.

ثم قال: (وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قالا له: وقيت، فإذا قال: توكلت على الله قالا له: كفيت)، هديت ووقيت وكفيت، (فيلقاه قريناه -أي: من الجن- فيقولان: ماذا تريدان من رجل هدي وكفي ووقي؟).

وإسناد حديث أبي هريرة رضي الله عنه فيه ضعف. ففي إسناده هارون التيمي المدني . قال الإمام البوصيري : ضعيف؛ وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: ولم يخرج له من أهل الكتب الستة إلا الإمام ابن ماجه ورمز له في التقريب بـ(ق)، لكن قال الإمام البوصيري : له شاهد من حديث أنس ، وتقدم معنا.

إخوتي الكرام! حقيقةً الجزاء من جنس العمل، فمن كانت خطواته لله عز وجل حفظه الله سبحانه وتعالى، ولا يجعل للشيطان عليه سبيلاً، ومن حفظ أعضاءه في حال شبيبته حفظها الله له في حال شيبته.

حفظ الله للقاضي أبي شجاع الشافعي

يذكر أئمتنا في ترجمة القاضي أبي شجاع من أئمة الشافعية صاحب المتن المشهور المسمى باسمه متن أبي شجاع في الفقه الشافعي، كالإمام السبكي في طبقات الشافعية في الجزء السادس، صفحة خمس عشرة، وقوله فيه: هو أحمد بن الحسن بن أحمد الأصفهاني ، درَّس الفقه الشافعي في البصرة أربعين سنة، وممن تلقى عنه الإمام أبو طاهر السلفي .

يقول أبو طاهر السلفي : حدثني بذلك الإمام أبو شجاع سنة خمسمائة للهجرة، قال: ولا أدري كم عاش بعد ذلك، وهو من أبناء الدهر -يعني: ممن عمر طويلاً- كان يقفز قفزةً لا يستطيعها الشباب، فيقال له: كيف هذا يا أبا شجاع ؟

فيقول: أعضاء حفظناها في الشبيبة فحفظها الله سبحانه لنا في الشيبة، وكان يقرأ الخط الدقيق من بعد شيبته، ولم يحدد عمره إلا أنه قيل: إنه من أبناء الدهر، وذكر الإمام الباجوري في حاشيته على شرح الإمام ابن القاسم على متن أبي شجاع في الجزء الأول، صفحة عشرة: أنه عاش ستين ومائة سنة، وما رأيت أحداً ذكر هذا، فيحتاج الأمر إلى تحقيق.

والذي يبدو لي أن الإمام الباجوري وهم وخلط بينه وبين رجل آخر يكنى أيضاً بـأبي شجاع ، واسمه قريب منه فخلط بينهما، ذاك محمد بن الحسين ، وهذا أحمد بن الحسن ، فذاك صار وزيراً للخليفة المقتدي بالله ، ثم ترك الوزارة بعد ذلك, واشتغل في المدينة المنورة في خدمة المسجد الشريف، وكنس الحجرة وتنظيفها ورعايتها، وأدركه أجله وتوفي في المدينة المنورة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة كما ذكر الإمام الباجوري ، لكن ليس عمره ستين ومائة سنة، نعم توفي في تلك السنة, كما ذكر ذلك الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر، صفحة خمسين ومائة، هذا من هو؟ محمد بن الحسين ، فالإمام الباجوري فيما يظهر خلط بين الأمرين، فهو لم يتوف سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.

الإمام السبكي ينقل عن أبي طاهر السلفي أن أبا شجاع حدثه في عام خمسمائة أنه درس الفقه الشافعي في البصرة أربعين سنة, وكان حياً في ذاك الوقت.

والأمر يحتاج إلى تحقيق، فما أعلم كيف دخل الوهم على الإمام الباجوري .

والشاهد: أنه من أبناء الدهر، وعاش طويلاً، وعاش بعد الخمسمائة كما قال أئمتنا، ولا ندري كم عاش وكان يتمتع بحواسه, وعنده النشاط والحيوية, يقرأ الخط الدقيق من بعد، ويقفز قفزةً لا يستطيعها الشباب، فعندما يسأل يقول: أعضاء حفظناها في الشبيبة فحفظها الله لنا في الشيبة.

حفظ الله لأبي الطيب الطبري

ونقل مثل هذا عن إمام جليل من أئمة الشافعية ألا وهو أبو الطيب الطبري وترجمته الطيبة في البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر صفحة اثنتين وثمانين، وهو طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري ، ولد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وتوفي سنة خمسين وأربعمائة، فعاش سنتين ومائة.

ويقول الإمام ابن كثير : إنه مات عن مائة سنة وستين، وكان صحيح العقل والفهم والأعضاء، وكان يفتي في آخر أيامه، ويقرأ الخط الدقيق من بعد، وذكر أئمتنا في ترجمته عجباً، وليتنا أدركنا زمانه لنعطيه أرواحنا لا ثيابنا ليلبسها.

قالوا: كان هو وأخوه من العلماء العباد، وليس لهما إلا ثوب واحد وعمامة واحدة، فإذا خرج أحدهما من البيت قعد الثاني لا يستطيع أن يخرج؛ لأنه لا يوجد ثوب للخروج إلا ثوب واحد، فإذا اضطرا لغسل هذا الثوب حبس الأخوان معاً فلا يستطيع واحد منهما أن يخرج، وكان فقيراً، ولا يأخذ من أحد شيئاً، فمرةً أعطى خفه إلى الخفاف ليصلحه، وبما أنه فقير بدأ يؤخر إصلاحه له، ولو أنه من أهل الغنى والثراء لكان عجل له في إصلاحه.

فبدأ يمشي الإمام أبو الطيب الطبري حافياً، فكان إذا دخل السوق يمر على الخفاف، فإذا رآه أخذ الخف وغمسه في الماء، فيقول: أين الخف؟

يقول: غمسته في الماء أصلحه لك، لا يريد أن يجلس عنده لئلا يتأخر فإذا مشى أخرجه من داخل الماء وتركه بلا إصلاح.

ولما تكرر هذا قال: يا هذا! أعطيتك خفي لتصلحه لا لتعلمه السباحة، كلما أتيت إليك تدخل الخف في دلو الماء, وتقول: أدخلته ليلين والآن أصلحه!

وكان الإمام أبو الطيب الطبري يقول كما في طبقات السادة الشافعية للإمام السبكي في الجزء الخامس, وترجمته من صفحة اثنتي عشرة إلى صفحة خمسين ترجمه في قرابة أربعين صفحة.

يقول: ما عصيت الله بواحدة من جوارحي قط، ولما رأى النبي عليه الصلاة والسلام في المنام وسماه فقيهاً, كان يعجب بهذه الرؤيا ويفرح بها، ويقول: سماني النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا فقيهاً، فقال له: (يا فقيه! يا فقيه!).

حفظ الله لأبي بكر البزار شيخ ابن الجوزي

وهكذا شيخ ابن الجوزي أبو بكر البزاز محمد بن عبد الباقي ، الذي توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة للهجرة.

وقد عاش ما يزيد على ثلاث وتسعين سنة، فلما ولد حضر منجمان واتفق رأيهما أنه لن يزيد عمره أكثر من خمسين سنة.

يقول الإمام ابن الجوزي: أدركته بعد ثلاث وتسعين سنة من عمره سليم الحواس لم يتغير منه شيءٌ، ثابت العقل، يقرأ الخط الدقيق من بعد.

إذاً لا بد من ضبط الخطوات كما ضبطنا اللفظات، كما ضبطنا اللحظات، كما ضبطنا الخطرات. هذه الأمور الأربعة لا بد من ضبطها، فمن ضبطها فهنيئاً له، فليس للشيطان عليه سبيل.

يذكر أئمتنا في ترجمة القاضي أبي شجاع من أئمة الشافعية صاحب المتن المشهور المسمى باسمه متن أبي شجاع في الفقه الشافعي، كالإمام السبكي في طبقات الشافعية في الجزء السادس، صفحة خمس عشرة، وقوله فيه: هو أحمد بن الحسن بن أحمد الأصفهاني ، درَّس الفقه الشافعي في البصرة أربعين سنة، وممن تلقى عنه الإمام أبو طاهر السلفي .

يقول أبو طاهر السلفي : حدثني بذلك الإمام أبو شجاع سنة خمسمائة للهجرة، قال: ولا أدري كم عاش بعد ذلك، وهو من أبناء الدهر -يعني: ممن عمر طويلاً- كان يقفز قفزةً لا يستطيعها الشباب، فيقال له: كيف هذا يا أبا شجاع ؟

فيقول: أعضاء حفظناها في الشبيبة فحفظها الله سبحانه لنا في الشيبة، وكان يقرأ الخط الدقيق من بعد شيبته، ولم يحدد عمره إلا أنه قيل: إنه من أبناء الدهر، وذكر الإمام الباجوري في حاشيته على شرح الإمام ابن القاسم على متن أبي شجاع في الجزء الأول، صفحة عشرة: أنه عاش ستين ومائة سنة، وما رأيت أحداً ذكر هذا، فيحتاج الأمر إلى تحقيق.

والذي يبدو لي أن الإمام الباجوري وهم وخلط بينه وبين رجل آخر يكنى أيضاً بـأبي شجاع ، واسمه قريب منه فخلط بينهما، ذاك محمد بن الحسين ، وهذا أحمد بن الحسن ، فذاك صار وزيراً للخليفة المقتدي بالله ، ثم ترك الوزارة بعد ذلك, واشتغل في المدينة المنورة في خدمة المسجد الشريف، وكنس الحجرة وتنظيفها ورعايتها، وأدركه أجله وتوفي في المدينة المنورة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة كما ذكر الإمام الباجوري ، لكن ليس عمره ستين ومائة سنة، نعم توفي في تلك السنة, كما ذكر ذلك الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر، صفحة خمسين ومائة، هذا من هو؟ محمد بن الحسين ، فالإمام الباجوري فيما يظهر خلط بين الأمرين، فهو لم يتوف سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.

الإمام السبكي ينقل عن أبي طاهر السلفي أن أبا شجاع حدثه في عام خمسمائة أنه درس الفقه الشافعي في البصرة أربعين سنة, وكان حياً في ذاك الوقت.

والأمر يحتاج إلى تحقيق، فما أعلم كيف دخل الوهم على الإمام الباجوري .

والشاهد: أنه من أبناء الدهر، وعاش طويلاً، وعاش بعد الخمسمائة كما قال أئمتنا، ولا ندري كم عاش وكان يتمتع بحواسه, وعنده النشاط والحيوية, يقرأ الخط الدقيق من بعد، ويقفز قفزةً لا يستطيعها الشباب، فعندما يسأل يقول: أعضاء حفظناها في الشبيبة فحفظها الله لنا في الشيبة.

ونقل مثل هذا عن إمام جليل من أئمة الشافعية ألا وهو أبو الطيب الطبري وترجمته الطيبة في البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر صفحة اثنتين وثمانين، وهو طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري ، ولد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وتوفي سنة خمسين وأربعمائة، فعاش سنتين ومائة.

ويقول الإمام ابن كثير : إنه مات عن مائة سنة وستين، وكان صحيح العقل والفهم والأعضاء، وكان يفتي في آخر أيامه، ويقرأ الخط الدقيق من بعد، وذكر أئمتنا في ترجمته عجباً، وليتنا أدركنا زمانه لنعطيه أرواحنا لا ثيابنا ليلبسها.

قالوا: كان هو وأخوه من العلماء العباد، وليس لهما إلا ثوب واحد وعمامة واحدة، فإذا خرج أحدهما من البيت قعد الثاني لا يستطيع أن يخرج؛ لأنه لا يوجد ثوب للخروج إلا ثوب واحد، فإذا اضطرا لغسل هذا الثوب حبس الأخوان معاً فلا يستطيع واحد منهما أن يخرج، وكان فقيراً، ولا يأخذ من أحد شيئاً، فمرةً أعطى خفه إلى الخفاف ليصلحه، وبما أنه فقير بدأ يؤخر إصلاحه له، ولو أنه من أهل الغنى والثراء لكان عجل له في إصلاحه.

فبدأ يمشي الإمام أبو الطيب الطبري حافياً، فكان إذا دخل السوق يمر على الخفاف، فإذا رآه أخذ الخف وغمسه في الماء، فيقول: أين الخف؟

يقول: غمسته في الماء أصلحه لك، لا يريد أن يجلس عنده لئلا يتأخر فإذا مشى أخرجه من داخل الماء وتركه بلا إصلاح.

ولما تكرر هذا قال: يا هذا! أعطيتك خفي لتصلحه لا لتعلمه السباحة، كلما أتيت إليك تدخل الخف في دلو الماء, وتقول: أدخلته ليلين والآن أصلحه!

وكان الإمام أبو الطيب الطبري يقول كما في طبقات السادة الشافعية للإمام السبكي في الجزء الخامس, وترجمته من صفحة اثنتي عشرة إلى صفحة خمسين ترجمه في قرابة أربعين صفحة.

يقول: ما عصيت الله بواحدة من جوارحي قط، ولما رأى النبي عليه الصلاة والسلام في المنام وسماه فقيهاً, كان يعجب بهذه الرؤيا ويفرح بها، ويقول: سماني النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا فقيهاً، فقال له: (يا فقيه! يا فقيه!).

وهكذا شيخ ابن الجوزي أبو بكر البزاز محمد بن عبد الباقي ، الذي توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة للهجرة.

وقد عاش ما يزيد على ثلاث وتسعين سنة، فلما ولد حضر منجمان واتفق رأيهما أنه لن يزيد عمره أكثر من خمسين سنة.

يقول الإمام ابن الجوزي: أدركته بعد ثلاث وتسعين سنة من عمره سليم الحواس لم يتغير منه شيءٌ، ثابت العقل، يقرأ الخط الدقيق من بعد.

إذاً لا بد من ضبط الخطوات كما ضبطنا اللفظات، كما ضبطنا اللحظات، كما ضبطنا الخطرات. هذه الأمور الأربعة لا بد من ضبطها، فمن ضبطها فهنيئاً له، فليس للشيطان عليه سبيل.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4047 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3982 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3907 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3788 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3773 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3571 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3488 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3467 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] 3420 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3419 استماع