خطب ومحاضرات
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا يا كريم، وبعد: فكنا في ترجمة سلمان الفارسي ووصلنا إلى قصة زهده وعدم تكلفه وأنه كان مع بعض إخوانه وقدم لهم ما يأكلونه، فقال بعضهم: لو كان مع الملح صعتراً, فاستحى سلمان , وقال: لو لم ينهنا عن التكلف لتكلفت، وذاك يقول: لو وضعت مع الملح صعتراً.
فخرج ورهن درعه، فأتاهم بصعتر, ووضعها على الملح فأكلوا، فقال هذا الضيف الذي هو مع شقيق : الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا، فلم يسكت له سلمان بل قال: لو قنعت بما رزقت لم تكن درعي مرهونة، أي: قدمت لك خبزاً وملحاً، وقلت: نهينا عن التكلف، وهذا الذي في وسعي، ثم ما رضيت، وقلت: أريد مع الملح صعتراً، فلما جئنا به ووضعنا الصعتر ورهنت درعي -التي ألبسها لقتال أعداء الله وأنا أمير المدائن- من أجل إحضار الصعتر - يعني: اعترف- يعني: بعد ذلك ستمن علي بأنك أنت قانع، أهذه قناعة عندك؟
هذه هي الصراحة وإلا حصل بعد ذلك التكلف، وحقيقةً ما تقاطع الناس إلا بسبب التكلف، ولذلك الناس الآن أحجموا عن الزواج من أجل التكلف، وكنت مرة في بعض البلاد في بلدة أبها مع بعض إخواننا الكرام، فخرجنا من المسجد فقال: يا شيخ! ماذا أقول في السجود؟ فقلت: هذا معلوم, تقول: سبحان ربي الأعلى, تسبيحات تعظم الله بها، فقال: فلان يقول غير هذا، قلت: سبحان الله! يا رجل! قال: وهو جالس معنا يقول: تقول ما شئت, قلت: ماذا يقول؟ قال: يحسب كم ستكلفه وليمة العرس؛ لأنه عما قريب سيتزوج، قلت: اتق الله، قال: والله يا شيخ! هو لا يركع ولا يسجد إلا ويفكر في الوليمة، كم سيسأل؟ ثلاثين ألفاً وهو مشغول يحسبها، فقلت: إلى هذا الحد هذا الزواج مشؤوم، قال: هذا وضعنا يا شيخ! هذه العادات الضالة, ولو لم نفعلها لعيرنا وكتب عنا في الصحف, يعني: وليمة تذبح شاة أو شاتين يقول: نهان، قلت: والله إهانة في الدنيا أحسن من إهانة في الآخرة، يعني: لو كان يملك مالاً لكان أخف مفسدة، لكنه جالس يستقرض من هذا ويستقرض من هذا، ويؤخر زواجه كذا سنة حتى يزيد على الثلاثين؛ من أجل أن يحضر كلفة العرس، وأحياناً يتكلف مائة ألف وأحياناً أكثر، هذه الكلفة للعرس والمهر ودونه كذا -أعوذ بالله من هذا الضلال وهذه السفاهة- ثم بعد ذلك يرمى, وتدفع أجرة لرميه في الجبال, حيث تأتي إليها قرود ويرمون الرز واللحم إلى القرود.
ومرة قال لي بعض الناس: يا شيخ! أما لنا أجر عندما نطعم هذه القرود؟ فقلت: يا إخوتي! من البشر أنتم؟ كلفك الله بإطعام البشر, وأمم تموت جوعاً، وأنت تذهب تطعم القرود, فهل أنت تريد إطعامها، أو هذا رغم أنفك؟ عملت وليمة, وتتخلص بعد ذلك من هذا الرز الذي سيعفن عندك، فأعطيت عمال البلدية خمسمائة ريال ليرموه هناك، فهل تريد أجره أيضاً؟ فهذه ظلمات كلها, ومع ذلك تريد أجراً.
وهنا أقول بكل صراحة: لو عملت الوليمة وقطعت -مثلاً- كل ربع شاة في صحن ووضعت عشرين صحناً -مثلاً- فيها خمس شياة أو أربع شياة. والعشرون صحناً هذه تكفي أمماً, فلو دعوت وجعلت على كل صحن يجلس عليه -على أقل تقدير- عشرة أو خمسة عشر رجلاً، فعشرون صحناً لو دعوت ثلاثمائة لكفاهم، تذبح خمسة رؤوس, ولو اقتصد لأقل لكان ذلك ممكنا, هل من اللازم أن تبذر مائة ألف, وتذبح أشكالاً وألواناً، بعد ذلك الطعام يرمى؟! وقد نهينا عن التكلف.
قال - سلمان -: لو قنعت لما كانت درعي مرهونة.
جاء في بعض الروايات: ( نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلف للضيف ما ليس عندنا ). وهذه الرواية الأخيرة ضمن القصة التي هي سبب قول سلمان: لو قنعت...، وقد رواها الإمام أحمد في المسند، والطبراني في معجمه الكبير والأوسط بسند رجاله رجال الصحيح. وفي بعض الروايات ( نهانا أن يتكلف أحدنا لصاحبه ما ليس عنده ).
والحديث في إسناده ضعف كما قال عبد الرحيم الأثري في تخريجه أحاديث الإحياء في الجزء الثاني صفحة إحدى عشرة.
وقد ثبت في صحيح البخاري في كتاب الاعتصام، والاعتصام بالكتاب والسنة, ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، عن أنس رضي الله عنه قال: ( كنا عند عمر رضي الله عنهم أجمعين، فقال: نهينا عن التكلف ). مطلقاً ليس في خصوص التكلف للضيف.
وقد وردت آثار في مسند الحميدي ومستخرج الإسماعيلي ومستخرج أبي نعيم أن عمر رضي الله عنه قرأ قول الله: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31]، ثم قال: الفاكهة عرفناها, فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: نهينا عن التكلف. والأب معروف, وهو التبن. لكن هو يريد أن يعرف كيف صار إلى هذا، وكيف استحال هذا التبن من حشيش أخضر وعشب يخرج منه الحب, ثم آل إلى ما آل إليه, وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس:31-32]. كيف صار إلى هذه الحالة؟ كأنه يبحث.
قال ابن كثير : لا يخفى على عمر ولا على غيره رضي الله عنهم معنى الأب, وأنه الحشيش والتبن الذي تأكله البهائم الذي هو علفها، لكن كأنه أراد أن يستفصل عن كيفية صيرورته إلى هذا الأمر، ثم قال: هذا هو التكلف الذي نهينا عنه، وما يعني ألا تدريه يا عمر! وما عليك ألا تدريه يا عمر! وهنا ( نهينا عن التكلف )، والناهي هو نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا كلام سلمان .
وختام الكلام في ترجمته فيما يتعلق بوفاته رضي الله عنه وأرضاه: ثبت في معجم الطبراني الكبير، انظر في المجمع في الجزء التاسع صفحة أربع وأربعين وثلاثمائة، والأثر رواه أبو نعيم في الحلية وابن سعد في الطبقات عن امرأة سلمان الفارسي رضي الله عنها وأرضاها قالت: كان سلمان في علية في بيت له أربعة أبواب -يعني: عدة جهات- فقال: افتحي هذه الأبواب-وكان هذا في مرضه قبيل احتضاره رضي الله عنه وأرضاه- فإن لي زواراً سيدخلون الآن لا تعرفيهم، ثم قال لها: نفثي, أي: طيبي البيت, ففتحت الأبواب وطيبته ثم خرجت، وجاءت بعد ذلك تتفقد سلمان , فما جاءه أحد، فرأته كأنه نائم، فحركته فإذا هو ميت. رحمة الله ورضوانه عليه، والذين حضروه هم ملائكة الله الأطهار.
وورد في بعض الروايات أنه قال لها: إني أرى رجالاً، فافتحي هذه الأبواب, وانضحي هذا المكان بالمسك، ففتحت ونضحته بالمسك, ثم خرجت، ولما تفقدته بعد ذلك كأنه نائم, فحركته فإذا هو ميت. رضي الله عنه وأرضاه. وقد ختم له بخير, وهو من أهل الخير بلا شك.
وقد ثبت في طبقات ابن سعد في الجزء الرابع صفحة ثلاث وتسعين, والأثر في الحلية في الجزء الأول صفحة خمس ومائتين: أن سلمان التقى بأخيه عبد الله بن سلام ، وذاك كان من أحبار اليهود، وسلمان كما تقدم معنا أصله من الفرس، وعالم بالنصرانية، التقيا فقال سلمان لـعبد الله بن سلام : إذا مات أحدنا قبل الآخر فليتراءى له في نومه, يعني: الميت يتراءى للحي، فقال عبد الله بن سلام: سبحان الله! ويصير هذا؟ قال: أما بلغك أن روح المؤمن مخلاة تذهب حيث شاءت، وأن روح الكافر في سجين. والميت يتراءى عند أصحابه الأحياء إذا كان صالحاً، وإذا حبس -نعوذ بالله من ذلك- ذهب به إلى أمه الهاوية، ولذلك إذا مات الإنسان وكان من أهل الخير ودفن تلتقي روحه بأرواح المؤمنين, فيسألونه عن الأحياء، فإذا قال لهم: فلان مات، يقولون: ما جاءنا, إذاً ذهب به إلى أمه الهاوية، لو مات لالتقينا به.
يقول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: فلما مات سلمان وابن سلام توفي بعد سلمان سنة ثلاث وأربعين، وأما سلمان فقبله سنة ست وثلاثين, فبينهما فترة سبع سنين.
يقول: فلما مات سلمان نمت القائلة فرأيته في ثياب حسنة, وعليه النور يتلألأ, قلت: أي أخي ما جعل الله لك؟ قال: غفر لي ورحمني وأكرمني، قلت: بأي شيء توصيني، قال: عليك بالتوكل، فنعم الشيء التوكل، فنعم الشيء التوكل، فنعم الشيء التوكل، ثم غاب عني.
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3]، والتوكل: هو ثقة القلب بالرب، نسأل الله أن يجعلنا عليه متوكلين، وبه مستعينين، وله عابدين، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
هذا إخوتي الكرام! فيما يتعلق بترجمة سلمان ، لو ضم إليه ما تقدم فلربما كان متكاملاً مع بعضه، لكن قدر الله أن يتفرق في دراسة الإسناد في الموعظة الماضية مع شيء من ترجمة سلمان وإكمالها في هذه الموعظة، وهذه لعلها أخذت أكثر مما تكلمنا. ونسأل الله أن يتقبل منا بفضله ورحمته.
المبحث الثاني: فقه الحديث، هذه الأحاديث الثلاثة تدل على ثلاثة أحكام: ستر العورة عند قضاء الحاجة, وحكم مس الذكر باليمين، والاستنجاء باليمين، سواء كان الاستنجاء بالماء أو بالحجارة, وهو الذي يقال له: الاستجمار.
والمسألة الثالثة: الاستجمار، وهو الذي يقال له: الاستنجاء بالأحجار, ولفظ الاستنجاء شامل لاستعمال الماء والحجر، وأما الاستجمار فخاص بإزالة النجو والنجس والخبث بالحجارة, فيقال له: استجمار.
وسيأتينا بحثه ضمن أحاديث الأبواب الآتية بإذن الله.
حكم الاستتار عند قضاء الحاجة
حديث أنس وابن عمر وإن أشار الإمام الترمذي إلى تضعيفه, وإن ضعفه جم غفير من أئمتنا كما سيأتي عند المبحث الثالث, لكن المعتمد أنه صحيح ثابت، وقد صرح الأعمش بالواسطة بينه وبين ابن عمر كما في سنن البيهقي (ج1 صفحة 96), وهو القاسم بن محمد ، وعليه فالإسناد رجاله ثقات عدول، وهو متصل الإسناد ولا انقطاع فيه.
نعم طريق أنس منقطعة, وما وقفت على من وصلها، لكن الروايتين -كما تقدم معنا- بلفظ واحد، ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض ). وعليه فتضعيف جم غفير لهذا الحديث ومنهم الترمذي وغيره كـالنووي وابن حجر لعلهم -والعلم عند الله- ما وقفوا على رواية البيهقي ، وفيها أن الأعمش روى الحديث من طريقين عن ابن عمر , مرة قال: عن رجل عن ابن عمر ، ومرة قال: عن القاسم بن محمد عن ابن عمر ، والرجل المبهم هو المعين، وحذف الرجل مبهماً ومعيناً في رواية الترمذي ، فقال الأعمش : عن أنس وعن ابن عمر ، فدلسه أحياناً، وأحياناً سمى الرجل وأبهمه، وأحياناً صرح به؛ لأسباب لا يعلمها إلا الله، إنما على حسب الطرق الحديثية كما سيأتينا أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن، وهو حديث مقبول صحيح إن شاء الله.
وما دل عليه هذا الحديث من حكم فهو متفق عليه، حيث يستحب للإنسان إذا أراد الجلوس عند قضاء الحاجة ألا يرفع ثوبه عن عورته في حال قيامه، وإن كان ضمن جدران أربعة، وإن كان في خلاء وفي فضاء، يستحب له ألا يرفع الثوب إلا إذا دنا من الأرض، فليكشف بمقدار الضرورة، ولا يتجرد ولا يرفع وهو قائم. ويستحب له أيضاً كما قال شيخ الإسلام الإمام النووي -وهذا متفق عليه أيضاً-: يستحب له أن يسبل ثوبه وأن يرخيه وأن ينزله إذا فرغ قبل انتصابه، فإذا فرغ من قضاء حاجته لا يقوم وثيابه مجموعة في وسطه بحيث ينتصب والعورة بائنة, لا، بل يرخي الثوب وينزله ويرسله ويسبله قبل أن ينتصب؛ لئلا يظهر شيء من العورة وإن لم يكن هناك أحد؛ لأنه كما سيأتينا لا ينبغي للإنسان أن يكشف عن عورته إلا بمقدار الضرورة، وهل هو إذا كشف عن عورته من غير ضرورة آثم مرتكب للحرام أو للمكروه؟ هذا سيأتينا إن شاء الله أن لذلك قولين.
إذا أردت أن تقضي الحاجة لا ترفع الثوب قبل أن تدنو من الأرض، وإذا قضيت الحاجة فقبل أن تقوم أسبل الثوب واستر العورة قبل أن تنتصب، هذا كله إذا لم تخش ولم تخف من تلوث الثوب بنجاسة في المكان، وإذا خشيت فالضرورة تقدر بقدرها، والأحكام تعالجها على حسب وضعها، فلو أنك في حمام نظيف فلا داعي أن تكشف حتى تجلس تماماً لقضاء الحاجة, فلا تكشف، ولو كنت في صحراء ووضعت بعد ذلك أمامك ما يسترك وليس في الأرض نجاسة فلا داعي أن تكشف قبل الجلوس، ويجب أن تستر قبل أن تقوم؛ لأنه لا يوجد حولك نجاسات، أما إذا دخلت إلى مكان فيه قاذورات ونجاسات، فإذا أرسلت الثوب وما جمعته فقد يصاب بنجاسة من هنا وهناك من الأمام أو من الوراء، فكل واحد يعالج الوضع الذي هو فيه على حسب ما يرتضيه، لكن عند هذا الحكم لا ترفع عن ثوبك حتى تدنو من الأرض، وإذا انتهيت أرسل ثوبك قبل أن تقوم وأن يعتدل صلبك؛ لئلا تكشف عن عورتك إلا بمقدار ما تدعو إليه الحاجة، وهذا كما قلت: مستحب، بناءً على القول المعتمد عند جماهير العلماء بأن ستر العورة في الخلوة مستحب.
ذكر من قال بوجوب ستر العورة في الخلوة
نعم إذا قلنا: إن ستر العورة واجب في الخلوة وكشف الإنسان عن عورته زائداً عن مقدار الحاجة يعاقب على الزائد، وأما المرخص فيه فيبقى مسموحاً به. والأدلة تحتمل القولين، وكل هذا مزيد احتياط وأدب.
وكما قلت: قول الجماهير: ستر العورة في الخلوة مستحب، وعليه إذا أردت قضاء الحاجة في الخلوة فيستحب لك محافظةً على ذلك الأدب ألا تكشف عن عورتك إلا إذا دنوت من الأرض, ولتقدر الضرورة بمقدارها.
أدلة القائلين بوجوب ستر العورة في الخلوة
منها ما ثبت في المسند، والسنن الثلاثة والنسائي في عشرة النساء، والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى وابن أبي شيبة في المصنف, وإسناد الحديث حسن من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده -وهذا يمثلون به للحديث الحسن إذا صح الإسناد إلى بهز أي: من هم صلة بيننا وبين بهز مقبولون، وإذا لم يكونوا كذلك صار الحديث يضعف ليس من قبل بهز ومن بعده إلى النبي عليه الصلاة والسلام- وجده هو معاوية بن حيدة القشيري من الصحابة الكرام، فالحديث إذاً: من رواية معاوية ، وهذا كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو أيضاً إسناد حسن، وأئمتنا يمثلون للحديث الحسن بـبهز بن حكيم عن أبيه عن جده, وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.
يقول: ( قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك )، فلا يجوز أن تكشف عن عورتك إلا لهذين الصنفين, زوجة فهي لباس لك وأنت لباس لها، والسرية التي -أيضاً- تتصل بها عن طريق ملك اليمين, فحكمها كحكم الزوجة، لكن الزوجة بعقد النكاح، وهذه بملك اليمين.
قال: ( قلت: يا رسول الله! إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت ألا يرينها أحد فافعل )، انتبه! وحافظ على العورة ألا تكشف أمام أحد.
( قلت: يا رسول الله! فإذا كان أحدنا خالياً ), وما معه أحد, كأن يكون في حجرة مغلقة فهل يتجرد عن ثيابه ويكشف عن عورته؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ( الله أحق أن يستحيا منه).
قال الإمام المناوي في فيض القدير في الجزء الأول صفحة ست وتسعين ومائة: ظاهر الخبر وجوب ستر العورة في الخلوة؛ لأن الله أحق أن يستحيا منه؛ لأنه كما ينبغي أن تستر عورتك عن الناظرين إليك فينبغي أن تسترها عن نظر رب العالمين، وكما تقدر نظر المخلوقين فتقدر نظر أحكم الحاكمين -سبحانه وتعالى- من باب أولى.
وظاهر الخبر وجوب ستر العورة في الخلوة، لكن المفتى به عند الشافعية وهو قول العلماء قاطبةً: جواز كشفها لأدنى غرض، فلو أراد أن يتبرد وهناك حر فيجوز أن يطرح ثيابه إذا كان خالياً، وكذا من أجل ضرورة علاج، أو يقول: من أجل غبار الثوب، فلو قدرنا أنه في بستان ورياح تعصف من كل جهة فأراد أن يتجرد ولا يراه أحد وهو مستور خالٍ لا يراه أحد، كأنه في خيمة من أجل ألّا تتوسخ ثيابه, كثيابنا في هذه الأيام التي نخدمها ولا تخدمنا، يعني: مكوية ومطوية، فهذا يجوز.
على كل حال يقول: عند الشافعية هذا عند من قال منهم بالوجوب؛ يقول بجواز الكشف لأدنى سبب من تبرد أو غبار، ثم قال: والجمهور على أن الخبر للندب، وأن ستر العورة مطلوب في الخلوة من باب الاستحباب, لا من باب الإيجاب؛ لوجود أحاديث تدل على الجواز، وعليه فقوله: ( الله أحق أن يستحيا منه ) يستحب لك ألا تكشف عن عورتك إذا كنت خالياً، وليس هذا كحال نظر الناس، فلا يجوز أن تكشفها, والأدلة تمنع، وأما هنا فورد ما يرخص في ستر العورة في الخلوة، مما يدل على أن هذا الأمر للاستحباب والإرشاد والأدب، لا للوجوب بحيث إذا فعلته عصيت الله وأسرع إليك العطب، وشتان ما بين الاستحباب والإيجاب.
والحديث علقه البخاري في كتاب الغسل، فقال: باب من اغتسل عرياناً وحده في الخلوة -وانتبه لفقهه!- ومن تستر فالتستر أفضل، فاستدل بحديث بهز , قال: وقال بهز عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( والله أحق أن يستحيا منه ). يعني: يجوز أن تغتسل في الخلوة عارياً، وأن تتعرى من غير ضرورة، فإذا أردت أن تغتسل فالأفضل أن يكون ستراً عليك، وإن كنت خالياً وإن كنت مع أهلك فالأكمل أن تستر نفسك، وإذا أردت أن تترخص ليس عليك -إن شاء الله- عقاب، لكن لو اغتسلت وعليك مئزر لكان هذا أفضل وأتقى.
أدلة الجمهور القائلين بجواز كشف العورة في الخلوة
قال الحافظ ابن حجر في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( احفظ عورتك إلا من زوجتك ) قال: يدل هذا اللفظ على أنه يجوز للمرأة أن تنظر إلى عورة الرجل، كما يدل ذلك على أنه يجوز للرجل أن ينظر إلى عورة زوجته، من باب القياس كما رخص لها أن تنظر إليه؛ لأنه لباس لها رخص له أن ينظر إليها لأنها لباس له، وهذا محل اتفاق بين أئمتنا الأتقياء، فإذا أراد الإنسان أن يتنزه لا يقال: هو متنطع، بل يقال: متأدب، ولا يقال إذا أراد أن يفعل هذا: قليل الحياء وقح، بل عليك أن تضع الأمور في مواضعها الصحيحة، فلو اغتسل مع زوجته عرياناً فإنه يجوز، ولو تستر فهو أفضل وأكمل، ولو قدر أنه نظر إلى عورة زوجته فيجوز. ونقول: قدر الحاجة بقدرها, يعني: إذا أبيح للإنسان بأن يقضي الحاجة وأن يكشف عن عورته، فليس معنى هذا أنه يباح أن ينظر إلى عورته، فالأمر يقدر بقدره، وهذا الحال يرخص لك ترخيصاً, وليس من باب الاستحباب، يعني: ليس مستحباً للزوجة أن تنظر إلى عورة زوجها، ولا للزوج أن ينظر إلى عورة زوجته، فليس الأمر من باب الاستحباب, بل من باب الترخيص ومن ضمن المباح، ومن تنزه ضمن المباح فلا حرج، ورحمة الله واسعة.
قال الحافظ ابن حجر : وظاهر الحديث يدل على أن التعري في الخلوة غير جائز مطلقاً، لكن المصنف -يعني به الإمام البخاري - استدل على جوازه في الغسل -يعني: بجواز التعري في حال الاغتسال- بحديث اغتسال نبي الله موسى وأيوب وهما عاريان.
قال: ووجه الاستدلال بقصتهما: أن الله أمرنا بالاقتداء بهما كما أمرنا بالاقتداء بالأنبياء والرسل، وهذا يتأتى على مذهب من يقول: إن شرع من قبلنا شرع لنا، ثم قال: الأوجه من ذلك أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قص علينا قصة النبيين موسى وأيوب واغتسالهما عاريين على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، ولم يتعقب ما جرى منهما، ولم يبين أن ذلك لا يحل لنا في شرعنا، فدل على موافقة شرعنا لفعلهما، قال: ويجمع بين ذلك وبين حديث معاوية بن حيدة بأن الأفضل والأكمل التستر في الخلوة، ويباح الكشف في الخلوة عن العورة.
أما قصة موسى عليه السلام فقد تقدمت معنا عند ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها، ووجه ذكر خبر نبي الله موسى أننا قلنا: ما حصل لها من البراءة أعظم مما حصل للأنبياء من البراءة، وقلنا: إن نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه اتهم بعدة أمور منكرة, منها أنه آدر، أي: منتفخ الخصية، فبرأه الله عن طريق اغتساله عارياً في فضاء بحيث لا يراه إلا رب الأرض والسماء، وما رآه أحد من المخلوقات، فلما طار الحجر بثوبه بدأ يركض وراءه ويقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، ثم ضرب الحجر حتى أثر فيه ندباً, لكن الحجر طار بثوبه إلى الملأ من بني إسرائيل, فجاء وهو عار ما على جسمه شيء يستره، فعلموا أنه ليس به أدرة، وأنه ما يبتعد عن الاغتسال عنهم ولا يغتسل معهم إلا لحياء فيه.
والحديث تقدم معنا وقلت: إنه في المسند والصحيحين وسنن الترمذي من رواية أبي هريرة وهذا دون قول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11], آيات تتلى من كتاب رب العالمين، يتعبد بها في مساجد المسلمين إلى يوم الدين، لا أعظم من هذه البراءة.
وهكذا عندما اتهم موسى نبي الله بالزنا ومن جملة اتهامه أن الله أنطق المرأة التي استؤجرت من قبل قارون , وقالت: بأنها من أجل أن تقذف نبي الله بالزنا وفعل الفاحشة، وهو طاهر مطهر ما تعلم عليه شيئاً, وما زنى بها، ثم دعا على قارون كما تقدم معنا.
هذا كله كما قلت دون البراءة التي حصلت لأمنا عائشة إكراماً لنبينا, على نبينا وآله وصحبه وأنبياء الله ورسله جميعاً صلوات الله وسلامه.
وهذا الحديث رواه البزار عن أنس رضي الله عنه وأرضاه, كما في المجمع في الجزء السابع صفحة ثلاث وتسعين، لكن في إسناده علي بن زيد بن جدعان ، تقدم معنا أنه سيئ الحفظ، وقلت: حديث أبي هريرة يشهد له، وهو حديث ثابت من أصح الأحاديث، هذا حديث اغتسال نبي الله موسى.
الشاهد: أنه اغتسل عارياً خالياً ما معه أحد, وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراةً, ينظر بعضهم إلى بعض.
وهذا الخلق اللعين الذي كان في بني إسرائيل المجرمين وجد الآن في أندية العراة في هذه الأوقات، أندية عراة ورقص، وأندية تعري، وأخبرني بعض الإخوة التايلانديين أن منطقة في تايلاند في بانكوك يقول: لا يدخل أحد إلى ذلك المكان إلا إذا كان عارياً، يخلع ثيابه ثم يدخل مثل البقر، ولعل البقر قد تستحي من هذا، وبعض شواطئ البحار لا سيما في الصيف تضج إلى الله جل وعلا مما يحصل فيها من كشف للسوءة المغلظة.
أندية العراة في هذه الأيام ما أكثرها، بنو إسرائيل كانوا يغتسلون عراةً، ونبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يبتعد عنهم، فهل يوجد الآن من يقول هذا؟!
أخبرني مرة بعض الإخوة يقول: في هذا الزمن أناس عراة يمشي أحدهم كما ولد, ولا يأخذ شيئاً من أشعاره ولا من أظفاره ولا من خلقته كالحيوان المفترس، يجوبون في أقطار العالم من أجل نشر الفساد، ومرة قدموا إلى بعض البلاد على الحدود فمنعوا، وقيل لهم: وبهذه الحالة ستدخلون؟ وهم عراة ما عليهم شيء أبداً.
كان بعض إخواننا من الصومال يقول: في كينيا في بعض الجهات النساء والرجال لا يلبسون شيئاً, والناس يتعلمون هكذا، وأحياناً الإنسان يأخذ شيئاً قليلاً بمقدار ما يستر العورة المغلظة, يشده على عورته دون أن يكون شيء يلبس، فعجباً لهذا الحال الذي تعيشه البشرية في هذه الأيام.
وأما حديث نبي الله أيوب فما أعجبه! وما أغربه! بعد أن من الله عليه بالشفاء اغتسل عرياناً في الخلوة، فسقط عليه جراد من ذهب، فبدأ يجمع منه، فقال الله له: ( ما هذا يا أيوب؟! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ ) أي: أما أعدت إليك الصحة والعافية؟ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]، ( قال: يا رب! لا غنى لي عن بركتك ). البركة نزلت من السماء، جراد نزل، وحديثه ثابت في المسند وصحيح البخاري وسنن النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.
الشاهد فيه: أنه اغتسل عارياً، وسقط عليه جراد من ذهب.
فهذان الحديثان مع حديث معاوية بن حيدة جمع بينهما البخاري فقال: من اغتسل عرياناً وحده في الخلوة جائز، لم؟ لأن ما خفي عن النبيين المباركين عليهما صلوات الله وسلامه ما تعقبه سيد الكونين عليه الصلاة والسلام، فدل على أن هذا جائز, وأن شرعنا يوافقه، وعليه حديث بهز يدل على الأكمل والأفضل والأحسن، فإذا كنت خالياً وأمكنك ألا تتجرد وألا تكشف عن عورتك فهو أولى، وإذا كشفت فلا حرج إن شاء الله.
ثم قال الحافظ ابن حجر بعد ذلك: ورجح بعض الشافعية تحريمه، والمشهور عن متقدميهم كغيرهم, أي: من علماء المسلمين أن كشف العورة في الخلوة مكروه فقط.
كمال الأدب في ستر العورة عند الخلوة
وقد ورد في سنن الترمذي في كتاب الأدب باب يشير إلى هذا الموضوع الذي نتدارسه، فقال الإمام الترمذي : باب ما جاء في الاستتار عند الجماع.
عند الجماع يستتر، وما عنده أحد، لكن الله يطلع عليه سبحانه وتعالى، فهذا أكمل وأفضل.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والتعري؛ فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم ).
قال الإمام الترمذي : هذا حديث غريب. حكم عليه بالغرابة؛ لوجود ليث بن أبي سليم في إسناده, وهو صدوق, وقد طرأ عليه الاختلاط، فلم يتميز ما حدث به قبل اختلاطه عما حدث به بعد اختلاطه, فترك حديثه، وهو في الأصل من رجال مسلم والسنن الأربع، ومسلم أخرج له مقروناً، ويميز روايته التي وقع فيها الاختلاط عما لم يقع فيها الاختلاط، فكن على علم بذلك، لكن يشهد لمعناه حديث بهز بن حكيم -الذي قلنا: هو في درجة الحسن-: ( إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه ).
وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام هذا في أحاديث كثيرة، وأن المحافظة على هذا الأدب أحسن، ومن لم يفعل فلا حرج.
المسألة الأولى: وهي التي دل عليها حديث الباب العاشر: باب ما جاء في الاستتار عند الحاجة، وقد روى الإمام الترمذي الحديث من طريق الأعمش عن صحابيين مباركين عن أنس بن مالك وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض ) ثم حكم الإمام الترمذي على الحديثين بالانقطاع، وقال: كلاهما مرسل، فـالأعمش لم يسمع من أنس , وقد حققنا الكلام عليه فيما تقدم، والذي سنبحثه الآن الاستتار عند قضاء الحاجة.
حديث أنس وابن عمر وإن أشار الإمام الترمذي إلى تضعيفه, وإن ضعفه جم غفير من أئمتنا كما سيأتي عند المبحث الثالث, لكن المعتمد أنه صحيح ثابت، وقد صرح الأعمش بالواسطة بينه وبين ابن عمر كما في سنن البيهقي (ج1 صفحة 96), وهو القاسم بن محمد ، وعليه فالإسناد رجاله ثقات عدول، وهو متصل الإسناد ولا انقطاع فيه.
نعم طريق أنس منقطعة, وما وقفت على من وصلها، لكن الروايتين -كما تقدم معنا- بلفظ واحد، ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض ). وعليه فتضعيف جم غفير لهذا الحديث ومنهم الترمذي وغيره كـالنووي وابن حجر لعلهم -والعلم عند الله- ما وقفوا على رواية البيهقي ، وفيها أن الأعمش روى الحديث من طريقين عن ابن عمر , مرة قال: عن رجل عن ابن عمر ، ومرة قال: عن القاسم بن محمد عن ابن عمر ، والرجل المبهم هو المعين، وحذف الرجل مبهماً ومعيناً في رواية الترمذي ، فقال الأعمش : عن أنس وعن ابن عمر ، فدلسه أحياناً، وأحياناً سمى الرجل وأبهمه، وأحياناً صرح به؛ لأسباب لا يعلمها إلا الله، إنما على حسب الطرق الحديثية كما سيأتينا أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن، وهو حديث مقبول صحيح إن شاء الله.
وما دل عليه هذا الحديث من حكم فهو متفق عليه، حيث يستحب للإنسان إذا أراد الجلوس عند قضاء الحاجة ألا يرفع ثوبه عن عورته في حال قيامه، وإن كان ضمن جدران أربعة، وإن كان في خلاء وفي فضاء، يستحب له ألا يرفع الثوب إلا إذا دنا من الأرض، فليكشف بمقدار الضرورة، ولا يتجرد ولا يرفع وهو قائم. ويستحب له أيضاً كما قال شيخ الإسلام الإمام النووي -وهذا متفق عليه أيضاً-: يستحب له أن يسبل ثوبه وأن يرخيه وأن ينزله إذا فرغ قبل انتصابه، فإذا فرغ من قضاء حاجته لا يقوم وثيابه مجموعة في وسطه بحيث ينتصب والعورة بائنة, لا، بل يرخي الثوب وينزله ويرسله ويسبله قبل أن ينتصب؛ لئلا يظهر شيء من العورة وإن لم يكن هناك أحد؛ لأنه كما سيأتينا لا ينبغي للإنسان أن يكشف عن عورته إلا بمقدار الضرورة، وهل هو إذا كشف عن عورته من غير ضرورة آثم مرتكب للحرام أو للمكروه؟ هذا سيأتينا إن شاء الله أن لذلك قولين.
إذا أردت أن تقضي الحاجة لا ترفع الثوب قبل أن تدنو من الأرض، وإذا قضيت الحاجة فقبل أن تقوم أسبل الثوب واستر العورة قبل أن تنتصب، هذا كله إذا لم تخش ولم تخف من تلوث الثوب بنجاسة في المكان، وإذا خشيت فالضرورة تقدر بقدرها، والأحكام تعالجها على حسب وضعها، فلو أنك في حمام نظيف فلا داعي أن تكشف حتى تجلس تماماً لقضاء الحاجة, فلا تكشف، ولو كنت في صحراء ووضعت بعد ذلك أمامك ما يسترك وليس في الأرض نجاسة فلا داعي أن تكشف قبل الجلوس، ويجب أن تستر قبل أن تقوم؛ لأنه لا يوجد حولك نجاسات، أما إذا دخلت إلى مكان فيه قاذورات ونجاسات، فإذا أرسلت الثوب وما جمعته فقد يصاب بنجاسة من هنا وهناك من الأمام أو من الوراء، فكل واحد يعالج الوضع الذي هو فيه على حسب ما يرتضيه، لكن عند هذا الحكم لا ترفع عن ثوبك حتى تدنو من الأرض، وإذا انتهيت أرسل ثوبك قبل أن تقوم وأن يعتدل صلبك؛ لئلا تكشف عن عورتك إلا بمقدار ما تدعو إليه الحاجة، وهذا كما قلت: مستحب، بناءً على القول المعتمد عند جماهير العلماء بأن ستر العورة في الخلوة مستحب.
وذهب بعض الشافعية كما حكى عنهم ذلك الإمام النووي وابن حجر إلى أن ستر العورة في الخلوة واجب، وعليه إذا كشفت عورتك عند قضاء الحاجة قبل أن تدنو من الأرض بغير مقدار الحاجة فقد عصيت الله؛ لأن ستر العورة واجب, وإنما يرخص الكشف بمقدار الضرورة، وإذا لم تستر عورتك قبل أن تنتصب وانتصبت والعورة مكشوفة فأنت عاص لله، هذا على القول بالوجوب، بل ذهب بعض الشافعية وهو محمد بن عمر بن مكي -يلقب بـفضل الدين بن المرحل ، توفي سنة ست عشرة وسبعمائة للهجرة في القاهرة عليه رحمة الله، له كتاب الأشباه والنظائر, لكن لم يحرره كما قال الإمام السبكي في الطبقات الكبرى في الجزء التاسع صفحة خمس وخمسين ومائتين- حيث يقول: لو كشف عن عورته في الخلاء زائداً عن مقدار حاجته، فهل يأثم على جميع الكشف أو على المقدار الزائد فقط؟ يقول: في ذلك قولان عند أئمة الإسلام، ومعنى ما يقول: أنت مرخص لك أن تكشف عن عورتك في حال قضاء الحاجة، لكن إذا توسعت لم يعف حتى عن الكشف الذي هو واجب؛ لأنك ما التزمت بالحكم الشرعي، فتعاقب على ما يرخص لك أن تكشف عنه وما لا يرخص، وهذا انفراد له كما قال الإمام السبكي، وقال: لعله لم يحرر كتابه، وتوفي قبل أن ينقحه، قال: ما أعلم أن أحداً سبقه إليه.
نعم إذا قلنا: إن ستر العورة واجب في الخلوة وكشف الإنسان عن عورته زائداً عن مقدار الحاجة يعاقب على الزائد، وأما المرخص فيه فيبقى مسموحاً به. والأدلة تحتمل القولين، وكل هذا مزيد احتياط وأدب.
وكما قلت: قول الجماهير: ستر العورة في الخلوة مستحب، وعليه إذا أردت قضاء الحاجة في الخلوة فيستحب لك محافظةً على ذلك الأدب ألا تكشف عن عورتك إلا إذا دنوت من الأرض, ولتقدر الضرورة بمقدارها.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] | 3980 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] | 3907 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] | 3795 استماع |
شرح الترمذي - مقدمات [8] | 3788 استماع |
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] | 3772 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] | 3571 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] | 3487 استماع |
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] | 3466 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] | 3419 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] | 3419 استماع |