مجمل أصول أهل السنة - القاعدة الثالثة منهج تلقي الدين


الحلقة مفرغة

الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي الله عن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

يقول المؤلف حفظه الله تعالى: [ تمهيد:

العقيدة لغة: مأخوذة من العقد والتوثيق والإحكام والربط بقوة.

واصطلاحاً: الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتَقِده.

فالعقيدة الإسلامية تعني: الإيمان الجازم بالله تعالى وما يجب له من التوحيد والطاعة وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وسائر ما ثبت من أمور الغيب، والإخبار، والأصول، علمية كانت أو عملية.

السلف: هم صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وأئمة الهدى في القرون الثلاثة المفضلة، ويطلق على كل من اقتدى بهؤلاء وسار على نهجهم في سائر العصور سلفي نسبة إليهم.

أهل السنة والجماعة: هم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وسموا أهل السنة: لاستمساكهم واتباعهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وسموا الجماعة: لأنهم الذين اجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا في الدين، واجتمعوا على أئمة الحق ولم يخرجوا عليهم، واتبعوا ما أجمع عليه سلف الأمة.

ولما كانوا هم المتبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المقتفين للأثر، سموا أهل الحديث وأهل الأثر وأهل الاتباع، ويسمون أيضاً: الطائفة المنصورة والفرقة الناجية.

أولاً: قواعد وأصول في منهج التلقي والاستدلال.

1) مصدر العقيدة: هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة وإجماع السلف الصالح.

2) كل ما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قبوله والعمل به، وإن كان آحاداً في العقائد وغيرها ].

قاعدة التسليم لأحاديث الرسول والعمل بها

قوله: (أن كل ما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قبوله والعمل به وإن كان آحاداً في العقائد وغيرها).

الشرح: أي: أن كل ما ثبت من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله وتقريراته وسيرته فهو الدين ويجب قبوله والتسليم به.

أما التقييد بقولنا: (وإن كان آحاداً) فلأن بعض أهل الأهواء والبدع خاصة الذين عولوا على مصادر أخرى غير الكتاب والسنة وجدوا أن مبادئهم وأصولهم التي تقوم على التأويل والتعطيل تتصادم أحياناً مع بعض النصوص، فكان من حيلهم: أن زعموا أن كثيراً من النصوص التي تصادم أصولهم أحاديث آحاد، والمقصود بأحاديث الآحاد: التي يكون في سندها رجل واحد، كحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، ومن المعلوم أن هذا التقييد باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الصحابة وكلهم ثقات، وهم بلغوا الدين، وقد رضي الله عنهم وبين أنهم عدول، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعدالة، بل حملهم أمانة نقل الدين، فمن هنا لا بد أن نأخذ رواياتهم وإن كانت روايات آحاد ما دامت صحت عن الثقات؛ ولذلك فإن السنة أكثرها أحاديث الآحاد، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحجة على الأمم أكثرها بأفراد، ولعل من أوضح الشواهد على ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم لما بلغهم عن طريق أحد الصحابة أن القبلة صرفت من بيت المقدس إلى الكعبة انصرفوا جميعاً، مع أن الذي بلغهم رجل واحد من الصحابة، فانصرفوا إلى الكعبة وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

إذاً: الدين هو ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان الراوي واحداً أو أكثر من واحد، خاصة إذا كان الراوي في أعلى الإسناد.

قاعدة فهم نصوص الكتاب والسنة

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ ثالثاً: المرجع في فهم الكتاب والسنة: هو النصوص المبينة لها، وفهم السلف الصالح، ومن سار على منهجهم من الأئمة، ولا يعارض ما ثبت من ذلك بمجرد احتمالات لغوية ].

الشرح: هذه القاعدة الثالثة في منهج تلقي مصادر الدين، وكيف نستدل بها؟ وممن نستمد الدين؟

وهذه القاعدة من أهم القواعد في هذا الباب؛ لأنها هي المنهج في تلقي الدين الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم ورسمه خلفاؤه الراشدون، والذي عليه سلف الأمة وسبيلهم هو سبيل المؤمنين، وهو أن المرجع في فهم نصوص القرآن وفهم السنة قولاً أو فعلاً أو تقريراً أو حالاً، أي: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يأتي على الدرجات التالية:

أولاً: تفسير القرآن بالقرآن، ونحن نعلم كما هو منهج السلف في الاستدلال أن كثيراً من آيات القرآن فسرتها آيات أخرى، إما بتخصيص، وإما ببيان، وإما بتفسير، وإما بأي نوع من أنواع التفسير والبيان.

ثانياً: تفسير القرآن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله أو فعله أو تقريره.

ثالثاً: تفسير القرآن والسنة بآثار أو بفهوم الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم هم الذين تلقوا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحملوا أمانة البلاغ، والذين طبقوا كثيراً من أحكام الإسلام حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا فإن هذا النهج هو نهج المؤمنين، وسار عليه أئمة الإسلام التابعون وتابعوهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعليه علماء الأمة أنهم يأخذون فهم النصوص على هذا التدرج.

ولا يعارض ما ثبت من تفسير النصوص بمجرد الاحتمالات، ولا يعارض بمجرد ما يضعه الناس من المقررات، خاصة بعد انتشار الأهواء والقول في الرأي في الدين، وبعد انتشار التحزبات والافتراق ونحو ذلك، فلا نبالي بما يضعه الناس من احتمالات للنصوص، سواء على سبيل التأويل، أو على سبيل التحريف، أو على سبيل التكلف، أو على سبيل الاستدلال المباشر إذا لم يكن على قواعد الاستدلال؛ لأن النصوص لا بد من أخذها بمجموعها على قواعد الاجتهاد الذي عليه سلف الأمة.

كذلك لا تؤخذ النصوص بمجرد الاحتمالات اللغوية، واللغة هي اللسان المبين الذي نزل به كلام ربنا عز وجل، وهي لسان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفصح الخلق أجمعين، ومع ذلك فإن الدلالات اللغوية يرتبط بعضها ببعض وترتبط بالمصطلحات الشرعية التي وضعت للدلالات اللغوية معانٍ مخصصة أو معممة، لأن الشرع خاصة في جانب العقيدة جاء باستعمال اللغة على نواحٍ معينة، فأحياناً الدلالة الشرعية تخصص المعنى اللغوي وأحياناً تعممه، فعلى سبيل المثال: الصلاة في اللغة: هي مجرد صلة القلب بالله عز وجل أو صلة الجوارح بالله، لكنها في الاصطلاح الشرعي خصصت بهذه العبادة التي جاءت على هيئة أركان وواجبات وأفعال حددها النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً: الصلاة هنا تخصص بالمعنى الشرعي، وكذلك الزكاة لغة: بمعنى النماء والزيادة، فأي نماء وزيادة فإنه يسمى زكاة، لكن إذا نظرنا إلى المفهوم الشرعي فإن الشرع حدد الزكاة بصرف جزء من المال على سبيل الوجوب أو الفرض كما أمر الله عز وجل، وهذا الجزء يسمى زكاة.

فلا بد في فهم نصوص الكتاب والسنة أن نرجع إلى المصطلحات الشرعية، ولا نلتفت بالاحتمالات اللغوية التي قد تخرج المعنى عن المقصود الشرعي.

قاعدة الإحداث في الدين

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ رابعاً: أصول الدين كلها قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يحدث شيئاً زاعماً أنه من الدين ].

الشرح: هذه القاعدة تتعلق بكمال الدين الذي بينه الله عز وجل وجعله من سمات هذا الدين الخاتم، وآخر الديانات وخاتمها، وجعل هذا من خصائص ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يعتريه النقص ولا الزيادة ولا التحريف ولا النسخ ولا التبديل؛ ولذلك حفظه الله عز وجل وتكفل بحفظه؛ كما ختم الله النبوة فلا يحتاج الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبوة ولا وحياً؛ لأن الدين كامل، والكمال يشمل كمال العقيدة.. كمال التشريع.. كمال الأخلاق.. كمال المعاملات.. كمال صلاحيته لكل زمان ومكان، وإذا تخلف المسلمون عن إدراك هذا الكمال وتطبيقه فالعيب في المسلمين لا في الإسلام؛ ولذلك نقول معتقدين وجازمين: إنه متى جدَّ المسلمون في تطبيق الإسلام عقيدة وشريعة سيجدون الكمال المطلق في صلاحيته لأحوالهم وعلاج مشكلاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم ومع البشرية جمعاء على منهج سليم قويم.

إذاً: أمور الدين كلها قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً، ويدخل فيها الأصول والعقائد والمسلمات والثوابت، ويدخل فيها الأحكام بقواعدها وبمفرداتها، وكل ذلك مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً شاملاً كاملاً، والبشر قد يقصرون عن إدراك هذا، وإذا كنا قد قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين الدين كله، فإذاً: ليس لأحد أن يحدث شيئاً مهما كان ثم يزعم أنه من الدين، صغيراً أو كبيراً، في العقيدة أو الأحكام، في القواعد أو الفروع، كل ذلك لا يمكن أن يرد، بل لا يجوز إطلاقاً أن نتلقى من أحد شيئاً من أمور الدين وهو لم يرد في الكتاب ولا السنة، أما ما وافق الكتاب والسنة فأصله الوحي.

قاعدة التسليم المطلق للنصوص الشرعية

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ خامساً: التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، فلا يعارض شيء من الكتاب أو السنة الصحيحة بقياس، ولا ذوق، ولا كشف، ولا قول شيخ، ولا إمام.. ونحو ذلك ].

الشرح: هذه القاعدة تتعلق بأساس الاعتقاد في قلب المسلم ومشاعره وجوارحه، فالدين أصلاً الدين كله جملة وتفصيلاً مبدأه يقوم على التسليم.. تسليم القلب والجوارح.. إذعان القلب والجوارح.. تصديق القلب، وظهور ثمار هذا التصديق على سلوكيات الإنسان وأعماله، سواء في علاقته بربه عز وجل، فيجب على المسلم أن يكون في علاقته بربه على كمال التسليم والتصديق والإذعان والرضا والمحبة لله عز وجل والخوف والرجاء؛ لأن التسليم لله تعالى يبدأ من القلب، ثم تتبين آثاره بالضرورة على الجوارح: على اللسان.. على الأعمال في الفرائض.. الأعمال في العبادات.. الأعمال في الأخلاق.. الأعمال في التعامل، وكل هذه المسائل تنطلق من التسليم؛ ولذلك سمي الإسلام إسلاماً؛ لأن مبناه على التسليم لله عز وجل بالطاعة والمحبة والانقياد له، ونظراً لأن التسليم يبدأ بالقلب فإن قاعدة التسليم الأساسية هي محبة الله عز وجل المحبة الحقيقية، ثم الرجاء والخوف والخشية.

إن المقصود من تعلم العقيدة التسليم لله عز وجل أولاً، ثم إذعان القلب وتوجهه إلى الله عز وجل بالتأله، وهذا معنى لا إله إلا الله، أن يتأله القلب بعد التسليم والإذعان والرضا، أن يتأله لله محبة وانجذاباً وحباً لما يرضي الله عز وجل وأن يبتعد عما يغضب الله، فالتسليم هو استسلام القلب، وينبني على استسلام القلب استسلام الجوارح؛ ولذلك من ادعى أنه مسلِّم لله بقلبه ولكن جوارحه لم تستسلم، لم يقم الفرائض.. لم يعمل بالواجبات.. لم ينته عن المنهيات، فدعواه كاذبة: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، ومن هنا يجب أن نستشعر دائماً عندما نقرأ العقيدة وندرسها ونتعلمها أن نقصد بذلك تعظيم الله عز وجل، وأن تظهر المعاني الإيمانية في القلب والسلوك، وإلا فإن الأمر يصبح مجرد دعوى.

ثم ينبني بالضرورة على التسليم لله عز وجل التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم، والتسليم للرسول صلى الله عليه وسلم له مقتضيات ولوازم ضرورية، من لم يعمل بها فهو كاذب وأول ذلك محبته صلى الله عليه وسلم المحبة الكاملة التي يكون النبي صلى الله عليه وسلم فيها أحب إلى المسلم من نفسه ومن ولده ومن ماله والناس أجمعين، وهذه الدرجة لا بد منها لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو سبب هدايتك، ولو وكلك الله إلى نفسك وجهدك لهلكت، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو سبب الهداية؛ ولذلك تقدمه على نفسك، ثم يستلزم من ذلك التسليم والطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم بعد محبته، لأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إضافة إلى أنها استجابة لأمر الله؛ لأن الله أمر بطاعته، فهي كذلك من مقتضى المحبة؛ لأنك إذا أحببت شيئاً تعلقت به وسعيت إلى ما يرضيه، فكيف بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي دين؟ فإنك إذا أحببت النبي صلى الله عليه وسلم وادعيت ذلك فلا بد من تحقيق مصداقية الدعوى، بأن تكون متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم في سنته حريصاً على تطبيق ما يقول وما يفعل وما يرشد به قدر الاستطاعة.

والأمور القلبية في حق الله تعالى وفي حق النبي صلى الله عليه وسلم لا يعذر بها أحد، وكل مسلم يجب أن يحب الله وأن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الأعمال هي التي بقدر الاستطاعة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

إذاً: معنى التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم: أن تتبعه قدر ما تستطيع، وأن تعمل بسنته، وأن تسعى إلى ما يرضيه، وأن تحب ما يحبه، وأن تحب من يحبهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحب فضائل الأعمال ويكره رذائل الأعمال، ويحب الصحابة والصالحين، فيجب على المسلم تسليماً للرسول صلى الله عليه وسلم أن يعمل بذلك، ظاهراً وباطناً، أن يكون التسليم قلبياً وظاهرياً، فالتسليم والإذعان واليقين والتصديق والمحبة هذا هو الباطن، أما الظاهر فهو أن يظهر دلالات التسليم على الأعمال كلها، في أداء الفرائض والواجبات والسنن والنوافل، وفي السيرة والسلوك، وفي تعاملك مع ربك عز وجل.. وفي تعاملك مع حق رسول الله صلى الله عليه وسلم,.. وفي تعاملك مع صالح الأمة من الصحابة والتابعين وسلف الأمة، ومع تعاملك مع العلماء، ثم مع تعاملك مع الولاة ومن لهم حق الولاية.. تعاملك مع والديك ومع الآخرين ومع جميع الناس.. ومع البشرية جمعاء، لا بد أن يظهر مصداق التسليم في التعامل الظاهري، ولا بد أن يجتمع هذا وذاك، فلو أن إنساناً ظاهره الإسلام والتسليم لكن باطنه ليس كذلك فهو منافق، والعكس كذلك من ادعى أنه في الباطن مسلم لله عز وجل ولم يظهر ذلك على أعماله فهو زنديق خارج من مقتضى الإسلام؛ لأن الإسلام ليس مجرد دعوى، الإسلام حقيقة علمية وعملية، عقدية ومنهجية، فلا بد أن يكون ذلك ظاهراً وباطناً.

وقوله: (فلا يعارض شيء من الكتاب أو السنة الصحيحة بقياس) من المعلوم أن القياس في الأمور الاجتهادية وارد، بل هو من وسائل المجتهدين في قياس بعض المسائل على بعض، أو إلحاق بعض المسائل على نصوص معينة من باب القياس، وهذا بالنسبة للأمور الاجتهادية.

لكن حين نتكلم عن العقيدة التي هي ثوابت ومسلمات ليس فيها زيادة ولا نقص، فلا يرد فيها القياس؛ لأنها توقيفية، والعقيدة ثوابت وغيب، ولا يجوز أن يكون في الغيب قياس؛ لأنا إذا قسنا عالم الغيب على الشهادة لا بد أن نقع في الخطأ، وسمي الغيب غيباً؛ لأنه غائب عن العقول والمدركات والحواس، ولذلك امتدح الله المؤمنين بالغيب؛ لأنهم سلموا لله عز وجل في العقيدة وأخبار الغيب بحكم أنها مغيبة عنهم، وعلى هذا لا يأتي القياس؛ لأنه ليس من مدارك عقلك ولا عواطفك ولا تجارب البصر ولا حواسهم، فكيف تقيسه على أمر مشهود معلوم؟!

إذاً: منع القياس في أمور العقيدة وأصول الدين ينبني على حفظ الدين وعلى الإشفاق على البشر من أن يعتقدوا بأوهام ووساوس وخطرات على مبدأ القياس الفاسد.

وقوله: (ولا ذوق) هذا إشارة إلى أن بعض أهل الأهواء والبدع يزعمون أن بعض الأولياء والصالحين إذا تذوقوا شيئاً، ومالت نفوسهم إليه، فإنه يعتبر حقاً وشرعاً، وهذا غير صحيح؛ لأنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فالذوق هنا غير وارد؛ لأن المقصود بالذوق: هو التشهي وميل النفس، والدين لا يبنى على التشهي وميل النفس، إنما يبنى على الخضوع والاستجابة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فليس للذوق أي دور في التشريع، ولا يكون الذوق مقياساً في القبول أو الرد، إلا إذا كان الذوق يوافق الكتاب والسنة فهذا لا يعني أننا أخذنا الدليل من الذوق، بل من الكتاب والسنة، فكون ذوق الإنسان الصالح أو الرجل المسلم التقي النقي يوافق ذوق الكتاب والسنة فهذا دليل على أنه وفِّق وليس دليلاً على أنه هو الذي اخترع هذا الأصل أو الحكم.

إذاً: ما يتذوقه الناس أمر يرجع إلى مداركهم هم، والدين لا يقرر بمدارك البشر.

وقوله: (ولا كشف) لأن هناك من أهل الأهواء والبدع من يزعمون أن من الصالحين وغيرهم من ينكشف له شيء من أمر الغيب أو من أحكام الحلال والحرام دون تقيد بالكتاب والسنة، وهذا باطل؛ لأنه مدخل للشيطان، فيقصدون بالكشف دعوى انكشاف أمر غيبي أو حكم شرعي لأحد من الناس بلا دليل، مهما بلغ وإلى أي درجة كان عند الناس، فإن ما ينكشف له يعرض على الكتاب والسنة، فإن كان ما يكشف له من الأمور والحدس والفراسة والكرامات يوافق الكتاب والسنة فبها ونعمت، ونحمد الله على ذلك وإذا لم يوافق الكتاب والسنة فهذا كشف مردود.

إذاً: الكشف ليس مصدراً من مصادر الدين.

وقوله: (ولا قول شيخ) أي: لا نقدم قول الشيوخ والعلماء والأئمة وكل من لهم اعتبار عند طوائف الأمة على الكتاب والسنة، ولا نعرض الكتاب والسنة على أقوالهم، بل من مقتضى التسليم لله عز وجل والتسليم للرسول صلى الله عليه وسلم: أن نعرض جميع أقوال الناس وأحوالهم وآراءهم ومواقفهم على نصوص الدين وقواعده باجتهاد الراسخين، فإن وافق قول ذلك الشيخ هذه الأصول الشرعية أخذنا به، وإن لم يوافقها فإما أن يكون زلة عالم، وإما أن يكون خطأ..

وقوله: (ولا إمام) هذا أيضاً داخل في مفهوم الشيخ، ويرجع هذا إلى تنويع المصدرية عند الناس أو في التلقي، وبعض الناس يأخذ عن من يزعم أنهم أئمة، وبعض الناس يسميهم الشيوخ، وبعضهم يسميهم الأولياء، وبعضهم يسميهم العلماء.. إلى آخره، ولا عبرة بالتسمية هنا بل كل هؤلاء كلامهم ومواقفهم وأقوالهم وأحكامهم معروضة على مقتضى الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب وقول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أخذنا به، وما خالف ذلك فهو مردود على أي وجه من وجوه الرد، ومن هنا يجب على المسلم دائماً أن يكون حذراً من أن تنحرف عقيدته بسبب هذه المسالك.

وقوله: (ونحو ذلك) أي: نحو ذلك مما يعتبره الناس من التعلق بالعصبيات.. الحزبيات.. التيارات.. المذهبيات، كل هذه مهما كانت إما مقالات أو أقوال أو مناهج فإنها لا تكون مصدراً للدين، ومن جعلها مصدراً فقد اختل تسليمه لله وتسليمه للرسول صلى الله عليه وسلم، بل كل ما يصدره الناس من هذه المناهج والأقوال والحزبيات والاتجاهات فهو معروض على الكتاب والسنة، وليس لأحد أن يجعل مصدره هذه الأمور التي اخترعها الناس.

قاعدة تعارض العقل مع النقل

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ سادساً: العقل الصريح موافق للنقل الصحيح، ولا يتعارض قطعيان منهما أبداً، وعند توهم التعارض يقدم النقل ].

الشرح: هذه قاعدة تقتضيها النصوص ويقتضيها العقل السليم، وتقتضيها الفطرة، فكل مسلم ينشأ على الفطرة المستقيمة السليمة بعيداً عن المؤثرات الخارجية مثل الوساوس والأوهام، يدرك أن النقل الذي هو كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم المعصوم أنهما المصدر، وهذه بدهية، فعلى هذا لا يجوز أن يقدم أي مصدر آخر عليه، بل الحق الذي عليه كل صاحب فطرة أن العقل السليم لا بد أن يكون موافقاً للشرع؛ لأن العقل السليم الموافق للفطرة الصحيحة السليمة لا بد أن يخضع لله عز وجل ويستجيب، والعقل السليم لا بد أن يسلم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وكمال دينه، ويخضع ويسلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وفى بالدين، فإذا سلم فلا يمكن أن يتقدم على الله ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم، بمعنى أن يضع لنفسه قواعد أو مسلمات، ثم يقول: أقدمها على الشرع، وهذه محاكمة فطرية عقلية لمن يقدمون العقول أو مقتضيات العقول والآراء على الدين، فنقول لهم: كيف عرفتم أن الدين حق؟ قالوا: بعقولنا، نقول: عقولكم هذه التي عرفتكم أن الدين حق هل تعتبر الدين كاملاً ووافياً؟ يقولون: نعم؛ لأنها أدركت هذا من خلال واقع الدين، إذاً: ما دامت اقتنعت العقول بوفاء الدين وكماله إذاً كيف تزيد أو تنقص؟!

وهناك أمر يلتبس على بعض الناس وهو أنهم يزعمون أن الله عز وجل جعل العقل هو مناط التكليف، العقل الذي كلف بأن ينظر في النصوص، وكلف بأن يجتهد! وكلف بأن يتعظ وينظر في علل الشرع وأسرار الدين، لكن هل كلف بأن يضع ديناً مع دين الله؟!

فالله عز وجل كرم العقل وجعله مناط التكليف، لكنه أشفق عليه من أن يدخل في أمور الدين التي هي من حق الله عز وجل ومن حق رسوله صلى الله عليه وسلم المعصوم.

إذاً: العقل السليم يوافق النقل الصحيح، يوافق القرآن وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العقل خلق الله والدين أمره، فلا يمكن أن يتعارض الخلق والأمر؛ لأن كلاهما من الله عز وجل، وكلاهما على الكمال والحق.

ثم إن النقل الصحيح وافٍ وكامل لا يحتاج إلى مزيد أو نقص أو تدخل.

وقوله: (ولا على هذا لا يتعارض قطعيان منهما أبداً) فإذا قلنا: إن العقل قطع بأمر من الأمور العلمية، ولنفرض أنه أمر في المسائل الرياضية البدهية كأن نقول: واحد زائد واحد يساوي اثنين، فهذه بدهية علمية وعقلية رياضية، فلا يمكن أن يأتي الشرع بما يخالف هذا، والعكس كذلك، إذا جاء الدين بحقيقة مسلَّمة وهو: أن اليوم الآخر ضرورة من الضرورات وحق لازم، فهل يمكن أن يدعي مدع أن عقله عنده دليل على نفي البعث واليوم الآخر؟! هذا مستحيل، فعلى هذا لا يتعارض قطعيان، إنما التعارض يكون وهماً عند بعض الناس، وهذا الوهم ينبغي ألا يسلط على الدين، وكون بعض الناس يبدو له أن المسألة الشرعية الفلانية غير معقولة، فماذا سيتهم؟ هل سيتهم عقله أو يتهم دين الله؟ الأولى أن يتهم عقله؛ لأن العقل يعتريه الفناء والنقص والضعف والنسيان والخلل، وأحياناً يبني على المعلومات الوافدة.. ويبني على التجارب.. ويبني على التخيلات والأوهام، فهل يعقل أن هذه الأمور تكون سابقة للشرع أو مقدمة عليه أو تتعارض حقائقها مع الشرع؟! أما الأوهام والوساوس والخطرات فينبغي من باب أولى ألا نجعلها محكمة في الدين.

وقوله: (وعند توهم التعارض)، معنى توهم التعارض أن الإنسان إذا بدا له أو توهم أن المسألة من مسائل الدين لا يستوعبها عقله، فهذا يسمى توهم التعارض، أي: يجد عقله أمام حقائق الدين الثابتة الضرورية لم يستوعبها، فهنا يكون الخلل في العقل؛ لأن الحقيقة الشرعية جاءت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فيستحيل أن يعتريها خلل أو نقص.

إذاً: نتهم العقل؛ لأننا نعلم قصوره، فالعقلاء يعلمون أن عقولهم محدودة وقاصرة وأنه يعتريها جميع عوارض النقص وما في ذلك الفناء، بينما الحقائق الشرعية لا يعتريها نقص بل هي أبدية، فمن هنا إذا تأمل الناظر أو المسلم بعض الأمور وتوهم أو بدا له أو وسوس أو اشتبه عليه أمر فلا ينبغي أن يسلط الاشتباه على النص أو على الحقيقة الشرعية، بل يتهم العقل أولاً، ثم يبحث إن كان يريد أن يستفيد من أدلة اليقين كما طلب إبراهيم عليه السلام من ربه أن يعطيه من أدلة اليقين، مع أنه لا يشك، لكن يريد زيادة في الدليل والمسلم له أن يبحث عن أدلة اليقين بقدر ما يستطيع، لكن لا يكون ذلك على حساب التشكيك في الدين ودعوى عصمة العقل، فالعقل ليس بمعصوم.

قاعدة الألفاظ الشرعية والألفاظ المجملة والبدعية

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ سابعاً: يجب الالتزام بالألفاظ الشرعية في العقيدة وتجنب الألفاظ البدعية التي أحدثها الناس، والألفاظ المجملة المحتملة للخطأ والصواب يستفسر عن معناها، فما كان حقاً أثبت بلفظه الشرعي، وما كان باطلاً رد ].

الشرح: هذه من القواعد الصغيرة لكنها مهمة، وأمثلتها قليلة لكنها مهمة أيضاً، فالمسلم دائماً عندما يعبر عن الأصول والثوابت والأركان وقضايا الدين الكبرى أو عن السنن القطعية ونحوها يجب عليه أن يعبر بالمصطلحات وبالألفاظ الشرعية، فيسمي الصلاة صلاة ولا يسميها بغير اسمها، ويسمي الزكاة زكاة، وبعض الناس تأخذه مجاراة الثقافة العامة عند الناس فيذهب وكأنه يريد أن يبسط للناس المفاهيم، فيسمي الزكاة ضريبة، أو يسمي الحج القصد أو نحو ذلك، فهذا خروج بالأصول الشرعية عن لوازمها، لأن من لوازم المعاني الشرعية أن يلتزم ألفاظها، وكذا بقية الأمور التي تنبني عليها العقيدة أو ثوابت الأحكام، مثل: الحلال القطعي والحرام القطعي، وأصول الأخلاق، ونحوها، فنسمي الصدق باسمه، ونسمي الربا باسمه، وكذلك ألفاظ العقيدة خاصة التي تتعلق بالله عز وجل وهو أعظم ما يجب أن يعناه المسلم، فنحن ندرس ما يتعلق بالله في ذاته وأسمائه وصفاته لنعظم الله، ولنغرس في قلوبنا محبة الله وخوفه ورجاءه، وهذا لا يؤدي دوره على المعنى الكامل إلا بالتزام الألفاظ الشرعية في أسماء الله وصفاته؛ ولذلك قال السلف: أسماء الله توقيفية بألفاظها، بمعنى: أن نقف على ألفاظها الشرعية، فلا نأتِ بألفاظ أدبية أو فلسفية أو معانٍ عامة فضفاضة متميعة فنعبر بها عن حق الله عز وجل، كما يعبر بعض الفلاسفة عن الله بأنه مجرد قوة؟! والله سبحانه وصف نفسه بالقوي أو بالقدير العليم الغني. التي تغني عن مثل لفظة (القوة)، والألفاظ الشرعية تؤدي المعنى على أكمل وجه في القلب والعقل والجوارح والوجدان والمشاعر، فإن هذه الأمور أو ما يختلج في الإنسان من المشاعر لا تنمو نمواً دينياً شرعياً على وجه شرعي صحيح إلا باستعمال المصطلحات الشرعية التي هي كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وبلسان عربي مبين، وكذلك المعاني الأخرى فيما يتعلق بالله عز وجل مثل بعض أسمائه وصفاته، فربما يعبر عن الله عز وجل بأنه مستوٍ على عرشه دون خروج عن مقتضى النص؛ لأن كلمة الاستواء لفظ شرعي، وهو أفضل وأكمل تعبير عن حقيقة الاستواء كما يليق بجلال الله عز وجل، فلا نذهب نصرفها إلى معانٍ محتملة وتأويلات موهمة؛ لأن هذا يفرغ الكلمة عن محتواها الحقيقي الذي ينمي في القلب الإيمان بالله عز وجل على الوجه الشرعي الصحيح.

كذلك العلوم ونحوها مما يتعلق بالله عز وجل، حتى في مجملات الدين ينبغي أن نعبر عنها بالمعاني الشرعية التي تغرس في المسلم حب التدين على وجه صحيح، والتي تغرس في المسلم الولاء للشرع على وجه صحيح، فمثلاً: لا يجوز أن نسمي الدين تقاليد أو موروثات، فإن التقاليد لها معنى يشمل ما يخترعه الناس وما يتبعونه كما يشمل العوائد الباطلة وأموراً أخرى كثيرة فيها حق وباطل.

إذاً: يجب على المسلم أن يعود نفسه دائماً ويربي أبناءه، ويجب علينا جميعاً في تربية الأجيال أن نربيهم على هذه المسلَّمات، وأن تتعود ألسنتهم على استعمال الألفاظ الشرعية بمعانيها، فإن هذا هو الذي ينمي حقيقة الإيمان في القلوب، وينمي حقيقة التقوى في القلوب، وينمي في الإنسان خشية الله وخوفه ورجاءه، وينمي في الإنسان رقابة الله وتقواه؛ ولذلك نجد أن من أعظم أسباب ضعف المعاني القلبية في قلوب المسلمين أنهم بدءوا يخرجون عن استعمال المصطلحات الشرعية إلى مصطلحات أخرى فضفاضة لا تؤدي إلى المعاني الشرعية، بل غالباً تحرف المسلم عن التصور الحقيقي والمعنى الشرعي الذي يجب أن يثبت في قلبه ويغرس في قلبه الإيمان وفي عقله ووجدانه ومشاعره وعلاقاته وتعاملاته مع الخلق.

وقوله: (والألفاظ المجملة المحتملة للخطأ والصواب يستفسر عن معناها، فما كان حقاً أثبت بلفظه الشرعي، وما كان باطلاً رد) فمثلاً: تعبير بعض الناس عن علو الله عز وجل بالجهة، فبعض الناس ينفي العلو والاستواء لأنه يقتضي الجهة، ونحن لا نرد كلمة جهة مطلقاً ولا نقبلها مطلقاً، إنما نستفصل على النحو التالي فنقول: ماذا تريد بالجهة التي تنفيها أو تثبتها؟ إن أردت بالجهة علو الله عز وجل فلا شك أن الله هو العلي، لكن لا نسمي هذا جهة، لأننا فرغنا المعنى الحقيقي وأرجعناه إلى اللفظ الشرعي وهو العلو واسم الله العلي، فالله عز وجل من أسمائه العلي، وله العلو المطلق، ومن صفاته: العلو والاستواء، فنقول: إذاً المعنى الصحيح من الجهة وهو العلو نأخذ به، لكن كلمة جهة فيها نظر لأنها ملتبسة فلسنا بحاجة إلى استعمالها.

أما إن أردت بالجهة المكان الذي يحوي، فالله عز وجل منزه عن أن يحويه مكان، بل هو سبحانه خالق الأزمنة والأمكنة، وخالق العالم كله، فلا ينبغي أن يرد هذا في ذهن أحد، بل يجب أن نبين ونعظ وننصح من يقول مثل هذه الكلمات؛ لأنها سوء أدب مع الله، فمثل هذه الأمور لا تقال في حق الله عز وجل؛ ولذلك لما سئل الإمام مالك عن بعض أمور تتعلق بالاستواء في حق الله عز وجل وهو سؤال منكر وغريب لم يعرفه السلف، فأصابه العرق وكاد أن يغمى عليه وتصبب عرقه تعظيماً لله؛ لأنه سمع كلاماً عظيماً مع أنه مجرد سؤال، ثم أجاب السائل بجواب شرعي وأراد أن يؤدب السائل لتتأدب الأمة في ذلك الوقت لأنه لم ينتشر ولم يشتهر استعمال المصطلحات البدعية في ذلك الزمان.

إذاً: اللفظ الذي يحدثه الناس ننظر في معناه، فنأخذ المعنى الصحيح ونرجعه إلى اللفظ الشرعي، والمعنى الفاسد نرده ونرد الكلمة معه.

قوله: (أن كل ما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قبوله والعمل به وإن كان آحاداً في العقائد وغيرها).

الشرح: أي: أن كل ما ثبت من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله وتقريراته وسيرته فهو الدين ويجب قبوله والتسليم به.

أما التقييد بقولنا: (وإن كان آحاداً) فلأن بعض أهل الأهواء والبدع خاصة الذين عولوا على مصادر أخرى غير الكتاب والسنة وجدوا أن مبادئهم وأصولهم التي تقوم على التأويل والتعطيل تتصادم أحياناً مع بعض النصوص، فكان من حيلهم: أن زعموا أن كثيراً من النصوص التي تصادم أصولهم أحاديث آحاد، والمقصود بأحاديث الآحاد: التي يكون في سندها رجل واحد، كحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، ومن المعلوم أن هذا التقييد باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الصحابة وكلهم ثقات، وهم بلغوا الدين، وقد رضي الله عنهم وبين أنهم عدول، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعدالة، بل حملهم أمانة نقل الدين، فمن هنا لا بد أن نأخذ رواياتهم وإن كانت روايات آحاد ما دامت صحت عن الثقات؛ ولذلك فإن السنة أكثرها أحاديث الآحاد، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحجة على الأمم أكثرها بأفراد، ولعل من أوضح الشواهد على ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم لما بلغهم عن طريق أحد الصحابة أن القبلة صرفت من بيت المقدس إلى الكعبة انصرفوا جميعاً، مع أن الذي بلغهم رجل واحد من الصحابة، فانصرفوا إلى الكعبة وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

إذاً: الدين هو ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان الراوي واحداً أو أكثر من واحد، خاصة إذا كان الراوي في أعلى الإسناد.

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ ثالثاً: المرجع في فهم الكتاب والسنة: هو النصوص المبينة لها، وفهم السلف الصالح، ومن سار على منهجهم من الأئمة، ولا يعارض ما ثبت من ذلك بمجرد احتمالات لغوية ].

الشرح: هذه القاعدة الثالثة في منهج تلقي مصادر الدين، وكيف نستدل بها؟ وممن نستمد الدين؟

وهذه القاعدة من أهم القواعد في هذا الباب؛ لأنها هي المنهج في تلقي الدين الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم ورسمه خلفاؤه الراشدون، والذي عليه سلف الأمة وسبيلهم هو سبيل المؤمنين، وهو أن المرجع في فهم نصوص القرآن وفهم السنة قولاً أو فعلاً أو تقريراً أو حالاً، أي: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يأتي على الدرجات التالية:

أولاً: تفسير القرآن بالقرآن، ونحن نعلم كما هو منهج السلف في الاستدلال أن كثيراً من آيات القرآن فسرتها آيات أخرى، إما بتخصيص، وإما ببيان، وإما بتفسير، وإما بأي نوع من أنواع التفسير والبيان.

ثانياً: تفسير القرآن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله أو فعله أو تقريره.

ثالثاً: تفسير القرآن والسنة بآثار أو بفهوم الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم هم الذين تلقوا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحملوا أمانة البلاغ، والذين طبقوا كثيراً من أحكام الإسلام حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا فإن هذا النهج هو نهج المؤمنين، وسار عليه أئمة الإسلام التابعون وتابعوهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعليه علماء الأمة أنهم يأخذون فهم النصوص على هذا التدرج.

ولا يعارض ما ثبت من تفسير النصوص بمجرد الاحتمالات، ولا يعارض بمجرد ما يضعه الناس من المقررات، خاصة بعد انتشار الأهواء والقول في الرأي في الدين، وبعد انتشار التحزبات والافتراق ونحو ذلك، فلا نبالي بما يضعه الناس من احتمالات للنصوص، سواء على سبيل التأويل، أو على سبيل التحريف، أو على سبيل التكلف، أو على سبيل الاستدلال المباشر إذا لم يكن على قواعد الاستدلال؛ لأن النصوص لا بد من أخذها بمجموعها على قواعد الاجتهاد الذي عليه سلف الأمة.

كذلك لا تؤخذ النصوص بمجرد الاحتمالات اللغوية، واللغة هي اللسان المبين الذي نزل به كلام ربنا عز وجل، وهي لسان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفصح الخلق أجمعين، ومع ذلك فإن الدلالات اللغوية يرتبط بعضها ببعض وترتبط بالمصطلحات الشرعية التي وضعت للدلالات اللغوية معانٍ مخصصة أو معممة، لأن الشرع خاصة في جانب العقيدة جاء باستعمال اللغة على نواحٍ معينة، فأحياناً الدلالة الشرعية تخصص المعنى اللغوي وأحياناً تعممه، فعلى سبيل المثال: الصلاة في اللغة: هي مجرد صلة القلب بالله عز وجل أو صلة الجوارح بالله، لكنها في الاصطلاح الشرعي خصصت بهذه العبادة التي جاءت على هيئة أركان وواجبات وأفعال حددها النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً: الصلاة هنا تخصص بالمعنى الشرعي، وكذلك الزكاة لغة: بمعنى النماء والزيادة، فأي نماء وزيادة فإنه يسمى زكاة، لكن إذا نظرنا إلى المفهوم الشرعي فإن الشرع حدد الزكاة بصرف جزء من المال على سبيل الوجوب أو الفرض كما أمر الله عز وجل، وهذا الجزء يسمى زكاة.

فلا بد في فهم نصوص الكتاب والسنة أن نرجع إلى المصطلحات الشرعية، ولا نلتفت بالاحتمالات اللغوية التي قد تخرج المعنى عن المقصود الشرعي.

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ رابعاً: أصول الدين كلها قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يحدث شيئاً زاعماً أنه من الدين ].

الشرح: هذه القاعدة تتعلق بكمال الدين الذي بينه الله عز وجل وجعله من سمات هذا الدين الخاتم، وآخر الديانات وخاتمها، وجعل هذا من خصائص ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يعتريه النقص ولا الزيادة ولا التحريف ولا النسخ ولا التبديل؛ ولذلك حفظه الله عز وجل وتكفل بحفظه؛ كما ختم الله النبوة فلا يحتاج الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبوة ولا وحياً؛ لأن الدين كامل، والكمال يشمل كمال العقيدة.. كمال التشريع.. كمال الأخلاق.. كمال المعاملات.. كمال صلاحيته لكل زمان ومكان، وإذا تخلف المسلمون عن إدراك هذا الكمال وتطبيقه فالعيب في المسلمين لا في الإسلام؛ ولذلك نقول معتقدين وجازمين: إنه متى جدَّ المسلمون في تطبيق الإسلام عقيدة وشريعة سيجدون الكمال المطلق في صلاحيته لأحوالهم وعلاج مشكلاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم ومع البشرية جمعاء على منهج سليم قويم.

إذاً: أمور الدين كلها قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً، ويدخل فيها الأصول والعقائد والمسلمات والثوابت، ويدخل فيها الأحكام بقواعدها وبمفرداتها، وكل ذلك مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً شاملاً كاملاً، والبشر قد يقصرون عن إدراك هذا، وإذا كنا قد قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين الدين كله، فإذاً: ليس لأحد أن يحدث شيئاً مهما كان ثم يزعم أنه من الدين، صغيراً أو كبيراً، في العقيدة أو الأحكام، في القواعد أو الفروع، كل ذلك لا يمكن أن يرد، بل لا يجوز إطلاقاً أن نتلقى من أحد شيئاً من أمور الدين وهو لم يرد في الكتاب ولا السنة، أما ما وافق الكتاب والسنة فأصله الوحي.


استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
مجمل أصول أهل السنة - الإيمان بالغيب 2578 استماع
مجمل أصول أهل السنة القرآن - القدر 1850 استماع
مجمل أصول أهل السنة - أهمية علم العقيدة 1768 استماع
مجمل أصول أهل السنة - الجماعة والإمامة 1713 استماع
مجمل أصول أهل السنة - الإيمان 1698 استماع
مجمل أصول أهل السنة - توحيد الأسماء والصفات 1689 استماع
مجمل أصول أهل السنة - أنواع التوسل 1493 استماع
مجمل أصول أهل السنة - وجوب الاتباع وذم الابتداع 1451 استماع
مجمل أصول أهل السنة - توحيد العبادة 1106 استماع