مجمل أصول أهل السنة - توحيد العبادة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وآله، ورضي الله عن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

قال المؤلف حفظه الله تعالى:

(ثالثاً: التوحيد الإرادي الطلبي (توحيد الألوهية):

أولاً: الله تعالى واحد أحد، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وهو رب العالمين المستحق وحده لجميع أنواع العبادة).

أولاً: التوحيد الطلبي هو توحيد العبادة، ويسمى التوحيد الإرادي؛ لأنه يكون بإرادة العباد، وكذلك الله أراده من العباد وطلبه منهم.

وكذلك يسمى التوحيد الطلبي؛ لأن توحيد العبادة هو التوجه والطلب إلى الله عز وجل بالعبادات من قبل العباد، ولأن الله عز وجل أيضاً طالب العباد به.

ويسمى توحيد الألوهية؛ لأنه مبني على التعبد والتأله، وهو المحبة والانجذاب إلى الله عز وجل، والانطراح إليه سبحانه، والخضوع له، والتوجه إليه بأنواع العبادة القلبية واللسانية وعبادة الجوارح، فمن هنا سمي: توحيد الإلهية أو الألوهية، وليس بينهما فرق.

إذاً: هذا النوع من التوحيد هو أفعال العباد التي يتوجهون بها إلى الله، وتبدأ بتوجه القلوب إلى الله عز وجل بمحبة الله ورجائه وخوفه، وما ينتج عن ذلك من التقوى ومن سائر أنواع العبادات التي تبدأ بالدعاء، وتنتهي بجميع أعمال وحركات الإنسان التعبدية.

قاعدة تفرد الرب بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات

القاعدة الأولى: هو أن الله عز وجل كما هو مقرر في العقول المستقيمة والفطر السليمة واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، متفرد سبحانه بالكمال والعظمة والجلال والجمال، متفرد بجميع الأسماء والصفات التي لا يمكن أن يشركه فيها أحد، فهو واحد بذاته، وواحد بأسمائه، وواحد بأفعاله، وواحد بصفاته، لا يشركه أحد.

وعلى هذا فهو سبحانه وحده الرب الذي له الربوبية المطلقة، فهو الفعال لما يريد، وكل شيء بيده سبحانه بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [المؤمنون:88] وبيده مقادير كل شيء سبحانه.

فهو الرب وحده، وهو المستحق لكل معاني الربوبية، ولا يستحق أحد معه أي معنى من هذه المعاني.

وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يستحق أحد العبادة سوى الله عز وجل؛ لأنه الكامل وحده، وهو الذي بيده مقاليد كل شيء، ليس بأيدي العباد أي شيء مما يستقلون به.

فهو كما أنه سبحانه لا شريك له في أسمائه وصفاته وأفعاله وذاته، كذلك لا شريك له في ربوبيته، فهو الرب المتصرف المالك، وهو أيضاً المستحق وحده لجميع أنواع العبادة؛ فهو رب العالمين، وهو معبودهم كذلك، فلا يستحق العبادة إلا الله وحده.

صرف شيء من العبادات لغير الله

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ ثانياً: صرف شيء من أنواع العبادة: كالدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، والنذر، والذبح، والتوكل، والخوف، والرجاء، والحب، ونحوها لغير الله تعالى شرك، أياً كان المقصود بذلك: ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً، أو عبداً صالحاً، أو غيرهم.. ].

الشرح: إذا قلنا: إن الله عز وجل هو واحد أحد في أسمائه وصفاته وأفعاله، وهو المستحق وحده للعبادة؛ فإذاً لا يعبد إلا الله، ثم لا يجوز صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى، وأنواع العبادة كثيرة، لكن أبرزها: الدعاء، ثم الصلاة والسجود وغير ذلك من الأنواع الظاهرة البينة؛ لأن العبادة أول ما تنشأ من القلب، والعبادة القلبية خفية، ولا نعلم ما بين العبد وبين ربه عز وجل، فتبقى العبادة الظاهرة التي تبدو على الأركان. وعلى أفعال الإنسان في سجوده وركوعه وتوجهه وقبلته وغير ذلك من الحركات التعبدية أو على أقواله، مثل: الدعاء والاستعانة والاستغاثة، أو على أفعال أخرى قد تدخل في هذا وذاك، فالذبح أمر مزدوج، فقد يذبح زاعماً أنه يذبح لله لكنه ينطق بالتسمية لغير الله، وقد يصرف العبادة اللسانية لغير الله، ولا شك أن هذا ناتج عن العبادة القلبية.

إذاً: التوجه إلى غير الله عز وجل بأي نوع من أنواع العبادة شرك، ولا يمكن أن يخفى على عاقل أنها من الأمور البينة التي يمارسها العباد بأفرادهم، فليست من الأمور الخفية، وأنواع العبادة قد يكون منها ما هو خفي يختلط فيه الأمر الغريزي بالتعبدي، فمثلاً: الصلاة لا تجوز لغير الله وهذا أمر بيِّن، والركوع والسجود -وهو جزء من الصلاة- أحياناً قد يفرد بعض الناس سجوداً لغير الله، ولو لم يكن صلاة كاملة، أو يفرد ركوعاً لغير الله، أو يتجه لغير القبلة، أو يطوف بغير الكعبة؛ وكل هذه عبادات محضة، وكلما صرفت لغير الله فهي شرك محض، وهذا بالنسبة للفعل، أما الفاعل فإنه يحتاج إلى أن نجري عليه شروط وموانع التكفير، سواء حكمنا بشركه أو ببدعته أو بنحو ذلك.

فأبرز أنواع العبادة: الدعاء والصلاة والسجود، ثم يدخل في ذلك الاستغاثة والاستعانة والذبح والتوكل والخوف والرجاء والحب، وهذه المعاني يوجد منها ما هو طبيعي غريزي فيما بين الخلق في تعاملاتهم، فهذا ليس هو الممنوع، وأمور تنبني على التقديس؛ وهذه هي العبادة، بمعنى أن نقول: الاستعانة بالمخلوقين فيما يقدرون عليه أمر مشروع، كأن تقول لأخيك: ناولني القلم، فهذا نوع من الاستعانة، ولكنها استعانة جائزة ومشروعة ولا يماري فيها إلا جاهل، لكن إذا استعنت بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن تأتي إلى ميت وتقول: أعني على كذا، أو تأتي إلى إنسان حي تريد منه أن يأتي لك بالخوارق التي لا يقدر عليها إلا الله، أو تريد منه أن ينزل لك المطر؛ فتكون بهذا استعنت به فيما لا يقدر عليه إلا الله، فمن هنا وقع الشرك.

كذلك الاستغاثة والنذر، لكن النذر غالباً لا يكون إلا تعبدياً، ومع ذلك فإن بعض الناس قد يخلط بين النذر والقسم، وبين النذر والحقوق التي يلتزم بها للعباد، فالنذر بمعناه في الاصطلاح العام عند الناس غالباً يكون تعبدياً، فعلى هذا لا يجوز النذر لغير الله.

أما الذبح فله صور أبرزها صورتان:

الصورة الأولى: مجرد الذبح مع التسمية لله عز وجل لأكل اللحم أو لإكرام الضيف، لغير قصد التعبد، فهذا من الأمور المباحة.

الصورة الثانية: أن تذبح تعبداً لغير الله.. وتقديساً لغير الله، فإذا ذبح الإنسان تعبداً لغير الله؛ فمن هنا يقع الشرك، وسواء سمى الله أو لم يسم.

والكثير من المسلمين بحمد الله في عافية من هذه الأمور، ولا يتصورونها؛ وقد يسأل سائل: هل إذا ذهبت لأذبح عند الجزار أو في البيت، وذبحت دون أن أسمي الله ناسياً، وأحياناً أسمي الله لكن قصدي إكرام هذا الضيف؛ فهل يكون هذا من باب الشرك؟

والجواب: أن هذا مشروع، لأن الذبح لإكرام الضيف سنة أبينا إبراهيم عليه السلام، وهو سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسنة السلف الصالح، ومن العوائد الكريمة عند الأمم.

لكن المقصود بالذبح الشركي: هو التقرب والتقديس.. ذبح العبادة، القربة التعبدية لغير الله بالذبح.

كذلك التوكل هو مثل الاستعانة والاستغاثة، إذا كان يعتمد الإنسان على العباد فيما يقدرون عليه، فهذا أمر جائز، لكن الأولى ألا يسمى توكلاً؛ لأن التوكل هو كمال الاعتماد، ولذلك فإن الصحيح شرعاً أن التوكل لا يكون إلا على الله عز وجل، وأن الاستعانة والاستغاثة من صور التوكل، لكنها تختلف في أنها تتعلق بالطلب من العباد، أما التوكل فهو الاعتماد الكلي، والاعتماد الكلي لا يكون إلا على الله عز وجل، وهو الاعتماد المطلق.

إذاً: التوكل إن قصد به معناه اللغوي فلا يجوز إلا على الله عز وجل، وإن قصد به الاستعانة والاستغاثة؛ فمنه ما هو ممنوع، ومنه ما هو مشروع.

وكذلك الخوف والرجاء والحب هذه معان قلبية وعاطفية توجد عند الناس، فمنها ما هو مشروع لا علاقة له بالتعبد، وهو ما بين العباد في علاقاتهم كأن ترجو من إنسان أن ينفعك رجاءً فيما يقدر عليه هو، أو تخاف من إنسان يمكن أن يهددك فيما يقدر عليه هو، أو تخاف من حيوان أو من بعض مظاهر الكون خوفاً غريزياً طبيعياً فيما يحدث من هذه الأمور التي تخاف منها؛ فهذا لا عيب فيه، وهو مشروع إذا لم يتعد الحد المعقول.

لكن الممنوع والذي يدخل في الشرك: هو حب التقديس، إذا أحببت أحداً من الخلق: نبياً كان أو ولياً أو صالحاً، أو جماداً أو أي مخلوق آخر.. إذا وصلت درجة المحبة إلى التقديس أو التعظيم الذي لا يجوز إلا لله؛ فهذا شرك.

وكذلك الخوف من إنسان لا يقدر على أن يضر؛ كأن تخاف من الميت أو ترجوه، أو تخاف من مخلوق أن يضرك في أمر لا يقدر عليه إلا الله، أو الخوف الذي يصل إلى حد اعتقاد أن الغائب يمكن أن يضرك في أمر لا يضرك فيه، فإذا وصل الخوف إلى هذه الدرجة فقد يكون شركاً أو كبيرة بحسب درجته.

إذاً: الخوف والرجاء والحب إذا وصل إلى حد التقديس أو إسناد شيء للمخلوقات فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فهذا شرك، أما إذا كان دون ذلك فهو غريزي، وقد يكون فيه إثم أحياناً إذا زاد عن الحد المعقول ولم يصل إلى درجة التقديس، وقد يكون مشروعاً وهو الغالب، لأن المحبة الطبيعية والرجاء الطبيعي والخوف الطبيعي؛ كله مشروع.

وقوله: (أياً كان المقصود بذلك) أي: أن كل هذه الأمور إذا صرفت لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو فيما لا يجوز إلا لله فهي شرك، سواء كان من صرفت إليه هذه الأمور ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً، أو من العباد الصالحين أو غيرهم، حتى وإن كان من أكرم الخلق ما دام مخلوقاً؛ فلا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة له، وإن كان أفضل العالمين وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يصرف الإنسان شيئاً من العبادة له كما قال صلى الله عليه وسلم لأحد الذين علقوا به شيئاً لا يجوز إلا لله، قال: (أجعلتني لله نداً).

القاعدة الأولى: هو أن الله عز وجل كما هو مقرر في العقول المستقيمة والفطر السليمة واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، متفرد سبحانه بالكمال والعظمة والجلال والجمال، متفرد بجميع الأسماء والصفات التي لا يمكن أن يشركه فيها أحد، فهو واحد بذاته، وواحد بأسمائه، وواحد بأفعاله، وواحد بصفاته، لا يشركه أحد.

وعلى هذا فهو سبحانه وحده الرب الذي له الربوبية المطلقة، فهو الفعال لما يريد، وكل شيء بيده سبحانه بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [المؤمنون:88] وبيده مقادير كل شيء سبحانه.

فهو الرب وحده، وهو المستحق لكل معاني الربوبية، ولا يستحق أحد معه أي معنى من هذه المعاني.

وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يستحق أحد العبادة سوى الله عز وجل؛ لأنه الكامل وحده، وهو الذي بيده مقاليد كل شيء، ليس بأيدي العباد أي شيء مما يستقلون به.

فهو كما أنه سبحانه لا شريك له في أسمائه وصفاته وأفعاله وذاته، كذلك لا شريك له في ربوبيته، فهو الرب المتصرف المالك، وهو أيضاً المستحق وحده لجميع أنواع العبادة؛ فهو رب العالمين، وهو معبودهم كذلك، فلا يستحق العبادة إلا الله وحده.

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ ثانياً: صرف شيء من أنواع العبادة: كالدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، والنذر، والذبح، والتوكل، والخوف، والرجاء، والحب، ونحوها لغير الله تعالى شرك، أياً كان المقصود بذلك: ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً، أو عبداً صالحاً، أو غيرهم.. ].

الشرح: إذا قلنا: إن الله عز وجل هو واحد أحد في أسمائه وصفاته وأفعاله، وهو المستحق وحده للعبادة؛ فإذاً لا يعبد إلا الله، ثم لا يجوز صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى، وأنواع العبادة كثيرة، لكن أبرزها: الدعاء، ثم الصلاة والسجود وغير ذلك من الأنواع الظاهرة البينة؛ لأن العبادة أول ما تنشأ من القلب، والعبادة القلبية خفية، ولا نعلم ما بين العبد وبين ربه عز وجل، فتبقى العبادة الظاهرة التي تبدو على الأركان. وعلى أفعال الإنسان في سجوده وركوعه وتوجهه وقبلته وغير ذلك من الحركات التعبدية أو على أقواله، مثل: الدعاء والاستعانة والاستغاثة، أو على أفعال أخرى قد تدخل في هذا وذاك، فالذبح أمر مزدوج، فقد يذبح زاعماً أنه يذبح لله لكنه ينطق بالتسمية لغير الله، وقد يصرف العبادة اللسانية لغير الله، ولا شك أن هذا ناتج عن العبادة القلبية.

إذاً: التوجه إلى غير الله عز وجل بأي نوع من أنواع العبادة شرك، ولا يمكن أن يخفى على عاقل أنها من الأمور البينة التي يمارسها العباد بأفرادهم، فليست من الأمور الخفية، وأنواع العبادة قد يكون منها ما هو خفي يختلط فيه الأمر الغريزي بالتعبدي، فمثلاً: الصلاة لا تجوز لغير الله وهذا أمر بيِّن، والركوع والسجود -وهو جزء من الصلاة- أحياناً قد يفرد بعض الناس سجوداً لغير الله، ولو لم يكن صلاة كاملة، أو يفرد ركوعاً لغير الله، أو يتجه لغير القبلة، أو يطوف بغير الكعبة؛ وكل هذه عبادات محضة، وكلما صرفت لغير الله فهي شرك محض، وهذا بالنسبة للفعل، أما الفاعل فإنه يحتاج إلى أن نجري عليه شروط وموانع التكفير، سواء حكمنا بشركه أو ببدعته أو بنحو ذلك.

فأبرز أنواع العبادة: الدعاء والصلاة والسجود، ثم يدخل في ذلك الاستغاثة والاستعانة والذبح والتوكل والخوف والرجاء والحب، وهذه المعاني يوجد منها ما هو طبيعي غريزي فيما بين الخلق في تعاملاتهم، فهذا ليس هو الممنوع، وأمور تنبني على التقديس؛ وهذه هي العبادة، بمعنى أن نقول: الاستعانة بالمخلوقين فيما يقدرون عليه أمر مشروع، كأن تقول لأخيك: ناولني القلم، فهذا نوع من الاستعانة، ولكنها استعانة جائزة ومشروعة ولا يماري فيها إلا جاهل، لكن إذا استعنت بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن تأتي إلى ميت وتقول: أعني على كذا، أو تأتي إلى إنسان حي تريد منه أن يأتي لك بالخوارق التي لا يقدر عليها إلا الله، أو تريد منه أن ينزل لك المطر؛ فتكون بهذا استعنت به فيما لا يقدر عليه إلا الله، فمن هنا وقع الشرك.

كذلك الاستغاثة والنذر، لكن النذر غالباً لا يكون إلا تعبدياً، ومع ذلك فإن بعض الناس قد يخلط بين النذر والقسم، وبين النذر والحقوق التي يلتزم بها للعباد، فالنذر بمعناه في الاصطلاح العام عند الناس غالباً يكون تعبدياً، فعلى هذا لا يجوز النذر لغير الله.

أما الذبح فله صور أبرزها صورتان:

الصورة الأولى: مجرد الذبح مع التسمية لله عز وجل لأكل اللحم أو لإكرام الضيف، لغير قصد التعبد، فهذا من الأمور المباحة.

الصورة الثانية: أن تذبح تعبداً لغير الله.. وتقديساً لغير الله، فإذا ذبح الإنسان تعبداً لغير الله؛ فمن هنا يقع الشرك، وسواء سمى الله أو لم يسم.

والكثير من المسلمين بحمد الله في عافية من هذه الأمور، ولا يتصورونها؛ وقد يسأل سائل: هل إذا ذهبت لأذبح عند الجزار أو في البيت، وذبحت دون أن أسمي الله ناسياً، وأحياناً أسمي الله لكن قصدي إكرام هذا الضيف؛ فهل يكون هذا من باب الشرك؟

والجواب: أن هذا مشروع، لأن الذبح لإكرام الضيف سنة أبينا إبراهيم عليه السلام، وهو سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسنة السلف الصالح، ومن العوائد الكريمة عند الأمم.

لكن المقصود بالذبح الشركي: هو التقرب والتقديس.. ذبح العبادة، القربة التعبدية لغير الله بالذبح.

كذلك التوكل هو مثل الاستعانة والاستغاثة، إذا كان يعتمد الإنسان على العباد فيما يقدرون عليه، فهذا أمر جائز، لكن الأولى ألا يسمى توكلاً؛ لأن التوكل هو كمال الاعتماد، ولذلك فإن الصحيح شرعاً أن التوكل لا يكون إلا على الله عز وجل، وأن الاستعانة والاستغاثة من صور التوكل، لكنها تختلف في أنها تتعلق بالطلب من العباد، أما التوكل فهو الاعتماد الكلي، والاعتماد الكلي لا يكون إلا على الله عز وجل، وهو الاعتماد المطلق.

إذاً: التوكل إن قصد به معناه اللغوي فلا يجوز إلا على الله عز وجل، وإن قصد به الاستعانة والاستغاثة؛ فمنه ما هو ممنوع، ومنه ما هو مشروع.

وكذلك الخوف والرجاء والحب هذه معان قلبية وعاطفية توجد عند الناس، فمنها ما هو مشروع لا علاقة له بالتعبد، وهو ما بين العباد في علاقاتهم كأن ترجو من إنسان أن ينفعك رجاءً فيما يقدر عليه هو، أو تخاف من إنسان يمكن أن يهددك فيما يقدر عليه هو، أو تخاف من حيوان أو من بعض مظاهر الكون خوفاً غريزياً طبيعياً فيما يحدث من هذه الأمور التي تخاف منها؛ فهذا لا عيب فيه، وهو مشروع إذا لم يتعد الحد المعقول.

لكن الممنوع والذي يدخل في الشرك: هو حب التقديس، إذا أحببت أحداً من الخلق: نبياً كان أو ولياً أو صالحاً، أو جماداً أو أي مخلوق آخر.. إذا وصلت درجة المحبة إلى التقديس أو التعظيم الذي لا يجوز إلا لله؛ فهذا شرك.

وكذلك الخوف من إنسان لا يقدر على أن يضر؛ كأن تخاف من الميت أو ترجوه، أو تخاف من مخلوق أن يضرك في أمر لا يقدر عليه إلا الله، أو الخوف الذي يصل إلى حد اعتقاد أن الغائب يمكن أن يضرك في أمر لا يضرك فيه، فإذا وصل الخوف إلى هذه الدرجة فقد يكون شركاً أو كبيرة بحسب درجته.

إذاً: الخوف والرجاء والحب إذا وصل إلى حد التقديس أو إسناد شيء للمخلوقات فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فهذا شرك، أما إذا كان دون ذلك فهو غريزي، وقد يكون فيه إثم أحياناً إذا زاد عن الحد المعقول ولم يصل إلى درجة التقديس، وقد يكون مشروعاً وهو الغالب، لأن المحبة الطبيعية والرجاء الطبيعي والخوف الطبيعي؛ كله مشروع.

وقوله: (أياً كان المقصود بذلك) أي: أن كل هذه الأمور إذا صرفت لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو فيما لا يجوز إلا لله فهي شرك، سواء كان من صرفت إليه هذه الأمور ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً، أو من العباد الصالحين أو غيرهم، حتى وإن كان من أكرم الخلق ما دام مخلوقاً؛ فلا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة له، وإن كان أفضل العالمين وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يصرف الإنسان شيئاً من العبادة له كما قال صلى الله عليه وسلم لأحد الذين علقوا به شيئاً لا يجوز إلا لله، قال: (أجعلتني لله نداً).

قال المؤلف حفظه الله تعالى: (ثالثاً: من أصول العبادة: أن الله تعالى يعبد بالحب والخوف والرجاء جميعاً، وعبادته ببعضها دون بعض ضلال، قال بعض العلماء: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ).

عبادة الله عز وجل عند كل عابد لله عز وجل لا بد أن تقوم في قلبه على ثلاثة أسس وأركان موجودة جميعاً وفي آثار أعماله القلبية على جوارحه، وعلى لسانه وأعماله، وهذه الأركان الثلاثة هي:

من أصول العبادة المحبة

المحبة، ومعناها أن محبة التعظيم والتقديس لا تكون إلا لله عز وجل، فالواجب على العباد أن يحبوا الله سبحانه، وتمتلئ قلوبهم بمحبة الله تعظيماً وإجلالاً وتقديساً وتأليهاً وانجذاباً إلى الله عز وجل، وأن يكون الله عز وجل أحب إلى العبد من كل شيء، محبة التقديس والتعظيم والكمال.

ثم لا بد بعد ذلك من الركنين الأساسيين، وهما: الرجاء من جانب والخوف من جانب آخر، وهما لا يفترقان، بل لا بد أن تعلق كل منهما بالمحبة؛ ولذلك شبه بعض أهل العلم العبادة بالطير، فالمحبة رأسه، والرجاء جناحه الأيمن، والخوف جناحه الأيسر، ولا يمكن أن يطير الطير إلا بهذه الكيانات الثلاث، فعلى هذا لا بد أن يتعلق قلب المسلم برجاء الله، وأن يكون راجياً لله عز وجل، لا يتطرق إليه اليأس، والرجاء لا بد أن تقترن به الأسباب.

وكذلك الخوف لا بد أن يكون الإنسان خائفاً من الله، فيجمع بين المحبة والرجاء والخوف، ويوازن بينها، فلا يطغى جانب على جانب، وعلى هذا فإن من لوازم المحبة والرجاء والخوف العمل بشرع الله عز وجل؛ لأن مسألة المحبة إذا لم ينبثق عنها رجاء وخوف ثم عمل؛ تصبح مجرد دعوى، والله عز وجل قال على لسان نبيه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ [آل عمران:31]، فلا بد من الاتباع، والاتباع يجمع بين الوعد والوعيد والخوف والرجاء والعمل بالأحكام.

فالمسلم لا بد أن يجمع بين هذه الأصول الثلاثة: أن يكون محباً لله، ثم راجياً لثواب الله، ويعمل بالأسباب، وخائفاً من عقاب الله ويدرأ هذا العقاب باجتناب النواهي، فيعمل بالأوامر رجاء فضل الله، وينتهي عن النواهي خوفاً من الله، ومع ذلك كله لا بد أن يحب الله، وأن يعظم الله في المحبة، وأن يحب ما يحبه الله، ويحب من يحبهم الله.

وهذه الأمور إذا ضعف فيها جانب اختل الإيمان، وإذا فقد جانب فقد يفقد الإيمان كله، فالنقص في هذه الأصول الثلاثة أو في أحدها نقص في الإيمان، مع أنه يلزم من وجود بعضها وجود البعض الآخر، بمعنى أن من اكتملت محبته لله؛ اكتمل رجاؤه وخوفه، والعكس كذلك؛ ولذلك فإن من نقص أو اختل عنده أصل من هذه الأصول نقص إيمانه واختل إيمانه، وقد يفقد الإيمان بالكلية.

وقوله: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق)، معنى ذلك: أنه يوجد من المتفلسفة وبعض المتعبدة الجهال الذين ينتسبون للإسلام، من يزعم أنه يكفيهم التعلق القلبي بالله، وأن الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة فإنه يستغني عن العمل بالشرع، ولا يعول على الرجاء ولا على الخوف، ويزعم أنه بالمحبة حقق كمال العبادة وكمال المطلوب، وهذا خلاف قطعيات النصوص، والله عز وجل طلب من عباده أن يرجوه ويخافوه، وجعل ذلك هو أصل الدين والعبادة.

وأيضاً قد يترتب على هذه النزعة الاستهانة بشرع الله، فالذين زعموا أنهم يعبدون الله بالمحبة وتعلق القلوب بالله بالتقديس فحسب، سواء كان هذا عن طريق التفكر، أو عن طريق الرياضة القلبية أو الرياضة العقلية، أو تحت أي شعار من الشعارات التي عليها عباد الأمم وكثير من الفلاسفة؛ كل ذلك ضلال، مهما كانت المسالك المؤدية إليه؛ لأنه لا يمكن أن تكتمل المحبة إلا بتعلق القلب برجاء الله والعمل بأسباب الرجاء، وتعلق القلب بالخوف من الله والعمل بأسباب ذلك.

فعلى هذا فإن من عبد الله بالحب وحده تزندق، لأنه وقع في الاستهتار في الدين، وأقرب عبارة في عصرنا لمفهوم التزندق: الاستهتار، وهو اللامبالاة، لا يعمل بالأوامر ولا ينتهي عن النواهي، ويزعم أنه وصل إلى درجة فوق مستوى أن يلتزم الشرع.

وهناك مقولة خطيرة قال بها بعض العباد، ومن خلالها انغرست هذه المناهج الباطلة عند بعض الطرق الصوفية، وهي قول القائل: اللهم إني لا أعبدك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك، ونحن نعبد الله رجاءً وخوفاً، نعبد الله محبة له سبحانه، لكن نجمع مع ذلك رجاء الثواب والنعيم، وعلى رأس الثواب الجنة كما يلزم من محبتنا لله عز وجل الخوف من ناره ومن عقابه، نسأل الله أن يعيذنا من النار؛ فعلى هذا لا بد للمسلم أن يجمع بين هذه الأصول.

من أصول العبادة الخوف

وقوله: (ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري)، يعني: من عبده بمجرد الخوف، لا يبالي بالحب ولا بالرجاء؛ ووصل عنده الأمر إلى اليأس من رحمة الله، وهذا منهج غلاة العباد الذين منهم الحرورية، والحروري نسبة إلى حروراء التي لجأ إليها الخوارج بعدما فاصلوا علي بن أبي طالب وجماعة المسلمين، ومما تميز به الخوارج: التشديد على النفس بالعبادة؛ لأنهم غلبوا جانب اليأس وجانب الوعيد ولم يبالوا بالوعد؛ ولذلك غلب عليهم التنطع والغلو، وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم)، وذلك لأنهم يبالغون في الصلاة والصيام إلى أن زادوا عن الحد المشروع، فمن هنا انغرست في قلوبهم نزعة اليأس، ولم يعولوا على الوعد؛ فمن هنا وصف من يعمل ذلك بأنه حروري، وإلا فالذين يسلكون هذا المسلك أوسع من مجرد الحرورية، وهم طوائف عدة من الفلاسفة ومن العباد الأوائل الجهلة، ومن النساك، ومن بعض شيوخ الطرق وأتباعها، فهم ينضوون تحت إطار أكثر فرق المسلمين أحياناً، ويوجد من جهلة المسلمين حتى ممن ينتسب للسنة من قد يغلو ويشتدّ على نفسه وعلى الآخرين فيغلب جانب الخوف على جانب الرجاء.

من أصول العبادة الرجاء

وقوله: (ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ) بمعنى: من قال: الله عز وجل غفور رحيم، وسيغفر لنا جميع الذنوب، يترك الفرائض ويعمل المحرمات، ويقول: الله غفور رحيم، هذا مرجئ، المعنى أنه مال إلى مذهب غلاة المرجئة؛ لأن المرجئة صنفان:

الصنف الأول: الغلاة الجهمية الذين لا يبالون بالشرائع، ولا يبالون بالدين، بل يقولون: يكفي معرفة الله، فإذا عرفت الله فقد فزت الفوز الكامل، وكان إيمانك كاملاً، ومن هنا عولوا على هذا المبدأ وقالوا: لا قيمة للأعمال، ولهم فلسفات كثيرة في الأعمال وقد يقول قائل: هل يعقل للمسلم أن ينتسب للإسلام ويقول هذا؟ نقول: نعم، فقد يزل في هذا ويتزندق، لأن لهم فلسفة في هذا أغواهم الشيطان بها، وزعموا أن الشرائع إنما وضعت للناس الذين لا يتقيدون بمعنى الإيمان المعرفي، ويزعمون أنهم لا يحتاجون إلى ذلك كله، ويكفيهم معرفة الله؛ فلا يعولون على الخوف ولا المحبة، بل يكتفون بالرجاء.

الصنف الثاني: مرجئة الفقهاء وهم كذلك عندهم نوع انحراف عن السبيل، خاصة المتأخرة منهم، أما المرجئة الأوائل فقد يكون عندهم تعظيم للأعمال، وعندهم التزام بسنن الإسلام، لكن متأخرة المرجئة يغلبون جانب الإرجاء، ويستهينون بالكبائر والمعاصي، بل أحياناً يستهينون بالشركيات والكفريات زعماً منهم أن الناس تحت رجاء الله، فلا يعولون كثيراً على نصوص الوعيد، وإن عملوا بها يرجحون جانب الرجاء فيقعون في الخلل الذي يجعل المعاصي والفجور والبدع تكثر عندهم.

المحبة، ومعناها أن محبة التعظيم والتقديس لا تكون إلا لله عز وجل، فالواجب على العباد أن يحبوا الله سبحانه، وتمتلئ قلوبهم بمحبة الله تعظيماً وإجلالاً وتقديساً وتأليهاً وانجذاباً إلى الله عز وجل، وأن يكون الله عز وجل أحب إلى العبد من كل شيء، محبة التقديس والتعظيم والكمال.

ثم لا بد بعد ذلك من الركنين الأساسيين، وهما: الرجاء من جانب والخوف من جانب آخر، وهما لا يفترقان، بل لا بد أن تعلق كل منهما بالمحبة؛ ولذلك شبه بعض أهل العلم العبادة بالطير، فالمحبة رأسه، والرجاء جناحه الأيمن، والخوف جناحه الأيسر، ولا يمكن أن يطير الطير إلا بهذه الكيانات الثلاث، فعلى هذا لا بد أن يتعلق قلب المسلم برجاء الله، وأن يكون راجياً لله عز وجل، لا يتطرق إليه اليأس، والرجاء لا بد أن تقترن به الأسباب.

وكذلك الخوف لا بد أن يكون الإنسان خائفاً من الله، فيجمع بين المحبة والرجاء والخوف، ويوازن بينها، فلا يطغى جانب على جانب، وعلى هذا فإن من لوازم المحبة والرجاء والخوف العمل بشرع الله عز وجل؛ لأن مسألة المحبة إذا لم ينبثق عنها رجاء وخوف ثم عمل؛ تصبح مجرد دعوى، والله عز وجل قال على لسان نبيه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ [آل عمران:31]، فلا بد من الاتباع، والاتباع يجمع بين الوعد والوعيد والخوف والرجاء والعمل بالأحكام.

فالمسلم لا بد أن يجمع بين هذه الأصول الثلاثة: أن يكون محباً لله، ثم راجياً لثواب الله، ويعمل بالأسباب، وخائفاً من عقاب الله ويدرأ هذا العقاب باجتناب النواهي، فيعمل بالأوامر رجاء فضل الله، وينتهي عن النواهي خوفاً من الله، ومع ذلك كله لا بد أن يحب الله، وأن يعظم الله في المحبة، وأن يحب ما يحبه الله، ويحب من يحبهم الله.

وهذه الأمور إذا ضعف فيها جانب اختل الإيمان، وإذا فقد جانب فقد يفقد الإيمان كله، فالنقص في هذه الأصول الثلاثة أو في أحدها نقص في الإيمان، مع أنه يلزم من وجود بعضها وجود البعض الآخر، بمعنى أن من اكتملت محبته لله؛ اكتمل رجاؤه وخوفه، والعكس كذلك؛ ولذلك فإن من نقص أو اختل عنده أصل من هذه الأصول نقص إيمانه واختل إيمانه، وقد يفقد الإيمان بالكلية.

وقوله: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق)، معنى ذلك: أنه يوجد من المتفلسفة وبعض المتعبدة الجهال الذين ينتسبون للإسلام، من يزعم أنه يكفيهم التعلق القلبي بالله، وأن الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة فإنه يستغني عن العمل بالشرع، ولا يعول على الرجاء ولا على الخوف، ويزعم أنه بالمحبة حقق كمال العبادة وكمال المطلوب، وهذا خلاف قطعيات النصوص، والله عز وجل طلب من عباده أن يرجوه ويخافوه، وجعل ذلك هو أصل الدين والعبادة.

وأيضاً قد يترتب على هذه النزعة الاستهانة بشرع الله، فالذين زعموا أنهم يعبدون الله بالمحبة وتعلق القلوب بالله بالتقديس فحسب، سواء كان هذا عن طريق التفكر، أو عن طريق الرياضة القلبية أو الرياضة العقلية، أو تحت أي شعار من الشعارات التي عليها عباد الأمم وكثير من الفلاسفة؛ كل ذلك ضلال، مهما كانت المسالك المؤدية إليه؛ لأنه لا يمكن أن تكتمل المحبة إلا بتعلق القلب برجاء الله والعمل بأسباب الرجاء، وتعلق القلب بالخوف من الله والعمل بأسباب ذلك.

فعلى هذا فإن من عبد الله بالحب وحده تزندق، لأنه وقع في الاستهتار في الدين، وأقرب عبارة في عصرنا لمفهوم التزندق: الاستهتار، وهو اللامبالاة، لا يعمل بالأوامر ولا ينتهي عن النواهي، ويزعم أنه وصل إلى درجة فوق مستوى أن يلتزم الشرع.

وهناك مقولة خطيرة قال بها بعض العباد، ومن خلالها انغرست هذه المناهج الباطلة عند بعض الطرق الصوفية، وهي قول القائل: اللهم إني لا أعبدك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك، ونحن نعبد الله رجاءً وخوفاً، نعبد الله محبة له سبحانه، لكن نجمع مع ذلك رجاء الثواب والنعيم، وعلى رأس الثواب الجنة كما يلزم من محبتنا لله عز وجل الخوف من ناره ومن عقابه، نسأل الله أن يعيذنا من النار؛ فعلى هذا لا بد للمسلم أن يجمع بين هذه الأصول.

وقوله: (ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري)، يعني: من عبده بمجرد الخوف، لا يبالي بالحب ولا بالرجاء؛ ووصل عنده الأمر إلى اليأس من رحمة الله، وهذا منهج غلاة العباد الذين منهم الحرورية، والحروري نسبة إلى حروراء التي لجأ إليها الخوارج بعدما فاصلوا علي بن أبي طالب وجماعة المسلمين، ومما تميز به الخوارج: التشديد على النفس بالعبادة؛ لأنهم غلبوا جانب اليأس وجانب الوعيد ولم يبالوا بالوعد؛ ولذلك غلب عليهم التنطع والغلو، وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم)، وذلك لأنهم يبالغون في الصلاة والصيام إلى أن زادوا عن الحد المشروع، فمن هنا انغرست في قلوبهم نزعة اليأس، ولم يعولوا على الوعد؛ فمن هنا وصف من يعمل ذلك بأنه حروري، وإلا فالذين يسلكون هذا المسلك أوسع من مجرد الحرورية، وهم طوائف عدة من الفلاسفة ومن العباد الأوائل الجهلة، ومن النساك، ومن بعض شيوخ الطرق وأتباعها، فهم ينضوون تحت إطار أكثر فرق المسلمين أحياناً، ويوجد من جهلة المسلمين حتى ممن ينتسب للسنة من قد يغلو ويشتدّ على نفسه وعلى الآخرين فيغلب جانب الخوف على جانب الرجاء.

وقوله: (ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ) بمعنى: من قال: الله عز وجل غفور رحيم، وسيغفر لنا جميع الذنوب، يترك الفرائض ويعمل المحرمات، ويقول: الله غفور رحيم، هذا مرجئ، المعنى أنه مال إلى مذهب غلاة المرجئة؛ لأن المرجئة صنفان:

الصنف الأول: الغلاة الجهمية الذين لا يبالون بالشرائع، ولا يبالون بالدين، بل يقولون: يكفي معرفة الله، فإذا عرفت الله فقد فزت الفوز الكامل، وكان إيمانك كاملاً، ومن هنا عولوا على هذا المبدأ وقالوا: لا قيمة للأعمال، ولهم فلسفات كثيرة في الأعمال وقد يقول قائل: هل يعقل للمسلم أن ينتسب للإسلام ويقول هذا؟ نقول: نعم، فقد يزل في هذا ويتزندق، لأن لهم فلسفة في هذا أغواهم الشيطان بها، وزعموا أن الشرائع إنما وضعت للناس الذين لا يتقيدون بمعنى الإيمان المعرفي، ويزعمون أنهم لا يحتاجون إلى ذلك كله، ويكفيهم معرفة الله؛ فلا يعولون على الخوف ولا المحبة، بل يكتفون بالرجاء.

الصنف الثاني: مرجئة الفقهاء وهم كذلك عندهم نوع انحراف عن السبيل، خاصة المتأخرة منهم، أما المرجئة الأوائل فقد يكون عندهم تعظيم للأعمال، وعندهم التزام بسنن الإسلام، لكن متأخرة المرجئة يغلبون جانب الإرجاء، ويستهينون بالكبائر والمعاصي، بل أحياناً يستهينون بالشركيات والكفريات زعماً منهم أن الناس تحت رجاء الله، فلا يعولون كثيراً على نصوص الوعيد، وإن عملوا بها يرجحون جانب الرجاء فيقعون في الخلل الذي يجعل المعاصي والفجور والبدع تكثر عندهم.

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ رابعاً: التسليم والرضا والطاعة المطلقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالله تعالى حكماً من الإيمان به رباً وإلهاً، فلا شريك له في حكمه وأمره، وتشريع ما لم يأذن به الله، والتحاكم إلى الطاغوت، واتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وتبديل شيء منها كفر، ومن زعم أن أحداً يسعه الخروج عنها فقد كفر ].

هذه قاعدة عظيمة تنبني على الأعمال القلبية أولاً، ثم ثمار الأعمال القلبية التي هي جزء من الإيمان، فمن العبودية لله عز وجل توحيد الألوهية، فإن الأساس الأول للعبودية يبدأ من القلب.. من الضمير.. من المضغة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها في الجسد: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فالقلب لا بد أن يسلم لله عز وجل ويرضى، والتسليم هو الإذعان والاستعداد لما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يمتلئ قلب العبد بالتعلق بمراد الله، وما يريد الله منه.

وأن يكون قصده بذلك الاستجابة لأمر الله، فإن كان أمراً أخذ به، وإن كان نهياً انتهى عنه، وهذا التسليم يبدأ بالقلب، فالعبودية تنبني على التسليم أولاً، ثم الرضا.

وما بعد التسليم لا بد أن يلتزم الإنسان بالشرع، والالتزام قد يثقل أحياناً على النفس خاصة إذا سيطر عليها الهوى أو الشبهات أو الشهوات أو الجواذب والموانع والقواطع التي تصرف الإنسان عن العمل الحق والقول به وفعله، فهذه الصوارف تجعل عنده نوعاً من الاستثقال للدين، أو لبعض مفردات الدين، وهذا ينافي العبودية أو يخل بها.

فمن مقتضى العبودية بعد التسليم: الرضا والاستعداد والإذعان والطمأنينة، بحيث أن لا يتذمر الإنسان أو يستثقل أوامر الشرع، بل يرضى ويسلم للشرع والقدر.

ثم يلزم من ذلك الطاعة المطلقة لله عز وجل، والطاعة المطلقة هي الاستعداد للعمل، أما التنفيذ فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها بحسب المستطاع، وبعض الناس يظن أن معنى الطاعة المطلقة أن تطبق كل ما تؤمر به، وفي فرائض الدين وواجباته ما يستطيع تطبيقه عامة الناس، وفيها ما هو مبني على الاستطاعة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

فالطاعة المطلقة: طاعة انقياد وطاعة استعداد، ثم بعد ذلك العمل بالمستطاع، والطاعة المطلقة تكون لله عز وجل، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فأمر الله بأن نطيع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثم يلزم من ذلك كله: الاعتقاد والجزم بأن الله عز وجل هو الحكم، والحكم أن ترضى بحكمه وقضائه وشرعه، كما رضيت به رباً وكما استسلمت له بأنه إله، لأن من مقتضى إيمانك بأن الله رب ومعبود أن ترضى بحكم الله في كل شيء، في الشرع والقدر، وحكم الله أحياناً يخصك، وأحياناً فيما بينك وبين العباد، والأحكام التي تكون بينك وبين العباد كثير منها لا يقضى إلا بالأسس الشرعية وأسس التعامل مع الخلق، فإذاً: يجب أن تستعد للرضا بحكم الله عليك، أي: حكم شرع الله وقدره.

ثم يتبع ذلك أنه عز وجل لا شريك له في حكمه، والحكم حكمان: حكم قدري وحكم شرعي، وأمره أمرنا: أمر قدري وأمر شرعي.

وقوله: (وتشريع ما لم يأذن به الله) أي: إذا قلنا: إنه لا بد أن يكون الله عز وجل هو وحده الحكم، وهو الحاكم، وهو سبحانه الذي إليه التحاكم، وهو سبحانه المشرِّع؛ إذاً: تشريع أي شرع لم يأذن به الله، ولم يكن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو التحاكم إلى غير دين الله، أو اتباع أي شرع غير شرع محمد صلى الله عليه وسلم كل ذلك كفر.

وتشريع ما لم يشرعه الله، والتحاكم إلى غير دين الله تحاكم إلى الطاغوت، أو اتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم حتى في أمر جزئي كما يقول بعض المفتونين: لماذا لا نأخذ بعض أحكامنا من الديانات الأخرى؟

كيف نأخذ والله عز وجل قد أكمل لنا الدين، ونسخ الديانات السابقة، وقد يكون عند كثير من الديانات شيء من الحق، لكنه موجود عندنا وزيادة، ولا يمكن أن ينفرد اليوم دين من الديانات بشيء من الحق وهو لا يوجد في الإسلام، وهذه قاعدة حتمية قطعية، ولا يمكن أن ينفرد دين ولا مبدأ في العالم سواء من الأديان المنزلة التي حرفت، أو أديان من التي وضعها البشر أو النظم، لا يمكن أن ينفرد دين أو مبدأ بحق أو بشرع صالح للناس يستقل به عن الإسلام.

فلا بد أن يتضمن الإسلام كل ما يمكن أن يخطر على بال بشر من معالم الحق جملة وتفصيلاً، فلا يمكن أن ينفرد مبدأ بالحق من دون الإسلام، وإن وجد عند كثير من المبادئ بعض الأمور الجميلة في تشريعاتها. وفي نظمها، فهذا أمر قد يعترف لهم فيه، لكن يوجد في الإسلام ما هو أكمل منه، وإنما التقصير يكون من المسلمين أنفسهم في كثير من الأحوال.

وكذلك التبديل بأن يوضع نظام وضعي بدل نظام شرعي، وسواء كان هذا التبديل في الأحكام الجزئية أو الكلية، فالأصل فيه أن يكون كفراً، لكن قد يكون كفراً مخرجاً من الملة أو غير مخرج بحسب أنواعه.

وقوله: (ومن زعم أن أحداً يسعه الخروج منها -أي: من الشريعة- فقد كفر) المقصود: أن من ادعى أو توهم أو اعتقد أن بإمكانه أن يستغني عن شيء من شرع الله؛ فهذا يكون حكمه حكم السابقين في الصور الماضية أنه كفر.

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ خامساً: الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر، وقد يكون كفراً دون كفر.

فالأول: التزام شرع غير شرع الله، أو تجويز الحكم به.

والثاني: العدول عن شرع الله في واقعة معينة لهوى مع الالتزام بشرع الله.. ].

هذه من القضايا التي تحتاج إلى مزيد من التقعيد؛ لأن الكثير من صورها من النوازل والمستجدات، ففي عهد السلف في القرون الثلاثة الفاضلة وإلى قبل قرنين والمسلمون لا يعرفون النظم الشاملة التي يحكم فيها بغير الإسلام، ما عدا ما حدث من التتار وهو أمر جزئي في ظروف لم يستقر فيها نظام غير نظام الإسلام، إنما جاء في وقت هيمنة التتار.

وما عدا ذلك فلا يعرف المسلمون التبديل الشامل للنظم التي توضع بدلاً عن شرع الله، بل هذا لم يعرف إلا في العصر الحديث؛ ولذلك فهذه الأمور تحتاج إلى مزيد من التقعيد، وتكون في الصور الآتية:

أولاً: الحكم بغير ما أنزل الله الأصل فيه أنه كفر، لكن مع ذلك قد يكون كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وقد يكون كفراً أصغر غير مخرج من الملة، ويدخل فيه الفسق والظلم كما ورد في سياق الآيات.

ثانياً: أن الحكم على المعين يختلف عن الحكم العام، فالحاكم إذا حكم بغير ما أنزل الله فلا بد أن ننظر في الحكم عليه باعتبارات كثيرة:

أولها: أن الذين يحكمون هم العلماء الراسخون.

وثانيها: أنه لا بد من التثبت من ذلك.

وثالثها: لا بد من تطبيق شروط التكفير وانتفاء الموانع، وإن كان الحال كفراً، وهذا ينطبق على كثير مما يحدث من صور في العالم الإسلامي؛ فلذلك لا يجوز الاستعجال في تكفير دولة أو مؤسسة أو نظام أو حزب أو جماعة أو هيئة أو شخص ما لم تطبق هذه الشروط. كما يجب أن نفرق بين الحكم على المعينين والحكم العام الشرعي، فالحكم الشرعي العام واضح، لكن تطبيقاته هي التي وقع فيها كثير من الخلل والخطأ والزلل والافتيات على العلماء، والتسرع، فترتب على هذا أحكام حادة في التعامل مع الآخرين.

ثالثاً: الكفر الأكبر هو التزام شرع غير شرع الله، بمعنى أن الإنسان أو المسلم أو حتى غير المسلم يأخذ بشرع قصداً، أو بنظام قصداً، بأن يبعد شرع الله ويبدله، أو يجوز الحكم بغير شرع الله؛ فهذا كفر.

رابعاً: أن يعدل عن الشرع بسبب هوى أو جهل أو إفراط، أو بسبب التباس، وكثير ما يقع الالتباس على كثير من الناس خاصة في هذا العصر، فالعدول عن شرع الله عز وجل بهذه الأسباب، أو في واقعة معينة جزئية كأن يرد الإنسان حكماً قضائياً، أو مسألة حكم بها عالم وردها لهوى، فهذه الجزئيات وإن كانت قد تصل إلى أن تسمى حكماً بغير ما أنزل الله، إلا أنه لا يلزم منها تكفير صاحبها؛ لأنه قد يكون ذلك من الظلم أو الفسق أو الفجور أو الضلال.