شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).

فطلب العلم وحضور مجالس العلم فيه فضل عظيم، وأجر كبير. وإن طلب العلم بحسن إخلاص النية لا يعدله شيء، فهو من أفضل القربات، وأجل الطاعات، والعلم: هو ميراث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.

ولقد بين الله تعالى فضل العلم، وأهل العلم والعلماء، فقال سبحانه في كتابه العظيم: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].

وقال سبحانه: َ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. وقرن سبحانه وتعالى شهادة أهل العلم بشهادته وشهادة ملائكته على أعظم مشهود به، وهي الشهادة له سبحانه وتعالى بالوحدانية، فقال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].

ومجالس الذكر وطلب العلم أفضل من نوافل العبادة، فهي أفضل من نوافل الصلاة، ونوافل الصيام، ونوافل الحج، فطلب العلم مقدم على نوافل العبادات؛ وما ذاك إلا لأنه بطلب العلم وحضور مجالسه يتعلم الإنسان دينه، ويتبصر ويتفقه في دينه، ويعلم الحلال والحرام، ويعلم ما يجب لله تعالى، وما يصف الله به نفسه من الأسماء والصفات، ويعلم حق الله سبحانه وتعالى، فيعبده على بصيرة ولهذا ثبت في الصحيحين: من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).

قال العلماء: هذا الحديث له منطوق، وله مفهوم؛ فمنطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيراً.

ومفهومه: أن من لم يفقه الله في الدين لم يرد به خيراً.

فينبغي على المسلم أن يحرص على حضور مجالس وحلقات العلم والدروس العلمية، وأن يكون صاحب نية حسنة خالصة لله؛ لأن طلب العلم عبادة من أفضل القربات وأجل الطاعات، والعبادة لا بد فيها من شرطين، ولا تقبل إلا بهما:

الشرط الأول: أن تكون خالصة لله، مراداً بها وجه الله والدار الآخرة.

والشرط الثاني: أن تكون موافقة لشرع الله، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فينبغي لطالب العلم أن يحرص على مجالس العلم، وعلى الدروس العلمية، وأن يرتبط بها، وأن ينتهز الفرصة ما دامت هذه المجالس والحلقات موجودة، وأهل العلم موجودون، فقد يأتي وقت لا تتيسر له هذه المجالس، وقد يفقدها، فعلى طالب العلم أن يجتهد وأن يحرص، وأن يخلص نيته لله، وأن يكون قصده أن يتفقه ويتبصر في دين الله، وأن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]. وقيل للإمام أحمد رحمه الله: كيف ينوي طالب العلم؟ قال: ينوي أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره. فالأصل في الإنسان أنه لا يعرف، فيتعلم ويتبصر، فيرفع الجهل عن نفسه ويعبد ربه على بصيرة، ثم يرفع الجهل عن غيره، بأن يعلم غيره ما تعلَّم.

والأدلة والنصوص في فضل العلم وطلب العلم كثيرة ومشهورة ومعلومة.

أهل العلم هم أهل الصراط المستقيم

وأهل العلم والبصيرة هم أهل الصراط المستقيم، الذين أنعم الله عليهم، والذين منَّ الله عليهم بالعلم والعمل؛ فإن أهل الصراط المستقيم هم أهل الهداية والتقوى، وأهل الفلاح والبر، وهم الذين نسأل الله في كل ركعة من ركعات الصلاة في سورة الفاتحة أن يهدينا طريقهم، عندما نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم، الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل. وأنت في كل ركعة في قراءة الفاتحة تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم، الذين من الله عليهم بالعلم والعمل، وتسأل الله أن يجنبك طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين. والمغضوب عليهم: هم الذين يعلمون ولا يعملون بعلمهم، ولكن لا يعملون بعلمهم، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً اليهود، فاليهود يعلمون ولا يعملون، وتسأل الله أن يجنبك طريق الضالين: وهم الذين يعبدون الله على جهل وضلال، ولديهم عمل، ولكن ليس لديهم علم ولا بصيرة، كالنصارى وأشباههم من الصوفية والزهاد الذين يتخبطون في دياجير الظلمات، وليس عندهم بصيرة.

إذاً: فهما داءان، من سلم منهما فقد سلم. داء الغواية، وداء الضلال.

فأما داء الغواية: فهو عدم العمل بما يعلمه الإنسان.

وداء الضلال: هو أن يتعبد الله على جهل وضلال، وقد برأ الله نبيه الكريم من هذين الداءين، فقال سبحانه وتعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2].

فأقسم سبحانه بالنجم؛ وله أن يقسم بما شاء من خلقه سبحانه وتعالى؛ أن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس ضالاً ولا غاوياً، بل هو راشد عليه الصلاة والسلام.

وعلى طالب العلم أن يعتني بالدروس العلمية والإصغاء والانتباه وحسن النية، وكذلك ينبغي له أن يسأل عما أشكل عليه، وأن يكون سؤاله سؤال استرشاد واستفهام وتعلم، لا سؤال تعنت ورياء، ولا يكون هدفه أن يظهر أنه يعلم، أو يقصد من سؤاله إعنات المسئول وإيقاعه في الحرج، أو السؤال عن الأشياء التي لا تقع، أو يكثر من الأسئلة، وتشقيق المسائل التي لا حاجة إليها، بل يسأل سؤال استرشاد واستفهام، يقصد به العلم والفائدة، ولا يقصد الرياء، ولا إعنات المسئول، ولا يسأل عن الألغاز والأشياء المشكلة، والتي لم تقع، أو نادرة الوقوع، فهكذا ينبغي أن يكون طالب العلم.

وأهل العلم والبصيرة هم أهل الصراط المستقيم، الذين أنعم الله عليهم، والذين منَّ الله عليهم بالعلم والعمل؛ فإن أهل الصراط المستقيم هم أهل الهداية والتقوى، وأهل الفلاح والبر، وهم الذين نسأل الله في كل ركعة من ركعات الصلاة في سورة الفاتحة أن يهدينا طريقهم، عندما نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم، الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل. وأنت في كل ركعة في قراءة الفاتحة تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم، الذين من الله عليهم بالعلم والعمل، وتسأل الله أن يجنبك طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين. والمغضوب عليهم: هم الذين يعلمون ولا يعملون بعلمهم، ولكن لا يعملون بعلمهم، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً اليهود، فاليهود يعلمون ولا يعملون، وتسأل الله أن يجنبك طريق الضالين: وهم الذين يعبدون الله على جهل وضلال، ولديهم عمل، ولكن ليس لديهم علم ولا بصيرة، كالنصارى وأشباههم من الصوفية والزهاد الذين يتخبطون في دياجير الظلمات، وليس عندهم بصيرة.

إذاً: فهما داءان، من سلم منهما فقد سلم. داء الغواية، وداء الضلال.

فأما داء الغواية: فهو عدم العمل بما يعلمه الإنسان.

وداء الضلال: هو أن يتعبد الله على جهل وضلال، وقد برأ الله نبيه الكريم من هذين الداءين، فقال سبحانه وتعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2].

فأقسم سبحانه بالنجم؛ وله أن يقسم بما شاء من خلقه سبحانه وتعالى؛ أن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس ضالاً ولا غاوياً، بل هو راشد عليه الصلاة والسلام.

وعلى طالب العلم أن يعتني بالدروس العلمية والإصغاء والانتباه وحسن النية، وكذلك ينبغي له أن يسأل عما أشكل عليه، وأن يكون سؤاله سؤال استرشاد واستفهام وتعلم، لا سؤال تعنت ورياء، ولا يكون هدفه أن يظهر أنه يعلم، أو يقصد من سؤاله إعنات المسئول وإيقاعه في الحرج، أو السؤال عن الأشياء التي لا تقع، أو يكثر من الأسئلة، وتشقيق المسائل التي لا حاجة إليها، بل يسأل سؤال استرشاد واستفهام، يقصد به العلم والفائدة، ولا يقصد الرياء، ولا إعنات المسئول، ولا يسأل عن الألغاز والأشياء المشكلة، والتي لم تقع، أو نادرة الوقوع، فهكذا ينبغي أن يكون طالب العلم.

هو الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسين بن جعفر المقدسي ، نسبة إلى بيت المقدس، الجمّاعيلي نسبة إلى بلدة جمّاعيل، وهي قرية من أرض فلسطين، تابعة لبيت المقدس. ويسمى أيضاً: الدمشقي؛ لأنه انتقل إلى دمشق، والصالحي؛ لأنه سكن في قرية الصالحية في جبل طاسيون في دمشق.

وكان من علماء القرن السادس الهجري، وكانت ولادته سنة (541) أو (542) أو (543) أو (544) من الهجرة على خلاف في ذلك، وكانت وفاته سنة (600) من الهجرة.

والحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله له باع طويل في الحديث وعلوم الحديث، وهو صاحب كتاب عمدة الأحكام؛ المعروف والمنتشر بين أيدي الطلاب، المرتب في الحديث على أبواب الفقه، وهو سلفي المعتقد رحمه الله.

وقد عاصر الموفق محمد بن قدامة صاحب المغني، وهو ابن خالته، عاصره تأخر عنه ست سنوات، أو ثمان سنوات، أو عشر سنوات، وأخذ عنه. وعاصر كذلك الضياء المقدسي صاحب المختارة، وأخذ عنه، وله شيوخ كثيرون، وتلاميذ كثيرون.

والحافظ رحمه الله كانت له عناية كبيرة بالحديث وعلومه، وأما ابن خالته محمد بن قدامة المقدسي فقد كانت عنايته بالفقه أكثر، فقد ألف كتاب المغني، وهو من أوسع كتب الفقه، وهو أعلى كتاب فيه مقارنة بين المذاهب الأربعة، حيث أنه يذكر أقوال المذاهب الأربعة وأدلتها.

وللحافظ عبد الغني المقدسي رسالة تسمى: عقيدة الحافظ عبد الغني ، أو تسمى: الاقتصاد في الاعتقاد، وسماها هو: الاقتصاد. ومعنى الاقتصاد: كون الشيء وسطاً، والقصد هو: الوسط، والقصد من ذلك: بيان المذهب الوسط في العقيدة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن مذهب السلف وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، فما من شيء إلا وله طرفان ووسط، فالطرفان هما: مجاوزة الحد والغلو، أو التقصير، فإما جفاء وتفريط وإما إفراط، فهذان طرفان مذمومان. وكلا طرفي قصد الأمور مذموم، والوسط هو الحق، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، فمذهب أهل السنة والجماعة وسط بين مذاهب أهل البدع والفرق.

فمثلاً: مذهب أهل السنة والجماعة وسط في القدر بين مذهبي الجبرية والقدرية، فالجبرية: غلوا في إثبات أفعال الرب، ونفوا أفعال العبد، وقالوا: إن العبد ليس له أفعال، والرب سبحانه هو الفاعل، وأن أفعال العباد هي أفعال الله، والعبادة وعاء للأعمال، فالله هو المصلي والصائم عندهم، والعباد كأنهم وعاء، كالكأس الذي يصب فيه الماء، فالعباد عندهم كئوس، والله صباب الماء فيها، فلم يثبتوا للعبد اختيار ولا قدرة، بل سلبوا قدرته واختياره.

وقابلهم القدرية فقالوا: إن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، سواء كان خيراً أو شراً، طاعة أو معصية، وإن الله لم يخلق أفعال العباد.

وأما أهل السنة فوسط بين هؤلاء وهؤلاء، فأثبتوا أفعال العباد، وأثبتوا الاختيار للعباد كما دلت النصوص على ذلك، ولكن المشيئة والاختيار تابع لمشيئة الله عز وجل، فالله خلق العباد، وخلق أفعالهم وقدراتهم، والعباد لهم قدرة واختيار، فهم الذين يصلون ويصومون، وهم الذين يقومون ويقعدون، ويفعلون ذلك باختيارهم.

وأهل السنة وسط كذلك في باب الإيمان بين المرجئة والخوارج الوعيدية الذين يقولون: إن العبد يكفر إذا فعل المعصية، وإذا فعل الكبيرة، فالزاني عندهم كافر، وكذلك السارق وشارب الخمر.

والمرجئة يقولون: إن العبد إذا عرف ربه بقلبه فهو مؤمن، ولا يضره شيء، فلو فعل جميع الكبائر والمنكرات فلا يضره، وما دام عرف ربه بقلبه فهو مؤمن، ولا يكفر إلا إذا جهل ربه بقلبه. ولا تضره المعاصي والكبائر، ولو فعل جميع الكبائر؛ لأنه عرف ربه، ويدخل الجنة من أول وهلة وهذان المذهبان باطلان.

وأما أهل السنة فوسط بين هؤلاء وهؤلاء، فقالوا: إن العبد لا يكفر بفعل المعصية، بل يكون ناقص وضعيف الإيمان إذا لم يستحل الكبيرة، والمعاصي تضر الإيمان وتنقصه وتضعفه إلا أنها لا تقضي عليه، فلا يقضي على الإيمان إلا الكفر الأكبر، أو الشرك الأكبر، أو النفاق الأكبر.

والمؤلف رحمه الله في هذه الرسالة ذكر كثيراً من الموضوعات العقدية والمسائل العقدية والصفات، فقد بحث جميع الصفات أو أغلب الصفات في هذه الرسالة: فبحث صفة الاستواء، وصفة العلو، وصفة الوجه، وصفة النزول، وصفة اليدين، وصفة المحبة، وصفة المشيئة والإرادة، وصفة الضحك، وصفة الفرح، وصفة العجب، وصفة البغض، وصفة السخط، وصفة الكره، وصفة الرضا، والنفس والرؤية والكلام، والقول في القرآن، وكلام الله عز وجل، وبحث القضاء والقدر والإسراء والمعراج، ورؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، ورؤية المؤمنين لربهم، والشفاعة والحوض، وعذاب القبر ونعيمه، والجنة والنار، والميزان، وأركان الإيمان، والاستثناء في الإيمان، وحقيقة الإيمان والإسلام، والإيمان بخروج الدجال، ونزول عيسى وقتله الدجال، والإيمان بملك الموت، وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم، والمفاضلة بين الخلفاء الراشدين، والشهادة لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وفضل الاتباع.

كل هذه المسائل وهذه المباحث العقدية بحثها المؤلف رحمه الله في هذه العقيدة التي تسمى: عقيدة الحافظ عبد الغني، أو الاقتصاد في الاعتقاد، والآن نبدأ في الرسالة.

بسم الله الرحمن الرحيم. رب يسر وأعين.

والحمد لله وحده، حسبنا الله ونعم الله الوكيل.

قال الشيخ الإمام العالم الزاهد الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور الحنبلي المقدسي رحمه الله تعالى:

[ الحمد لله المتفرد بالكمال والبقاء، والعز والكبرياء، الموصوف بالصفات والأسماء، المنزه عن الأشباه والنظراء، الذي سبق علمه في بريته بمحكم القضاء، من السعادة والشقاء، واستوى على عرشه فوق السماء، وصلى الله على الهادي إلى المحجة البيضاء والشريعة الغراء، محمد سيد المرسلين والأنبياء، وعلى آله وصحبه الطاهرين الأتقياء، صلاة دائمة إلى يوم اللقاء ].

الكلام حول البسملة

هذه خطبة المؤلف رحمه الله، افتتحها بالبسملة والحمد لله اقتداء بالكتاب العزيز، والله تعالى افتتح كتابه بـبِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2]، والبسملة الصواب أنها آية منفصلة في أول كل سورة، وليست من السور، لا من الفاتحة ولا من غيرها. والفاتحة سبع آيات، أولها الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، والآية السادسة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، والسابعة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فهذه سبع آيات بدون البسملة على الصحيح من أقوال أهل العلم.

ويدل على ذلك نصوص منها، الحديث القدسي: أن الرب سبحانه وتعالى قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) فالمراد بالصلاة هنا الفاتحة؛ لأن الفاتحة لها أسماء، ومن أسمائها الصلاة، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي، فقول الرب سبحانه: إذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، دل على أن أول آية في السورة: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2]، ولم يقل إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم، فدل على أن أول آية: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

فالمؤلف افتتح كتابه بالبسملة، (باسم الله)، يعني: أستعين باسم الله، والباء للاستعانة، و(الله) لفظ الجلالة لا يسمى به غيره، وهو أعرف المعارف، و(الله) أصلها الإله، ثم حذفت الهمزة، فاجتمعت اللامان، وأدغمت إحداهما في الأخرى. والله هو: المألوه فإله بمعنى: مألوه، وهو المعبود التي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وتعظيماً وخوفاً ورجاء.

و(الرحمن) اسم من أسماء الله، لا يسمى به غيره، المشتمل على الرحمة، أي: ذو الرحمة.

و(الرحيم) اسم آخر، فالرحمن لا يسمى به غيره، والرحيم مشترك يطلق على الله وعلى غيره. قال تعالى عن نبيه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فوصف نبيه بأنه رحيم.

فأسماء الله نوعان:

منها ما هو خاص به، لا يسمى به غيره، مثل: الله، والرحمن، وخالق الخلق، مالك الملك، النافع الضار، المحيي المميت، المعطي المانع.

ومنها ما هو مشترك، مثل: العزيز والعليم والسميع والبصير والحي والرحيم وغير ذلك.

فمعنى البسملة: أستعين بالله الرحمن المتصف بالرحمة.

وكل اسم من أسماء الله مشتق، فليست أسماء الله جامدة، بل هي مشتقة، مشتملة على الصفات. فالرحمن مشتمل على صفة الرحمة، والعليم مشتمل على صفة العلم، والقدير مشتمل على صفة القدرة، والحكيم مشتمل على صفة الحكمة وهكذا، بخلاف الصفات مثل صفة الغضب وصفة الرضا، فلا يشتق له أسماء منها.

وأسماء الله وصفاته توقيفية فلا يقال: إن من أسمائه الراضي؛ لأن الله اتصف بالرضى ولا يقال إن من أسمائه الغاضب؛ لأنه يغضب، ولكن الأسماء مشتملة على الصفات.

قال: (والحمد لله وحده)، قد يقال: إن قوله: (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ)، رب اغفر وأعن يا كريم، والحمد لله وحده، حسبنا الله ونعم الوكيل، يعني: الله كافينا، ونعم الوكيل المتوكل عليه سبحانه، قد يكون هذا ليس من قول المؤلف.

ولهذا قال بعد ذلك:

(قال الشيخ الإمام العالم الزاهد الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور الحنبلي المقدسي). فقوله: حنبلي يعني: حنبلي المذهب، وقد يكون مقلداً، وقد يكون مجتهداً، مثل: شيخ الإسلام وابن القيم ويسمى كل منهما حنبلياً؛ لأنهما ينتسبان إلى مذهب الحنابلة؛ ولأنهما وافقا الإمام أحمد في الأصول، وليس معنى ذلك: أنهما مقلدان، وإنما وافقوه في الأصول. وقوله: (المقدسي): نسبة إلى بيت المقدس، رحمه الله تعالى.

الكلام على الحمد والمدح، وبيان الفرق بينهما

(الحمد لله) الحمد: هو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية، وهو أكمل من المدح، فالمدح: هو أن تذكر صفات الممدوح، وقد تكون هذه الصفات اختيارية، وقد تكون خلقية، ليست اختيارية، والحمد إنما يكون بذكر صفات المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، فالإخبار عن المحمود بالصفات الاختيارية، مع حبه وإجلاله وتعظيمه هذا هو الحمد، وأما المدح فلا يلزم منه الحب، بل تذكر صفات الإنسان وقد لا تكون هذه الصفات اختيارية، فمثلاً عندما تذكر أوصاف الأسد تقول: إنه قوي. فهذا مدح للأسد، ولكن ليس فيه محبة، ولا يلزم من ذلك المحبة، فلا يسمى حمداً، فلا تقول: أحمدُ الأسد، وإنما تقول: أمدح الأسد فالحمد أكمل؛ لأن الحمد هو الإخبار عن المحمود أو ذكر صفاته الاختيارية والثناء عليه بها مع حبه وإجلاله، ولهذا جاء الحمد من صفات الله عز وجل، وجاء الحمد في حق الرب سبحانه وتعالى، فقال: (الحمد لله)، ولم يقل أمدح الله؛ لأنه أكمل. و(ال) للاستغراق، يعني: جميع أنواع المحامد مستغرقة لله ملكاً واستحقاقاً.

(الحمد لله)، الله: علم على الرب سبحانه وتعالى، وهو أعرف المعارف، يعني: المألوه الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وتعظيماً.

الكلام على بقية ألفاظ مقدمة المؤلف

(المتفرد بالكمال والبقاء)، يعني: سبحانه هو الذي تفرد بالكمال، وبصفات الكمال. وأما المخلوق فإنه وإن اتصف ببعض الصفات إلا أنها ليست صفات كمال على الإطلاق، بل إن الكمال الذي فيها هو كمال نسبي، يليق بالمخلوق وبالبشر، فأما صفات الكمال على الإطلاق فلا يستحقه إلا الرب سبحانه وتعالى، فهو الذي تفرد بالكمال، وتفرد بالبقاء، وهو الباقي سبحانه وتعالى، وهو الحي القيوم الذي لا يموت، وأما المخلوق فإنه ليس له البقاء إلا بإبقاء الله له. (وهو المتفرد بالكمال والبقاء والعز)، أي: العز الكامل، وأما المخلوق فإن عزه عز نسبي بإعزاز الله له.

(وتفرد بالكبرياء) سبحانه وتعالى، وأما المخلوق فليس له أن يتكبر، فإذا تكبر فهو مذموم، فالكبر للمخلوق من الصفات الذميمة ومن الكبائر، وقد يكون كفراً، كما إنه إذا تكبر عن عبادة الله، فلم يعبد الله فإن هذا الكبر يخرج من الملة، وقد يكون كبراً دون ذلك فيكون من الكبائر، وفي الحديث: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)، هذا إذا كان هذا الكبر على التوحيد فهو مخلد في النار، وأما إن كان دون التوحيد فهذا من باب الوعيد ومن الكبائر.

(وهو الموصوف بالصفات والأسماء). يعني: الموصوف بالصفات والأسماء التي وصف بها نفسه وسمى بها نفسه في كتابه، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأسماء والصفات توقيفية، فليس للعباد أن يسموا الله بأسماء من عند أنفسهم، أو يصفوه بصفات من عند أنفسهم، ولا يخترعون لله أسماءً أو صفات، بل الأسماء والصفات توقيفية، يوقف فيها عند النصوص.

(المنزه عن الأشباه والنظراء)، والنظير هو: المثيل، فالله ليس له مثيل ولا شبيه، بل هو سبحانه وتعالى لا أحد يماثله في صفاته لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى.

فليس له مثيل ولا شبيه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أسمائه، ولا في أفعاله سبحانه وتعالى.

(الذي سبق علمه في بريته بمحكم القضاء)، أي: الذي سبق علمه في المخلوق، (في بريته)، يعني: مخلوقاته والبرية هي: المخلوقات. يعني: قد سبق علم الله بما يكون في المخلوقات، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء).

والعلم ثابت بالكتاب قال الله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70].

وقال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].

(سبق علمه في بريته بمحكم القضاء من السعادة والشقاء)، يعني: أن الله تعالى سبق علمه وكتب الشقاوة والسعادة، فعلم ذلك، وكتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. (واستوى على عرشه فوق السماء)، يعني: استوى استواءً يليق بجلاله وعظمته، ومعنى (استوى): استقر وعلا وصعد وارتفع فوق عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، فبين المؤلف رحمه الله في خطبته أنه يسير على وفق معتقد أهل السنة والجماعة، وعلى ما دلت عليه النصوص، فأثبت الاستواء، وأهل البدع يحرفون ويؤلون استوى بالاستيلاء.

(وصلى الله على الهادي إلى المحجة البيضاء والشريعة الغراء، محمد صلى الله عليه وسلم)، (صلى الله): صلاة الله على عبده، وأحسن أو أصح ما قيل في تعريف صلاة الله على عبده أنها: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال: صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، فأنت تسأل الله أن يثني على عبده في الملأ الأعلى.

(وصلى الله على الهادي)، وهذا وصف للرسول، والهادي أي: هداية دلالة وإرشاد؛ لأن الهداية هدايتان:

هداية دلالة وإرشاد، وهذه يملكها النبي صلى الله عليه وسلم، ويملكها الدعاة والمصلحون، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

وهداية التوفيق والتسديد، وخلق الهداية في القلوب، وجعل الإنسان يقبل الحق ويرضاه، وهذه لا يملكها إلا الله. ولا يملكها النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره. قال الله تعالى لنبيه لما عجز عن هداية عمه أبي طالب : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]، يعني: إنك لا توفق ولا تستطيع أن توفِّق، بل الذي يوفق هو الله، وهو الذي يخلق الهداية في القلوب.

(وصلى الله على الهادي إلى المحجة البيضاء والشريعة الغراء)، المحجة: يعني: الجادة والطريق، (البيضاء): وهي محجة الإسلام وطريق الإسلام، والصراط المستقيم، (والشريعة الغراء)، يعني: البيضاء الناصعة، وهي ما بعث بها عليه الصلاة والسلام، من الشريعة السهلة السمحة في العقيدة والعمل والخلق.

(محمد)، هذا اسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام، وسمي محمداً: لكثرة المحامد. وله أسماء كثيرة عليه الصلاة والسلام، مثل: محمد وأحمد والحاشر والمقفي والعاقب، أي: الذي يحشر الناس على عقبه، وله أسماء كثيرة عليه الصلاة والسلام.

(محمد سيد المرسلين)، سيدهم: يعني: له السؤدد والإمامة، فهو مقدمهم وإمامهم عليه الصلاة والسلام، وهو سيد المرسلين والأنبياء.

(وعلى آله)، المراد بالآل، قيل: أهل بيته، يعني: المؤمنين به منهم، مثل: عمه العباس وعمه حمزة وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، فكلهم من أهل بيته.

وقيل: المراد بآله: أتباعه على دينه إلى يوم القيامة ويدخل في ذلك أهل بيته، ويدخل في ذلك أزواجه، فإن أزواجه من أهل بيته.

(وصحبه)، جمع صاحب، وهو: كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ولو لحظة، ومات على الإسلام، وكل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم يشمل العميان مثل: عبد الله بن أم مكتوم، فإنه لقيه، ولا يقال: كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ابن أم مكتوم رضي الله عنه صحابي، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم لكن لقيه، فكل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ولو للحظة ثم مات على الإسلام فهو صحابي، ولو كان صغيراً أو صبياً.

(وعلى آله وصحبه)، وإذا فسر الآل: بأتباعه على دينه، فيكون الدعاء بالصلاة للصحابة مرتين، مرة بالعموم ومرة بالخصوص. (وعلى آله): أي: أتباعه على دينه، ويدخل في ذلك الصحابة وأزواجه وأهل بيته، ثم قال: (وصحبه) وهذا تخصيص بعد تعميم.

(الطاهرين)، أي: الذين طهرهم الله من الشرك، والإصرار على الكبائر. (الأتقياء)، جمع تقي، والتقي: هو الذي آمن بالله، وأدى الواجبات، وترك المحرمات.

(صلاة دائمة)، يعني: مستمرة.

(إلى يوم اللقاء)، وهو يوم الدين، الذي يلقى فيه كل مؤمن ربه، ويقف بين يديه للحساب.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [3] 2160 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [2] 2149 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [7] 1956 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [10] 1698 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [6] 1693 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [14] 1681 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [11] 1557 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [15] 1501 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [13] 1495 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [4] 1389 استماع