شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [13]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فصل: ونعتقد أن محمداً المصطفى خير الخلائق، وأفضلهم، وأكرمهم على الله عز وجل، وأعلاهم درجة، وأقربهم إلى الله وسيلة، بعثه الله رحمة للعالمين وخصه بالشفاعة في الخلق أجمعين ].

عقد المؤلف رحمه الله هذا الفصل لبيان فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخصائصه التي اختصه الله بها وفضّله ورفعه على العالمين.

(ونعتقد) يعني: ونعتقد معشر المؤمنين ومعشر المسلمين. (أن محمداً): أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني رسول الله وخاتم النبيين وخير الخلق، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، فهو عليه الصلاة والسلام سيد الناس وخير الناس وخير الخلائق أجمعين، يشمل هذا الملائكة والنبيين وغيرهم، فهو خير الخلق وأفضلهم وأكرمهم على الله عز وجل.

فالخيرية والأفضلية والإكرام من الله عز وجل من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فهو عليه الصلاة والسلام خير الخلق وأفضل الأنبياء والمرسلين، فالأنبياء أفضل الناس والمرسلون أفضلهم، وأولو العزم أفضلهم ونبينا عليه الصلاة والسلام أفضل أولي العزم، وأفضل الرسل وأفضل الخلق أجمعين، فهو خير الخلق وأفضلهم وأكرمهم على الله عز وجل وأعلاهم درجة؛ لأن درجته عليه الصلاة والسلام الوسيلة، والوسيلة: درجة في الجنة لا تنبغي أن تكون إلا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في الحديث: (من قال مثلما يقول المؤذن، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلا حصلت له الشفاعة).

فالوسيلة منزلة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وبعض العامة يقول: آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة ويزيد: والدرجة الرفيعة، وهذا غلط؛ لأن الدرجة الرفيعة هي الوسيلة، لكن هذه من زيادات العوام.

كما أن بعض العوام يزيد في الاستفتاح يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك، ويزيد: ولا معبود سواك، فلا إله غيرك يعني: لا معبود بحق سواك، فالعامة يزيدون من عند أنفسهم.

فنبينا عليه الصلاة والسلام أعلى الناس درجة، ومنزلته أعلى منزلة، وهي الوسيلة وسقف عرش الرحمن، وأقربهم إلى الله وسيلة يعني: وجاهة ومكانة عند الله عز وجل، فأقرب الناس مكانة ووجاهة عند الله هو نبينا عليه الصلاة والسلام، وإذا كان موسى عليه الصلاة والسلام قال الله عنه: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، فمحمد صلى الله عليه وسلم أعظم وجاهة، قال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، والعالمين: تشمل الجن والإنس والعرب والعجم، فهو عليه الصلاة والسلام أرسله الله رحمة للعالمين، أما المؤمنون فإن الله تعالى رحمهم ببعثته وأنقذهم به من النار، وأما الكفار فإنه قامت عليهم الحجة، ولما أوجب الله الجهاد جاهدهم النبي الكريم وأصحابه، فإذا قتلوا كان هذا تخفيفاً من عذابهم لو استمروا في حياتهم على الشرك، فيكون هذا رحمة لهم؛ لأنهم لو استمروا على الكفر لزاد عذابهم، فإذا قتلوا في الجهاد في سبيل الله خف عذابهم.

وقوله: (بعثه الله رحمة للعالمين)، يشير إلى قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، (وخصه بالشفاعة في الخلق أجمعين) هذه من خصائصه، وهي الشفاعة العظمى في أهل الموقف جميعاً وهي للمؤمنين وللكفار عامة؛ لأنها شفاعة في إراحة الناس من الموقف، يشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يريحهم الله من هذا الموقف ويحاسبهم، وهي المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون عليه الصلاة والسلام.

قال: [ روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب ميسرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) ].

هذا الحديث رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، وهو من أصح الأحاديث.

يروي جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي).

الأولى: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، يعني: إذا سمعه العدو من مسافة شهر خاف وارتعب، وهذا سلاح أعطاه الله إياه، وهو أن العدو إذا سمع به من مسافة شهر أصابه الرعب، والرعب سلاح، وهذه الخاصية له ولأمته عليه الصلاة والسلام وللعاملين بشريعته، فالله تعالى ينصرهم على أعدائهم، ويرعب أعدائهم من مسيرة شهر، من الخوف والرهبة والخوف.

الثانية: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل)، وهذه من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم وهي لهذه الأمة جميعاً، (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، فيصلي الإنسان في أي مكان، في البر في البحر في الجو، حيثما أدركتك الصلاة تصلي بخلاف الأمم السابقة فإنهم لا يصلون إلا في معابد خاصة، أما نحن والحمد لله نصلي في أي مكان، فإذا سافر الإنسان فإنه يقف ويصلي سواء في البلد أو في المسجد أو في البيت أما من سبقنا فهم لا يصلون إلا في معابدهم الخاصة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل).

الثالثة: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي) يعني: الأموال التي يأخذها المسلمون من العدو في الجهاد في سبيل الله، فإذا قاتل المؤمنون الكفار فإنهم يغنمون أموالهم ومواشيهم ودوابهم وذراريهم ونساءهم، فتكون الذراري عبيداً لهم، والنساء جوارياً، والرجال كذلك يسترقونهم أو يقتلونهم، والأموال تكون لهم.

وأما الأمم السابقة فإن الغنائم لا تحل لهم، بل تجمع وتأتي نار من السماء تأكلها على أن هذه علامة القبول، أي: أن علامة القبول أن تأتي نار من السماء تأكل ما جُمع، أما نحن فأحل الله لنا الغنائم.

الرابعة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأعطيت الشفاعة)، وهي الشفاعة العظمى في أهل الموقف حتى يقضى بينهم وهذه خاصة به عليه الصلاة والسلام.

الخامسة: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)، وهذه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة به، كان كل نبي يبعث إلى قومه، وكان يوجد نبيان في وقت واحد، ومثال ذلك: أن لوط وإبراهيم في وقت واحد، كل واحد يرسل إلى قومه، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فإنه بعث إلى الناس عامة: العرب والعجم والجن والإنس وجميع الخلق، ونسخت الشرائع بعد بعثته عليه الصلاة والسلام، وليس بعده نبي، وليس للحصر قوله: (أعطيت خمساً) بل جاء في الحديث الآخر: (أعطيت ستاً)، وذكر السادسة: (وأعطيت جوامع الكلم)، وفي اللفظ الآخر: (واختصرت لي الحكمة اختصاراً)، يعني: أعطي جوامع الكلم بأن يأتي بالكلام القليل الذي يضم معاني غزيرة.

قال: [ وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة فرفع إليه الذراع -وكانت تعجبه- فنهش منها نهشة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة..)، وذكر حديث الشفاعة بطوله ].

حديث الشفاعة حديث صحيح رواه الشيخان وغيرهما، قوله: (نهس)، بالسين المهملة وروي: (نهش) بالشين، والنهس بالسين هو القطع بأطراف الأسنان، والنهش بالشين بالأضراس، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان في دعوة، يعني: دعي إلى وليمة فرفعت إليه ذراع اليد وكانت تعجبه عليه الصلاة والسلام فنهش منها نهشة بطرف أسنانه، ثم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وفي اللفظ الآخر: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وهذا من خصائصه أنه سيد الناس عليه الصلاة والسلام في الدنيا ويوم القيامة، وتظهر سيادته يوم القيامة حينما يجمع الله الأولين والآخرين، عليه الصلاة والسلام.

قال: [ وروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آتي يوم القيامة باب الجنة، فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك)، رواه مسلم ].

الحديث رواه الإمام مسلم -كما قال المؤلف رحمه الله- في كتاب الإيمان، باب: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أول الناس يشفع في الجنة)، رواه الإمام أحمد في مسنده.

وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يستفتح باب الجنة، وهو أول من يدخل الجنة، وأول من يدخلها من الأمم أمته عليه الصلاة والسلام، قال: (آتي يوم القيامة باب الجنة، فاستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك)، هذه من خصائصه ومن فضائله عليه الصلاة والسلام.

قال: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع)، رواه مسلم وأبو داود ].

كما قال المؤلف رحمه الله، الحديث رواه مسلم في كتاب الفضائل، ورواه أبو داود في كتاب السنة، ورواه الإمام أحمد في المسند، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)، هذه من فضائله عليه الصلاة والسلام أنه سيد الناس، (ولا فخر) أي: لا يكون عن فخر عليهم؛ بل يخبرنا عن ذلك؛ لأنه لو لم يخبرنا لم نعلم، وهذا من تبليغ الشريعة التي يبلغها، فيقول: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر)، لا يقول عن فخر، وإنما يقول عن تبليغ، يبلغ الأمة ويخبرهم بفضله عليه الصلاة والسلام.

قال: (وأول من ينشق عنه القبر)، يعني: في يوم البعث حين يبعث الله الناس من قبورهم، وتعود الأرواح إلى أجسادها تنشق القبور عنهم، وأول من ينشق عنه القبر نبينا صلى الله عليه وسلم، (وأول شافع، وأول مشفع) لأنه يشفع الشفاعة العظمى يوم القيامة ويشفعه الله، فهو أول شافع وأول مشفع، أول شافع لنا، وأول مشفع من قبل الرب سبحانه وتعالى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ونعتقد أن خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه الأخص وأخوه في الإسلام، ورفيقه في الهجرة والغار أبو بكر الصديق ، وزيره في حياته وخليفته بعد وفاته عبد الله بن عثمان عتيق ابن أبي قحافة، ثم بعده الفاروق أبو حفص عمر بن الخطاب الذي أعز الله به وأظهر الدين، ثم بعده ذو النورين أبو عبد الله عثمان بن عفان الذي جمع القرآن وأظهر العدل والإحسان، ثم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم، فهؤلاء الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون ].

انتقل المؤلف رحمه الله من بيان فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه إلى فضائل الخلفاء الراشدين الأربعة، قال: (ونعتقد) يعني: معشر أهل السنة والجماعة، (أن خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ).

فأهل السنة والجماعة يعتقدون أن خير الصحابة وأفضل الناس بعد الأنبياء أبو بكر، ثم يليه في الأفضلية عمر ، ثم يليه عثمان، ثم يليه علي وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ومن أنكر فضلهم أو تكلم فيهم أو تنقصهم أو سبهم فهو من أهل الزيغ والانحراف والضلال، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم في ترتيب الخليفتين أبي بكر وعمر ، وأما عثمان وعلي ففهيما خلاف في الفضل، أما الخلافة فقد اتفق العلماء، واتفق أهل السنة والجماعة على تقديم عثمان على علي في الخلافة، ومن قدم علياً على عثمان في الخلافة فهو أضل من حمار أهله، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية، وهو من أهل الزيغ، أما من قدم علياً على عثمان في الفضيلة دون الخلافة فهذا قول في مذهب الإمام أبي حنيفة ، والجمهور على تقديم عثمان أيضاً على علي في الفضيلة كالخلافة.

وروي عن أبي حنيفة أنه رجع وأنه وافق الجمهور، فعلى هذا يكون إجماع تقديم عثمان على علي في الفضيلة هذا قول الجماهير، وفي رواية عن أبي حنيفة تقديم علي على عثمان في الفضيلة دون الخلافة، وروي عنه أنه رجع، أما الخلافة فهو إجماع فمن قدم علياً على عثمان في الخلافة فهو أضل من حمار أهله، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (نعتقد أن خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه الأخص)؛ لأن له صحبة خاصة، (وأخوه في الإسلام ورفيقه في الهجرة والغار)، له خصوصية وله صحبة خاصة حيث إنه ملازم للنبي صلى الله عليه وسلم وأول من آمن به، وحيث إنه أول من صدقه، وكل أحد دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام يكون عنده توقف إلا أبا بكر ، فإنه لم يتوقف بل آمن في الحال، فهذه صفة خاصة ولذا قال: (صاحبه الأخص، وأخوه في الإسلام، ورفيقه في الهجرة)، هو الذي رافقه في الهجرة من مكة إلى المدينة والغار، فأنزل الله تعالى فيهما: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وصاحبه أبو بكر ، ولما خاف أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لو أن أحداً نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما).

ولهذا قال المؤلف: (ورفيقه في الهجرة والغار أبو بكر الصديق )، وأبو بكر كنيته، والصديق لقبه على وزن (فعيل) وهي صيغة مبالغة من قوة تصديقه، وهو الصديق الأكبر، ووزيره في حياته؛ لملازمته له ولمشاورته له، وخليفته بعد وفاته، اسمه عبد الله بن عثمان عتيق ابن أبي قحافة، ثم بعده في الفضيلة والخلافة الفاروق أبو حفص عمر بن الخطاب ، والفاروق لقب له، وأبو حفص كنيته، واسمه: عمر بن الخطاب.

(الذي أعز الله به الإسلام وأظهر به الدين): لما أسلم قوي المسلمون، وصار لهم قوة في إسلامه، إذ أعز الله به الإسلام وأظهر به الدين، وفتحت في أيامه الفتوح، ومصرت الأمصار.

ثم بعده الثالث: ذو النورين أبو عبد الله عثمان بن عفان الذي جمع القرآن، يدعى بـذي النورين؛ لأنه تزوج باثنتين من بنات النبي صلى الله عليه وسلم، تزوج واحدة، ثم توفيت، ثم تزوج الأخرى، فيقال له: ذو النورين وقد تزوج رقية وأم كلثوم رضي الله عنهم، وهو عثمان بن عفان الذي جمع القرآن وأظهر العدل والإحسان، وهذه من خصائصه ومن فضائله أنه جمع القرآن، والله أنزل القرآن على سبعة أحرف؛ رحمة بالأمة وتسهيلاً عليهم.

ثم بعد ذلك حصل اختلاف من بعض الغزوات، وكان حذيفة في غزوة من مغازي أرمينية وأذربيجان ورأى اختلاف الناس في القراءة، فسمع بعضهم يقول: قراءتي أحسن من قراءتك، فجاء إلى عثمان رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى، فجمع الصحابة وشاورهم فأجمعوا على جمع القرآن على حرف واحد وهو حرف قريش، وهذا الحرف تدخل فيه القراءات السبع كلها، وهو الحرف الذي دارس فيه جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الأخيرة التي توفي فيها.

فهذا من فضائله رضي الله عنه، فجمع الناس على مصحف على هذا الحرف، وكتب في ذلك سبعة مصاحف، سماها مصاحف الأئمة، وأرسل لكل مصر مصحفاً أرسل لأهل مكة مصحفاً، وأهل الكوفة مصحفاً، ولأهل الشام مصحفاً ولأهل مصر مصحفاً، وأحرق بقية المصاحف.

وذكر الحافظ ابن كثير هذه الفضيلة في البداية والنهاية، قال: إن من مناقبه الكبار وحسناته العظيمة رضي الله عنه أن جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على العرضة الأخيرة التي دارسها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سني حياته.

وذكر أن سبب ذلك ما وقع من خلاف بين القراء في بعض الغزوات، وكان معهم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فركب إلى عثمان وأخبره بما كان، وقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم، عند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على قراءته دون سواه، إلى أن قال: فاستدعى بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت بجمعها، وأمر زيد بن ثابت أن يكتب وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي بحضرة عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث المخزومي وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش، فكتب سبعة مصاحف بعث بها عثمان إلى الأمصار، ويقال لهذه المصاحف: الأئمة، ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس مما يخالف ما كتبه فحرقها؛ لئلا يقع بسببها الاختلاف.

ثم الخليفة الرابع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، وختنه يعني: زوج ابنته فاطمة رضوان الله عليها، فهؤلاء الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون.

من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بأن الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر ثم لـعمر ثم لـعثمان ثم لـعلي ، وأن الطعن في خلافة واحد من هؤلاء ضلال وزيغ، ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة.

ولم يزل أهل السنة والجماعة يترضون على الصحابة ويوالونهم وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف لا بالهوى والتعصب، والله تعالى أثنى عليهم وعدلهم وزكاهم ووعدهم بالجنة، ولهذا قال: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء:95]، قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:8-9].

أثنى على المهاجرين وأثنى على الأنصار، وأما من سبهم أو تنقصهم أو طعن فيهم فهذا لمرض في قلبه ونفاق، إنما يصدر من أهل النفاق والزيغ والانحراف كالرافضة وأشباههم، وقد نزلوا إلى هوة سحيقة زادوا بها على اليهود والنصارى فإن اليهود والنصارى قد فضلتهم بخصلة، فقد قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد، نسأل الله السلامة والعافية، فزادوا في هذا خصلة على اليهود والنصارى وصاروا أسوأ حالاً منهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم الستة الباقون من العشرة: طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح رضوان الله عليهم، فهؤلاء العشرة الكرام البررة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فنشهد لهم بها كما شهد لهم بها اتباعاً لقوله وامتثالاً لأمره، وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة لـثابت بن قيس وعبد الله بن سلام ولـبلال بن رباح ولجماعة من الرجال والنساء من أصحابة.

وبشر خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب، وأخبر أنه رأى الرميصاء بنت ملحان في الجنة ].

يقول المؤلف رحمه الله: (ثم الستة الباقون من العشرة) يعني: نشهد لهم بالجنة، (وهم طلحة بن عبيد الله )، وهو قريب لـعثمان رضي الله عنه، (و الزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح )، وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنهم، فهؤلاء الستة مع الأربعة هم العشرة المشهود لهم بالجنة.

وورد ذكر هؤلاء العشرة المبشرين بالجنة في حديث سعيد بن زيد الذي رواه أبو داود في سننه والترمذي ، وكذلك رواه الإمام أحمد في المسند، وورد في أحاديث فيها إشهادٌ لهؤلاء العشرة بالجنة، فلهذا قال: (فهؤلاء العشرة الكرام البررة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فنشهد لهم بها كما شهد لهم بها اتباعاً لقوله) أي: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، (وامتثالاً لأمره، وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة لغير هؤلاء)، فهؤلاء العشرة مشهود لهم بالجنة، وهناك غيرهم ممن شهد لهم الرسول الكريم بالجنة، والقاعدة عند أهل السنة والجماعة: أنه يشهد بالجنة لمن شهدت له النصوص، وأما من لم تشهد له النصوص فلا، وقال بعض العلماء في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه لا يشهد بالجنة إلا للأنبياء فقط.

والقول الثاني: أنه يشهد بالجنة للأنبياء ولمن شهدت له النصوص، وهذا هو قول الجمهور.

والقول الثالث: أنه يشهد لهؤلاء بالجنة ويشهد لمن شهد له اثنان عدلان بالجنة، ومن ذلك أن أبا ثور كان يشهد بالجنة للإمام أحمد بن حنبل ويستدلون بحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً، فمروا به بجنازة فأثنوا عليها الناس خيراً، فقال: وجبت، ثم مروا بجنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما وجبت؟ قال: هذا شهدتم عليه بالجنة فوجبت له الجنة، وهذا شهدتم عليه بالنار فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).

والحديث الآخر وهو حديث صحيح: (يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن أو الثناء السيئ).

أخذ بعض العلماء من هذا أنه يشهد للجنة لمن شهد له عدلان، والصواب من هذه الأقوال: أنه يشهد بالجنة للأنبياء ولمن شهدت له النصوص خاصة، وأما هؤلاء الذين شهد لهم، فلهم أدلتهم الخاصة فيقتصر على ما ورد في النصوص، ولأنه لو فتح الباب لكان إذا مات واحد إلا شهد له اثنان بالجنة، والصواب: أنه لا يشهد بالجنة إلا لمن شهدت له النصوص، كالعشرة المبشرين بالجنة.

(ومن ذلك ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه) وهو خطيب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه كان يخطب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكان يرفع صوته؛ لأن الخطيب مضطر إلى أن يرفع صوته، فلما نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] تأخر وخاف، وجعل يبكي في بيته، ولما نزلت: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ [الحجرات:2] خاف أن يكون قد حبط عمله؛ لأنه رفع صوته أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه، فقال: إنه كان يرفع صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله فهو من أهل النار، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قولوا له: إنه من أهل الجنة وليس من أهل النار)، فهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم.

وعبد الله بن سلام الإسرائيلي رضي الله عنه أيضاً هذا مشهود له بالجنة، فقد جاء في البخاري رضي الله عنه أنه قال: حدثني عبد الله بن محمد حدثنا أزهر السمان عن ابن عون عن محمد عن قيس بن عباد قال: (كنت جالساً في مسجد المدينة فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج وتبعته، فقلت: إنك حين دخلت المسجد قالوا: هذا رجل من أهل الجنة، قال: والله! ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدث لم ذاك؟ رأيت رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روضة، ذكرتُ من سعتها وخضرتها، ووسطها عمود من حديد أسفله في الأرض، وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: ارقَ، قلت: لا أستطيع، فأتاني منصف فرفع ثيابي من خلفي فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة فقيل لي: استمسك، فاستيقظت وإنها لفي يدي، فقصصت على النبي صلى الله عليه وسلم قال: تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة العروة الوثقى فأنت على الإسلام حتى تموت) وذلك الرجل عبد الله بن سلام .

وقال لي خليفة : حدثنا معاذ حدثنا ابن عون عن محمد حدثنا قيس بن عباد عن ابن سلام قال: وصيف مكان منصف، وهذا رواه البخاري في صحيحه وأخرجه مسلم أيضاً في الفضائل، وفيه شهادة لـعبد الله بن سلام بالجنة وهو عبد الله بن سلام الإسرائيلي من بني إسرائيل.

قال: (ولـبلال بن رباح )، المؤذن وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، (وكذلك لجماعة من الرجال والنساء) شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن النساء خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين، بشرها النبي صلى الله عليه وسلم ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب، يعني: من قصب لؤلؤ مجوف، وهذه منقبة لـخديجة رضي الله عنها وشهادة لها بالجنة.

قال: (وأخبر أنه رأى الرميصاء بنت ملحان في الجنة)، جاء في حديث في مسند الإمام أحمد يقول: حدثنا عفان حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقلت: ما هذه الخشفة؟ فقيل: الرميصاء بنت ملحان).

هذا شهادة لها بالجنة، وقال بعضهم: إنه يقال لها: الغميصاء وهي أم سليم بنت ملحان وقيل: إن أختها أم حرام بنت ملحان شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كما في صحيح البخاري ، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمعه يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته وجعلت تفلي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ -كان بينه وبينها محرمية عليه الصلاة والسلام- ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: قلت: وما يضحكك يا رسول الله؟! قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوك على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة -شك إسحاق -، قال: فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسه، ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟! قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله كما قال في الأول، قالت: فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين، فركبت البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت).

وهذا دليل على أن من غزا في سبيل الله ثم مات في الطريق ذاهباً أو راجعاً فهو شهيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لها بالجنة. وهؤلاء من الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهناك غيرهم، هناك عكاشة بن محصن ، لم يذكره المؤلف شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، وهومن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.

وكذلك ابن عمر رضي الله عنه مشهود له بالجنة في الرؤيا التي رآها وأنه رأى النار، وأن لها قرنين وأنه جاء ملك وقال: لن تراع، قال: أعوذ بالله من النار، وغيرهم، وهناك عدد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة من الرجال ومن النساء، ومن شهدت له النصوص نشهد له، كذلك أهل بدر فقد قال النبي فيهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وكذلك أهل بيعة الرضوان وكانوا ألفاً وخمسمائة أو ألفاً وأربعمائة، قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)، هذه شهادة لأهل بيعة الرضوان ولأهل بدر فنشهد بالجنة لمن شهدت له النصوص.

وأما من لم تشهد له النصوص فإنا نتوقف، ولا نشهد لأحد بعينه، لكن نشهد بالعموم بالجنة، إذ كل مؤمن في الجنة وكل كافر في النار، لكن لا يصح أن نشهد أن فلان بن فلان بعينه في الجنة، ولا يصح أن نشهد إن فلان بن فلان في النار، فلا نشهد إلا لمن شهدت له النصوص، مثل: أبي لهب فنشهد له بالنار، وأبي جهل نشهد له بالنار، وكذلك من علمت خاتمته أنه مات على الكفر وقامت عليه الحجة، فهذا كافر يشهد عليه بالنار.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فكل من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له، ولا نشهد لأحد غيرهم، بل نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء، ونكل علم الخلق إلى خالقهم، فالزم -رحمك الله- ما ذكرت لك من كتاب ربك العزيز، وكلام نبيك الكريم، ولا تحد عنه، ولا تبتغ الهدى في غيره، ولا تغتر بزخارف المبطلين، وآراء المتكلفين، فإن الرشد والهدى والفوز والرضا فيما جاء من علم الله ورسوله، لا فيما أحدثه المبطلون، وأتى به المتنطعون من آرائهم المضمحلة، ونتائج عقولهم الفاسدة، وارض بكتاب الله وسنة رسوله عوضاً من قول كل قائل، وزخرف وباطل ].

قال: (وكل من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له ولا نشهد لأحد غيرهم)، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، (بل نرجو للمحسن ونخاف على المسيء)، فإن عقيدة أهل السنة والجماعة أن يشهدوا بالجنة لمن شهدت له النصوص ولا يشهدوا لأحد غيرهم، لكن يرجون للمحسن ويخافون على المسيء، فإذا رأينا إنساناً محسناً مستقيماً على طاعة الله نرجو له الخير ونرجو أن يدخله الله الجنة ولا نشهد له بعينه، وإذا رأينا إنساناً مسرفاً يقترف المعاصي والكبائر ولا يبالي نخاف عليه من النار ولا نشهد عليه بالنار، فنخاف على المسيء ونرجو للمحسن، ونشهد بالعموم لكل مؤمن بالجنة وكل كافر في النار، أما المعين بعينه فلا نشهد له بالجنة إلا ما شهدت له النصوص، ولا نشهد بالنار إلا لمن شهدت له النصوص، إلا من عُرف أنه مات على الكفر وقامت عليه الحجة فهذا كافر، ولهذا قال: (بل نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، ونكل علم الخلق إلى خالقهم)، أي: لسنا مكلفين بأن نقول: فلان كذا وفلان كذا.

ثم قال المؤلف: (فالزم رحمك الله) هذا من نصحه أنه قال: رحمك الله فهو يدعو لك بالرحمة، (الزم رحمك الله ما ذكرت لك من كتاب ربك العزيز، وكلام نبيك الكريم) أي: الزم النصوص وما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، (ولا تحد عنه) يعني: لا تمل عنه يمنة ولا يسرة، (ولا تبتغ الهدى في غيره) أي: لا تبتغ الهدى في غير النصوص، فالهدى إنما هو في كتاب الله وسنة رسوله، قال الله تعالى في كتابه العظيم: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3]، ولو ذكر المؤلف هذه الآية لكان حسناً.

ويعطي المؤلف نصيحة يقول (ولا تغتر بزخارف المبطلين، وآراء المتكلفين)، لا تغتر بالكلام الذي يزخرفه أهل الباطل، والذي يتكلفه أهل البدع كالخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي.

ويكفرون المسلمين بالمعاصي، والمعتزلة الذين أخرجوا العاصي من الإيمان وأدخلوه في الكفر، والمرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا يضر مع الكفر طاعة، فهذه كلها مذاهب باطلة، فالزم الكتاب والسنة ولا تحد عنهما يميناً ولا شمالاً، وابتعد عن مذاهب الخوارج والمعتزلة والمرجئة والجهمية وغيرهم من أهل الضلال، فإن الرشد والهدى والفوز والرضا فيما جاء عن الله ورسوله لا فيما أحدثه المحدثون، ابتعد عن الحدث وعن البدع في الدين عما أتى به المتنطعون، فالرشد والهدى والفوز والرضا في الكتاب والسنة، وفيما جاء عن الله وفيما جاء عن رسول الله لا فيما أحدثه المحدثون من البدع، ولا فيما أتى به المتنطعون من التنطع من آرائهم المضمحلة ونتائج عقولهم الفاسدة، ومن زبالة الأذان ومحك الأفكار، وارض بكتاب الله وسنة رسوله فنعم الرضا بهما، ومن لم يكتف بالكتاب والسنة لا كفاه الله، ومن لم يرض بالكتاب والسنة لا أرضاه الله، وارض بكتاب الله وسنة رسوله عوضاً من قول كل قائل، وزخرف وباطل.