شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [6]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومما نطق بها القرآن، وصح بها النقل من الصفات: النفس. قال الله عز وجل إخباراً عن نبيه عيسى عليه السلام أنه قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116]، وقال عز وجل: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، وقال عز وجل لموسى عليه السلام: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).

وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب -فكتبه على نفسه- فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي) ].

قوله: (وصح بها النقل من الصفات: النفس)، ذكر المؤلف أن من صفات الله: النفس فأثبت لله نفساً، وجعلها من الصفات، وهذا قول لبعض العلماء، ومنهم من قال: إن النفس هي الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين ليس بصحيح، والصواب الذي عليه جمهور العلماء: أن المراد بالنفس ذاته عز وجل المتصفة بالصفات، وليس المراد بها ذاتاً مجردة عن الصفات، أو أنها صفة لله تعالى، بل المراد بنفس الله ذاته المتصفة بالصفات لا المجردة عن الصفات كما قاله بعضهم.

هذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من المحققين.

وأما القول بأن النفس من الصفات، كما ذهب إليه الدارمي رحمه الله تعالى فغير صحيح، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى في الجزء التاسع من صفحة (292) ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه، كما يقال: رأيت زيداً نفسه وعينه، وقد قال تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، وقال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28].

وفي الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال لأم المؤمنين: (لقد قلت بعدك أربع كلمات، لو وزن بما قلتيه لوزنته: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته).

وفي الحديث الإلهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم).

فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء هو: (الله) أي: ذاته عز وجل المتصفة بصفاته، وليس المراد بها: ذاتاً منفكة عن الصفات، ولا هي صفة للذات، كما ذهب إلى ذلك المؤلف.

وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ. والصواب: أن النفس هي الله وهي نفسه التي هي ذاته المتصفة بصفاته، هذا هو الصواب الذي عليه المحققون خلافاً لما ذهب إليه المؤلف هنا فالصفات من العلم، والرحمة، والقدرة، والحب، والبغض ... إلخ، كلها صفات للنفس التي هي ذات الله.

وحديث أبي هريرة السابق رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد في المسند، وهو حديث قدسي: أي أن معناه من الله ولفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلى ذراعاً اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) وفيه إثبات أن لله نفساً، والشاهد قوله: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي).

صفة المعية لله تعالى

قوله: (وأنا معه حين يذكرني) ففيه إثبات المعية لله، وهي صفة أخرى له سبحانه، وهي هنا معية خاصة؛ لأن المعية نوعان: معية عامة، ومعية خاصة، أما المعية العامة فهي: معية الله لجميع الخلق، فالله تعالى مع خلقه بإحاطته واطلاعه، ونفوذ قدرته ومشيئته، ورؤيته لهم من فوق عرشه، وسماعه لكلامهم، والمعية العامة مقتضاها الاطلاع والإحاطة، وتأتي في صيغ المحاسبة، والمجازاة، والتخويف، كقوله سبحانه: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [المجادلة:7]، وقوله سبحانه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4] وقوله سبحانه: وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108] وهذه المعية تكون للمؤمن والكافر.

أما المعية الخاصة: فهي خاصة بالمؤمنين كمعيته سبحانه للصابرين، كما قوله: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وتكون للمتقين، كقوله: أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194] وقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] وتكون مع الذاكرين، كما في هذا الحديث (وأنا معه حين يذكرني)، فهي خاصة بالمؤمن، ومقتضاها: النصر والتأييد والحب، وتأتي في سياق المدح والثناء، قال عز وجل: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر في الغار يوم الهجرة، فقال له أبو بكر : (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا، يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وهذه معية خاصة.

كذلك في قوله سبحانه لموسى وهارون: لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، فلما دخل فرعون معهم في الخطاب جاءت المعية العامة، قال تعالى: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشعراء:15].

فهو سبحانه مع الناس كلهم بعلمه وإحاطته واطلاعه من فوق عرشه، وهو مع المتقين ومع الصابرين بعونه، ونصره، وتأييده، وتوفيقه، وتسديده سبحانه. ولا منافاة بين المعية وبين الفوقية؛ لأن المعية ليس معناها الاختلاط والامتزاج؛ إذ المعية في لغة العرب هي: مطلق المصاحبة، أما أهل البدع كالجهمية والمعتزلة وغيرهم فقد ضاقت صدورهم وضاقوا ذرعاً بالجمع بين النصوص، وضربوا النصوص بعضها ببعض، وأبطلوا نصوص الفوقية والعلو والمعية، والتي تزيد على ثلاثة آلاف دليل، وقالوا: إن المعية توجب الاختلاط والامتزاج، وأن الله مع الخلق مختلط بهم، فنفوا صفات الفوقية، والمعية، والعلو، وهذا لجهلهم، وضلالهم، وانحرافهم، وزيغهم، واتباعهم الهوى، فالحديث فيه صفة المعية الخاصة للذاكرين: (وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)، وهم الملائكة.

صفة القرب لله تعالى

وقوله في آخر الحديث: (وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً، اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وفي لفظ: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً)، وهذا فيه إثبات القرب لله، فالحديث فيه إثبات المعية والقرب والقرب، جاء خاصاً ولم يأت عاماً عند بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .

والقرب نوعان:

قرب من الداعين بالإجابة، وقرب من العابدين بالإثابة، فالأول مثل قوله عز وجل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] أي: قريب لإجابة دعاء الداعين، ولم يقل: إني قريب من كل أحد، ومثله ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فهو قريب من الداعي، وليس فيه أنه قريب من كل أحد، ومثله قول الله تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61] أي: من المستغفرين التائبين وهذا هو النوع الثاني: وهو القرب من العابدين بالإثابة، وهو كقوله سبحانه عن شعيب أنه قال: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]، فهو رحيم ودود بالمستغفرين التائبين، كما أنه قريب من العابدين، مجيب للسائلين، وأما قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] فهذا قرب الملائكة من العبد، فالملائكة أقرب إلى العبد من حبل الوريد، بدليل أنه قيده بوقت تلقي الملكين، فقال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق:16-17] أي: نحن أقرب إليه وقت تلقي المتلقيان ولو كان المراد قرب الله لم يقيد بوقت تلقي الملكين، ومثله قوله تعالى في سورة الواقعة: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85] قال العلماء: المعنى: أن الملائكة أقرب إلى قلب العبد من أهله، ولكن لا تبصرون الملائكة.

وذهب بعض العلماء إلى أن القرب يكون عاماً وخاصاً، كالمعية تكون عامة وخاصة، وأن القرب الخاص مثل قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]، وحديث أبي موسى ، ومن القرب الخاص قرب العبد من الله بالإثابة في قوله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، فالساجد قريب من الله؛ لأنه عابد لله. وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن القرب يكون عاماً وخاصاً، ومثلوا للقرب العام بقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] وقالوا: هذا قرب الله، والمعنى نحن أقرب إليه بالعلم من حبل الوريد، وقال بعضهم: نحن أقرب إليه بالعلم والرؤية، وقال بعضهم: بالعلم والرؤية والقدرة، وكذلك قالوا في قوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85]، لكن المحققين كـشيخ الإسلام وابن القيم قالوا: إن القرب لا يأتي إلا خاصاً ولا يأتي عاماً، وإن المراد بالقرب في الآيتين قرب الملائكة.

فهذا الحديث القدسي فيه إثبات أن لله نفساً وكذلك المعية والقرب، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن تقرب العباد من الله تقر به جميع الطوائف، وجميع من يثبت العلو لله تعالى، أما من أنكر علو الله فهو ينكر هذا القرب.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، قال شيخ الإسلام : وقربه من العباد بتقربهم إليه مما يقر به جميع من يقول: إنه فوق العرش، وأما من ينكر ذلك فمنهم من يفسر قرب العباد بكونهم يقاربونه ويشابهونه من بعض الوجوه، فيكونون قريبين منه، وهذا تفسير أبي حامد والمتفلسفة؛ فإنهم يقولون: الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة.

والدليل الثاني من السنة الذي استدل به المؤلف رحمه الله على إثبات أن لله نفساً هو حديث أبي هريرة ، قال: (وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب -فكتبه على نفسه- فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)، ووجه الدلالة قوله: (فكتبه على نفسه)، فأثبت لله نفساً كما أن الحديث فيه صفة الرحمة، والغضب، والحديث سبق في مبحث العلو، قال ورواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش)، وهنا ذكر نفس الحديث قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب -فكتبه على نفسه- فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)، واستدل به هناك على العلو، وليس فيه: (فكتبه على نفسه) واستدل به هنا على إثبات النفس وكلمة: (فكتبه على نفسه)، ليست في الكتب الستة، وعلى هذا فيكون الحديث ليس فيه دليل على إثبات أن لله نفساً، ويكتفى بالأدلة الأخرى من الكتاب والسنة.

قوله: (وأنا معه حين يذكرني) ففيه إثبات المعية لله، وهي صفة أخرى له سبحانه، وهي هنا معية خاصة؛ لأن المعية نوعان: معية عامة، ومعية خاصة، أما المعية العامة فهي: معية الله لجميع الخلق، فالله تعالى مع خلقه بإحاطته واطلاعه، ونفوذ قدرته ومشيئته، ورؤيته لهم من فوق عرشه، وسماعه لكلامهم، والمعية العامة مقتضاها الاطلاع والإحاطة، وتأتي في صيغ المحاسبة، والمجازاة، والتخويف، كقوله سبحانه: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [المجادلة:7]، وقوله سبحانه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4] وقوله سبحانه: وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108] وهذه المعية تكون للمؤمن والكافر.

أما المعية الخاصة: فهي خاصة بالمؤمنين كمعيته سبحانه للصابرين، كما قوله: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وتكون للمتقين، كقوله: أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194] وقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] وتكون مع الذاكرين، كما في هذا الحديث (وأنا معه حين يذكرني)، فهي خاصة بالمؤمن، ومقتضاها: النصر والتأييد والحب، وتأتي في سياق المدح والثناء، قال عز وجل: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر في الغار يوم الهجرة، فقال له أبو بكر : (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا، يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وهذه معية خاصة.

كذلك في قوله سبحانه لموسى وهارون: لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، فلما دخل فرعون معهم في الخطاب جاءت المعية العامة، قال تعالى: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشعراء:15].

فهو سبحانه مع الناس كلهم بعلمه وإحاطته واطلاعه من فوق عرشه، وهو مع المتقين ومع الصابرين بعونه، ونصره، وتأييده، وتوفيقه، وتسديده سبحانه. ولا منافاة بين المعية وبين الفوقية؛ لأن المعية ليس معناها الاختلاط والامتزاج؛ إذ المعية في لغة العرب هي: مطلق المصاحبة، أما أهل البدع كالجهمية والمعتزلة وغيرهم فقد ضاقت صدورهم وضاقوا ذرعاً بالجمع بين النصوص، وضربوا النصوص بعضها ببعض، وأبطلوا نصوص الفوقية والعلو والمعية، والتي تزيد على ثلاثة آلاف دليل، وقالوا: إن المعية توجب الاختلاط والامتزاج، وأن الله مع الخلق مختلط بهم، فنفوا صفات الفوقية، والمعية، والعلو، وهذا لجهلهم، وضلالهم، وانحرافهم، وزيغهم، واتباعهم الهوى، فالحديث فيه صفة المعية الخاصة للذاكرين: (وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)، وهم الملائكة.

وقوله في آخر الحديث: (وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً، اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وفي لفظ: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً)، وهذا فيه إثبات القرب لله، فالحديث فيه إثبات المعية والقرب والقرب، جاء خاصاً ولم يأت عاماً عند بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .

والقرب نوعان:

قرب من الداعين بالإجابة، وقرب من العابدين بالإثابة، فالأول مثل قوله عز وجل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] أي: قريب لإجابة دعاء الداعين، ولم يقل: إني قريب من كل أحد، ومثله ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فهو قريب من الداعي، وليس فيه أنه قريب من كل أحد، ومثله قول الله تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61] أي: من المستغفرين التائبين وهذا هو النوع الثاني: وهو القرب من العابدين بالإثابة، وهو كقوله سبحانه عن شعيب أنه قال: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]، فهو رحيم ودود بالمستغفرين التائبين، كما أنه قريب من العابدين، مجيب للسائلين، وأما قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] فهذا قرب الملائكة من العبد، فالملائكة أقرب إلى العبد من حبل الوريد، بدليل أنه قيده بوقت تلقي الملكين، فقال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق:16-17] أي: نحن أقرب إليه وقت تلقي المتلقيان ولو كان المراد قرب الله لم يقيد بوقت تلقي الملكين، ومثله قوله تعالى في سورة الواقعة: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85] قال العلماء: المعنى: أن الملائكة أقرب إلى قلب العبد من أهله، ولكن لا تبصرون الملائكة.

وذهب بعض العلماء إلى أن القرب يكون عاماً وخاصاً، كالمعية تكون عامة وخاصة، وأن القرب الخاص مثل قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]، وحديث أبي موسى ، ومن القرب الخاص قرب العبد من الله بالإثابة في قوله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، فالساجد قريب من الله؛ لأنه عابد لله. وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن القرب يكون عاماً وخاصاً، ومثلوا للقرب العام بقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] وقالوا: هذا قرب الله، والمعنى نحن أقرب إليه بالعلم من حبل الوريد، وقال بعضهم: نحن أقرب إليه بالعلم والرؤية، وقال بعضهم: بالعلم والرؤية والقدرة، وكذلك قالوا في قوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85]، لكن المحققين كـشيخ الإسلام وابن القيم قالوا: إن القرب لا يأتي إلا خاصاً ولا يأتي عاماً، وإن المراد بالقرب في الآيتين قرب الملائكة.

فهذا الحديث القدسي فيه إثبات أن لله نفساً وكذلك المعية والقرب، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن تقرب العباد من الله تقر به جميع الطوائف، وجميع من يثبت العلو لله تعالى، أما من أنكر علو الله فهو ينكر هذا القرب.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، قال شيخ الإسلام : وقربه من العباد بتقربهم إليه مما يقر به جميع من يقول: إنه فوق العرش، وأما من ينكر ذلك فمنهم من يفسر قرب العباد بكونهم يقاربونه ويشابهونه من بعض الوجوه، فيكونون قريبين منه، وهذا تفسير أبي حامد والمتفلسفة؛ فإنهم يقولون: الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة.

والدليل الثاني من السنة الذي استدل به المؤلف رحمه الله على إثبات أن لله نفساً هو حديث أبي هريرة ، قال: (وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب -فكتبه على نفسه- فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)، ووجه الدلالة قوله: (فكتبه على نفسه)، فأثبت لله نفساً كما أن الحديث فيه صفة الرحمة، والغضب، والحديث سبق في مبحث العلو، قال ورواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش)، وهنا ذكر نفس الحديث قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب -فكتبه على نفسه- فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)، واستدل به هناك على العلو، وليس فيه: (فكتبه على نفسه) واستدل به هنا على إثبات النفس وكلمة: (فكتبه على نفسه)، ليست في الكتب الستة، وعلى هذا فيكون الحديث ليس فيه دليل على إثبات أن لله نفساً، ويكتفى بالأدلة الأخرى من الكتاب والسنة.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [3] 2161 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [2] 2153 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [1] 1965 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [7] 1959 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [10] 1698 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [14] 1684 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [11] 1561 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [15] 1504 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [13] 1498 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [4] 1390 استماع