شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [14]


الحلقة مفرغة

الأحاديث الواردة في الاتباع والحث عليه

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فصل: في فضل الاتباع.

روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: نحمد الله تعالى ونثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم مساكم، ثم قال: من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي وأنا ولي المؤمنين)، رواه مسلم والنسائي ، ولم يذكر مسلم : وكل ضلالة في النار ].

عقد المؤلف هذا الفصل في فضل الاتباع يعني: فضل اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما، ويسرد فيه المؤلف رحمه الله آثاراً وأخباراً في فضل اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما، وأنه يجب على الإنسان أن يعمل بالكتاب والسنة، وأن من اتبعهما فهو على الجادة المستقيمة.

روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله ..)، وهذا هو السنة أن يبدأ الخطيب بخطبته -سواءً كانت خطبة جمعة أو غيرها- بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ثم يثني بالصلاة على نبيه. ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له) وهذا مأخوذ من الكتاب العزيز قال الله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178]، وقوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]، فمن هداه الله ووفقه وقذف في قلبه الحق فقبل الحق ورضي به واختاره فلا يستطيع أحد أن يضله أبداً، ولو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يضلوه ما استطاعوا، ومن يضلل الله ويخذله ويتخلَّ عنه خذله الله وأضله فلا يستطيع أحد أن يهديه ولو اجتمع الخلق كلهم على أن يهدوه ما استطاعوا.

قال الله تعالى لنبيه الكريم لما عجز عن هداية عمه أبي طالب وكان يحميه ويذود عنه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56].

قال: (إن أصدق الحديث كتاب الله) وهو كلام الله عز وجل، وهو أفضل الكلام وأصدق الكلام، (وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، لأنه عليه الصلاة والسلام يهدي -يعني: يرشد وينصح ويبين- على بينة من ربه، ولأنه على نور من ربه، فهديه أحسن الهدي عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قال الله عز وجل: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

يعني: تدل وترشد، فالهداية نوعان:

هداية دلالة وإرشاد وهذه يملكها الرسول عليه الصلاة والسلام.

وهداية توفيق وتسديد وهذه لا يملكها إلا الله، فقوله في العبارة الأولى: (ومن يضلل فلا هادي له)، هذه هداية التوفيق والتسديد، وقوله هنا: (وأحسن الهدي هدي محمد) هذه هداية الدلالة والإرشاد.

إذاً: الهداية هدايتان: هداية توفيق وتسديد هذه لا يقدر عليها إلا الله، خالق هداية القلوب، وهداية دلالة وإرشاد ونصح هذه يملكها الرسول. (وأحسن الهدي هدي رسول الله)، يعني: بدلالته وإرشاده، (وشر الأمور محدثاتها)، شر الأمور هي الأمور المحدثة في الدين، والمحدث في الدين: هو ما أحدث في دين الله مخالف لشرع الله، (وكل محدثة بدعة)، أي: كل محدثة في الدين بدعة (وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).

(كل ضلالة في النار) لم يذكرها مسلم كما ذكر ذلك المؤلف، وإنما جاءت عند النسائي، فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة يوم الجمعة.

ثم يقول: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، ويعقد بين السبابة والوسطى، (وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم)، وهكذا ينبغي أن يكون الخطيب فبعض الخطباء إذا خطب تجده متماوتاً وخطبته ضعيفة، فينبغي أن تكون في الخطبة شيء من شجاعة وحماس وقوة تهز المنبر، فكان يحمّر وجهه ويعلو صوته حتى يؤثر في السامعين، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، (كان إذا خطب احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم) فلا بد وأن يكون الخطيب كذلك حتى يعالج المشاكل التي وقع فيها الناس.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي)، قوله: (من ترك مالاً فلأهله) يعني: لورثته، وقوله: (ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي أو علي) يعني: يقضيه، وكان ذلك في آخر الأمر، ففي أول الأمر كان النبي لا يصلي على من عليه دين، فلما وسع الله عليه صار يقضي الدين عليه الصلاة والسلام، ويقول: من ترك مالاً فلأهله) أي: للورثة، (ومن ترك ديناً فعلي) يقضيه عليه الصلاة والسلام، (أو ضياعاً) يعني: صغاراً أطفالاً وعيالاً فيكون لهم من بيت المال، ولهذا قال العلماء: إذا كان بيت المال فيه سعة فإنه ينبغي أن تقضى منه ديون الأموات، وتكفل منه الأيتام اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي، وأنا ولي المؤمنين) رواه مسلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى زيد بن أرقم قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد: أيها الناس! فإنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيبه، وأنا تارك فيكم الثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن تركه وأخطأه كان على الضلالة، وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، ثلاث مرات). رواه مسلم].

وهذا حديث زيد بن أرقم رحمه الله ورضي الله عنه، رواه الإمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة، والإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس، قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه)؛ فيه أنه يستحب للخطيب أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه، (ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد)، فيه السنة أن يقول الخطيب: أما بعد، هذا هو الأفضل، أما قول بعض الناس: وبعد، فالأولى أما بعد.

قال: (أما بعد: أيها الناس! فإنما أنا بشر مثلكم)، فيه أن النبي بشر ليس رباً ولا إلهاً، وفيه الرد على من يعبد النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه إله، وبعض الناس يقول: إنه نور وأنه جزء من الله -نعوذ بالله- فهذا كفر وضلال، فالرسول بشر من لحم ودم وهو مخلوق له أم وأب، من نسل عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب، خلق من ماء مهين كما يخلق سائر الناس، فهو بشر ليس نوراً وليس جزءاً من الله والعياذ بالله كما يقول الملاحدة المغالون، بل هو بشر، ولكنه أفضل الناس صلى الله عليه وسلم.

قال: (يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيبه)، يعني: الموت، قال الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].

قال: (وأنا تارك فيكم الثقلين)، سماهما الثقلين لعظمهما وكبر شأنهما، وكذلك لثقل العمل بهما، وهما الكتاب والسنة، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ولا شك أنه من أخذ بالقرآن كان على الهدى.

قال: (ومن تركه وأخطأه كان على الضلالة، وأهل بيتي)، وفي لفظ: (وسنتي)، وهنا قال: (وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، ثلاث مرات)، أهل بيته يعني: المؤمنون، زوجاته عليه الصلاة والسلام وعمه العباس وحمزة وعلي وفاطمة والحسن والحسين هؤلاء هم أهل بيته، فيجب على المؤمنين محبتهم وموالاتهم؛ لقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي أوصى بهم وصية خاصة بقوله: (أذكركم الله في أهل بيتي ثلاث مرات)، يعني: شرع موالاتهم ومحبتهم وإعطاءهم حقوقهم، وكف الأذى عنهم وإنزالهم منازلهم، والترضي عنهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله تعالى، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)، رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح، ورواه ابن ماجة وفيه قال: (وقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) ].

وهذا حديث العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاتباع، وكل هذه النصوص ساقها المؤلف لبيان فضل الاتباع، وأنه يجب على الإنسان أن يتبع الكتاب والسنة وأن يعمل بهما، وأن على المؤمن أن يعمل بالكتاب والسنة.

يقول العرباض رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة)، يعني: مؤثرة (ذرفت منها العيون)، وهنا قال: الأعين، وفي لفظ: (العيون)، (ووجلت منها القلوب)؛ يعني: لأنها حارة ولأنها خرجت من القلب، ولأنها موعظة بليغة مؤثرة، (ذرفت منها العيون) أي: بكت العيون، (ووجلت منها القلوب)، أي: خافت منها القلوب، (فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع)، يعني: كأنك تودعنا وكأنها آخر نصيحة وآخر وصية؛ لأنها حارة ومؤثرة، (فماذا تعهد إلينا)، أي: هل توصينا بأي شيء؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله)، وتقوى الله هي وصية الله للأولين والآخرين، ووصية نبيه قال الله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] فهذه وصية الله للأولين والآخرين، وهي وصية نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)، أي: السمع والطاعة لولاة الأمور، ولمن ولاه الله أمركم اسمعوا لهم وأطيعوا، ولا تخرجوا عليهم ولا تقاتلوهم ولا تخلعوا يداً من طاعتهم، وهذا مقيد بما إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، أما إذا أمروا بالمعصية فلا يطاعون، ولهذا جاء في الحديث الآخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة بالمعروف)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق إنما الطاعة في المعروف)، فإذا أمر ولي الأمر في معصية فلا يطاع، أو أمر الأمير بمعصية فلا يطاع، أو الزوج إذا أمر زوجته بالمعصية فلا يطاع، أو الأب إذا أمر ابنه بالمعصية فلا يطيعه، لكن لا يتمرد عليه في غيرها، فقط لا يطيعه في معصية، وليس معنى ذلك إذا أمر النبي بالمعصية أن الناس يتمردون ويخرجون على ولاة الأمور، فقط في المعصية إذا قال لك: اشرب الخمر، لا تطعه، إذا قال: اشرب الدخان، لا تطعه، إذا أمرك والدك بأن تأتي له بالدخان لا تطعه، لكن لا تتمرد عليه وإنما تنصحه وتقول له: يا أبي! هذا لا يجوز ولا يجوز لي أن أطيعك في معصية، وهكذا.

إنما السمع والطاعة في طاعة الله وفي الأمور المباحة، ووصية النبي صلى الله عليه وسلم هي: تقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمور، (وإن كان عبداً حبشياً)، أي: ولو كان الأمير عبداً حبشياً، وفي اللفظ الآخر: (إن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف)، وفي لفظ: (كأن رأسه زبيبة)، أي: لو كان مقطع الأنف والأذنين وصار أميراً وتولى على الناس فيجب أن يسمع له ويطاع، (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً)، يحصل اختلاف وأمور تنكرونها، لكن الزموا كتاب الله وسنة رسوله وأطيعوا ولاة الأمور في طاعة الله.

ثم قال: (فعليكم بسنتي)، يعني: الزموا سنتي، (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، فالواجب لزوم الكتاب والسنة، وسنة الخلفاء الراشدين إذا لم يكن هناك سنة فيما لم يكن فيه سنة، فإذا لم تتبين السنة يؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين، أما إذا ظهرت السنة فإنه يؤخذ بالسنة، وقد يجتهد بعض الخلفاء الراشدين باجتهاد يخالف السنة فيؤخذ بالسنة، لكن إذا لم يكن في المسألة سنة فيؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عضوا عليها بالنواجذ)، يعني: تمسكوا بها، والنواجذ هي: الأسنان التي تلي الأضراس، وهي أقوى الأضراس يعني: يراد بذلك الجد في لزوم السنة؛ لأن الذي يمسك الشيء بأضراسه ويعض عليه يمتنع من أن ينتزعه أحد منه، وهذا أشد ما يكون به التمسك.

قال: (وإياكم ومحدثات الأمور)، وهذا تحذير، أي: احذروا محدثات الأمور، ومحدثات الأمور: هي البدع التي تخالف الكتاب والسنة، ثم قال: (فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)، وعند النسائي كما سبق: (وكل ضلالة في النار)، رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح ورواه ابن ماجة وفيه قال: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، هذه رواية ابن ماجة ، وفي سنن أبي داود أيضاً، قال: (تركتكم على البيضاء)، يعني: الشريعة البيضاء، (ليلها كنهارها) يعني: واضحة ليس فيها لبس، (لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى أبو الدرداء قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه فقال: الفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده! لتْصبّن الدنيا عليكم حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هِيَهْ، وايم الله! قد تركتم على البيضاء ليلها ونهارها سواء، قال أبو الدرداء : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تركنا على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء)، رواه ابن ماجة ].

وهذا الحديث رواه ابن ماجة في سننه في المقدمة، كتاب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بأس بسنده، فهو حسن. وفيه تحذير من فتنة الدنيا، وأن الدنيا لها فتنة وأنه يخشى على الإنسان من الدنيا أكثر مما يخشى عليه من الفقر، وهذا واقع، فإن الفقر يتحمله بعض الناس ويصبرون عليه، لكن الدنيا إذا جاءت لا يصبر كثير من الناس عليها، ولهذا قال بعض السلف: ابتلينا بالفقر فصبرنا وابتلينا بالدنيا فلم نصبر، جاءت الدنيا والأموال وكذا تكون فتن وشهوات وشبهات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده)، قسم وحلف وهو الصادق وإن لم يقسم، لكن للتأكيد، (لتصبن الدنيا عليكم حتى لا يزيغ قلب أحدكم إذا أزاغه إلا هيه)، وهذا هو الواقع الآن في عصرنا هذا، فقد صبت الدنيا على الناس صباً، نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه وألا يزغ قلوبنا!

قال: (حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هيه، وايم الله)، قسم مرة ثانية يقسم مرتين، يعني قال: وأيمن الله على حسب أنه قال: (وايم الله قد تركتكم على البيضاء)، يعني: الشريعة: (ليلها ونهارها سواء)، يعني: الشريعة واضحة الحلال واضح والحرام واضح، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الحلال بين وإن الحرام بين).

قال أبو الدرداء : (صدق رسول الله تركنا على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء)، وهذا فيه حث على الاتباع.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما، أو عملتم بهما، كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض)، رواه أبو القاسم الطبري الحافظ في السنن ].

وهذا حديث أبي هريرة رواه أبو القاسم الطبري في السنن في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، وفي مسند الإمام أحمد.

وجاء في حديث آخر: حدثنا ابن نمير حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي: الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض)، فهذا الحديث ضعيف فيه عطية العوفي ، وهو ضعيف شيعي مدلس.

وهنا قال: (كتاب الله وسنتي)، وفي الحديث الآخر قال: (كتاب الله وعترتي)، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذا الحديث في رده على الأحناف الذين يقولون: إن الزيادة على الكتاب نسخ يعمل، كآية الوضوء ليس فيها النية، فالنية جاءت في السنة يقول: هذا نسخ.

ورد عليهم ابن القيم رحمه الله بقوله: إن ما حرم رسول الله كما حرم الله، وذكر أيضاً قول صالح بن موسى عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض).

يقول ابن القيم : فلا يجوز التفريق بين ما جمع الله بينهما، ويرد أحدهما بالآخر -يعني: لا يجوز التفريق بين الكتاب والسنة، بل يجب العمل بهما- بل سكوته عما نطق به، ولا يمكن أحداً أن يطرد ذلك.

يعني: مقصوده أنه يجب على الإنسان أن يعمل بالكتاب والسنة ولا يفرق بينهما، وكذلك ذكر بعض شراح هذا الحديث وهو دليل على الاتباع، وأنه ينبغي للإنسان أن يتبع الكتاب والسنة، وألا يفرق بينهما.

(لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) يعني: إلى يوم القيامة حتى يموت، بل يجب عليه أن يعمل بالكتاب والسنة ولا يفرق بينهما، بأن يعمل بأحدهما دون الآخر كالذين يردون السنة أو الذين يقولون: نعمل بالقرآن ولا نعمل بالسنة، أو يقولون: إن السنة إذا جاءت بنص زائد على القرآن نسخ ثم يردونه، وهذا الحديث فيه رد عليهم، وفيه الحث على الاتباع، والمؤلف ساقه من أجل الحث على اتباع الكتاب والسنة.

الآثار والأقوال الواردة في الحث على الاتباع والأمر به

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته: إنما أنا متبع ولست بمبتدع. ]

وهذا من خطبته رضي الله عنه بعد توليه الخلافة، رواه ابن سعد في الطبقات، والطبري في تاريخه، وابن كثير في البداية والنهاية، يقول رضي الله عنه: (إنما أنا متبع ولست بمبتدع)، يعني: متبع لكتاب الله وسنة رسول الله، لا آتي بالبدع المخالفة للدين، وهكذا ينبغي للمسلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد فُرِضَت لكم الفرائض، وسنت لكم السنن، وتُرِكتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً ].

وهذا رواه مالك في الموطأ يقول عمر رضي الله عنه: (قد فرضت لكم الفرائض وسنت لكم السنن وتركتم على الواضحة)، يعني: الشريعة الواضحة، (إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً)، يعني: لا تميلوا يميناً ولا شمالاً بل اعملوا بالكتاب والسنة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر].

وهذا رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: (إنا نقتدي)، أي: نقتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام، ونعمل بكتاب الله.

(ولا نبتدي): من عند أنفسنا شيئاً، (ونتبع): الكتاب والسنة، (ولا نبتدع) أي: ما نأتي ببدعة، (ولن نضل ما تمسكنا بالأثر)، أي: لن يضل الإنسان ما تمسك بالكتاب والسنة والآثار الصحيحة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى الأوزاعي عن الزهري أنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فسألت الزهري : ما هذا؟! فقال: من الله العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، أَمرِّوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت، وفي رواية: فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرُّوها].

وهذه رواية الأوزاعي عن الزهري وهو تابعي وإمام مشهور: أنه لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فسأل الأوزاعي الزهري: (ما هذا؟) أي: ما معناه؟! فقال الزهري : (من الله العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم).

(من الله العلم): هو العلم الذي أنزله في كتابه، والوحي الذي أنزله على رسوله، (وعلى رسوله البلاغ): بلغنا هذا العلم من الله، (وعلينا نحن التسليم): من الله العلم، ينزل علينا من الله، والرسول هو المبلغ يبلغنا هذا العلم، والعلم هو الكتاب والسنة، يبلغه الرسول (وعلينا التسليم) ننفذ ما نحن مأمورون به.

(فأمِّرِوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت) يعني: لا تأولوها ولا تخرجوا عن ظاهرها، وفي رواية: (فإن أصحاب رسول الله أمَرُّوها).

ومعنى: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يعني: وهو مؤمن الإيمان الواجب الكامل، يعني: وهو ضعيف الإيمان، ولكن ليس بكافر، فالزاني ليس بكافر ولكنه ضعيف الإيمان.

(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يعني: الإيمان الكامل الذي تبرأ به ذمته ويستحق به دخول الجنة والنجاة من النار، بل إذا زنى ومات فهو على خطر من دخول النار إلا أن يتوب.

وكذلك في الحديث الآخر: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، ولهذا يبين العلماء هذا كـالنووي رحمه الله، وقال: هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المحققون: أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، ويراد به نفي كلامه ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة، وإنما تأولناه على ما ذكرناه؛ لحديث أبي ذر وغيره: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق)، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور: (أنهم بايعوه على ألا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا.. ثم قال لهم: فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئاً من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه).

فهذان الحديثان على ظاهرهما في الصحيح مع قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، مع إجماع أهل الحق على أن الزاني أو السارق أو القاتل أو غيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله عفا عنهم وأدخلهم الجنة، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة. هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة: أن الزاني والسارق وشارب الخمر من العصاة، إن تابوا تاب الله عليهم، وإن ماتوا قبل التوبة فهم على خطر من دخول النار، قد يعذبون وقد يعفى عنهم، وإذا عذبوا فلا يخلدون إلا إذا استحلوا الزنا أو استحلوا السرقة، ورأى أنه حلال فهذا كفر وردة، لكن إذا فعل ذلك على أنه طاعة للهوى والشيطان ويعلم أنه عاصٍ، ويعلم أن الزنا حرام، ويعلم أن الربا حرام، وعلى رغم ذلك غلبته شهوة المال فتعامل بالربا، أو يزني غلبته الشهوة في الحرام، أو يسرق وهو يعلم أنه حرام، يعلم أنه عاصٍ، فهذا مؤمن ناقص الإيمان.

أما إذا اعتقد أن الزنا حلال، أو السرقة حلال، أو الربا حلال، فهذا مرتد نعوذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فصل: في فضل الاتباع.

روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: نحمد الله تعالى ونثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم مساكم، ثم قال: من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي وأنا ولي المؤمنين)، رواه مسلم والنسائي ، ولم يذكر مسلم : وكل ضلالة في النار ].

عقد المؤلف هذا الفصل في فضل الاتباع يعني: فضل اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما، ويسرد فيه المؤلف رحمه الله آثاراً وأخباراً في فضل اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما، وأنه يجب على الإنسان أن يعمل بالكتاب والسنة، وأن من اتبعهما فهو على الجادة المستقيمة.

روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله ..)، وهذا هو السنة أن يبدأ الخطيب بخطبته -سواءً كانت خطبة جمعة أو غيرها- بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ثم يثني بالصلاة على نبيه. ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له) وهذا مأخوذ من الكتاب العزيز قال الله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178]، وقوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]، فمن هداه الله ووفقه وقذف في قلبه الحق فقبل الحق ورضي به واختاره فلا يستطيع أحد أن يضله أبداً، ولو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يضلوه ما استطاعوا، ومن يضلل الله ويخذله ويتخلَّ عنه خذله الله وأضله فلا يستطيع أحد أن يهديه ولو اجتمع الخلق كلهم على أن يهدوه ما استطاعوا.

قال الله تعالى لنبيه الكريم لما عجز عن هداية عمه أبي طالب وكان يحميه ويذود عنه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56].

قال: (إن أصدق الحديث كتاب الله) وهو كلام الله عز وجل، وهو أفضل الكلام وأصدق الكلام، (وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، لأنه عليه الصلاة والسلام يهدي -يعني: يرشد وينصح ويبين- على بينة من ربه، ولأنه على نور من ربه، فهديه أحسن الهدي عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قال الله عز وجل: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

يعني: تدل وترشد، فالهداية نوعان:

هداية دلالة وإرشاد وهذه يملكها الرسول عليه الصلاة والسلام.

وهداية توفيق وتسديد وهذه لا يملكها إلا الله، فقوله في العبارة الأولى: (ومن يضلل فلا هادي له)، هذه هداية التوفيق والتسديد، وقوله هنا: (وأحسن الهدي هدي محمد) هذه هداية الدلالة والإرشاد.

إذاً: الهداية هدايتان: هداية توفيق وتسديد هذه لا يقدر عليها إلا الله، خالق هداية القلوب، وهداية دلالة وإرشاد ونصح هذه يملكها الرسول. (وأحسن الهدي هدي رسول الله)، يعني: بدلالته وإرشاده، (وشر الأمور محدثاتها)، شر الأمور هي الأمور المحدثة في الدين، والمحدث في الدين: هو ما أحدث في دين الله مخالف لشرع الله، (وكل محدثة بدعة)، أي: كل محدثة في الدين بدعة (وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).

(كل ضلالة في النار) لم يذكرها مسلم كما ذكر ذلك المؤلف، وإنما جاءت عند النسائي، فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة يوم الجمعة.

ثم يقول: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، ويعقد بين السبابة والوسطى، (وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم)، وهكذا ينبغي أن يكون الخطيب فبعض الخطباء إذا خطب تجده متماوتاً وخطبته ضعيفة، فينبغي أن تكون في الخطبة شيء من شجاعة وحماس وقوة تهز المنبر، فكان يحمّر وجهه ويعلو صوته حتى يؤثر في السامعين، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، (كان إذا خطب احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم) فلا بد وأن يكون الخطيب كذلك حتى يعالج المشاكل التي وقع فيها الناس.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي)، قوله: (من ترك مالاً فلأهله) يعني: لورثته، وقوله: (ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي أو علي) يعني: يقضيه، وكان ذلك في آخر الأمر، ففي أول الأمر كان النبي لا يصلي على من عليه دين، فلما وسع الله عليه صار يقضي الدين عليه الصلاة والسلام، ويقول: من ترك مالاً فلأهله) أي: للورثة، (ومن ترك ديناً فعلي) يقضيه عليه الصلاة والسلام، (أو ضياعاً) يعني: صغاراً أطفالاً وعيالاً فيكون لهم من بيت المال، ولهذا قال العلماء: إذا كان بيت المال فيه سعة فإنه ينبغي أن تقضى منه ديون الأموات، وتكفل منه الأيتام اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي، وأنا ولي المؤمنين) رواه مسلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى زيد بن أرقم قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد: أيها الناس! فإنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيبه، وأنا تارك فيكم الثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن تركه وأخطأه كان على الضلالة، وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، ثلاث مرات). رواه مسلم].

وهذا حديث زيد بن أرقم رحمه الله ورضي الله عنه، رواه الإمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة، والإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس، قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه)؛ فيه أنه يستحب للخطيب أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه، (ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد)، فيه السنة أن يقول الخطيب: أما بعد، هذا هو الأفضل، أما قول بعض الناس: وبعد، فالأولى أما بعد.

قال: (أما بعد: أيها الناس! فإنما أنا بشر مثلكم)، فيه أن النبي بشر ليس رباً ولا إلهاً، وفيه الرد على من يعبد النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه إله، وبعض الناس يقول: إنه نور وأنه جزء من الله -نعوذ بالله- فهذا كفر وضلال، فالرسول بشر من لحم ودم وهو مخلوق له أم وأب، من نسل عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب، خلق من ماء مهين كما يخلق سائر الناس، فهو بشر ليس نوراً وليس جزءاً من الله والعياذ بالله كما يقول الملاحدة المغالون، بل هو بشر، ولكنه أفضل الناس صلى الله عليه وسلم.

قال: (يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيبه)، يعني: الموت، قال الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].

قال: (وأنا تارك فيكم الثقلين)، سماهما الثقلين لعظمهما وكبر شأنهما، وكذلك لثقل العمل بهما، وهما الكتاب والسنة، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ولا شك أنه من أخذ بالقرآن كان على الهدى.

قال: (ومن تركه وأخطأه كان على الضلالة، وأهل بيتي)، وفي لفظ: (وسنتي)، وهنا قال: (وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، ثلاث مرات)، أهل بيته يعني: المؤمنون، زوجاته عليه الصلاة والسلام وعمه العباس وحمزة وعلي وفاطمة والحسن والحسين هؤلاء هم أهل بيته، فيجب على المؤمنين محبتهم وموالاتهم؛ لقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي أوصى بهم وصية خاصة بقوله: (أذكركم الله في أهل بيتي ثلاث مرات)، يعني: شرع موالاتهم ومحبتهم وإعطاءهم حقوقهم، وكف الأذى عنهم وإنزالهم منازلهم، والترضي عنهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله تعالى، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)، رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح، ورواه ابن ماجة وفيه قال: (وقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) ].

وهذا حديث العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاتباع، وكل هذه النصوص ساقها المؤلف لبيان فضل الاتباع، وأنه يجب على الإنسان أن يتبع الكتاب والسنة وأن يعمل بهما، وأن على المؤمن أن يعمل بالكتاب والسنة.

يقول العرباض رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة)، يعني: مؤثرة (ذرفت منها العيون)، وهنا قال: الأعين، وفي لفظ: (العيون)، (ووجلت منها القلوب)؛ يعني: لأنها حارة ولأنها خرجت من القلب، ولأنها موعظة بليغة مؤثرة، (ذرفت منها العيون) أي: بكت العيون، (ووجلت منها القلوب)، أي: خافت منها القلوب، (فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع)، يعني: كأنك تودعنا وكأنها آخر نصيحة وآخر وصية؛ لأنها حارة ومؤثرة، (فماذا تعهد إلينا)، أي: هل توصينا بأي شيء؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله)، وتقوى الله هي وصية الله للأولين والآخرين، ووصية نبيه قال الله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] فهذه وصية الله للأولين والآخرين، وهي وصية نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)، أي: السمع والطاعة لولاة الأمور، ولمن ولاه الله أمركم اسمعوا لهم وأطيعوا، ولا تخرجوا عليهم ولا تقاتلوهم ولا تخلعوا يداً من طاعتهم، وهذا مقيد بما إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، أما إذا أمروا بالمعصية فلا يطاعون، ولهذا جاء في الحديث الآخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة بالمعروف)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق إنما الطاعة في المعروف)، فإذا أمر ولي الأمر في معصية فلا يطاع، أو أمر الأمير بمعصية فلا يطاع، أو الزوج إذا أمر زوجته بالمعصية فلا يطاع، أو الأب إذا أمر ابنه بالمعصية فلا يطيعه، لكن لا يتمرد عليه في غيرها، فقط لا يطيعه في معصية، وليس معنى ذلك إذا أمر النبي بالمعصية أن الناس يتمردون ويخرجون على ولاة الأمور، فقط في المعصية إذا قال لك: اشرب الخمر، لا تطعه، إذا قال: اشرب الدخان، لا تطعه، إذا أمرك والدك بأن تأتي له بالدخان لا تطعه، لكن لا تتمرد عليه وإنما تنصحه وتقول له: يا أبي! هذا لا يجوز ولا يجوز لي أن أطيعك في معصية، وهكذا.

إنما السمع والطاعة في طاعة الله وفي الأمور المباحة، ووصية النبي صلى الله عليه وسلم هي: تقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمور، (وإن كان عبداً حبشياً)، أي: ولو كان الأمير عبداً حبشياً، وفي اللفظ الآخر: (إن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف)، وفي لفظ: (كأن رأسه زبيبة)، أي: لو كان مقطع الأنف والأذنين وصار أميراً وتولى على الناس فيجب أن يسمع له ويطاع، (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً)، يحصل اختلاف وأمور تنكرونها، لكن الزموا كتاب الله وسنة رسوله وأطيعوا ولاة الأمور في طاعة الله.

ثم قال: (فعليكم بسنتي)، يعني: الزموا سنتي، (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، فالواجب لزوم الكتاب والسنة، وسنة الخلفاء الراشدين إذا لم يكن هناك سنة فيما لم يكن فيه سنة، فإذا لم تتبين السنة يؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين، أما إذا ظهرت السنة فإنه يؤخذ بالسنة، وقد يجتهد بعض الخلفاء الراشدين باجتهاد يخالف السنة فيؤخذ بالسنة، لكن إذا لم يكن في المسألة سنة فيؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عضوا عليها بالنواجذ)، يعني: تمسكوا بها، والنواجذ هي: الأسنان التي تلي الأضراس، وهي أقوى الأضراس يعني: يراد بذلك الجد في لزوم السنة؛ لأن الذي يمسك الشيء بأضراسه ويعض عليه يمتنع من أن ينتزعه أحد منه، وهذا أشد ما يكون به التمسك.

قال: (وإياكم ومحدثات الأمور)، وهذا تحذير، أي: احذروا محدثات الأمور، ومحدثات الأمور: هي البدع التي تخالف الكتاب والسنة، ثم قال: (فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)، وعند النسائي كما سبق: (وكل ضلالة في النار)، رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح ورواه ابن ماجة وفيه قال: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، هذه رواية ابن ماجة ، وفي سنن أبي داود أيضاً، قال: (تركتكم على البيضاء)، يعني: الشريعة البيضاء، (ليلها كنهارها) يعني: واضحة ليس فيها لبس، (لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى أبو الدرداء قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه فقال: الفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده! لتْصبّن الدنيا عليكم حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هِيَهْ، وايم الله! قد تركتم على البيضاء ليلها ونهارها سواء، قال أبو الدرداء : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تركنا على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء)، رواه ابن ماجة ].

وهذا الحديث رواه ابن ماجة في سننه في المقدمة، كتاب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بأس بسنده، فهو حسن. وفيه تحذير من فتنة الدنيا، وأن الدنيا لها فتنة وأنه يخشى على الإنسان من الدنيا أكثر مما يخشى عليه من الفقر، وهذا واقع، فإن الفقر يتحمله بعض الناس ويصبرون عليه، لكن الدنيا إذا جاءت لا يصبر كثير من الناس عليها، ولهذا قال بعض السلف: ابتلينا بالفقر فصبرنا وابتلينا بالدنيا فلم نصبر، جاءت الدنيا والأموال وكذا تكون فتن وشهوات وشبهات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده)، قسم وحلف وهو الصادق وإن لم يقسم، لكن للتأكيد، (لتصبن الدنيا عليكم حتى لا يزيغ قلب أحدكم إذا أزاغه إلا هيه)، وهذا هو الواقع الآن في عصرنا هذا، فقد صبت الدنيا على الناس صباً، نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه وألا يزغ قلوبنا!

قال: (حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هيه، وايم الله)، قسم مرة ثانية يقسم مرتين، يعني قال: وأيمن الله على حسب أنه قال: (وايم الله قد تركتكم على البيضاء)، يعني: الشريعة: (ليلها ونهارها سواء)، يعني: الشريعة واضحة الحلال واضح والحرام واضح، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الحلال بين وإن الحرام بين).

قال أبو الدرداء : (صدق رسول الله تركنا على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء)، وهذا فيه حث على الاتباع.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما، أو عملتم بهما، كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض)، رواه أبو القاسم الطبري الحافظ في السنن ].

وهذا حديث أبي هريرة رواه أبو القاسم الطبري في السنن في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، وفي مسند الإمام أحمد.

وجاء في حديث آخر: حدثنا ابن نمير حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي: الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض)، فهذا الحديث ضعيف فيه عطية العوفي ، وهو ضعيف شيعي مدلس.

وهنا قال: (كتاب الله وسنتي)، وفي الحديث الآخر قال: (كتاب الله وعترتي)، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذا الحديث في رده على الأحناف الذين يقولون: إن الزيادة على الكتاب نسخ يعمل، كآية الوضوء ليس فيها النية، فالنية جاءت في السنة يقول: هذا نسخ.

ورد عليهم ابن القيم رحمه الله بقوله: إن ما حرم رسول الله كما حرم الله، وذكر أيضاً قول صالح بن موسى عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض).

يقول ابن القيم : فلا يجوز التفريق بين ما جمع الله بينهما، ويرد أحدهما بالآخر -يعني: لا يجوز التفريق بين الكتاب والسنة، بل يجب العمل بهما- بل سكوته عما نطق به، ولا يمكن أحداً أن يطرد ذلك.

يعني: مقصوده أنه يجب على الإنسان أن يعمل بالكتاب والسنة ولا يفرق بينهما، وكذلك ذكر بعض شراح هذا الحديث وهو دليل على الاتباع، وأنه ينبغي للإنسان أن يتبع الكتاب والسنة، وألا يفرق بينهما.

(لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) يعني: إلى يوم القيامة حتى يموت، بل يجب عليه أن يعمل بالكتاب والسنة ولا يفرق بينهما، بأن يعمل بأحدهما دون الآخر كالذين يردون السنة أو الذين يقولون: نعمل بالقرآن ولا نعمل بالسنة، أو يقولون: إن السنة إذا جاءت بنص زائد على القرآن نسخ ثم يردونه، وهذا الحديث فيه رد عليهم، وفيه الحث على الاتباع، والمؤلف ساقه من أجل الحث على اتباع الكتاب والسنة.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [3] 2163 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [2] 2156 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [1] 1968 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [7] 1963 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [10] 1701 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [6] 1697 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [11] 1563 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [15] 1506 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [13] 1501 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [4] 1392 استماع