القضية الأندلسية - ملفات متنوعة
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه إلى يوم القيامة والدين.
أما بعد:
تبدأ فصول المأساة الأندلسية بُعيد دخول الملكين الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلا إلى غرناطة في بداية سنة 1492م وذلك تطبيقا لبنود معاهدة تسليم المدينة المسلمة التي وقعاها مع آخر الملوك المسلمين بالجزيرة الأندلسية أبو عبد الله الزغبي.
تعهد الملكان الكاثوليكيان المتعصبان من خلال المعاهدة بحسن معاملة المسلمين وحمايتهم والإقتصاص ممن يسيء إليهم وعدم انتهاك حرمات المساجد وأعراض المسلمين بل والتزموا بأن الشريعة الإسلامية هي التي سيُحكم بها فيهم من خلال فقهائهم؛ باختصار سيُمنح المسلمون نوعا من الحكم الذاتي كأقلية مسلمة ضمن الأغلبية الكاثوليكية.
رغم هذه الوعود المعسولة فقد اختارت فئة غير قليلة من الأمة الغرناطية المسلمة الهجرة عن غرناطة إلى بلاد الإسلام بشمال إفريقيا فرارا بدينها، فالأندلس أولا وأخيرا لم تعد دار إسلام.
لنترك من هاجر ونبقى مع من اختار البقاء في الأندلس ...
فقد اعتقد هؤلاء أن المسألة لا تعدو أن تكون سحابة صيف وسرعان ما ستتلاشى فيستجمع المسلمون قوتهم ويعيدون الكرّة على النصارى ويُرجعوا غرناطة وأحوازها، ولما لا قرطبة وإشبيلية وطليطلة وكل بلاد الأندلس؛ ثم إن المغاربة والعثمانيين لن يسمحوا بأن يغتصب النصارى أرض الإسلام ولابدّ أن يُرسلوا طارقا آخر يساعد على إرجاع الإسلام لهذه الأرض...
هكذا اعتقدوا في البداية، لكن قدّر الله وما شاء فعل.
يذكر عالم الإجتماع الإسباني خوليو كارو باروخا ما رواه الرحالة الإسباني خيرونيمو منذر الذي زار غرناطة ما بين 1494 و1495 (أي 3 أعوام على سقوطها بيد النصارى) فشد انتباهه الآذان الذي مازال مسموحا به أنذاك: "كان صوت المؤذن الشجي يرتفع في الأوقات المعتادة.
كانت أصوات المؤذنين تخرج من أعالي المآذن، حادة أحيانا، قصيرة أحيانا أخرى.
إن الأوربي الذي يسمع صوت المؤذن لأول مرة يشعر بقشعريرة؛ في هذه الأصوات شيئ من التحذير." (1)
هذه الروح المتسامحة نسبيا مع المسلمين لم تستمر طويلا حيث بدأت بوادر الغدر تظهر: "كان أول الغدر تحويل مسجد الطيبين إلى كنيسة وكذلك مسجد الحمراء، ثم تحويل مسجد غرناطة الأكبر إلى كتدرائية، ثم نظمت الكنيسة في السنين الأولى فرقا تبشيرية من رهبان وراهبات للقيام بنشر النصرانية...
ولما مرّت السنون ولم تأت هذه الفرق بنتيجة تذكر أخذت الكنيسة والدولة تفكر في تغيير سياستها من اللين إلى العنف، ملغية كل بنود معاهدة التسليم الواحدة تلو الأخرى" (2).
هذا التغيير نحو العنف تمثل في استدعاء الملك فرديناند سنة 1499م لأحد طغاة التاريخ الكاردينال فرانسيسكو خمنيس دي سيسنيروس، مطران طليطلة؛ ليعمل على تنصير المسلمين بصرامة أكبر، فوفد على غرناطة في شهر يوليوز من السنة نفسها… فأمر بجمع فقهاء مدينة غرناطة المدن الأخرى ودعاهم إلى ترك الإسلام واعتناق النصرانية ليكونوا أسوة لغيرهم، وأغدق المنح على من قبل ذلك وهدد بالوعيد والعقوبة لمن رفض، فضعف بعضهم وقبل التنصير وتبعهم بعض العامة، وتمركز التنصير في حي البيازين من أحياء غرناطة الشعبية، وحوّل جامعها الأكبر إلى كنيسة سان سلباطور" (3)، هذا التحول دفع الأندلسيين للقيام بثورة أشعل فتيلها انتهاك شرطة سيسنيروس لحرمة إحدى المسلمات حيث تجمع الأندلسيون وقتلوا الشرطي وحرروا المرأة وهرب القسس (4).
لكن نظرا لقلة العدة والعتاد وتعهد الكنيسة بعدم استعمال العنف أُخمدت الثورة وقد نُقضت كل التعهدات مرّة أخرى بعد ذلك حيث استمر التنصير القسري لكل المسلمين.
وانطلاقا من هذا التاريخ بدأت القرارات تتوالى بوجوب تنصير المسلمين وحظر استعمال اللغة العربية وحيازة الكتب المكتوبة بها ومنع ارتداء الزي الإسلامي أو التسمي بأسماء عربية أو الإحتفال بالأعياد الخاصة بالمسلمين، باختصار منع أي مظهر من مظاهر الدين الإسلامي.
أمام هذه الفتنة الكبرى انقسم الأندلسيون الغرناطيون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول تنصّر واندمج في المجتمع المسيحي.
القسم الثاني رحل عن الأندلس إلى بلاد الإسلام.
والقسم الثالث تظاهر بالنصرانية وحافظ على الإسلام وهؤلاء أطلق عليهم الإسبان "المورسكيون" أو "الموروس" التي تعني -حسب محمد عبد الله عنان رحمه الله - (العرب الأصاغر) تقليلا من شأنهم وتمييزا لهم عن غيرهم.
فلله در الكاتب المجهول الذي وضع للأندلسيين وصفا دقيقا مؤثرا لهذه المرحلة، إذ يقول:
وقد بُدلت أسماؤنا وتحوّلت****بغير رضاً منا وغير إرادة
فأاه على تبديل دين محمد****بدين كلاب الروم شر البرية
لم تثق الكنيسة في تنصّر هؤلاء فقامت بإنشاء محاكم التفتيش بغرناطة لمراقبتهم ومعاقبة من يتشبث بالإسلام أو تظهر عليه بعض مظاهره.
وهكذا أحرقت هذه المؤسسة - التي يسميها الأندلسيون "محكمة الشيطان "- حاكمت الأندلسيين وعذبتهم وصادرت أموالهم ولم يكن للموتى حرمة حيث عمدت لإخراج جثت المتهمين ب"الإسلام" من القبور وألبستها زي المحاكمة وبعد إصدار الحكم على الميت تقوم بإعدامه وحرقه.
وقد كان الأندلسيون يعملون على تأجيل تطبيق بعض القرارات بدفع فديات مالية باهظة للسلطات المسيحية رغم ذلك فقد بلغ الإضهاد ذروته في الفترة ما بين 1502 و1568م حيث صدر سنة 1567قرار ملكي لا رجعة فيه ولم تنفع في تأجيله الوساطات والفديات المالية.
قضى هذا القانون ب:
"- حظر اللباس المورسكي على الرجال والنساء وإلزام النساء -بالإضافة إلى ذلك- بكشف الوجه.
- في الزفاف وفي كل أنواع الإحتفالات تمنع رقصة السمرة وإقامة الليالي بمصاحبة الآلات الغنائية المورسكية حتى لو كانت لا تتضمن شيئا مريبا أو مخالفا للديانة المسيحية".
- يجب أن تظل أبواب البيوت مفتوحة وتمنع النساء من التخضيب بالحناء ويحظر استعمال الأسماء والألقاب الإسلامية.
- حظر استعمال الحمامات.- يحظر على المورسكيين أن يكون لهم عبيد من المقاتلين الغرباء، وعلى الأحرار من هؤلاء المقاتلين مغادرة غرناطة في غضون ستة أشهر.
- يحظر على المورسكيين كذلك أن يكون لهم عبيد من السود.
كما نرى، لم تكن تلك الإجراءات مجرد وسائل قمع ديني أو سياسي، بل كانت تهدف إلى إلغاء وجود المورسكيين كجماعة مختلفة ثقافيا، وكان المطروح هو ما يسميه برادويل "صراع الحضارات".
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يحظر فيها على المورسكيين لغتهم وملابسهم…إلخ، لكن المورسكيين كانوا يتمكنون -من خلال ثرواتهم- من تأجيل اللحظة التي توضع فيها هذه الإجراءات موضع التنفيذ.
و في عام 1567، حين لم يكن هناك مجال للتأجيل، أرسل أحد أعيان المورسكيين- وهو فرانثيسكو نونيث مولاي - إلى محكمة غرناطة مذكرة (المذكرة مودعة في مكتبة مدريد الوطنية- المخطوطة رقم 6176).
يضع نونيث في اعتباره أهمية القضية فيحاول تصوير هذه الخصائص على أنها مجرد عادات محلية ويسعى إلى أن يٌقبل اللباس المورسكي كما يقبل الزي الخاص بقشتالة أو أراغون، وأن تقبل اللغة العربية كما تُقبل اللغة الغاليثية أو القطالونية.
لم تحقق المذكرة أدنى درجة من النجاح، وسيكون تنفيذ هذه القرارات هو السبب الرئيسي في ثورة البشرات (5).
نعم، ففي يوم 23-12-1568م اندلعت ثورة غرناطة الكبرى التي تزعمها فرناندو ذي بالور أو محمد بن أمية وبعد مقتله خلفه عبد الله بن عبو رحمهما الله.
كادت هذه الثورة تنجح لكن نظرا لقلة العتاد وعدم الإستعداد وتفرق الكلمة والتنازع فشل الأندلسيون وذهبت ريحهم وانتهت هذه الثورة نهائيا سنة 1571م وذلك بعد قتل بعض الأندلسيين لابن عبو وأخذ جثته إلى الأسبان.
يقول الدكتور علي الكتاني رحمه الله عن هذه الحادثة الأليمة: "وفي 13-3-1571م نجحت المؤامرة إذ هجم الشنيش وستة من أتباعه على ابن عبو في الكهف الذي كان مختبئا فيه، فقاوم حتى استشهد.
فسلم الخونة جثمانه للإسبان الذين حملوه إلى غرناطة، وأدخلوه المدينة في حفل ضخم، ووضعوه في قفص حديدي بعد أن ألبسوه لباسا كاملا وكأن صاحبه حي، ثم حملوه على فرس، وقطعوا به المدينة تتبعه أفواج من أسرى الأندلسيين.
ثم حمل الجثمان إلى النطع.
وأجري فيه حكم الإعدام، فقطعوا الرأس وسحلوا الجسم في الشوارع فتمزق أطرافا ثم أحرق في أكبر ساحات غرناطة بهمجية لا تضاهى.
ووضعوا الرأس في قفص من حديد رفع فوق باب المدينة باتجاه البشرات حيث بقي معلقا لمدة ثلاثين سنة" (6).
ردا على هذه الثورة قرر المجلس الملكي الإسباني إقصاء الأندلسيين جميعا من مملكة غرناطة وترحيلهم إلى مناطق خارجها، وذلك لإبعادهم عن مركز ثقلهم وتشتيت وحدتهم حتى لا تقوم لهم قائمة.
لكن الغرناطيين كانوا يحملون عبء الدعوة في المناطق التي رحلوا إليها فقد بعثوا الروح الإسلامية في مسلمي المناطق الأخرى كقشتالة وأراغون وبلنسية، فاضطرت السلطات الإسبانية غير ما مرّة لتهجيرهم من منطقة لأخرى.
واستمرّ اضهاد المسلمين بإسبانيا إلى حدود سنة 1608م حيث قرر مجلس الدولة الإسباني بكامل أفراده وبالإجماع على طرد الأندلسيين جميعا من الأراضي الإسبانية لاعتبارهم "كفرة" بالدين النصراني و"خونة" للدولة الإسبانية.
وكما قال المثقف اللإسباني رودريغو دو زياس " بإصدار هذا القرار وُلدت أول دولة عنصرية في التاريخ" (7).
بدأت السلطات الإسبانية بتنفيذ القرار ابتداءا من السنة الموالية حيث جهزت سفنا في جميع مرافئ البلاد لحمل الاندلسيين إلى سواحل شمال إفريقيا وفرنسا.
وقد وصف قوافل المرحلين الأندلسيين شاعر إسباني معاصر بأبيات معبرة:
فرقة من المسلمين والمسلمات
تمشي وهي تسمع من الجميع الشتائم
هم يحملون الثروة والأموال
وهن يحملن زينتهن والملابس
والعجائز بأحزان وبكاء
التوى وجههن وشكلهن
محملات بجواهر مزيفة
وأواني الطبخ ومقلات وقرب وقنادل
وعجوز يحمل طفلا بيده
والآخر على صدر أمه الحنون
و ثالث شاب قوي كالطرياني
لا يتأخر عن حمل أبيه" (8)
و في الطريق إلى مناطق هجرتهم تعرض الأندلسيون لكل أنواع النصب والإحتيال والسرقة والقتل حتى، وكانوا فريسة سهلة للبحارة الذين كانوا لا يصلون بهم إلى الساحل ويرمون بهم في وسط البحر بعد أن ينهبوا مالهم ومتاعهم.
لكنهم- بفضل الله ومنه وكرمه - وصلوا أخيرا إلى بلاد الإسلام بعد أن فروا من الكفر.
وصلوا إلى تطوان والرباط وشفشاون وتلمسان وبجاية والجزائر وتونس وسليمان وتستور...
وكانوا بحق من خيرة رجالات البلدان التي حلّوا بها في جميع الميادين الشرعية والإقتصادية (فقد كانوا من أمهر الحرفيين) والعسكرية (خاصة في ساحة الجهاد البحري الذي قض مضاجع الإسبان).
فرحم الله أبناء الأمة الأندلسية الذين قضوا وهم يدافعون عن عقيدتهم ودينهم وسط بطش وإرهاب النصارى.
الهوامش
(1) كتاب "مسلمو مملكة غرناطة" خوايو كارو باروخا.
تعريب الأستاذ جمال عبد الرحمان.
الصفحة 121.
(2) كتاب "انبعاث الإسلام بالأندلس" علي الكتاني.
الصفحة 61.
(3) كتاب "انبعاث الإسلام بالأندلس" علي الكتاني.
الصفحة 61.
(4) كتاب "انبعاث الإسلام بالأندلس" علي الكتاني.
الصفحة 62
(5) كتاب "الموريسكيون الأندلسيون" للكاتبة الإسبانية مرثيدس غارثيا أرينا.
تعريب الأستاذ جمال عبد الرحمن.
الصفحة 53-54.
(6) كتاب "انبعاث الإسلام بالأندلس" علي الكتاني.
الصفحة 119
(7) هو مقال للكاتب الإسباني رودريغو دو زياس نشره في مجلة "العالم الديبلوماسي" الفرنسية عدد مارس 1997.
ولأهميته وكشفه عن وثائق جديدة قمت بترجمته إلى العربية.
(8) كتاب "انبعاث الإسلام بالأندلس" علي الكتاني.
الصفحة 165. إعداد/ أبو تاشفين هشام بن محمد المغربي.
كاتب بمجلة أنا المسلم مهتم بشئون المسلمين الأندلسيين.