سلسلة الآداب الشرعية (آداب المجلس)
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
سلسلة الآداب الشرعيةآداب المجلس
♦ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11]، هذه الآية أصل في آداب الاجتماع واللقاء في المجالس والمنتديات.
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم بالجلوس مع أصحابه:
عن أنس قال: ((بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ))؛ [رواه البخاري].
وعن جابر بن سمرة قال: ((جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، وهو ساكت، فربما يتبسم معهم))؛ [رواه الترمذي وصححه].
♦ السلام على أهل المجلس عند القدوم والانصراف؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلِّم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إن قام فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة))؛ [قال الترمذي: هذا حديث حسن، وحسنه الألباني].
استحباب ذكر الله تعالى:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيهم فيه، إلا كان عليهم تِرَة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم))؛ [رواه الترمذي وقال: حديث حسن]، ترة: يعني: حسرة وندامة.
الجلوس حيث ينتهي المجلس:
عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: ((كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي))؛ [رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن، وصححه الألباني في الصحيحة (٣٣٠)].
♦ تجنب الجلوس بين اثنين جلسا مع بعضهما قبله إلا إذا فسحا له بينهما؛ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما))؛ [رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن، وفي رواية لأبي داود: ((لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما))، وصححه الألباني].
♦ من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قام أحدكم من مجلس ثم رجع إليه، فهو أحق به))؛ [رواه مسلم (٢١٧٩)].
لا يُقام أحد من مجلسه ليجلس فيه آخر:
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه))؛ [رواه البخاري (٦٢٦٩)، ورواه أحمد بلفظ: ((لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم))، وصححه الألباني، صحيح الأدب المفرد، ص: ٤٤٠، والصحيحة: برقم: ٢٢٨].
حفظ أسرار المجلس:
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حدَّث رجل رجلًا بحديث ثم التفت فهو أمانة))؛ [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (٥٠٠)].
الحذر من التناجي في المجلس:
فإن كان في المجلس الواحد ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الثالث؛ مراعاة لمشاعره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن ذلك يحزنه))؛ [رواه البخاري ومسلم].
قال ابن حجر رحمه الله: "قال الخطابي: وإنما قال: ((يحزنه)) لأنه يتوهم أن نجواهما إنما هي لسوء رأيهما فيه، أو لدسيسة غائلة له))؛ [فتح الباري (١١/ ٨٦)].
عدم الانفراد بالحديث:
قال عبدالله بن مسعود: "حدِّث القوم إذا أقبلت عليك قلوبهم، فإذا انصرفت عنك، فلا تحدثهم، فقال له: وما علامة ذلك؟ قال: إذا أحدقوا إليك أبصارهم فقد أقبلت عليك قلوبهم، فإذا اتكأ بعضهم على بعض، فقد انصرفت عنك قلوبهم، فلا تحدِّثهم"؛ [أخرجه البغوي في شرح السنة (١/ ٣١٣)].
عن الحسن قال: "حدثوا الناس ما أقبلوا عليكم بوجوههم، فإذا التفتوا فاعلموا أن لهم حاجات"؛ [رواه ابن أبي شيبة (٢٦٥٠٥)].
ذكر كفارة المجلس في ختام اللقاء:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جلس في مجلس، فكثر فيه لَغَطُهُ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غُفر له ما كان في مجلسه ذلك))؛ [رواه الترمذي، وأحمد، وغيرهما (صحيح الجامع ٦١٩٢)].
القيام للقادم والداخل للمجلس:
القيام ثلاثة أقسام كما قال العلماء:
١- القسم الأول: أن يقوم عليه وهو جالس للتعظيم، كما تُعظِّم العجم ملوكها وعظماءها، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يجوز؛ لحديث معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يتمثَّل له الرجال قيامًا، فليتبوأ مقعده من النار))؛ [أخرجه أبو داود (٥٢٢٩)، والترمذي (٢٧٥٥) واللفظ له، وأحمد (١٦٩١٨)]؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلسوا لما صلى بهم قاعدًا، أمرهم أن يجلسوا ويصلوا معه قعودًا؛ عن أنس بن مالك قال: ((اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمِع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودًا، فلما سلم، قال: إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم، وهم قعود، فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا))؛ [رواه مسلم (٤١٣)].
٢ - القسم الثاني: أن يقوم لغيره واقفًا لدخوله أو خروجه من دون مقابلة ولا مصافحة، بل لمجرد التعظيم، فهذا مكروه؛ قال أنس بن مالك: ((لم يكن شخص أحبَّ إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لِما يعلمون من كراهته لذلك))؛ [رواه الترمذي (٢٧٥٤)، وصححه الألباني].
٣ - القسم الثالث: أن يقوم مقابلًا للقادم ليصافحه، أو يأخذ بيده ليضعه في مكان أو ليجلسه في مكانه، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به، بل هو من السنة.
لحديث عائشة قالت: ((ما رأيت أحدًا كان أشبه سمتًا وهديًا ودلًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة كرم الله وجهها؛ كانت إذا دخلت عليه قام إليها، فأخذ بيدها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه، فأخذت بيده فقبَّلته وأجلسته في مجلسها))؛ [رواه أبو داود (٥٢١٧)، وصححه الألباني].
وعن أبي سعيد الخدري قال: ((نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأتاه على حمار، فلما دنا قريبًا من المسجد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: قوموا إلى سيدكم، أو خيركم))؛ [رواه البخاري (٣٠٤٣)، ومسلم (١٧٦٨)].
ثبت في الصحيحين في قصة كعب بن مالك لما تاب الله عليه وعلى صاحبيه رضي الله عنهم جميعًا، وفيه أن كعبًا لما دخل المسجد قام إليه طلحة بن عبيدالله يهرول فسلَّم عليه وهنَّأه بالتوبة، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدلَّ ذلك على جواز القيام لمقابلة الداخل ومصافحته والسلام عليه.
قال ابن تيمية: "لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام، كما يفعله كثير من الناس، بل قال أنس بن مالك: ((لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لِما يعلمون من كراهته لذلك))؛ [رواه الترمذي (٢٧٥٤)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي]، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيًا له؛ كما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ : ((قوموا إلى سيدكم))؛ [رواه البخاري (٣٠٤٣)، ومسلم (١٧٦٨)]، وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة؛ لأنهم نزلوا على حكمه".
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع ألَّا يقر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد.
وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيًا له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام، ولو تُرك لاعتقد أن ذلك لترك حقه، أو قصد خفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يُقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة التباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا، فليتبوأ مقعده من النار)؛ [رواه الترمذي (٢٧٥٥)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي]، فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا له لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرَّقوا بين أن يُقال: قمت إليه، وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا صلى بهم قاعدًا من مرضه، وصلوا قيامًا أمرهم بالقعود؛ وقال: ((لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضًا))، وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد؛ لئلا يتشبه بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود، وجماع ذلك كله الذي يصلح اتباع عادات السلف وأخلاقهم، والاجتهاد عليه بحسب الإمكان.
فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما"؛ [الفتاوى (١/ ٢٥٨)، وفتاوى اللجنة الدائمة (١/ ١٤٤ - ١٤٧)].
قال ابن باز: "لا يلزم القيام للقادم، وإنما هو من مكارم الأخلاق، من قام إليه ليصافحه ويأخذ بيده، ولا سيما صاحب البيت والأعيان، فهذا من مكارم الأخلاق، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة، وقامت له رضي الله عنها، وقام الصحابة بأمره لسعد بن معاذ لما قدم ليحكم في بني قريظة، وقام طلحة بن عبيدالله من بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء كعب بن مالك حين تاب الله عليه، فصافحه وهنأه ثم جلس، وهذا من باب مكارم الأخلاق والأمر فيه واسع.
وإنما المنكر أن يقوم واقفًا للتعظيم، أما كونه يقوم ليقابل الضيف لإكرامه أو مصافحته أو تحيته، فهذا أمر مشروع، وأما كونه يقف والناس جلوس للتعظيم، أو يقف عند الدخول من دون مقابلة أو مصافحة، فهذا ما لا ينبغي، وأشد من ذلك الوقوف تعظيمًا له وهو قاعد لا من أجل الحراسة، بل من أجل التعظيم فقط"؛ [مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (٤/ ٣٩٤)].