شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [2]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فآمنوا بما قال الله سبحانه في كتابه، وصح عن نبيه، وأمرّوه كما ورد من غير تعرض لكيفية، أو اعتقاد شبهة أو مثلية، أو تأويل يؤدي إلى التعطيل، ووسعتهم السنة المحمدية والطريقة المرضية، ولم يتعدوها إلى البدعة المرزية الردية، فحازوا بذلك الرتبة السنية، والمنزلة العلية ].

قول المؤلف: (فآمنوا)، يشير إلى صالح السلف وخيار الخلف، وسادة الأئمة وعلماء الأمة فهو يقول: إن صالح السلف وخيار الخلف، وسادة الأئمة وعلماء الأمة اتفقت أقوالهم، وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله عز وجل، ثم قال: فآمنوا، فالضمبر يعود إليهم.

(فآمنوا بما قال الله سبحانه في كتابه وصح عن نبيه)، يعني: آمنوا بما جاء في كتابه العزيز، وبما صح في السنة المطهرة، (وأمروه كما ورد)، يعني: في النصوص، والمراد: نصوص الصفات أمروها كما وردت، من غير تعرض للكيفية، وإلا فالأحكام فهم يعلمونها ويفسرونها ويئولونها على تأويلها الذي دلت عليه النصوص.

(من غير تعرض لكيفية)، فالاستواء والنزول، والعلم والقدرة، والسمع والبصر يمرونها كما جاءت، فيثبتون المعنى، ولا يتعرضون للكيفية. (أو اعتقاد شبهة أو مثلية)، يعني: لا يقولون: إن استواء الله كيفيته كذا، أو أن يشبه كذا، أو أنه مثل كذا، فلا يتعرضون للكيفية ولا التشبيه ولا المثلية. (أو تأويل يؤدي إلى تعطيل)، كذلك لا يئولون، مثل: أن يقولوا إن استوى بمعنى: استولى؛ لأن هذا التأويل يؤدي إلى تعطيل الصفة ونفيها. فهم لا يئولون ولا يكيفون، ولا يشبهون ولا يمثلون، ولا يحرفون، حتى لا يؤدي هذا إلى تعطيل الصفة ونفيها.

(ووسعتهم السنة المحمدية)، يعني: اكتفوا بالسنة المحمدية الذي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم. (والطريقة المرضية)، وهي: الطريقة التي رضيها الله لعباده، ورضيها الصحابة، ولم يتعدوها إلى البدعة، ولم يتجاوزا السنة إلى البدعة، والبدعة: هي كل حدث في الدين، فكل محدث في الدين هو بدعة، قال عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، متفق على صحته.

وفي لفظ لـمسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

(فلم يتجاوزا السنة إلى البدعة المرزية الردية)، يعني: التي تردي صاحبها، فهي ردية في نفسها وتردي صاحبها، وتوصله إلى الردى. (فحازوا بذلك الرتبة السنية، والمنزلة العلية)، يعني: أن الصحابة والتابعون والأئمة والعلماء عندما آمنوا بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يكيفوا الصفات ولم يئولوها ولم يبتدعوا ولم يتجاوزوها إلى البدعة حازوا بذلك الرتبة السنية أي: الشريفة، والمنزلة العلية أي: العالية، حيث حازوا رضا الله عز وجل، وما أعد لهم وأثابهم من الثواب العظيم، ورفع درجاتهم ومنزلتهم في الجنة. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.

ثم إن المؤلف بدأ يتكلم عن الصفات، وبدأ بصفة الاستواء، وهي من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع، وساق النصوص في هذا.

قال الإمام الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد:

[ فمن صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ونطق بها كتابه، وأخبر بها نبيه: أنه متسوٍ على عرشه كما أخبر عن نفسه].

الأدلة على الاستواء من الكتاب والسنة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقال عز من قائل في سورة الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54].

وقال في سورة يونس عليه السلام: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس:3].

وقال في سورة الرعد: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2].

وقال في سورة طه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].

وقال في سورة الفرقان: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان:59].

وقال في سورة السجدة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة:4].

وقال في سورة الحديد: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد:4].

فهذه سبعة مواضع أخبر الله فيها سبحانه أنه على العرش.

وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش) ].

بدأ المؤلف رحمه الله الكلام في الصفات عن الكلام على صفة الاستواء على العرش، وذكر بعدها صفة العلو، وصفة الاستواء على العرش من الصفات التي تدل على علو الله أو التي تثبت علو الله عز وجل على خلقه، وصفتي العلو والاستواء كلاهما تدلان على علو الله عز وجل، وتدلان على إثبات علو الله عز وجل، ولكن صفة الاستواء تدل على علو خاص، وهو العلو على العرش، وصفة العلو تدل على إثبات علو الله على خلقه، وإن كان كل من الصفتين فيهما إثبات علو الله على خلقه، إلا أن بينهما فرقاً، فصفة الاستواء إنما دل عليها النص، ودل عليها النقل، ولم يدل عليها العقل، فلولا أن الله أخبرنا في كتابه أنه استوى على العرش لما علمنا ذلك، بخلاف صفة العلو فإنه دل عليها العقل والنقل والفطرة، فصفة علو الله على خلقه: ثابتة بالعقل وثابتة بالنقل أي: بالنصوص، وثابتة بالفطرة.

وهما من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع. وصفة العلو وصفة الكلام وصفة الرؤية هذه الصفات الثلاث من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدعة، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع، فتجد الجهمية والمعتزلة والأشاعرة لا يثبتون هذه الصفات، والأشاعرة يثبتون الرؤية، لكن على غير وجهها، ويثبتون الكلام على غير وجهه، فيقولون: هو معنى نفسي، ليس بحرف ولا صوت، ويثبتون الرؤية ولكن في غير جهة، فهم لم يثبتوا صفة الرؤية على حقيقتها.

وأما العلو فإنهم ينفونه، فتبين بهذا أن هذه الصفات من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع، وهي من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع.

وصفة الاستواء تدل على العلو، فتثبت علو الله عز وجل، إلا أن الاستواء على العرش إنما هو علو خاص على العرش. وصفة العلو كقوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، تدل على إطلاق صفة العلو على جميع المخلوقات، وأما الاستواء على العرش فهو علو خاص يفعله سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته.

أدلة القرآن على إثبات صفة الاستواء

وصفة الاستواء على العرش دلت عليها النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

أما الكتاب العزيز فإن الله تعالى أثبت صفة الاستواء في سبعة مواضع من كتاب الله عز وجل سردها المؤلف رحمه الله، وكلها جاءت بلفظ الاستواء وجاءت كلها بحرف (على) الذي يدل على العلو الارتفاع، في سورة الأعراف، وفي سورة يونس، وفي سورة الرعد، وفي سورة طه، وفي سورة الفرقان، وفي سورة السجدة، وفي سورة الحج، سبعة مواضع، كلها دلت على ثبوت صفة الاستواء، أما في سورة الأعراف فقال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، فاستوى تعدى بـ(على)، التي تدل على العلو والارتفاع.

وفي سورة يونس قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس:3].

وفي سورة الرعد قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2].

وفي سورة طه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] (على).

وفي سورة الفرقان: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:59].

وفي سورة السجدة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة:4].

وفي سورة الحديد: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد:4].

فهي سبعة مواضع لا ثامن لها في القرآن العظيم، وكلها جاءت بلفظ (على)، الذي يدل على العلو والارتفاع؛ لأن الاستواء له معان متعددة.

الأول: أن يأتي متعدياً بـ(إلى)، كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت:11]، فدل ذلك على العلو.

وأحياناً يتعدى بـ(الواو) التي تفيد المعية، كقوله تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28].

ومثل: استوى الماء والخشبة.

وأحياناً يتعدى بلفظ (على) الذي يدل على العلو والارتفاع. ونصوص الاستواء جاءت كلها في السبعة المواضع بلفظ استوى، وبلفظ (على) الذي يدل على العلو والارتفاع كقوله سبحانه: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [الزخرف:13]. وكلها صريحة على علو الرب على خلقه، وعلوه على العرش، والعرش هو سقف المخلوقات، وليس فوقه شيء، فالمخلوقات تنتهي من جهة العلو للعرش، والله تعالى فوق العرش بعد أن تنتهي المخلوقات. ولهذا فإن نصوص الاستواء السبعة كلها من أدلة علو الله على خلقه؛ لأن نصوص أدلة علو الرب على خلقه كثيرة، أفرادها تزيد على ثلاثة آلاف دليل، وكلها تدل على علو الله على خلقه، ولكنها أنواع، ومن أنواعها الاستواء، فهو نوع من أدلة العلو. ومع ذلك أنكرها أهل البدع، مع كونها صريحة وكثيرة، وقالوا: إنه ليس فوق المخلوقات، وسلكوا أحد مسلكين:

المسلك الأول: قالوا: إن الله مختلط بالمخلوقات، وهو مع المخلوقات، وضربوا النصوص بعضها ببعض، وقالوا: إن أدلة المعية تبطل الفوقية وتناقضها، كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]. وقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، فقالوا: إن نصوص المعية هذه تناقض الفوقية وتبطلها، فقالوا: بالاختلاط، وقالوا: إن الله مختلط بالمخلوقات، تعالى الله عما يقولون، حتى قالوا: إن الله في كل مكان. نعوذ بالله.

ولم ينزهوه عن الأماكن القذرة، تعالى الله عما يقولون، حتى قالوا: إنه في بطون السباع، وفي أجواف الطيور، وفي كل مكان. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

والمسلك الثاني: الذين أنكروا نصوص العلو والاستواء، وقالوا: بنفي النقيضين عن الله، فقالوا: بالنفي المحض، وقالوا: إن الله لا يكون مع المخلوقات، لا فوق المخلوقات، ولا مع المخلوقات، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايد له، ولا متصل به، ولا منفصل عنه، فيكون عدماً، بل أشد من العدم، فيكون ممتنعاً مستحيلاً، والمستحيل أشد من العدم.

أدلة السنة على إثبات صفة الاستواء

استدل المؤلف رحمه الله على إثبات الاستواء من الكتاب العزيز بسبع آيات، واستدل من السنة بنصوص منها: عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش) متفق عليه.

وقوله: (إن رحمتي سبقت غضبي) هذا من كلام الله لفظاً ومعنى، فهذا الحديث قدسي؛ لأن الحديث منسوب إلى قدسية الله، ومنسوب إلى الله، فهو من كلام الله لفظاً ومعنى، والقرآن هو من كلام الله لفظاً ومعنى إلا أن القرآن له أحكام تختلف، فكلام الله يتفاضل بعضه على بعض؛ ولهذا كانت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن.

والقرآن له أحكام منها: أنه لا يمسه إلا متوضئ، ومنها أنه يتعبد بتلاوته، ومنها أنه معجز بألفاظه، والحديث القدسي ليس كذلك وإن كان من كلام الله، أما الحديث غير القدسي فهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً ومن الله معنى، قال تعالى عن نبيه الكريم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي فهو عنده فوق العرش). والشاهد قوله: (فهو عنده فوق العرش) وفي هذا إثبات الفوقية.

وقوله: (فهو عنده فوق العرش) صريح في إثبات الفوقية، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه وغيرهما.

ووجه الدلالة من الحديث إثبات العند، فهو عنده فوق العرش، ففيه إثبات الفوقية.

والحديث يدل على صفة الرحمة أيضاً، لقوله: (إن رحمتي)، وصفة الغضب، وصفة الكتابة كما في قوله: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق)، فدل هذا الحديث على أربع صفات وهي: صفة الكتابة، والرحمة، والغضب، والفوقية.

والنصوص الكثيرة دلت على أن العرش أعلى المخلوقات، وأنه ليس فوقه شيء، والله فوق العرش، وفي هذا الحديث أن هذا الكتاب فوق العرش والجمع بينهما بأن يقال: هذا الكتاب مستثنى، فهو فوق العرش.

الفروق بين الاستواء والعلو

والفرق بين صفة الاستواء وصفة العلو من وجهين:

الوجه الأول: أن صفة الاستواء من الصفات الفعلية، وهي فعل يفعله الله سبحانه، وكان الاستواء بعد خلق السماوات والأرض، قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، فالله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، ثم استوى على العرش.

والاستواء من الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة والاختيار مثل الغضب والرضا والنزول، فهذه الصفات تتعلق بالمشيئة والاختيار، فمتى شاء نزل، ومتى شاء غضب، وكذلك الاستواء، فقد كان في وقت مستوياً على العرش، وفي وقت ليس مستوياً عليه، فقبل خلق السماوات والأرض لم يكن مستوياً على العرش ثم استوى على العرش.

أما العلو فمن الصفات الذاتية التي لا ينفك عنها الباري سبحانه وتعالى، فلا يقال: في وقت كان عالياً وفي وقت ليس عالياً، بل هو في جميع الأوقات عالٍ على جميع المخلوقات ومنها العرش.

إذاً: الاستواء صفة أخرى، وهي فعل يفعله، وهو علو خاص على العرش، والله أعلم بكيفيته، أما صفة العلو فهو عام مطلق ولا ينفك عن الباري، فهو عال على جميع المخلوقات ومنها العرش، أما الاستواء فهو علو خاص على العرش.

الوجه الثاني: أن العلو دل عليه العقل والنقل والفطرة، وأما الاستواء فدل عليه النقل فقط، فلولا أن الله أخبرنا بالاستواء لما علمنا بذلك، أما العلو فقد دل عليه العقل والفطرة، وقد فطر الله الخلائق على علو الله حتى البهائم فإنها ترفع رأسها إلى السماء.

حديث الأوعال

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سبع سماوات وما بينها ثم قال: (وفوق ذلك بحر بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال ما بين أظلافهن وركبهن ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهن العرش ما بين أعلاه وأسفله ما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق ذلك) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة القزويني ].

هذا الحديث هو الدليل الثاني من أدلة السنة التي استدل بها المؤلف رحمه الله على علو الله على العرش وعلى جميع المخلوقات، وهو حديث العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سبع سماوات، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء يعني: قدر خمسمائة عام، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال وهم: ملائكة فالملائكة صفة خلقهم على صفة خلق الأوعال يحملون العرش، قال: (وفوق ذلك ثمانية أوعال ما بين أظلافهن وركبهن ما بين سماء إلى سماء) يعني: ما بين أظلافهن وركبهن كما بين السماء والأرض، والعرش فوق ظهورهن، وما بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، يعني: مسيرة خمسمائة عام، فتكون المسافات كلها من الأرض إلى السماء الدنيا خمسمائة عام وبين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام، وجاء في الحديث الآخر: (كثف كل سماء مسيرة خمسمائة عام)، وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض خمسمائة عام، ثم فوقه ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن خمسمائة عام، ثم العرش ما بين أعلاه وأسفله خمسمائة عام، فتكون جميع المسافة ما يقارب خمسين ألف عام، وقد أشار إلى هذا ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية، وتكلم على قوله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]، وقال في سورة السجدة: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5]، والجمع بين الآيتين هو أن العدد الذي ذكر في المعارج يكون في الدنيا، والعدد الذي ذكر في السجدة يكون يوم القيامة، فهذا الحديث فيه بيان هذه المسافات.

الشاهد من الحديث قوله: (والله تعالى فوق ذلك)، فالعرش هو سقف المخلوقات فوق ظهور الأوعال والله فوق ذلك، ففيه إثبات العلو.

والحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة كما ذكر المؤلف رحمه الله، والحديث سنده فيه ضعف؛ لأنه من رواية سماك عن عبد الله بن عذيرة، ولكن الحديث له شواهد؛ ولهذا حسنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وابن القيم ، وذكره الإمام المصلح المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في آخر كتاب التوحيد، فالحديث حسن بشواهده، والحديث إن كان سنده ضعيفاً لكن له شواهد تقوى بها، فلهذا احتج به شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ الإمام المصلح والمؤلف هنا، وكذلك يحتج به الأئمة في كتب السنة، فقد استدل به أبو داود وابن ماجة وابن خزيمة في كتاب التوحيد وابن أبي عاصم في كتاب السنة والإمام أحمد في المسند والذهبي في العلو.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقال عز من قائل في سورة الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54].

وقال في سورة يونس عليه السلام: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس:3].

وقال في سورة الرعد: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2].

وقال في سورة طه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].

وقال في سورة الفرقان: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان:59].

وقال في سورة السجدة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة:4].

وقال في سورة الحديد: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد:4].

فهذه سبعة مواضع أخبر الله فيها سبحانه أنه على العرش.

وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش) ].

بدأ المؤلف رحمه الله الكلام في الصفات عن الكلام على صفة الاستواء على العرش، وذكر بعدها صفة العلو، وصفة الاستواء على العرش من الصفات التي تدل على علو الله أو التي تثبت علو الله عز وجل على خلقه، وصفتي العلو والاستواء كلاهما تدلان على علو الله عز وجل، وتدلان على إثبات علو الله عز وجل، ولكن صفة الاستواء تدل على علو خاص، وهو العلو على العرش، وصفة العلو تدل على إثبات علو الله على خلقه، وإن كان كل من الصفتين فيهما إثبات علو الله على خلقه، إلا أن بينهما فرقاً، فصفة الاستواء إنما دل عليها النص، ودل عليها النقل، ولم يدل عليها العقل، فلولا أن الله أخبرنا في كتابه أنه استوى على العرش لما علمنا ذلك، بخلاف صفة العلو فإنه دل عليها العقل والنقل والفطرة، فصفة علو الله على خلقه: ثابتة بالعقل وثابتة بالنقل أي: بالنصوص، وثابتة بالفطرة.

وهما من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع. وصفة العلو وصفة الكلام وصفة الرؤية هذه الصفات الثلاث من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدعة، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع، فتجد الجهمية والمعتزلة والأشاعرة لا يثبتون هذه الصفات، والأشاعرة يثبتون الرؤية، لكن على غير وجهها، ويثبتون الكلام على غير وجهه، فيقولون: هو معنى نفسي، ليس بحرف ولا صوت، ويثبتون الرؤية ولكن في غير جهة، فهم لم يثبتوا صفة الرؤية على حقيقتها.

وأما العلو فإنهم ينفونه، فتبين بهذا أن هذه الصفات من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع، وهي من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع.

وصفة الاستواء تدل على العلو، فتثبت علو الله عز وجل، إلا أن الاستواء على العرش إنما هو علو خاص على العرش. وصفة العلو كقوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، تدل على إطلاق صفة العلو على جميع المخلوقات، وأما الاستواء على العرش فهو علو خاص يفعله سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته.

وصفة الاستواء على العرش دلت عليها النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

أما الكتاب العزيز فإن الله تعالى أثبت صفة الاستواء في سبعة مواضع من كتاب الله عز وجل سردها المؤلف رحمه الله، وكلها جاءت بلفظ الاستواء وجاءت كلها بحرف (على) الذي يدل على العلو الارتفاع، في سورة الأعراف، وفي سورة يونس، وفي سورة الرعد، وفي سورة طه، وفي سورة الفرقان، وفي سورة السجدة، وفي سورة الحج، سبعة مواضع، كلها دلت على ثبوت صفة الاستواء، أما في سورة الأعراف فقال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، فاستوى تعدى بـ(على)، التي تدل على العلو والارتفاع.

وفي سورة يونس قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس:3].

وفي سورة الرعد قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2].

وفي سورة طه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] (على).

وفي سورة الفرقان: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:59].

وفي سورة السجدة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة:4].

وفي سورة الحديد: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد:4].

فهي سبعة مواضع لا ثامن لها في القرآن العظيم، وكلها جاءت بلفظ (على)، الذي يدل على العلو والارتفاع؛ لأن الاستواء له معان متعددة.

الأول: أن يأتي متعدياً بـ(إلى)، كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت:11]، فدل ذلك على العلو.

وأحياناً يتعدى بـ(الواو) التي تفيد المعية، كقوله تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28].

ومثل: استوى الماء والخشبة.

وأحياناً يتعدى بلفظ (على) الذي يدل على العلو والارتفاع. ونصوص الاستواء جاءت كلها في السبعة المواضع بلفظ استوى، وبلفظ (على) الذي يدل على العلو والارتفاع كقوله سبحانه: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [الزخرف:13]. وكلها صريحة على علو الرب على خلقه، وعلوه على العرش، والعرش هو سقف المخلوقات، وليس فوقه شيء، فالمخلوقات تنتهي من جهة العلو للعرش، والله تعالى فوق العرش بعد أن تنتهي المخلوقات. ولهذا فإن نصوص الاستواء السبعة كلها من أدلة علو الله على خلقه؛ لأن نصوص أدلة علو الرب على خلقه كثيرة، أفرادها تزيد على ثلاثة آلاف دليل، وكلها تدل على علو الله على خلقه، ولكنها أنواع، ومن أنواعها الاستواء، فهو نوع من أدلة العلو. ومع ذلك أنكرها أهل البدع، مع كونها صريحة وكثيرة، وقالوا: إنه ليس فوق المخلوقات، وسلكوا أحد مسلكين:

المسلك الأول: قالوا: إن الله مختلط بالمخلوقات، وهو مع المخلوقات، وضربوا النصوص بعضها ببعض، وقالوا: إن أدلة المعية تبطل الفوقية وتناقضها، كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]. وقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، فقالوا: إن نصوص المعية هذه تناقض الفوقية وتبطلها، فقالوا: بالاختلاط، وقالوا: إن الله مختلط بالمخلوقات، تعالى الله عما يقولون، حتى قالوا: إن الله في كل مكان. نعوذ بالله.

ولم ينزهوه عن الأماكن القذرة، تعالى الله عما يقولون، حتى قالوا: إنه في بطون السباع، وفي أجواف الطيور، وفي كل مكان. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

والمسلك الثاني: الذين أنكروا نصوص العلو والاستواء، وقالوا: بنفي النقيضين عن الله، فقالوا: بالنفي المحض، وقالوا: إن الله لا يكون مع المخلوقات، لا فوق المخلوقات، ولا مع المخلوقات، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايد له، ولا متصل به، ولا منفصل عنه، فيكون عدماً، بل أشد من العدم، فيكون ممتنعاً مستحيلاً، والمستحيل أشد من العدم.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [3] 2160 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [1] 1964 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [7] 1957 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [10] 1698 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [6] 1693 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [14] 1682 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [11] 1558 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [15] 1502 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [13] 1495 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [4] 1389 استماع