الرجولة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ اللهم بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فالرجولة أصل عظيم من أصول التربية على هذا الدين والإيمان به والدعوة إليه، وإنه حيثما توجد الرجولة، وحيثما تكون البطولة، فإنه يكون عزالدين ومنعته، وغلبة الحق وقيام الدعوة إلى الله، وإحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويجب أن نفرق بين مجرد الذكورة وبين الرجولة؛ فإن الله عز وجل خلق الزوجين الذكر والأنثى، فجعل بني آدم زوجين إما ذكر أو أنثى، لكن ليس كل الذكور رجالاً.

الرجولة في القرآن

الرجولة في القرآن وصف آخر فيه زيادة على مجرد الذكورة؛ فالله تبارك وتعالى بدأ بأنبيائه في هذا المنصب، فقال: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء:7] والله تبارك وتعالى أرسل رجالاً مواقفهم الرجولية واضحة لمواجهة الفساد، والشرك، والطغيان، والانحراف، والجور، والظلم وكل ما من شأنه أن يخدش أمراً مما أنزله الله، ولذلك كانت تلك المواقف البطولية، التي لا يقفها إلا أعظم الرجال وأقواهم وأشجعهم: مثل وقوف إبراهيم الخليل عليه السلام أمام النمرود، ووقوف موسى عليه السلام أمام فرعون، ووقوف نوح عليه السلام أمام أمة عاتية ماكرة ألف سنة إلا خمسين عاماً، ووقوف هود عليه السلام أمام أمة مستكبرة متجبرة يبنون بكل ريع آية يعبثون، وإذا بطشوا؛ بطشوا جبارين، كما أخبر الله عنهم على لسان نبيه هود عليه السلام، وكل الأمم لا يقف لدعوتها ويتصدى لجبروتها إلا رجال.

بطل الأبطال وأعظم الرجال

وإن أعظم هؤلاء الرجال هو خيرة الله ومصطفاه من خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو استعرضنا المواقف الرجولية لانقضى الليل كله وما زلنا نتحدث عن موقف واحد من مواقفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!

يكفيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مواقف الرجولة أن يقف وحده، والناس كلهم قاموا ضده، وأن يدعو إلى الله ويحطم الأصنام جميعاً، ترتجف قلوب ملوك الروم والفرس منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يجف مداد صلح الروم بعد! كما ثبت ذلك في الصحيح وفي قصة هرقل.

أية رجولة هذه التي عُلِّمَها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه، وخَلَقَه وَجَبَلَه عليها، ثم عَلَّمها أصحابه من بعده صلوات الله عليه وعليهم أجمعين؟! أية رجولة أعظم من قيامه على الصفا لينذر عشيرته الأقربين؟! ثم ذلك الموقف الشجاع العظيم الذي وقفه في هجرته.

مواقفه العظيمه في الجهاد في سبيل الله إذ يخبر أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لولا أن يشق عليهم لما بقي خلف سرية تخرج في سبيل الله، ولما تخلف عنها قط!! وقال أصحابه رضوان الله عليهم [[كنا إذا حمي الوطيس (اي اشتدت المعركة) احتمينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]] وقد تمثل هذا الأمر يوم حنين إذ أقبلت هوازن وما أدراك ما هوازن؟! وقد أعدت وأجلبت؛ حتى قال بعض مسلمة الفتح ممن لم يتمكن الإيمان في قلبه: لن يردهم اليوم إلا البحر! وقال الآخر: بطل السحر اليوم! ومع ذلك وقف -صلوات الله وسلامه عليه- وقد كاد أن يتولى أكثر المسلمين، وقف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ينادي: يا أصحاب بدر! يا أصحاب الشجرة! حتى اجتمعوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ثابت في مكانه، ثم تحولت المعركة لصالح المسلمين، وانتصروا بفضل الله.

وهناك مواقف عظيمة في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياة أصحابه الكرام في اليرموك، والقادسية، ونهاوند، وغيرها، لا تعد ولا تحصى، ولكننا سنضطر أن نتجاوزها كلها، لنتحدث عن أمر يجب أن يتنبه له المربون والدعاة الوعاظ فيما يتعلق بالرجولة، وهو من أين تنبع الرجولة؟ وأين توجد الرجولة؟ وكيف نربي في شبابنا الرجولة؟ كل منا يوصى ابنه كل يوم (كن رجلاً) (نريد أن تكون رجلاً) باختلاف اللهجات والمقصود منها واحد؛ فأين يكون محضن ومهد هذه الرجولة؟ وكيف نربيها؟ وكيف ننميها؟

الرجولة في القرآن وصف آخر فيه زيادة على مجرد الذكورة؛ فالله تبارك وتعالى بدأ بأنبيائه في هذا المنصب، فقال: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء:7] والله تبارك وتعالى أرسل رجالاً مواقفهم الرجولية واضحة لمواجهة الفساد، والشرك، والطغيان، والانحراف، والجور، والظلم وكل ما من شأنه أن يخدش أمراً مما أنزله الله، ولذلك كانت تلك المواقف البطولية، التي لا يقفها إلا أعظم الرجال وأقواهم وأشجعهم: مثل وقوف إبراهيم الخليل عليه السلام أمام النمرود، ووقوف موسى عليه السلام أمام فرعون، ووقوف نوح عليه السلام أمام أمة عاتية ماكرة ألف سنة إلا خمسين عاماً، ووقوف هود عليه السلام أمام أمة مستكبرة متجبرة يبنون بكل ريع آية يعبثون، وإذا بطشوا؛ بطشوا جبارين، كما أخبر الله عنهم على لسان نبيه هود عليه السلام، وكل الأمم لا يقف لدعوتها ويتصدى لجبروتها إلا رجال.

وإن أعظم هؤلاء الرجال هو خيرة الله ومصطفاه من خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو استعرضنا المواقف الرجولية لانقضى الليل كله وما زلنا نتحدث عن موقف واحد من مواقفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!

يكفيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مواقف الرجولة أن يقف وحده، والناس كلهم قاموا ضده، وأن يدعو إلى الله ويحطم الأصنام جميعاً، ترتجف قلوب ملوك الروم والفرس منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يجف مداد صلح الروم بعد! كما ثبت ذلك في الصحيح وفي قصة هرقل.

أية رجولة هذه التي عُلِّمَها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه، وخَلَقَه وَجَبَلَه عليها، ثم عَلَّمها أصحابه من بعده صلوات الله عليه وعليهم أجمعين؟! أية رجولة أعظم من قيامه على الصفا لينذر عشيرته الأقربين؟! ثم ذلك الموقف الشجاع العظيم الذي وقفه في هجرته.

مواقفه العظيمه في الجهاد في سبيل الله إذ يخبر أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لولا أن يشق عليهم لما بقي خلف سرية تخرج في سبيل الله، ولما تخلف عنها قط!! وقال أصحابه رضوان الله عليهم [[كنا إذا حمي الوطيس (اي اشتدت المعركة) احتمينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]] وقد تمثل هذا الأمر يوم حنين إذ أقبلت هوازن وما أدراك ما هوازن؟! وقد أعدت وأجلبت؛ حتى قال بعض مسلمة الفتح ممن لم يتمكن الإيمان في قلبه: لن يردهم اليوم إلا البحر! وقال الآخر: بطل السحر اليوم! ومع ذلك وقف -صلوات الله وسلامه عليه- وقد كاد أن يتولى أكثر المسلمين، وقف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ينادي: يا أصحاب بدر! يا أصحاب الشجرة! حتى اجتمعوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ثابت في مكانه، ثم تحولت المعركة لصالح المسلمين، وانتصروا بفضل الله.

وهناك مواقف عظيمة في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياة أصحابه الكرام في اليرموك، والقادسية، ونهاوند، وغيرها، لا تعد ولا تحصى، ولكننا سنضطر أن نتجاوزها كلها، لنتحدث عن أمر يجب أن يتنبه له المربون والدعاة الوعاظ فيما يتعلق بالرجولة، وهو من أين تنبع الرجولة؟ وأين توجد الرجولة؟ وكيف نربي في شبابنا الرجولة؟ كل منا يوصى ابنه كل يوم (كن رجلاً) (نريد أن تكون رجلاً) باختلاف اللهجات والمقصود منها واحد؛ فأين يكون محضن ومهد هذه الرجولة؟ وكيف نربيها؟ وكيف ننميها؟

الله تبارك وتعالى عندما بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، استجاب له الشباب، وكفر به الشيوخ؛ وإذا أردت أن تعرف دليلاً واضحاً على ذلك، فانظر كم عاش أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعده، عاشوا أربعين سنة وخمسين سنة ونحو ذلك، فهذا دليل على أنهم لو كانوا من جيله أو قريباً من جيله (كـالصديق رضي الله عنه) لتوفي أكثرهم في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل كان أكثرهم شباباً! بل المساجد إنما يرتادها ويكثر فيها من المصلين في دهره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى اليوم الشباب، ممن نقول إنهم الأطفال على سبيل التجوز وإلا فليسوا بأطفال، لماذا؟ لأن الله تبارك وتعالى عندما وصفهم، وصفهم بأنهم رجال فقال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:36-37].

لو أن كل واحد منا صحب أبناءه إلى المسجد لوجدنا أن أكثر من ثلاثة أرباع المسجد من الأطفال أو الشباب! أليس كذلك؟! إذا كان كل منا عنده أربعة أو ثلاثة أو اثنان أو خمسة، فيكون الأكثرية كذلك، فينطبق عليهم أنهم رجال، كيف خرجوا من الطفولة إلى الرجولة؟ هل هو بالانتقال إلى المرقص أو الملهى أو الملعب؟ لا والله؛ بل هو بالانتقال من البيت إلى المسجد، ينتقل هؤلاء من وصف الطفولة إلى وصف الرجولة كما دلَّ عليه كتاب الله.

إذن الرجل -أولاً- يتلقى مبادئ الرجولة من المسجد، انظر إلى من تراه رجلاً بجثته؛ لو قلت له: قم أمام الجماعة في قرية فقط وألقِ كلمة، أو تقدم صل بالناس (وهو مجرد ذكر ليس برجل) يخاف ولا يستطيع!! لكن لو أتيت إلى رجل من هؤلاء الرجال -حفظة القرآن- فإنه يتقدم ويصلي بنا ويقرأ الأجزاء الطويلة! أليس هذا رجلاً؟! هذه الرجولة من أين تعلمها؟ من المسجد، ولو قلت له: قم اخطب الجمعة، لقام وخطب! وهكذا تربى الصحابة الكرام على هذه الرجولة، وتنافسوا فيها.

وأبناء الصحوة الإسلامية المباركة كل من كان في ميدان من ميادين العلم والجهاد والدعوة، هؤلاء يجب علينا -نحن المربون- أن نعيد فيهم هذه الرجولة، ونربيهم على هذه الرجولة؛ إذ لا رجولة غيرها، وكل ما عداها فهو لهو، وعبث، وتضليل، بل ربما كان فتنة لهم، بل ربما كان إخراجاً لهم من دينهم وإيمانهم وعقيدتهم؛ فالرجولة إنما تنمو إذا اقترنت بإحياء المساجد، وبإقامة الدين، وبتحفيظ كتاب الله تبارك وتعالى، وبالأمر بالمعروف، وبالنهي عن المنكر، وبالدعوة إلى الله عز وجل، هنالك يكون محضن الرجولة، وهنالك يصبح الصغير رجلاً، ويصبح بطلاً؛ كـمحمد بن القاسم، وطارق بن زياد، وأمثالهما من الفاتحين الذين فتحوا أمماً عظيمة، وهم في سن لا نقارنه ولا نقيسه إلا بشباب ما يسمى بالثانوية!

التربية على الرجولة

وإنها والله مأساة، أن يكون أبناؤنا الذين لآبائهم ماضٍ عريقٍ في الجهاد والعلم والدعوة محرومين من التربية على تلك الرجولة؛ عندما تريد أن تتأكد وتطلع على هذا الحرمان فانظر على أي شيء يربى الطفل لو لم يربط بالمسجد، انظر إلى ذلك، وأين البطولة فيه؟ انظر إلى طفل نشأ في أحضان والدين غير متعلمين -لا نقل جاهلين؛ لأن هناك فرقاً بين الجهل وعدم العلم! الجهل من جهل الله عز وجل، وليس الذي لا يحسن القراءة والكتابة- وهما يريدان له الخير، ولكن الله لا يكلفهما ما لا يطيقان، هما لم يتربيا ولم يتعلما، فكيف يدعوانه إلى الله؟! مع أننا نعلم أنه لا يوجد أب وأم لا يدعوان ابنهم إلى الصلاح، إلا من مسخ الله!! فكلنا يتمنى أن يكون في ابنه من الخير والصلاح والهدى والاستقامة ما يجعله مضرب المثل في قريته وقبيلته، هكذا يريد منا آباؤنا وأمهاتنا لكنهم معذورن، فلا يجد الأبناء من يربيهم على هذه الرجولة.

فتتلقفهم المدرسة، أليس حراماً أن يمضي الطفل اثنتي عشرة سنة: ست في الابتدئية، وست في متوسط وثانوي، ثم يتخرج ولا تستطيع أن تصفه بأنه رجل! سبحان الله! أية تربية هذه؟! أين كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يربون؟! اثنتي عشر سنة كفيلة أن تحوله إلى طاقة، إلى شعلة، إلى قائد، إلى مجاهد، إلى عالم، إلى مفتٍ، إلى محدث، إلى فقيه، إلى نحوي، إلى لغوي..، واقرءوا سير العلماء، في أي سن كانوا عندما بلغوا مبلغ الفتوى، والعلم، والحفظ، والجهاد، والدعوة؟!

أي ظلم يُظلَمُه الفتى المسكين؟! الذي ولد وله نفس العقل الذي كان لأولئك، وفي نفس البيئة، ولكنه ظلم بأن يظل يدرس، ثم يدرس، وتمضي عليه هذه السنوات، ثم لا يكون مستحقاً أن يقال عنه رجل إلا القليل! وقد يقال: إنه ربما يعوض ذلك الإعلام، وربما يعوض ذلك المجتمع؛ وأظن أن الحديث في الإعلام أصبح من الكلام المكرر، والكلام فيه أشبه باللغو؛ لأنه لا يمكن أن يربي على خلق ولا على فضيلة ولا على جهاد، ولا تربى عليه نشء إلا نشأ في أودية أخرى!! لا نريد أن نتحدث عنها أصلاً؛ لأنها بعيدة عن الله واليوم الآخر والدار الآخرة، فهي لن تربطه بالله ولا بتقوى الله ولا بطاعة الله!

إن قلب المجتمع النابض، إن حقيقة المجتمع، إن انتماء المجتمع مرتبط بأصل أصيل وركن ركين، وهو فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] إنه مرتبط بالمساجد هذا هو الأصل، وهذا هو المنطلق فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة:108] سبحان الله! هكذا الرجولة، الرجولة مرتبطة ببيوت الله، بالطهارة، بالبيوت التي أسست على تقوى من الله، والتي رفعت بذكر الله، والتي هي لله عز وجل.

وإنها والله مأساة، أن يكون أبناؤنا الذين لآبائهم ماضٍ عريقٍ في الجهاد والعلم والدعوة محرومين من التربية على تلك الرجولة؛ عندما تريد أن تتأكد وتطلع على هذا الحرمان فانظر على أي شيء يربى الطفل لو لم يربط بالمسجد، انظر إلى ذلك، وأين البطولة فيه؟ انظر إلى طفل نشأ في أحضان والدين غير متعلمين -لا نقل جاهلين؛ لأن هناك فرقاً بين الجهل وعدم العلم! الجهل من جهل الله عز وجل، وليس الذي لا يحسن القراءة والكتابة- وهما يريدان له الخير، ولكن الله لا يكلفهما ما لا يطيقان، هما لم يتربيا ولم يتعلما، فكيف يدعوانه إلى الله؟! مع أننا نعلم أنه لا يوجد أب وأم لا يدعوان ابنهم إلى الصلاح، إلا من مسخ الله!! فكلنا يتمنى أن يكون في ابنه من الخير والصلاح والهدى والاستقامة ما يجعله مضرب المثل في قريته وقبيلته، هكذا يريد منا آباؤنا وأمهاتنا لكنهم معذورن، فلا يجد الأبناء من يربيهم على هذه الرجولة.

فتتلقفهم المدرسة، أليس حراماً أن يمضي الطفل اثنتي عشرة سنة: ست في الابتدئية، وست في متوسط وثانوي، ثم يتخرج ولا تستطيع أن تصفه بأنه رجل! سبحان الله! أية تربية هذه؟! أين كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يربون؟! اثنتي عشر سنة كفيلة أن تحوله إلى طاقة، إلى شعلة، إلى قائد، إلى مجاهد، إلى عالم، إلى مفتٍ، إلى محدث، إلى فقيه، إلى نحوي، إلى لغوي..، واقرءوا سير العلماء، في أي سن كانوا عندما بلغوا مبلغ الفتوى، والعلم، والحفظ، والجهاد، والدعوة؟!

أي ظلم يُظلَمُه الفتى المسكين؟! الذي ولد وله نفس العقل الذي كان لأولئك، وفي نفس البيئة، ولكنه ظلم بأن يظل يدرس، ثم يدرس، وتمضي عليه هذه السنوات، ثم لا يكون مستحقاً أن يقال عنه رجل إلا القليل! وقد يقال: إنه ربما يعوض ذلك الإعلام، وربما يعوض ذلك المجتمع؛ وأظن أن الحديث في الإعلام أصبح من الكلام المكرر، والكلام فيه أشبه باللغو؛ لأنه لا يمكن أن يربي على خلق ولا على فضيلة ولا على جهاد، ولا تربى عليه نشء إلا نشأ في أودية أخرى!! لا نريد أن نتحدث عنها أصلاً؛ لأنها بعيدة عن الله واليوم الآخر والدار الآخرة، فهي لن تربطه بالله ولا بتقوى الله ولا بطاعة الله!

إن قلب المجتمع النابض، إن حقيقة المجتمع، إن انتماء المجتمع مرتبط بأصل أصيل وركن ركين، وهو فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] إنه مرتبط بالمساجد هذا هو الأصل، وهذا هو المنطلق فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة:108] سبحان الله! هكذا الرجولة، الرجولة مرتبطة ببيوت الله، بالطهارة، بالبيوت التي أسست على تقوى من الله، والتي رفعت بذكر الله، والتي هي لله عز وجل.

دور المسجد في العهد النبوي

كان مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو دار الحكم، ودار القضاء، ومقر القيادة العسكرية، ومقر الفتوى، والعلم، ومقر ذوي الصدقات، والتبرعات، وغيرها، عدِّد ما شئت من ضرورات الأمة وأساسيات حياتها، أين تجدها؟! إنها في المسجد!!

وهكذا كان الصحابة الكرام، من أين تخرج العلماء الذين درسوا على يد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس رضي الله عنه، والذين حفظوا هذه الآلاف المروية عن أبي هريرة رضي الله عنه الدوسي الجهراني ومعاذ؟ أين تعلموا؟

ثم العلماء من بعدهم الإمام أحمد ومالك والشافعي، وأولئك الأئمة الأعلام في الحديث وغيره، حتى اللغويون (علماء اللغة) أين كانوا يعلمون اللغة؟ سبحان الله! كل شيء كان ينطلق من المسجد! ولهذا نقلل من قدر المسجد جداً إذا سميناه جامعة! مع أن جامعاتنا ومعروفة الآن! ومعروف ماذا تخرج!! فلا أريد أن أقلل من شأنه، وأقول: "كان جامعة" إلا على سبيل التجوز، يؤخذ فيه كل أنواع العلوم فهو جامع وجامعة، ومقر قيادة، وإمارة، وحكم، ودعوة إلى الله عز وجل.

المسجد في عصرنا

لكن اليوم، أين مساجدنا؟! أين دورها في التربية والرجولة؟! لماذا أقفرت المساجد من المواعظ؟ لماذ أقفرت من حلقات العلم،؟! أين ذهبت حلقات تحفيظ القرآن الكريم؟!

أين المربون، والمعلمون، والمفتون، والموجهون؟! أم أن المسجد للصلاة فقط؟! وحتى هذه قصرنا فيها!! نصلي مع تأخرٍ أحياناً أو تقاعس وتخلف، نصلِّى فيها ثم تقفل سبحان الله! ولذلك يعشعش في الأذهان ما يريد العلمانيون والمفسدون أن ينشروه من أن الدين لا علاقة له بالحياة، إذا كنت متديناً فصلِّ واخرج، وبعد ذلك إن أردت الربا فتعامل به! وإن أردت الاختلاط فهو ميسر! وإن أردت اللهو واللعب فله مجالاته! وله ميادينه ومؤسساته! أي لا يمكن أن تظل متديناً أو مرتبطاً بهذا الدين إلا بالارتباط بالمسجد!! والبعض لا يأتي إلا يوم الجمعة!! فبالله عليكم أية رجولة في أمة هذا حالها؟! إنها أبعد ما تكون عن حقيقة الرجولة؛ فيها ذكورة، ولكن الرجولة فيها قليل، هذا حالنا، وهذا حال مساجدنا؛ عندما حصرنا الدين بمعنى واحد هو جانب من جوانبه، وحصرنا عمل المسجد في ذلك، ثم نرجو خير الدنيا والآخرة!! كيف يأتي خير الدنيا من المطر والنعمة والغيث ودوام المال والرفاهية والصحة؟! وكيف نريد الجنة، ونريد الفوز برضا الله، ونريد أن نرى وجه الرحمن تبارك وتعالى، وهذا مقام بيوت الله عندنا؟!

المسجد وتعظيمه

الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام ذات يوم فافتقد امرأة -جارية سوداء- ليس لها أية قيمة في المجتمع؛ ولو ذكر الناس جميعاً، فإنها تنسى ولا تذكر، ماذا كانت تعمل؟ كانت تقمُّ المسجد، كانت تجمع النوى والعيدان من المسجد كما جاء في الحديث! هذا عملها فلم تكن تعظ في المسجد ولا تذكر ولا تعلم ولا تفتي؟ فافتقدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأل عنها، { قالوا: يارسول الله! إنها توفيت البارحة. قال: وماذا فعلتم بها؟ قالوا: دفناها قالوا: كيف نزعج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الليل من أجل جارية أمة سوداء!! ما كان لها من عمل إذا خرج الناس من المسجد إلا أن تأتي فتجمع القمامة! فالصحابة حباً للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإيثاراً لراحته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأوا أن الأمر قد قضي، ويكفي { قال: هلا آذنتموني، أين قبرها؟ فانطلق وانطلق معه أصحابه، فصلى عليها صلوات الله وسلامه عليه! } انظروا ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وهو إمام المتقين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والله! إن من يقم المسجد هو خير عند الله ممن يسكن القصور في معصية الله عز وجل! لكن كيف نعرف؟! مشكلتنا أننا كبَّرنا وعظَّمنا الدنيا وأهلها، وأصبحنا نتفاخر، يقول الله في القرآن: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] زينة وتفاخر وتكاثر!! وأصبحنا نقول: فلان عنده وعنده!! ومات فلان صاحب الأموال والمؤسسات وصاحب الملك! لكن لو مات واحد من السودان كان ينظف المسجد، قلنا: الله يرحمه، قال: ماذا كان عمله؟ وماذا كان عنده!

والله لو أعدنا المعايير الشرعية كما في كتاب الله وكما تربى عليها الصحابة، لعظمنا بيوت الله، وعظمنا كل شيء يتعلق ببيوت الله عز وجل، يكفي أنه: { من بنى مسجداً لله كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة} الله أكبر، بيت في الجنة! سبحان الله بيوت الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، الشجرة فيها يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها!! هذه بيوت الجنة! لو عُظِّمت بيوتُ الله، لبنيت ورفعت وشيدت، كيف ترفع؟ ترفع حساً وترفع معنىً؛ أما رفعها حساً، فتكون أجمل وأنظف وأفضل، بشرط أن يخلو ذلك عن الأمور التي قد تدخل في المكروه والبدعة، ولكن تعظم ويختار لها الموقع المناسب، فيختار لها البناء الجميل والفرش الممتاز، وكل ما يخدم المرافق والمصالح والمنافع التي تتعلق بها، ثم ترفع معنىً (وهو المهم) ترفع في القلوب، وتعظم، ويُجلُّ كلُّ من كانت حياته وقيمته مستمدةً من هذا المسجد، وفي هذا المسجد؛ من جاء ليعلم أو يتعلم، من جاء ليعظ أو يستمع لذكر الله ويُوعَظ، فهذا هو الذي نحبه وهذا هو الذي نعظمه، وهذا هو الذي نقدره؛ كما عَظَّمَ صلوات الله وسلامه عليه شأن هذه الجارية ولم يستهن بعملها.

أكثر ما يشغل بال الشباب الزواج! ولا سيما مع هذه المصائب والفتن والمغريات والملهيات والمثيرات التي تريد أن تقحمهم إقحاماً في الرذيلة، والدعاة المضلون كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {دعاة على أبواب جهنم} ينعقون في كل إذاعة ومنبر ومجلة وصحيفة يريدون أن يغروهم بالرذيلة، هؤلاء الشباب ألم يفكروا في الجنة وما فيها من الحور العين؟ ألم يسألوا، ما هو مهر الحور العين؟ ألم يعلموا أن كنس قمامة المسجد هو المهر؟! كنس القمامة من المسجد هو مهر الحور العين، لماذا؟ هب أنني شاب نظيف ولا أريد أن أظهر أمام الناس إلا بأنظف مظهر، ولكنني من أجل بيت الله أذللت نفسي! ولكن لمن؟ لله، أما غير الله فلا نذل له، نذل لله ولكل من أمرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن نذل له من الطاعة، والمراد به وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا أتيت لأقم المسجد فأنا بهذا العمل أدفع مهر الحور العين.

ولذلك من عرف الله عز وجل، ومن عرف الجنة، والنار، ومن عرف قيمة ذكر الله، فليسابق إلى مثل هذه الأمور، إلى التنافس لإحياء بيوت الله، وإعمار بيوت الله، وإحياء ذكر الله تبارك وتعالى في كل مكان، أن يرفع النداء!! النداء الذي نسمعه، ولكننا نغفل عن معناه! من منا لا يسمع (الله أكبر)؟! من منا لا يسمع: (أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة وحي على الفلاح؟!) نسمعها لكن هل تدبرنا ووعينا معناها ومدلولها في حياتنا؟! كيف نقول: الله أكبر، ونسمع الله أكبر، ونأتي إلى بيت الله، ثم لا نُعظِّم بيت الله، ولا من دعا إلى الله، ولا من قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مِن أبنائنا وممن يُعلِّم أبناءنا، لا لذاته ولا لشخصه، ولكن لارتباطه بهذا الدين، لأنه يدعو إلى الله وهو أكبر تبارك وتعالى من كل شيء؟!

يجب أن يكون كل ارتباط في سبيل الله، وكل ما أريد به وجه الله أكبر عندنا من كل شيء، وأعظم من كل شيء! نحب أبناءنا إذا حفظوا كتاب الله، من يحفظ شيئاً من القرآن، يكون أحب الناس إليك في القرية أو في المدينة!

وكذلك من يدعو إلى الله، ومن يعظ، ومن يذكر، تحبه لله، وفي الله، يرتبط قلبك بقلبه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الأرواح جنود مجنده، ما تعارف منها ائتلف، وماتناكر منها اختلف}، يراك فيشعر أنك تحبه، وتشعر أنه يحبك؛ لأنه من جنود الله، ولأنه من أولياء الله، ولأنه ممن يأوي إلى بيت الله، ولأنه ممن يرفع ويعظم شعائر الله، هكذا يجب أن تكون أواصرنا القلبية، ومن هنا تعود إلينا البطولة فيصبح طفلنا وذكرنا وأنثانا وشاعرنا وفقهينا وعالمنا ونحوينا كلهم في ميزان واحد، وهو ميزان التقوى، ويصبح لهذه الأمة معنى آخر، وتنال موقعاً لا تستطيع أن تناله أية أمة في التاريخ.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2595 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2573 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2505 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2458 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2346 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2261 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2254 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2248 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2196 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2164 استماع