من أعمال القلوب: (الإخلاص)


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، الذين حققوا التوحيد والإخلاص والمحبة واليقين قولاً وعملاً، فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعلى من اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، الشهادة التي بعث الله تبارك وتعالى بها رسله، ودعا إليها خلقه أجمعين، وجعلها رأس الدين كله.

أما بعــد:

فحديثنا في هذا الدرس عن عمل من أعمال القلوب، وأصل تسمية المحاضرة هو أنها عن أعمال القلوب؛ لكننا لو تأملناها لوجدنا أنها هي نفس ما يسميه بعض العلماء شروط لا إله إلا الله.

فهي من جهة: شروطٌ لـ"لا إله إلا الله"، ومن جهة أخرى هي: أعمال قلبية عظمى، يبنى عليها كل عمل من أعمال القلب أو الجوارح، ولا تعارض بين هذا وذاك، فالكل شيء واحد.

وهذه الأعمال -كما تقدم- تتداخل وتتشابك؛ إذ أن أعمال القلب كلها أمر باطن، والأعمال الباطنة يصعب التفريق بينها كالتفريق بين الأعمال الظاهرة، فأنت في الأعمال الظاهرة يمكن أن تفرق بوضوح بين الحج وبين الصوم -مثلاً- وبين أداء الزكاة وبين أداء الصلاة.

أما في الأعمال القلبية فإن اليقين، والإخلاص، والمحبة، والتوكل، والرضا، والصدق، وما أشبه ذلك يقترن بعضها ببعض وتتداخل، فلا فصل بينها بنفس النسبة , وإن كانت إذا تأملت آثارها، وعرفت حقائقها تجد أن هذه الفروق واقعة، لكنها متداخلة، وحديثنا عن موضوع الإخلاص هو مما يشهد لذلك.

إن الإخلاص يقترن بأعمال قلبية أخرى، ولا يكون إخلاصاً إلا بها، وأجلى وأظهر الأعمال القلبية التي لا بد أن يقترن بها الإخلاص هو الصدق، فإن الإخلاص لا يمكن أن يكون مع الكذب، لا لغةً ولا عرفاً ولا شرعاً، بل الإخلاص هو قرين الصدق، والجامع الذي يجمع بينهما كلمة شرعية هي قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الشريف: (الدين النصيحة -قالها ثلاثاً- قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم).

فلو تأملت معنى النصيحة لوجدتها تجمع بين معنيي الصدق والإخلاص، حتى في اللغة وفي عرف الناس، فإن الشيء الناصح هو الخالص الذي لا تشوبه شائبة، وهذا يكون فيه الصدق أيضاً.

ثم إن كل من تُقِدِم له كلمة أو موعظة أو شيئاً ينفعه وتقول: إنك ناصح له، لو تأملت ذلك لوجدت أنك تريد أن تثبت أنك صادق في محبته وفيما قلت له، فلو كذبت عليه لما كانت نصيحة، والأمر الآخر أنك مخلص، فلو غششته فيما قلت -له أيضاً- لما كانت نصيحة، فلذلك هذه الأعمال تقترن -كما ذكرنا- لكن هذين العملين: الصدق والإخلاص هما من أكثر الأعمال تقارباً وتداخلاً، ولهذا نجد أن الأحاديث التي ذكرت فيها شروط لا إله إلا الله قد ذكرت العملين معاً في بعض رواياتها، وقد نذكرها أو نوردها إن شاء الله تعالى.

هذا من جهة علاقة هذا العمل القلبي بغيره من أعمال القلب، وأما عن أهميته وضرورته للمؤمن، فلا شك أن من تأمل كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علم علم اليقين أن الإخلاص لا بد منه، وذلك أول ما يشترط في أمر العقيدة والإيمان، ثم إنه لا بد أن يدخل في كل عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان يريد بها وجه الله، ويريد بها الثواب والأجر من عند الله.

حتى لو أنك عملت عملاً من المباحات المجردة وليس من الطاعات المفروضة المشروعة وجوباً أو استحباباً، أو أي عمل من الأعمال التي يفعلها الناس بطبيعتهم كالأكل أو الشرب أو إتيان المرء أهله أو ما أشبه ذلك، كل من فعل ذلك ويريد الأجر من الله، ويريد أن يحتسبه عند الله، فلا بد أن يحقق فيه الإخلاص لله تبارك وتعالى؛ لأن شرطي قبول أي عمل من الأعمال هما المتابعة والإخلاص.

الشرط الأول: المتابعة

أولاً: الشرط الأول: المتابعة والموافقة لما شرع الله تبارك وتعالى، فالبدع مردودة على أهلها، فمهما اجتهدوا وتعبدوا وأخلصوا في نظرهم، فالبدع مردودة، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل بدعة ضلالة} وقال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}، وقال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} أي: مردود لا يقبل.

وإن ظن أنه فعله لوجه الله تبارك وتعالى، كما فعل الثلاثة النفر الذين عزموا على أنفسهم، فقال الأول: أقوم الليل ولا أنام، وقال الثاني: لا أتزوج النساء، وقال الثالث: لا آكل اللحم، وما أشبه ذلك، فكل عملٍ يعمله العبد ويظن أنه مخلص ويتعبد به، لن يكون فيه أكثر عبادةً من الخوارج، ولن يكون أكثر عبادةً من رهبان اليهود والنصارى والهندوس ممن تَرَهَب منهم.

ولذلك فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن ذكر الخوارج وعبادتهم قال: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وعبادتكم إلى عبادتهم -ثم قال:- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} والرمية: هي ما يرمى من الصيد كظبيٍ أو نحوه، فيدخل السهم فيخترقه ويخرج، فلا يكاد يرى راميه فيه شيئاً من أثر، ومعنى ذلك أنهم يأتون الدين، ويخرجون منه بلا شيء، أو بما لا يكاد يُرى.

ليس لأنهم لم يتوفر لديهم شرط الإخلاص؛ ولكن لأنه لم يتوفر لديهم شرط الموافقة والمتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الذي ذكر الله تبارك وتعالى في قوله: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110]، فالعمل الصالح هو الموافق لما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الشرط الثاني: الإخلاص

ثانياً: وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] أي: فليجعله خالصاً لوجه الله الكريم، وهذا هو شرط الإخلاص، ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قول الله تبارك وتعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7]، قال: ''أصوبه وأخلصه'' والصواب هو الموافقة، والإخلاص: هو الشرط الثاني كما تقدم.

فإذا كان الإخلاص بهذه المثابة فإن أهميته لا تخفى، ولا سيما في أصل الدين، فهو أعظم اشتراطاً منه في الفروع؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول -كما في الحديث القدسي-: {من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك}، وفي روايةٍ: { تركته وشركه } ومعنى ذلك: أن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وأما غير ذلك فهو غنيٌ عنه تبارك وتعالى.

فإذا لم يقبل الله تعالى من العبد طاعةً من الطاعات إلا أن لديه أصل التوحيد والدين، فإنه يخسر تلك الطاعة ويظل معه الإيمان والتوحيد، أما إذا كان الإخلاص مفقوداً وكان الشرك في أصل الإيمان والدين، فهذا قد خسر الدنيا والآخرة.

ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3]، هذا الذي يقبله الله تبارك وتعالى من عباده، ولا يقبل منهم غير ذلك.

أولاً: الشرط الأول: المتابعة والموافقة لما شرع الله تبارك وتعالى، فالبدع مردودة على أهلها، فمهما اجتهدوا وتعبدوا وأخلصوا في نظرهم، فالبدع مردودة، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل بدعة ضلالة} وقال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}، وقال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} أي: مردود لا يقبل.

وإن ظن أنه فعله لوجه الله تبارك وتعالى، كما فعل الثلاثة النفر الذين عزموا على أنفسهم، فقال الأول: أقوم الليل ولا أنام، وقال الثاني: لا أتزوج النساء، وقال الثالث: لا آكل اللحم، وما أشبه ذلك، فكل عملٍ يعمله العبد ويظن أنه مخلص ويتعبد به، لن يكون فيه أكثر عبادةً من الخوارج، ولن يكون أكثر عبادةً من رهبان اليهود والنصارى والهندوس ممن تَرَهَب منهم.

ولذلك فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن ذكر الخوارج وعبادتهم قال: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وعبادتكم إلى عبادتهم -ثم قال:- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} والرمية: هي ما يرمى من الصيد كظبيٍ أو نحوه، فيدخل السهم فيخترقه ويخرج، فلا يكاد يرى راميه فيه شيئاً من أثر، ومعنى ذلك أنهم يأتون الدين، ويخرجون منه بلا شيء، أو بما لا يكاد يُرى.

ليس لأنهم لم يتوفر لديهم شرط الإخلاص؛ ولكن لأنه لم يتوفر لديهم شرط الموافقة والمتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الذي ذكر الله تبارك وتعالى في قوله: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110]، فالعمل الصالح هو الموافق لما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ثانياً: وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] أي: فليجعله خالصاً لوجه الله الكريم، وهذا هو شرط الإخلاص، ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قول الله تبارك وتعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7]، قال: ''أصوبه وأخلصه'' والصواب هو الموافقة، والإخلاص: هو الشرط الثاني كما تقدم.

فإذا كان الإخلاص بهذه المثابة فإن أهميته لا تخفى، ولا سيما في أصل الدين، فهو أعظم اشتراطاً منه في الفروع؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول -كما في الحديث القدسي-: {من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك}، وفي روايةٍ: { تركته وشركه } ومعنى ذلك: أن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وأما غير ذلك فهو غنيٌ عنه تبارك وتعالى.

فإذا لم يقبل الله تعالى من العبد طاعةً من الطاعات إلا أن لديه أصل التوحيد والدين، فإنه يخسر تلك الطاعة ويظل معه الإيمان والتوحيد، أما إذا كان الإخلاص مفقوداً وكان الشرك في أصل الإيمان والدين، فهذا قد خسر الدنيا والآخرة.

ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3]، هذا الذي يقبله الله تبارك وتعالى من عباده، ولا يقبل منهم غير ذلك.

قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر:11-12]، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر:14-15].

هذه الآيات الكريمات من سورة الزمر، وأيضاً ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها ما يدل على ذلك: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:64-66]، وهذه السورة اشتملت على معانٍ عظيمة في الإيمان من أبرزها -لمن قرأها وأظهرها-: أنها كررت اشتراط الإخلاص في غير ما آية، وأوضحته وأجلته.

وكذلك نجد بعض السور القرآنية العظمى التي تتحدث عن التوحيد تشترط ذلك، وإن لم تنص عليه نصاً، كما في سورة الأنعام، فإن أكثر معانيها وموضوعاتها تتعلق بتوحيد الله وتجريد العبادة له، ونفي الشرك عنه.

وهذه هي حقيقة الإخلاص وإن لم يرد في السورة بالنص نفسه، ولهذا تسمى سورة "الصمد"، أو سورة "قل هو الله أحد" سورة الإخلاص؛ لأنها في إخلاص العبادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من جهة توحيد المعرفة، إخلاص التوحيد من جهة المعرفة والإثبات، فهي تثبت: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] تثبت وحدانية الله تبارك وتعالى، وتنفي عنه ما يزعمه المبطلون، الذين يدَّعون أن لله تبارك وتعالى ولداً، أو أن له كفؤاً أو شبيهاً أو نظيراً، تعالى الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين.

وكذلك تسمى سورة الكافرون سورة الإخلاص؛ لأنها تضمنت حقيقة الإخلاص من جهة الولاء والبراء والهجر، هجر كل ما يعبد من دون الله تبارك وتعالى قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:1-3]، وفي آخرها: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6].

فهذه براءة أو مفاصلة ومقاطعةٌ كاملة بين العبادتين وبين المنهجين، ومن هنا كان الذي أخذه وعده الله تبارك وتعالى وسجَّلَه على أهل الكتاب وعلى المنافقين أنهم كانوا غير مجردين للصدق، وغير مجردين للإخلاص لله تبارك وتعالى، بل إن ذلك -ولا سيما الإخلاص- يشمل أيضاً المشركين، وذلك أن الجامع بين الجميع هو دعوى أنهم يعبدون الله وأنهم يتقربون إليه.

المشركون أبعد الناس عن الإخلاص

فالمشركون -مثلاً- وهم أبعد الناس عن الإخلاص يدَّعون أنهم يعبدون الله، وأنهم يُعظِّمون حرمات الله، ويُعظِّمون بيت الله، وأنهم أتباع نبي الله إبراهيم عليه السلام، ثم إنهم يقرون لله تبارك وتعالى بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمر، وغير ذلك وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، أو: لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر:38].

إذاً: هم يثبتون هذا، بل إنهم حتى في دعائهم يخلصون لله تبارك وتعالى، ولكن وقت الشدة فقط، فإذا كان وقت الرخاء ونجّاهم الله تبارك وتعالى إلى البر -وكان من أشق الأمور عليهم أن يركبوا البحر، ولذلك يأتي هذا المثال كثيراً في القرآن فلما نجاهم إلى البر- أشركوا بالله ما لم ينزل عليهم سلطاناً.

إذاً: المشركون أيضاً يكذبهم الله تبارك وتعالى، ويبطل عبادتهم في دعواهم، لماذا؟

لأنهم لم يحققو الإخلاص، وإن كانوا يزعمون أو يظنون أنهم على شيء من الدين، ولذلك كما جاء في أول الزمر: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

فهم يظنون أنهم بهذا يعبدون الله، ويتقربون بهم إلى الله، فيظنون أن عبادتهم هذه لله، وأنهم لم يشركوا بالله، فكأنما ينفون ما يدَّعي أو يزعم عليهم من أنهم لا يعبدون الله، أو أنهم يشركون بالله تبارك وتعالى، فأبطل الله تبارك وتعالى عبادتهم، وأنها لا تنفعهم؛ لأن الدين الذي يقبله الله هو الدين الخالص الذي لا شرك فيه، ولا شائبة معه.

أمَّا أن يتخذ من دونه أولياء -وإن كان قصد القائل أنها تقرب إلى الله- فإنه لا يقبل منه ذلك، وهذا الزعم أنهم أولياء، أو كما ذكر في الآية الأخرى: وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، فقد أبطل الله تبارك وتعالى ذلك كله بأن جعل الشفاعة له جميعاً، وجعل الشرطين اللذين لا بد منهما لمن يشفع لتحقيق الشفاعة يوم القيامة هما: أن يأذن الله تبارك وتعالى للشافع، وأن يرضى عن المشفوع له.

وهؤلاء المشركون لا يرضى الله تبارك وتعالى عنهم، ولا يرضى أن يشفع فيهم أحد؛ لأنه لا يرضى لعباده الكفر تبارك وتعالى، هذا في حق المشركين وهو واضح.

إخلاص أهل الكتاب

وأمَّا أهل الكتاب فإنهم يزعمون أنهم هم أهل الإيمان، وأنهم كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] ويزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى.

إذاً: هم يرون أنهم أصحاب الصراط المستقيم، وأنهم الذين يعبدون الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، ولو سألت إلى هذه اللحظة أي يهودي أو نصراني: من الذي يعبد الله تعالى حق العبادة خالصة له في هذه الحياة الدنيا؟ لقال اليهودي: إنهم اليهود، وقال النصراني: إنهم النصارى، وهذا باطل.

وقد أبطله الله تبارك وتعالى في مواضع من كتابه، كما في سورة البينة: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1-4].

وبين ذلك قال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، هذا دين القيمة وهو الذي قال الله فيه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ [آل عمران:19] وقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].

فهؤلاء أمروا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، ولكنهم أبوا إلا أن يشركوا بالله تبارك وتعالى بأنواعٍ وألوانٍ من الشرك، منها: دعواهم أن له ولداً -تبارك وتعالى وتقدس عن ذلك- وهذا الزعم قد أبطله الله تعالى في أكثر من موضع كما في الأنعام والكهف ومريم وغيرها من الآيات العظيمة في استنكار ذلك، وكما في قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الاخلاص:1].

وهذه الدعوى واضح بطلانها وإفكهم فيها، ثم إنهم يشركون بالله ولا يجردون الإخلاص لله تبارك وتعالى في ما يتعلق بالتحليل -في التشريع- والتحريم، في توحيد الطاعة والاتباع، وهذا أيضاً ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31].

فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرهم وأن يعبدوا إلهاً واحداً، فعبدوا من دونه آلهةً أخرى، وأشركوا به تبارك وتعالى في التحليل والتحريم الأولياء -كما يزعمون- أو الأحبار أو الرهبان.

والأحبار هم: علماء أهل الكتاب.

والرهبان هم: عبادهم.

والضلال لا يخرج عن هذين، فكل ضلال وقعت فيه الملل فهو بسبب أحد هذين الأمرين، بأن يشرك الناس أحد من اتصف بهاتين الصفتين.

وهذا واقع في هذه الأمة، إما أن يشركوا بالله تبارك وتعالى، أو لا يجردون الإخلاص -وإن كان دون الشرك- لا يجردون هذا المبدأ، وهذا العمل القلبي العظيم لله تبارك وتعالى في طاعة واتباع أهل العلم، الذين يجمعون المسائل العلمية الكثيرة، ولكنهم غير مؤمنين حق الإيمان، فليسوا هم العلماء الذين وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، أي: هم الذين يخشون الله ويتقونه، أو كان العلماء كذلك، ولكن أخطأوا فجاء الأتباع فأشركوا بجعلهم آلهة، وألَّهوهم بتقديم ما أخطأوا فيه على ما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهؤلاء هم العلماء.

وأما العبَّاد: فإن كثيراً من الناس يفتنون بالعبَّاد في أي ملة كانت، فيقدمون أعمالهم وآرائهم وما يعبدون أو يتقربون به على ما في كتاب الله، وعلى ما في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يقدح في إخلاصهم ويجعلهم بذلك مشركين.

ومن هنا فإن الله تبارك وتعالى اشترط ذلك، وذكر أنه طلب من أهل الكتاب الإخلاص لله تبارك وتعالى، وهو الذي جاء في آية آل عمران: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64].

فهذا -أيضاً- هو تجريد العمل والإخلاص الكامل لله تبارك وتعالى، أما أن تتخذ -مفهوم الآية- أن يعبد بعضكم بعضاً، أو يعبد بعضنا بعضاً الملوك أو الأحبار أو الرهبان أو ما أشبه ذلك، فإننا بذلك لا نكون مؤمنين ولا موحدين، بل نشترط ونطلب ذلك منهم، فهذا بالنسبة لأهل الكتاب.

إخلاص المنافقين

أما بالنسبة للمنافقين فإن الأمر في حقهم أوضح وأجلى، فالمنافقون من أخص أعمالهم وصفاتهم الكذب، كاذبون في دعوى الإيمان، كاذبون في الشهادة بالرسالة -كما في أول سورة المنافقون- كاذبون في عبادتهم، وهم في الحقيقة كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم: يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142].

فهذا الرياء والكذب في دعواهم أنهم مؤمنون وليسوا كذلك، وأنهم كما ذكر الله تبارك وتعالى من صفاتهم في أول البقرة: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [البقرة:9]، وغير ذلك.

هم بهذه الصفات قد جانبوا وضادوا معنى الإخلاص الذي طلبه الله تبارك وتعالى واشترطه من عباده، وكذلك معنى الصدق.

ولذلك نجد أن الآيات التي تتحدث عن المنافقين، وعن أعمالهم يأتي فيها هذان الأمران العظيمان، مثلاً: سورة التوبة، الفاضحة المشقشقة المخزية التي فضحت المنافقين، وأخزتهم وأظهرت بواطنهم وكشفتها، هذه السورة العظيمة يقول الله تبارك وتعالى بعد أن فضحهم، وبيَّن أعمالهم ومنهم، ومنهم، ومنهم، ويقولون، وفعلوا، وفعلوا... مما ذكر الله تبارك وتعالى، قال في آخرها موجهاً الخطاب للمؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]؛ لأن ما تقدم في حق المنافقين يشمله أنهم كاذبون فلم يكونوا من الصادقين.

وأما إخلاص الدين لله تبارك وتعالى، فإن الله عز وجل ذكر ذلك في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء:145-146].

فقد جعلهم الله تبارك وتعالى في الدرك الأسفل من النار، فهم أشد الناس كفراً وإظهاراً لمعاندة ما جاء من عند الله، وتكذيباً لرسل الله، فلا ينفعهم أبداً دعوى الإيمان وزعمه إلا بأن يحققوا هذه الشروط، وهي التوبة والإصلاح، والاعتصام بالله تبارك وتعالى.

والشرط الرابع هو: إخلاص الدين لله عز وجل، وهذا دليلٌ على أن من أعظم ما يشوب أعمالهم هو ترك الإخلاص، وهو الشرك -وإن كان النفاق درجات وإن كانت الأعمال درجات- والناس درجات في هذا، لكن مثل هؤلاء الموصوفين بأنهم في الدرك الأسفل من النار، هؤلاء هم أهل النفاق الأكبر، فشركهم أو تركهم الإخلاص؛ لأنهم لم يخلصوا لله تبارك وتعالى في أصل الإيمان وفي أصل الدين.

أما ما عدا ذلك، وهو من يشرك بالله تبارك وتعالى ولا يخلص له في عملٍ من الأعمال، فإن ذلك العمل يحبط ويبطل؛ لأنه كما تقدم في الحديث القدسي: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً -وهذا مطلق، سواء كان في أصل الدين عملاً كبيراً عظيماً، أو أياً كان- أشرك معي فيه غيري تركته وشركه}.

وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يحذر من الشرك دقيقه وجليله، وأن يحذر من الرياء؛ لأنه ضد الإخلاص، ولأن الرياء هو نوع من أنواع الشرك الأصغر، نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من الشرك ما علمنا منه وما لم نعلم.

فالمشركون -مثلاً- وهم أبعد الناس عن الإخلاص يدَّعون أنهم يعبدون الله، وأنهم يُعظِّمون حرمات الله، ويُعظِّمون بيت الله، وأنهم أتباع نبي الله إبراهيم عليه السلام، ثم إنهم يقرون لله تبارك وتعالى بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمر، وغير ذلك وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، أو: لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر:38].

إذاً: هم يثبتون هذا، بل إنهم حتى في دعائهم يخلصون لله تبارك وتعالى، ولكن وقت الشدة فقط، فإذا كان وقت الرخاء ونجّاهم الله تبارك وتعالى إلى البر -وكان من أشق الأمور عليهم أن يركبوا البحر، ولذلك يأتي هذا المثال كثيراً في القرآن فلما نجاهم إلى البر- أشركوا بالله ما لم ينزل عليهم سلطاناً.

إذاً: المشركون أيضاً يكذبهم الله تبارك وتعالى، ويبطل عبادتهم في دعواهم، لماذا؟

لأنهم لم يحققو الإخلاص، وإن كانوا يزعمون أو يظنون أنهم على شيء من الدين، ولذلك كما جاء في أول الزمر: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

فهم يظنون أنهم بهذا يعبدون الله، ويتقربون بهم إلى الله، فيظنون أن عبادتهم هذه لله، وأنهم لم يشركوا بالله، فكأنما ينفون ما يدَّعي أو يزعم عليهم من أنهم لا يعبدون الله، أو أنهم يشركون بالله تبارك وتعالى، فأبطل الله تبارك وتعالى عبادتهم، وأنها لا تنفعهم؛ لأن الدين الذي يقبله الله هو الدين الخالص الذي لا شرك فيه، ولا شائبة معه.

أمَّا أن يتخذ من دونه أولياء -وإن كان قصد القائل أنها تقرب إلى الله- فإنه لا يقبل منه ذلك، وهذا الزعم أنهم أولياء، أو كما ذكر في الآية الأخرى: وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، فقد أبطل الله تبارك وتعالى ذلك كله بأن جعل الشفاعة له جميعاً، وجعل الشرطين اللذين لا بد منهما لمن يشفع لتحقيق الشفاعة يوم القيامة هما: أن يأذن الله تبارك وتعالى للشافع، وأن يرضى عن المشفوع له.

وهؤلاء المشركون لا يرضى الله تبارك وتعالى عنهم، ولا يرضى أن يشفع فيهم أحد؛ لأنه لا يرضى لعباده الكفر تبارك وتعالى، هذا في حق المشركين وهو واضح.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2599 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2575 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2509 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2462 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2349 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2261 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2251 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2198 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2167 استماع
الشرك قديماً وحديثاً 2134 استماع