خصائص أهل السنة والجماعة


الحلقة مفرغة

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فنحمد الله تبارك وتعالى الذي جعلنا جميعاً من أهل السنة وفي ذلك اصطفاء واختيار وتكريم من الله تبارك وتعالى لمن كان كذلك، ونحمده أن جمعنا لنعرف بعضاً من خصائصهم ومناقبهم العظيمة، التي ميزهم الله تبارك وتعالى بها على سائر أهل الإسلام.

تعلمون أن الله تبارك وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، وقد اختار واصطفى أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سائر الأمم والملل يقول تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32] ويقول الله تبارك وتعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:110] ويقول الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143] فهذه الأمة أورثت الكتاب، واصطفيت، وكانت خير أمة أخرجت للناس، وهي شاهدة على الناس يوم القيامة، حين يشهد عليها رسولها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وقد اختص الله تبارك وتعالى واختار من هذه الأمة المصطفاة المختارة طائفة بعينها، هي في هذه الأمة كأمة الإسلام بين أهل الأديان وسائر الملل، وهذه الطائفة هي ما نسميه أهل السنة والجماعة، ولهذه التسمية مدلولها، وبها يتميز المنهج والخاصية العظمى لـأهل السنة والجماعة، وكما أن سائر الأديان والملل نسخت بشريعة الإسلام وبدين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخاتِم، فكذلك بقية الفرق والطوائف المنتسبة إلى القبلة أيضاً هي في منزلة تلك الملل بالنسبة لهذه الطائفة، أي أن تلك الفرق والطوائف هي مفضولة بالنسبة لـأهل السنة والجماعة، ثم يتفاوت مقدار ذلك الفضل.

الاعتصام بالكتاب والسنة

أول ما يميزهم وأعظم خاصية لهم هي أنهم -كما هو واضح من اسمهم- يتمسكون بكتاب الله تبارك وتعالى، وبسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً وعملاً واعتقاداً ظاهراً وباطناً، فلا يأخذون دينهم واعتقادهم من مصدر غير كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كائناً ما كان ذلك المصدر، ولا يقدمون بين يدي الله ورسوله، ولا يرفعون أصواتهم فوق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يرضون أن يرفع أحد صوته فوق صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأن يحدث في هذا الدين أمراً مخالفاً لأمره مجانباً لسنته إلا ويرفض ويرد عليه.

وبضدها تتميز الأشياء، فإذا قارنت بين هذا المنهج العظيم، وبين غيره من المناهج فإن الفرق يبدو جلياً وواضحاً، ولسنا بصدد تبيان تلك المناهج بالتفصيل، ولكن لو نظرنا نظرة إجمالية لوجدنا أن المناهج في الأصل هي ثلاثة:

المنهج الأول: هو ذلك المنهج الذي ينحى المنحى العقلي، والذي يدعي بزعمه تحكيم العقل والمنطق والبراهين والنظريات العقلية.

والمنهج المضاد له: هو ذلك المنهج الذي يستقي ويستمد من الكشف، أو من الذوق والوجد، أو غير ذلك من المعايير غير العقلية كمعيار العاطفة، أو معيار الوجدان.

وبإيجاز نقول: إن المنحى الأول وهو منحى أهل الكلام عموماً من معتزلة وأشعرية ومن جرى مجراهم، يجعل الدين والإيمان والعقيدة فكرة عقلية، فالإيمان عندهم فكرة عقلية.

والمنهج المضاد الآخر هو منهج أهل التصوف والتنسك والتزهد غير المشروع، فهؤلاء يجعلون الإيمان والدين والعقيدة تجربة روحية.

ولهذا يصعب حصر الفريق الأول وكذلك الآخر؛ لأن العقول تختلف وتتباين، وكذلك التجارب الروحية الذاتية هي أكثر اختلافاً وأكثر تبايناً. فميز الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فعرفوا للعقل منزله ومكانته، وعرفوا للحقائق والأذواق الإيمانية الحقة قيمتها ومنزلتها، ولكن الحَكَمَ في ذلك كله هو النص من الوحي، من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45].

ولم يوجد عند أهل السنة والجماعة تصور معارضة أو تضاد بين العقل الصحيح السليم وبين الوحي، ولا بين الذوق الإيماني الصحيح وبين الوحي، فضلاً عن أن يقولوا كما قال أولئك بأنه عند التعارض يقدم العقل، أو يقدم الكشف، أو يقدم أي شيء غير كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

بل إن من أصول أهل السنة والجماعة الثابتة أن أقوال أئمة أهل السنة والجماعة ابتداءً بالصحابة الكرام ومروراً بالتابعين، ثم الأئمة الأربعة والسلف الصالح أجمعين، -على جلالتهم وقدرهم وفضلهم- لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعارض بها نص من الكتاب والسنة على الإطلاق، فإنما هي بمنزلة بعد منزلة النص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فلا يمكن أن يقدموا قول أحد كائناً من كان على قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان صحابياً ذا فضل، أو إماماً مجتهداً مع الاحترام والتقدير لأولئك الأئمة الكرام، فضلاً عن أن يقدموا عليه كلام أحد من المبتدعة الضالين أو أصحاب الكلام، أو أصحاب الأذواق والمواجيد والكشوفات الباطلة، وبهذا تميز منهج أهل السنة والجماعة بالعلم.

وهذا ينقلنا إلى الميزة الأخرى.

العلم

فمنهجهم قائم على العلم، فهم في كل أمر وفي كل حكم يطلبون الدليل من الكتاب والسنة، ولهذا نجد أن علماء السنة أجمعين الذين كتبوا، وكذلك الذين لم يدونوا بل سبقوهم؛ نجد أنهم جميعاً من أهل السنة والجماعة، وأهل السنة والجماعة أكثر الطوائف حرصاً على السنة تدويناً لها وحفظاً، وإن وجد من غيرهم من يهتم بها فهو لخدمة هوى في نفسه أو ليخلط حقاً بباطل -ولا يسلم من ذلك- أما أهل السنة والجماعة فإنهم يهتمون بكتاب الله عز وجل حفظاً وتلاوة، ويهتمون بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفظاً وفهماً وتصحيحاً وتضعيفاً، فالحديث الضعيف -فضلاً عن الموضوع- لا يعتد به ولا يعمل به، فضلاً عن الكشوفات أو الآراء أو الخيالات أو المنامات التي يعتمد عليها غيرهم.

فهم إذاً يتميزون بالبصيرة وبالمنهج الصحيح، وهو منهج العلم المُتلقى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بواسطة أولئك الرجال الثقات الذين لم تشهد أمة من الأمم على الإطلاق مثلهم في الحفظ والضبط والدقة والفهم والاستنباط.

الوسطية

ومما يميز أهل السنة والجماعة ويختصون به دون غيرهم من الطوائف، أنهم أمة وسط، وهذه الوسطية تتجلى في أمور الإيمان والعقيدة جميعاً، فكما أن هذه الأمة -أي أهل القبلة عموماً- جعلها الله تبارك وتعالى أمة وسطاً، فـأهل السنة هم وسط هذه الأمة وخيارها، وأصحاب المنهج الوسط في هذه الأمة، فلو أخذنا نضرب الأمثلة من أبواب العقيدة والإيمان باباً باباً لطال بنا المقام، ولكن نوجز ذلك بما يتضح به هذا المنهج القويم:

فمثلاً في صفات الله تبارك وتعالى نجد أن الطوائف قد ضلت، فمنهم من أثبت وغلا في الإثبات حتى مثَّل الله تبارك وتعالى بخلقه، وهؤلاء هم أهل التمثيل أو التشبيه، وهؤلاء هم كما اعتبرهم السلف الصالح عباد صنم، لأنهم جعلوا صفات الله تبارك وتعالى مماثلة لصفات المخلوقين.

وفي المقابل نجد أولئك الذين نفوا صفات الله تبارك وتعالى، وغلوا في التنزيه -بزعمهم- حتى لم يثبتوا له تبارك وتعالى شيئاً من صفاته أو أنكروا بعضاً منها، وهؤلاء كما قال فيهم السلف : [[الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً]] فوصفوا الله تبارك وتعالى بالعدم (بالصفات السلبية).

كما نقول في صفة العلو -مثلاً- ونؤمن -نحن أهل السنة والجماعة- كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أن الله تبارك وتعالى على العرش استوى، وأنه فوق جميع المخلوقات، فيقول هؤلاء -أي الممثلة-: استوى كالمخلوقين، ويقول أولئك -أي المعطلة-: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا يميناً ولا شمالاً!! نعوذ بالله من الزيع والضلال.

وأما أهل السنة فهم وسط، فيثبتون لله كل ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصفات إثباتاً لا تمثيل فيه، وينفون عن الله تعالى ما لا يليق به نفياً لا تعطيل فيه، من غير تحريف، ومن غير تكييف، هذا هو المذهب السليم الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة جميعاً.

ولننتقل إلى باب آخر -فمثلاً- في باب الإيمان والأحكام والأسماء، نجد أن بعض طوائف الأمة قد غلت حتى كفرت من يرتكب ذنباً دون الكفر أو الشرك، وأخرجته من الملة، أو حكمت عليه بالخلود في النار، ونجد بالمقابل من استهان وفرط بالأمر حتى جعل أهل المعاصي والكبائر والفجور مؤمنين كاملي الإيمان.

فـالخوارج وتبعهم في ذلك المعتزلة يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر كما تقول الخوارج، أو هو في منزلة بين الإيمان والكفر كما تقول المعتزلة، فغلوا في ذلك فجاءوا إلى كل ما ذكر الله تعالى أو رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المعاصي والكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وأمثالها، فجعلوا مرتكب ذلك كافراً خارجاً من الملة، مثل من عبد غير الله تبارك وتعالى، فهذا غلو، رغم أن هذا الغلو كانت تصحبه العبادة، ويصحبه الزهد في الدنيا -كما سيأتي إن شاء الله- فيما يتعلق بهذه الخاصية.

وأما المرجئة فإنهم قالوا: إن العبد إذا قال لا إله إلا الله، وشهد لله بالوحدانية وأقر لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة فإنه مؤمن كامل الإيمان وإن عمل ما عمل، وأنكروا أن الإيمان يزيد وينقص، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فكلاهما خرج عن الجادة الصحيحة وعن الصراط المستقيم، وعما جاء صريحاً في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومما هو معلوم -كما لا يخفى على أحد يقرأ كتاب الله عز وجل- أن الله تبارك وتعالى فرق في الحكم بين من يشرك به ويعبد غيره، وبين من يرتكب شيئاً من هذه المعاصي، كما فرق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأدلة كثيرة لا تحصى فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجم الزاني، وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر.

فلو كانت كل هذه الذنوب ردة وكفراً كالكفر الأكبر الذي هو الخروج من الملة؛ لكان حكم هذه الذنوب واحداً ولا تفريق بينها، وأيضاً نقول للمرجئة: لو كان العاصي والفاجر كامل الإيمان؛ فما معنى تلك الآيات العظيمة التي جاءت في صفات المؤمنين، وفي بيان أحوالهم وصفاتهم وما يتميزون به عن غيرهم، وتلك الآيات القطعية من كتاب الله تبارك وتعالى في بيان أن الإيمان يزيد وينقص، وما جاء كذلك في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فوفق الله تبارك وتعالى أهل السنة فكانوا أمة وسطاً بين هؤلاء وأولئك.

وإذا انتقلنا إلى باب آخر من أبواب العقيدة والإيمان، وهو باب القدر الذي ضلت فيه العقول والأفهام التي ابتعدت عن كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووفق الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة فكانوا على الجادة والصراط المستقيم فإن القدرية -أي الذين نفوا القدر ولم يثبتوه- غلوا في تحميل العبد للمسئولية عند فعل المعصية، فقالوا: العبد مسئول عما يفعل من المعاصي، وغلو في ذلك حتى قالوا: إن الله لم يقدر عليه هذه المعاصي ولم يخلقها فيه! ثم غلوا حتى جعلوا جميع أفعال العبد هو الذي يستأنفها من عند نفسه، والله تبارك وتعالى لم يكتبها ولم يقدرها عليه!! وغلا بعضهم فقال: لم يعلم بها إلا بعد وقوعها! -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراًً- كل ذلك غلو وجموح عن الصراط القويم.

فقابلتهم الجبرية فقالوا: لا حيلة للعبد ولا إرادة له ولا اختيار، وغلو في إثبات القدر -بزعمهم- حتى آل بهم الأمر إلى أن جعلوا الإنسان كالريشة في مهب الريح لا إرادة له ولا اختيار، فكل الأمور بالقدر، وكل شيء قدره الله، حتى إذا فعلوا المعاصي وانتهكوا حرمات الله قالوا: هذا بقدر الله وليس لنا في ذلك أي ذنب، فهؤلاء وهؤلاء في ضلال مبين.

ووفق الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة فتمسكوا بصريح القرآن والسنة، فأثبتوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الخالق لأفعال العباد كما أنه الخالق لكل شيء لقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] وفي نفس الوقت أثبتوا أن العبد هو الفاعل، فالعبد هو الذي يفعل أفعاله كما هو في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] فالعبد هو الفاعل والله تعالى هو الخالق، والعبد يفعل بمقتضى مشيئةٍ وإرادةٍ خلقها الله تعالى فيه وأعطاه إياها، ولكن كما قال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30].

فالمشيئة التي تنفذ وتتحقق ولا يردها شيء هي مشيئة الله تبارك وتعالى، والعبد مع أن له مشيئة يتصرف بها ويكون مسؤولاً عما تمليه عليه من الأعمال؛ إلا أن هذه المشيئة لا تكون إلا بعد مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكل ذلك في علمه تبارك وتعالى، فهو كما صرح في القرآن وفي الحديث قد كتب مقادير كل شيء عنده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12] وكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة -كما جاء ذلك في الحديث الصحيح.

فـأهل السنة والجماعة لا يردون أي آية ولا حديث في القدر بحجة أنه يؤدي إلى الجبر، أو يؤدي إلى نفي مسؤولية العبد، بل يوقنون بالجميع، وأما أولئك فإنهم لا بد أن يردُّوا تلك الأدلة فـالقدرية النفاة يردون كل حديث أو آية تدل على إثبات القدر، أو -بزعمهم- تدل على الجبر كقول الله تبارك وتعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

وكالحديث الصحيح المتفق عليه في محاجة آدم وموسى عليهما السلام {فقال موسى لآدم: أنت أبونا الذي أخرجتنا من الجنة، فقال آدم عليه السلام: أنت موسى الذي اصطفاك الله تعالى برسالته وبكلامه، أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى}.

وكذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وهو المسمى حديث الصادق المصدوق الذي يقول في أوله: حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق {إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله تعالى الملك فينفخ فيه الروح، ويأمر بكتب أربع كلمات: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها} فأنكروا هذا الحديث، وأنكروا كثيراً من الأحاديث رغم ثبوتها وصحتها، لأنها -بزعمهم- تفضي إلى الجبر.

كما أن أولئك الجبرية أنكروا كل ما يدل على استقلال العبد بفعله، وأنه هو الذي يفعل، وبذلك أنكروا كل ظواهر القرآن الصريحة في أنه هو الذي يعمل كقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10] فأنكروا أن العبد هو الذي يعطي أو يصدق أو يكذب أو يبخل، وجعلوا الفعل كله لله تبارك وتعالى.

والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفَّق أهل السنة والجماعة فآمنوا بكل الآيات وبكل الأحاديث، وكانوا وسطاً بين القدرية وبين الجبرية.

وإذا انتقلنا إلى موضوع آخر وهو موضوع الصحابة الكرام أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسنجد أيضاً هذه الوسطية، فـالرافضة -لعنهم الله- يلعنون أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل يكفرونهم إلا نفراً يسيراً معدودين، يقولون: إنهم علي وأصحابه الذين والوه، وبالمقابل الخوارج يكفرون علي بن أبي طالب وعثمان رضي الله تعالى عنهما، ويكفرون من والاهما، فوفَّق الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة -أهل الدليل والاتباع والأثر- فهم يوالون أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جميعاً، ويترضون عنهم جميعاً، ولا يكفرون أحداً منهم، وإنما يؤمنون ويقرون بما أثبته الله تبارك وتعالى من فضلهم، ومن الكرامة لهم، ومن السابقة، ومن الإحسان، ويؤمنون بأن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة.

فلا يذمونهم كما فعلت الرافضة ولا يكفرون بعضهم كما فعلت الخوارج، وأيضاً لا يغلون في حب أحد منهم حتى أبو بكر الصديق -وهو أفضلهم جميعاً- لا يبالغون فيه، ولا يرفعونه فوق درجته الحقيقية كما فعلت الرافضة حين رفعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى درجة الألوهية فجعلوه إلهاً من دون الله! وبعضهم جعله في منزلة النبوة! -نسأل الله العفو والعافية- والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفَّق أهل السنة والجماعة فكانوا على الطريق القويم الوسط، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.

وكذلك أهل بيت النبي صلى الله وعليه وسلم يحبونهم ويوالونهم، ولا يعظمونهم ولا يرفعونهم عن منزلتهم التي هم عليها حقاً، وأيضاً لا يرضون عما نالهم من الأذى ولا يؤذونهم، بل يحبونهم المحبة الشرعية التي جعلها تبارك وتعالى لسائر المؤمنين وزيادة؛ لقرابتهم بالنبي صلى الله وعليه وسلم.

هم الفرقة الناجية

ومن خصائص أهل السنة والجماعة التي لا يشاركهم فيها غيرهم أنهم موعودون بالنجاة من عذاب الله تبارك وتعالى يوم القيامة، وذلك مبني على أنهم هم الطائفة المهتدية التي ثبتت على الصراط المستقيم في هذه الحياة الدنيا، وأن غيرهم متوعد بالهلاك وبالعقوبة في الآخرة.

وعندما نقول: إن أهل السنة موعودون بالنجاة، وأن غيرهم متوعد بالهلاك، فلا يعني ذلك أن كل فرد من أهل السنة والجماعة هو ممن يدخل الجنة ابتداءً، كما لا يعني ذلك أن كل فرد من غير أهل السنة والجماعة لا يدخل الجنة انتهاءً ولا يدخلها أيضاً ابتداءً، ولكن من حيث الجملة أهل السنة موعودون بالنجاة، ومن حيث الجملة أهل البدع متوعدون بالهلاك، ثم طوائف من أهل البدع ممن خرج عن الملة فهذا حكمه حكم المشركين والمنافقين من أهل النار خالداً فيها مخلداً - نسأل الله السلامة والعافية - ومن كان غير ذلك فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينصب الموازين يوم القيامة، وتوضع حسناتهم وسيئاتهم في كفتي الميزان؛ فما رجح منها فإن الله تعالى لا يظلم أحداً، فهم يدخلون في أهل الكبائر الذين قد تنالهم شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابتداءً، وقد تنالهم بعد دخول النار فيخرجون منها.

أما أهل السنة والجماعة فمن كان منهم تام الاهتداء في الدنيا؛ فهو تام النجاة في الآخرة كما قال تبارك وتعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فمن كان منهم تام الاهتداء في الدنيا، تاركاً للظلم الذي هو الشرك -وليس من أهل السنة والجماعة مشرك- وتاركاً للظلم الأصغر الذي هو الذنوب، ومجتنباً للكبائر فهذا يكون ناجياً النجاة الكاملة يوم القيامة.

وأما من كان من أهل السنة والجماعة ولكنه على معصية من المعاصي كالزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو ما أشبه ذلك؛ فإنه يدخل في الوعيد الذي توعد الله به من فعل ذلك، ولكنه مع دخوله في الوعيد فإن الشفاعة له أرجى -بلا شك- ممن كان من أهل الكبائر من غيرهم؛ فمن كان من أهل السنة والجماعة فهو أرجى وأقرب إلى رحمة الله تبارك وتعالى من غيرهم، وإن كان للآخر على بدعته فضل أو جهاد أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فإنه يوزن له في الموازين فأيهما رجح كان له سعادته أو شقاؤه.

كما جاء في الحديث :{افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هم يا رسول الله قال: الجماعة} وفي رواية {من كان على ما أنا عليه وأصحابي}.

فهذا الوعيد لأهل الفرق الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، والذين خالفوا وصية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العاشرة في سورة الأنعام بقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] فالذين خالفوا هذه الأوامر وغيرها فإن الوعيد يشملهم، فهم من الاثنتين والسبعين الذين هم متوعدون بالنار { كلها في النار إلا واحدة } هذه الواحدة هي الجماعة وهي أهل السنة والجماعة، وهي من كان على مثل ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.

فبذلك يبين لنا معنى الوعد الذي وعد به أهل السنة والنجاة التي لهم بالجملة، ومعنى الوعيد الذي لغيرهم، والذي هم متوعدون به في الجملة.

وهذا أيضاً ينقلنا إلى قضية المفاضلة بين أهل السنة والجماعة وغيرهم، وهو أن يقال: إن في غير أهل السنة من أهل البدع التي لا تخرج من الملة، لا سيما الشبه العلمية التي قد تخفى على بعض الناس كشبهة القدرية أو شبهة الإرجاء غير الغالي- هؤلاء الناس فيهم من العبادة والزهد والجهاد الشيء الكثير، ولكن نقول: من حيث الجملة: ما من خير ولا حسنة عند غير أهل السنة إلا ولـأهل السنة من ذلك النصيب الأوفر والكمال في هذه الصفة وفي هذه الخصلة.

وأهل السنة والجماعة منهم المجاهدون، ومنهم القراء، ومنهم العلماء، ومنهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ومنهم الحافظون لحدود الله، ومنهم كل أهل المناقب والفضل في هذه الأمة، فخيريتهم مطلقة، وأما غيرهم فإن شاركهم في شيء من هذه الخيرية فإن في أهل السنة والجماعة من هو أكثر منه خيرية ويكون له الفضل الأوفر والنصيب الأكبر، وما كان من سيئة عند بعض أفراد أهل السنة والجماعة، أو معاصٍ فإنه يوجد في أهل البدعة مثلها وأكبر منها.

أنهم يدخلون في الإسلام كله

وأهل السنة والجماعة وسط -أيضاً- حتى في أسلوب حياتهم العملي، فمن أهل السنة والجماعة من كان يلي القضاء، ومن كان يلي بعض المناصب، ومن كان -أيضاً- ذا مال وسعة وفضل، وفي أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأسوة الكاملة؛ فكان فيهم أهل الثراء وأهل اليسار والغنى، كما كان في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أيضاً- أهل الفاقة والفقر، وأهل الصبر والزهد، وكان في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل العبادة والذكر، كما كان فيهم أهل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي من تميز بهذه الصفة دون غيرها من الصفات الأخرى.

ثم حصل لمن بعدهم الاضطراب في ذلك؛ فإن فئةً مالت إلى الدنيا وركنت إليها، ولم تتحرج في قبول أي ولاية ولم تتحرج في قبول أي منصب ولا في التوسع في الدنيا والأخذ منها، وقالوا: هذه خيرات وطيبات أحلها الله لنا، فاتسعوا في ذلك اتساعاً أخرجهم عما كان عليه السلف من التقلل من الدنيا والرغبة في الآخرة، وصدق التوجه إلى الله تعالى، ومنهم طائفة مالت إلى العكس فأخذوا بالزهد والتنسك وترك متاع الحياة الدنيا، حتى إنهم حرموا الطيبات، أو على الأقل نظروا إلى من أخذ شيئاً من الطيبات بأنه خارج عن الصواب وعن جادة الحق.

وتوسط أهل السنة والجماعة في هذا الأمر يدلنا على خاصية عظمى يتميز بها أهل السنة والجماعة وهي أنهم يدخلون في الإسلام كله، ويجمعون الدين كله،وأما غيرهم فإن حاله كحال النصارى الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:14] فهؤلاء نسوا حظاً مما ذكروا به فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:14] فوقع بينهم التنازع.

انتسابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن أعظم ما يميز أهل السنة والجماعة ومن أهم خصائصهم وأجلاها: أنهم منتسبون إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو سألت أي طائفة من الطوائف: إلى من تنتمون؟ ومن أول من أظهر أو من أنشأ عقيدتكم؟ لأخبروك عن رجل ما، إلا أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: هذا ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.

فلو نظرنا إلى الخوارج لوجدنا أنه رجل ما، وأنهم خرجوا في زمان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حين التحكيم.

والمرجئة خرجت بعد ذلك، ولم يكن من الصحابة رضي الله تعالى عنهم خارجي ولا مرجئي فضلاً عن أن يكون فيهم رافضي.

والرافضة أخبث من الخوارج ومن المرجئة، فـالرافضة أول من أنشأ أو أسس مذهبهم هو رجل يهودي يسمى عبد الله بن سبأ ثم هم يزعمون أنه منهج أو مذهب جعفر الصادق.

والمعتزلة لو سئلوا لقالوا: عمرو بن عبيد أو واصل بن عطاء هو الذي أسس المذهب، والتاريخ شاهد بذلك، وهكذا لو نظرنا إلى أهل الكلام أيضاً نجد أن أصولهم تنتهي إلى أهل الاعتزال.

والصوفية يقولون: الجنيد سيد الطائفة، وإن تعمقوا قليلاً قالوا: الحسن البصري.

والأشعرية يقولون: نحن ننتمي إلى أبي الحسن الأشعري -قبل أن يتوب-.

وهكذا كل طائفة تنتسب إلى رجل ما، ظهر في وقت من الأوقات، ولكن أهل السنة والجماعة لا ينتسبون إلا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا يقال لهم أهل السنة سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يقال: إن أول من أوجد مذهبهم أو أنشأه أو أسسه فلان، بل ليس في مذهبهم أي شيء مما أسس، وإنما هو مذهب اتباع لا ابتداع، فلا يوجد أصل من أصول الدين في مذهب أهل السنة والجماعة إلا وهو مأخوذ من كتاب الله ومن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن وجد غير ذلك وسمي أصلاً فهذا عند أهل البدعة، أما عند أهل السنة فهو بدعة محدثة، ولا يكون من الدين أبداً، ما دام أنه قد وقع بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعد أصحابه.

والمميزات كثيرة، وهذه ليست كل خصائص أهل السنة والجماعة ولا كل مميزاتهم؛ وإنما هي بعض منها، ذكرناها بإيجاز شديد، نظراً لضيق الوقت، والعبرة العظمى التي تفيدنا جميعاً نحن المسلمين هي أن نؤمن بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة، وأن نتمسك بذلك قولاً وعملاً ونعض عليه بالنواجذ، ونعلم أنه لا نجاة لهذه الأمة ولا خير ولا فلاح في الدنيا ولا في الآخرة إلا أن تكون على هذا المذهب السليم القويم، ويتمسكوا به قولاً وعملاً وجهاداً ودعوة، كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه والسلف الصالح الكرام الذين ثبتوا عند المحنة، والذين جددوا الدين.

والذين من أبرزهم الأئمة الأعلام كالإمام أحمد رحمه الله تعالى، وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في العصور الوسطى، ثم شَيْخ الإِسْلامِ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في العصر الأخير، وكل من سار على نهجهم وهم كثير -ولله الحمد- فهؤلاء معقود لهم لواء النصر إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك النبي صَ

أول ما يميزهم وأعظم خاصية لهم هي أنهم -كما هو واضح من اسمهم- يتمسكون بكتاب الله تبارك وتعالى، وبسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً وعملاً واعتقاداً ظاهراً وباطناً، فلا يأخذون دينهم واعتقادهم من مصدر غير كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كائناً ما كان ذلك المصدر، ولا يقدمون بين يدي الله ورسوله، ولا يرفعون أصواتهم فوق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يرضون أن يرفع أحد صوته فوق صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأن يحدث في هذا الدين أمراً مخالفاً لأمره مجانباً لسنته إلا ويرفض ويرد عليه.

وبضدها تتميز الأشياء، فإذا قارنت بين هذا المنهج العظيم، وبين غيره من المناهج فإن الفرق يبدو جلياً وواضحاً، ولسنا بصدد تبيان تلك المناهج بالتفصيل، ولكن لو نظرنا نظرة إجمالية لوجدنا أن المناهج في الأصل هي ثلاثة:

المنهج الأول: هو ذلك المنهج الذي ينحى المنحى العقلي، والذي يدعي بزعمه تحكيم العقل والمنطق والبراهين والنظريات العقلية.

والمنهج المضاد له: هو ذلك المنهج الذي يستقي ويستمد من الكشف، أو من الذوق والوجد، أو غير ذلك من المعايير غير العقلية كمعيار العاطفة، أو معيار الوجدان.

وبإيجاز نقول: إن المنحى الأول وهو منحى أهل الكلام عموماً من معتزلة وأشعرية ومن جرى مجراهم، يجعل الدين والإيمان والعقيدة فكرة عقلية، فالإيمان عندهم فكرة عقلية.

والمنهج المضاد الآخر هو منهج أهل التصوف والتنسك والتزهد غير المشروع، فهؤلاء يجعلون الإيمان والدين والعقيدة تجربة روحية.

ولهذا يصعب حصر الفريق الأول وكذلك الآخر؛ لأن العقول تختلف وتتباين، وكذلك التجارب الروحية الذاتية هي أكثر اختلافاً وأكثر تبايناً. فميز الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فعرفوا للعقل منزله ومكانته، وعرفوا للحقائق والأذواق الإيمانية الحقة قيمتها ومنزلتها، ولكن الحَكَمَ في ذلك كله هو النص من الوحي، من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45].

ولم يوجد عند أهل السنة والجماعة تصور معارضة أو تضاد بين العقل الصحيح السليم وبين الوحي، ولا بين الذوق الإيماني الصحيح وبين الوحي، فضلاً عن أن يقولوا كما قال أولئك بأنه عند التعارض يقدم العقل، أو يقدم الكشف، أو يقدم أي شيء غير كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

بل إن من أصول أهل السنة والجماعة الثابتة أن أقوال أئمة أهل السنة والجماعة ابتداءً بالصحابة الكرام ومروراً بالتابعين، ثم الأئمة الأربعة والسلف الصالح أجمعين، -على جلالتهم وقدرهم وفضلهم- لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعارض بها نص من الكتاب والسنة على الإطلاق، فإنما هي بمنزلة بعد منزلة النص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فلا يمكن أن يقدموا قول أحد كائناً من كان على قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان صحابياً ذا فضل، أو إماماً مجتهداً مع الاحترام والتقدير لأولئك الأئمة الكرام، فضلاً عن أن يقدموا عليه كلام أحد من المبتدعة الضالين أو أصحاب الكلام، أو أصحاب الأذواق والمواجيد والكشوفات الباطلة، وبهذا تميز منهج أهل السنة والجماعة بالعلم.

وهذا ينقلنا إلى الميزة الأخرى.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2595 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2572 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2505 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2457 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2345 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2260 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2253 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2247 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2164 استماع
الشرك قديماً وحديثاً 2129 استماع