خطب ومحاضرات
منهج الأنبياء في الدعوة
الحلقة مفرغة
مما يتعلق بمعرفة إعراب القرآن معرفة الأوجه الظاهرة والمحتملة للفظ، ومعرفة التراكيب المتشابهة للآية، وهذا يستفاد منه في قضية ترجيح وجه الإعراب الصحيح والمناسب، وكذا الترجيح بجعل الإعراب تابعاً للرسم، ويقدم المعنى على الإعراب كون المعنى هو الأصل عند حصول التنازع.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى جميع الأنبياء الذين دعوا إلى الله، وجاهدوا في الله حق جهاده، وتحملوا في سبيل ذلك كل أذى، وصبروا على كل ابتلاء، حتى قتل منهم من قتل، وأوذي منهم من أوذي، فأقام الله تبارك وتعالى بهم الدين، وأقام الحجة على العالمين, ورضي الله -تبارك وتعالى- عن الصحابة الكرام، الذين اقتفوا نهج نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم ومن اتبعهم من السلف الصالح بإحسان، فكانوا خير دعاة إلى خير منهج، ونسأله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى أن يلحقنا بهم على طريق الدعوة الصحيح، وأن يجعلنا ممن يدعو إليه على بصيرة، فلا يدعو إلى غيره أبداً، ولا يدعو إليه على ضلالة أبداً.
أما بعد:
فموضوع منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ليس بالموضوع الهين، فإنه أمر جلل، والأمة الإسلامية اليوم، وهي تشهد صحوة وتوبة وأوبة إلى الله، وتشهد -في الوقت نفسه- مناهج وطرقاً مختلفة في الدعوة إلى الله.. هي أحوج ما تكون إلى معرفة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهج الأنبياء الكرام في الدعوة إلى الله؛ فليس هناك منهج يقتدى به في الدعوة والعلم والعمل إلا منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تبعه من الصحابة الكرام والسلف الصالح.
ولا يصلح آخر هذا الأمة إلا بما صلح به أولها وبما أصلح أولها، فيجب أن نعي هذه الحقيقة وهذا البرهان الذي بينه الله في كتابه أجلى بيان، وليس في قدرة الإنسان أن يعرض عامة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة إلى الله، فضلاً عن سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولكننا نأخذ من كتاب الله ما نص الله فيه نصاً على غاية الدعوة ومنهجها، وما طبقه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كان خلقه القرآن، والذي عمل بما أنزله الله عليه وبلغه غاية العمل والبلاغ.
أولاً:- المنهج النبوي في الدعوة إلى الله:-
إن الله تبارك وتعالى في الذكر الحكيم والقرآن المبين، الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بمثله؛ ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، قد ذكر منهج الدعوة وحدده في آية واحدة موجزة من كتابه كاملاً غير منقوص، ولو تأملها كل الدعاة، ولو تدبرها كل من يقرأ كتاب الله؛ لما وُجِد هذا الاختلاف والافتراق في ساحة الدعوة إلى الله.
ومن هنا نعرف قيمة القرآن، ونعرف قدر القرآن، ونعرف مدى تفريطنا في كتاب الله عز وجل.
فإذا أردنا الهدى، والحق، والخير، فهو في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلا نذهب ونتخبط في التجارب يميناً وشمالاً، والله في آية واحدة جامعة قد بيَّن لنا كيف ندعو إليه؛ وفي آية أخرى بيَّن لنا أساليب الدعوة وطرائقها.
فكأن موضوع الدرس سيتركز على شرح هاتين الآيتين، وليتنا نستطيع أن نشرح هاتين الآيتين، فما بالكم ببقية الآيات والقصص، التي أنزلها الله وقصها علينا في الدعوة إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟!
أما الآية الجامعة الأولى فهي قول الله في آخر سورة يوسف -عليه السلام-: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] فهذه الآية فيها منهج الدعوة كاملاً، وفيها غاية الدعوة، وفيها إشارة إلى الأسلوب الأمثل في الدعوة، على ما سنبينه إن شاء الله.
وجوه قراءة الآية:
وفي الآية وجهان، لا بد أن نبينهما قبل أن نشرع في بيان تفصيل الآية، لأن المعنى يترتب عليهما:
الوجه الأول: أن تقرأ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] ثم تقول: عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
والوجه الثاني في قراءتها تقرأها: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] ففي كل وجه معنى يختلف عن المعنى الآخر على ما سنورده إن شاء الله تعالى.
فالله يقول لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو إمام الدعاة، وهو الذي دعا إلى ربه خير دعوة، وبعث بأعم الرسالات وأكملها يقول له: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] أي: قل للناس جميعاً للمؤمنين والكافرين: هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] والإشارة هنا للتعظيم وللفت الأنظار؛ أي هذه سبيلي وطريقتي ومنهجي، وهذا شأني، وهذا حالي، وهذا عملي، وهذا ديدني، وهذا شغلي الشاغل وهو أن أدعو إلى الله.
ولو وقفنا عند كلمة أدعو، حيث كان شأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته كلها: الدعوة إلى الله، والجهاد من أجل الدعوة إلى الله، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نفسه: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له).
فالجهاد إنما هو من أجل الدعوة إلى الله، ومن أجل إعلاء كلمة الله قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) وليس هنالك من هدف آخر.. وكل هدف مشروع فهو تبع لهذا الهدف الأسمى (وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له).
ففي أي بلد، وفي أي موضع، وفي أي وقت.. الجهاد إنما يكون لتحقيق هذا الهدف؛ قال سبحانه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41] وهذه الآية بعد قوله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] فجعل الله الإذن بالجهاد مرتبطاً بتلك الغاية، وهي: أن يقام الدين، وأن تقام الصلاة، وأن يؤمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر.
فجهاده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو من أجل الدعوة، وحياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أصحابه وهو يعلمهم ما أنزل الله عليه من الكتاب والحكمة هي دعوة إلى الله؛ وما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلقي المعلومات لتحفظ أو ليصبح الناس علماء، ولا كان الصحابة الكرام يتلقونها لمجرد أن يكونوا علماء أيضاً وإنما هي دعوة إلى الله، فما يأمرهم به من أمر كانوا يمتثلونه ويتقربون به إلى الله ويبلغونه إلى من خلفهم، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أمرهم بأمر؛ فهو أتقاهم لله، وأول من يعمل به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكله من أجل الله ولذات الله.
وكذلك حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع زوجاته الطيبات الطاهرات كانت دعوة إلى الله؛ لتتعلم الأمة كيف تعاشر أزواجها.
ثانياً: حياته:
وكذلك حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أعدائه، ومع جيرانه، ومع كل من عاشره كانت دعوة إلى الله؛ لنعرف كيف نحارب كما حارب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف نحب كما أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف نعامل المسلمين كما عاملهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فشأنه في كل حياته دعوة إلى الله، حتى وهو يمشي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فمشيته دعوة إلى الله، حتى كان الصحابة الكرام يعرفون أيهم أكثر شبهاً في هديه وسمته بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال عمرو بن ميمون الأودي: "إن ابن مسعود كان كذلك، ثم كان بعده حذيفة"، فكانوا يتشبهون به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هديه الظاهر، فما بالكم بهديه الباطن وإيمانه القلبي؟!
هكذا كانت نظرتهم إليه، فقد بعثه الله لنا قدوة، وجعل لنا فيه أسوة، كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب:21] وكل مؤمن من أتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهو على حظ من ذلك، فليكثر أو يقل! فإذاً: حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها دعوة.
أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه والسلف الصالح؛ كانوا يدعون إلى الله وحده لا شريك له، ورحم الله الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب حين قال تعليقاً على هذه الآية، عندما أوردها في كتاب التوحيد، في باب الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله: وفي قوله: إِلَى اللَّهِ : '' التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً الناس لو دعا إلى الحق؛ فهو يدعو إلى نفسه '' -عافنا الله وإياكم- وهذا من أخطر الأمراض وأدقها، نسأل الله أن يعافينا وإياكم أجمعين من أمراض القلوب.
فمرض القلب: أن يدعو الإنسان إلى غير الله، ويظن أن دعوته هي إلى الله، وإن كان لا يدعو إلا بالكتاب والسنة، ولكن مرض القلب هذا يأتي، فيوهن دعوته، ويوهن إيمانه؛ حتى تصبح كلماته مثل الهواء جوفاء لا معنى لها ولا قيمة؛ لأنها ليست إلى الله وليست خالصة لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأما الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً ومنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ما دعوا إلا إلى الله؛ ولهذا نجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكلمه عمه، ويساومه قومه فقالوا له: ((إن كنت تريد الملك ملكناك، وإن كنت تريد الزوجة زوجناك، وإن كنت تريد المال أعطيناك)) فعرضوا عليه كل شيء؛ حتى عرضوا عليه أن يعبدوا إلهه سنة، ويعبد هوآلهتهم سنة، وكل ذلك ليصرفوه عن هدفه، وهو لا يرضى بذلك مطلقاً؛ فربه يأمره أن يظل مستقيماً، قال تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [الشورى:15] وألا يقبل المداهنة في دين الله، لا بملك ولا بجاه ولا بدنيا ولا بزوجة ولا بأي متاع من المتاع الفاني؛ لأنه يدعو إلى الله.
فلو كان يدعو إلى الملك لقبل الملك، ولو كان يدعو إلى دنيا أو متاع لأخذها؛ ولكن حاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي بعث كما قال: (أنا النذير العريان) والنذير العريان: هو الذي ينذر قومه بالخطر الكبير القادم؛ فكانت العرب في الجاهلية، إذا وقع اعتداء على قبيلة، أو إذا داهمها جيش يريد أن يغزوها، وأن يستبيح حرمتها، فأول من يراه من القبيلة، يرقى إلى مكان عالٍ ويمزق ثيابه ويصرخ؛ فيعرفون أن هذا هو النذير العريان، وهو منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، فيعرفون ذلك، فيلجئون إلى السلاح ويستعدون.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو النذير العريان بين يدي الناس، لما أمامهم من أهوال وموت وبعث وحساب وجنة أو نار، وهذا أمر عظيم غفل عنه الناس، فكان الأميون بل كان أهل الكتاب غافلين عنه؛ فأحيا الله تبارك وتعالى القلوب بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فعرفوا الله وعرفوا الدار الآخرة، وعرفوا طريق الجنة من طريق النار، فهل هذا يقبل أن يساوم على دينه؟! لا يمكن أبداً.
ثم اقتفى ذلك أصحابه من بعده، ومن سار على نهجهم من الدعاة إلى الله على بصيرة؛ فما كانوا يدعون إلا إلى الله.
ومن لوازم ذلك ومما يبين ويدل على أن الدعوة إنما هي إلى الله :
أولاً: أن تكون الموالاة والمعاداة في الله؛ فإذا إذا أحببت رجلاً؛ فلأنه أطاع الله، وعبد الله.. من أي بلد كان أو من أي لون كان أو على يد أي إنسان اهتدى؛ فإذا فعلت ذلك فأنت تدعو إلى الله بإذن الله.
وأما إذا كنت تواليه لنفسك، أو تعاديه لنفسك، أو تحب أن تكون هدايته على يدك من أجل نفسك ومن أجل طائفتك، ومن أجل منهجك الذي ارتضيته أنت في الدعوة إلى الله، أو ما أشبه ذلك، مما يصرف الدعوة عن أن تكون إلى الله؛ فهذه الدعوة ليست لله.
وعلامة ذلك: أن من يدعو إلى الله يذكر بالله، ويذكر بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا ما تأتلف عليه القلوب وتجتمع عليه الأمة جميعاً، وأما من يدعو إلى غير الله؛ فإنه إنما يذكر بالرأي أو الإمام أو الشيخ أو المنهج الذي يرتضيه! فلهذا تجده دائماً يدعو إلى ذلك الشيء، ويثني عليه ويدندن حوله, ويتكلم به.
فهذه علامة، وكل إنسان منا عليه أن يقيس قلبه وينظر إليه؛ فإن أول ما يجب لتصحيح مسار الدعوة إلى الله في العصر الحاضر، أن نتجرد جميعاً من كل غرض، وهوى، وهدف؛ إلى أن تكون دعوتنا إلى الله وحده لا شريك له.
فالمحبة والموالاة والمعاداة لا تكون إلا في ذات الله ومن أجل الله.
ثانياً ومن لوازم ذلك ونتائجه ألا يحرص الداعية على كثرة الأتباع.
نحن نريد الهداية للناس جميعاً كما كان الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- فكانوا يدعونهم إلى الحق الجلي الصحيح؛ فيقبله من يقبله، ويأباه من يأباه؛ وبهذا كانوا دعاةً إلى الله وحده.
يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح: (ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي ومعه الرهط أو الرهيط، ورأيت النبي وليس معه أحد) سبحان الله! أنبياء وليس معهم أحد! فهل الأنبياء لا يعرفون أسلوب الدعوة؟
لا. والعياذ بالله، بل هم أعلم الناس بأسلوب الدعوة إلى الله؛ ولكنهم دعوا إلى التوحيد؛ فرفضته القلوب الغافلة، ورفضته الأهواء؛ كما قال سبحانه عنهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22]، وقال عنهم: أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:36].
فالأنبياء لم يساوموا قومهم ولم يداهنوهم ولم يتنازلوا لهم عن شيء؛ بل أعلنوها دعوة واضحة صريحة، كما أمر الله وكما يجب أن تكون.
فَمَْن منَّ الله عليه بالإيمان كما أخبرنا الله عن بعض أتباع أنبيائه؛ فهؤلاء آمنوا ودخلوا في دين الله (في التوحيد)؛ فكانوا مؤمنين حقاً، ومنهم من أعرض فلا يبالي بهم الله وإن كثروا، ومن لم يتبعه أحد فلا شيء عليه ولا حرج عليه؛ المهم أن يلقى ربه يوم القيامة وقد بلغ رسالته... وهذا هو ما قاله الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48] أي: فإذا بلغت الحق كاملاً، وجاهدت في الله حق جهاده بالحكمة وبالموعظة الحسنة وبالمجادلة -على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله في آية سورة النحل- ولم يستجب لك أحد؛ فلا شيء عليك ولا حرج عليك، المهم ألا تتنازل وألا تتبع الأهواء من أجل أن يكثر الأتباع، وأن يتجمع الرعاع؛ فهذا ليس من منهج الدعوة إلى الله، ولا مما سلكه أنبياء الله.
فإن رغبات الناس وشهواتهم وميولهم لا تتناهى ولا تحد.
فبعض الناس -مثلاً- يقول: ادع إلى الله ونحن معك؛ لكن لا تتعرض لموضوع النساء والتبرج... فهذا شيء لا نستطيع أن نلتزمه (نحن نتبعك ونصلي ونتعلم الخير ونتبرع ونبني المساجد، وفي كل شيء؛ لكن موضوع المرأة وألا نرى النساء ولا نجلس معهن؛ فهذا شيءٌ خاص؛ فنرجوك ألا تقترب من هذا الموضوع).
والآخر يريد أن تدعو إلى الله وتتكلم عن الحجاب، وتنهى عن السفور والتبرج، وتحث على كل شيء؛ لكن لا تتعرض للربا؛ لأن الرجل صاحب بنك، فقل ما شئت إلا هذا الشيء.
فإذا اتبعنا أهواء الناس ليكثر الأتباع ويتجمع الرعاع؛ فقد تركنا ما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وللأسلوب تفاصيل ستأتي ولكن الأصل أن ندعو إلى دين الله كاملاً غير منقوص، وألا نبالي بنتيجة الدعوة، وألا نبالي بمن اتبع أو من لم يتبع.
أما في الأسلوب فهذه وسيلة سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تبارك وتعالى.
وتحقيقاً لكون دعوة الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- إلى الله، تجدون أنهم يصرحون لأقوامهم بذلك؛ فهذا نوح -عليه السلام- يقول لقومه: وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [هود:29]، ويقول هود عليه السلام: يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي [هود:51] ويقول الله للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ:47] وهكذا الأنبياء دائماً لا يبتغون مالاً، ولا أجراً، ولا يراعون مدحاً ولا ذماً؛ وإنما يريدون وجهه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يطاع الله ويتبع أمره.
وعلى هذا المنهج سار الدعاة إلى الله بحق، فنشر الله دينه ونصره بأمثالهم.. ابتداءً من الصحابة الكرام، وانتهاءً بمن جدد الله به الدين من أئمة الدعوة المستقيمين؛ فليس هنالك غرض من أغراض الدنيا الفانية.
أما بعض الدعاة -مع الأسف- لو عرض عليه منصب لترك الدعوة إلى الله، ولو عرض عليه مرتب ضخم لترك الدعوة إلى الله، ولو عرضت عليه قضية من قضايا الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ لسال لعابه وترك الدعوة إلى الله.
فهذا لا يدعو إلى الله ولو كان يدعو إلى الله؛ لما رضي بدلاً عن دعوته بشيء من ذلك، وإنما هي دعوة إلى ما تحقق له، وهذا هو الذي قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وفي أمثاله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
وأول من يؤتى يوم القيامة -كما ثبت في الحديث الصحيح- بثلاثة: (القارئ المرائي- والمجاهد المرائي- والمنفق المرائي)، فيقال لكلٍ منهم: لم تعلمت؟ لم جاهدت؟ لم أنفقت؟ فيقول: من أجلك يا رب، فيقال له: كذبت؛ إنما فعلت ليقال: تعلمت، أو دعوت، أو قرأت، وليقال: داعية أو عالم؛ فلا يقبل منه ذلك، وكذلك المجاهد، وكذلك المنفق.
فتحقيق الإخلاص: أن تكون الدعوة إلى الله، هو أعظم أمر يجب أن نعرفه جميعاً، فندعو إلى الله، لا إلى رأي ولا منهج ولا فكرة ولا طائفة ولا فرقة ولا مذهب ولا شيخ ولا إمام ولا أي مخلوق كائناً من كان، فالله لم يرض لنا أن ننتسب إلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ننتسب إلى غيره، فقال تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78] فلو قال أحد: نحن محمديون، قلنا: لا! نحن مسلمون.
فلا ننتسب حتى إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما ننتسب كما علمنا ربنا بقوله: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] فنحن نسبتنا واسمنا وانتماؤنا إنما هي إلى الإسلام كما أنزله الله، وكما أمر الله؛ وهذا مما يحقق أن تكون الدعوة إلى الله.
نعود إلى الآية فنقول:
الوجه الأول: (أي: بالوقف) في قراءة الآية: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] فيكون المعنى: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو إلى الله، وأنه على بصيرة هو ومن اتبعه.
والوجه الثاني من قراءة الآية: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] (بالوصل) فيكون المعنى: أن دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بصيرة هو ومن تبعه، وكلا المعنيين صحيح.
قوله تعالى: عَلَى بَصِيرَةٍ أي: ليست الدعوة إلى الله انفعالات ولا عواطف ولا صرخات ولا تأوهات؛ وإنما هي بصيرة؛ فيجب أن ندعو إلى الله على بصيرة.
وقوله تعالى: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] أخرج الذين يدعون إلى غير الله؛ فبقي المخلصون الذين يدعون إلى الله، وهؤلاء حالهم بين من يدعو إلى الله على بصيرة، وبين من يدعو إلى الله على غير بصيرة (وكلاهما يدعو إلى الله).
إذاً: لا بد أن نعرف هذا المعنى الثاني، الذي يخرج طائفة من طوائف الدعاة إلى الله، وهو (البصيرة في الدعوة) فما هي البصيرة؟
أولا: حقيقة البصيرة
فالبصيرة أن يصبح قلبك يرى الحق مثلما ترى عينك الشيء المرئي، وهذه درجة عظيمة؛ فليس لكل إنسان أن يزعمها أو يدعيها؛ ولهذا فعند تفسير الحكمة، في قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] يتبين لنا ذلك.
فالبصيرة هذه لا تكون إلا بالعلم، وأساسها العلم، والبصيرة أيضاً تجمع صفات كثيرة، منها: الحكمة؛ فهي إن لم تكن مرادفة للحكمة؛ فهي تشمل معنى الحكمة؛ لأن الذي يدعو إلى الله... إن دعا بالحكمة، أو بالموعظة، أو بالمجادلة، أو بالقتال؛ فكل ذلك -إذا كان على مثل ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا بد أن يكون على بصيرة؛ فتكون على بصيرة في كيفية الدعوة، وإلى أي شيء تدعو.
ألا ترون أن بعض الناس قد يدعون إلى فضائل الأعمال، وينسون الدعوة إلى التوحيد، فأين البصيرة؟! ألا ترون أن بعض الناس قد يدعو رجلاً قريباً من الخير فينفره... فيبتعد عن الخير بالمرة، فأين البصيرة؟! ألا ترى أن إنساناً قد يدعو شخصاً إلى ترك منكر، فينتج عن دعوته حصول منكر أكبر، فأين البصيرة؟!
ثانياً : أهمية الدعوة إلى على بصيرة.
لكن بعض الناس إن دعا إلى طلب العلم، فقد يدعو إليه على غير بصيرة، وإن أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فقد يفعل ذلك على غير بصيرة، وقد يدعو إلى الجهاد في سبيل الله؛ ولكن على غير بصيرة، (إما إلى غير راية أو إلى راية عمِّية)، والمقصود: أنها على غير بصيرة.
وحتى التوحيد فقد يدعو إلى توحيد الله، وإلى المنهج الصحيح الذي بعث الله به رسله، ولكن على غير بصيرة.
إذاً: البصيرة أمرها عظيم، وأسأل الله أن يجعلنا وإخواننا المسلمين ممن آتاهم الله البصيرة والحكمة في الدعوة إليه، إنه على كل شيء قدير.
فلابد إذاً من الأسلوب الحسن ومن العلم، ولابد من معرفة المصلحة من المفسدة؛ ولهذا يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: "ليس الفقيه أو المتبحر الذي يقول هذا حلال وهذا حرام! -ومعرفة الحلال والحرام فقه عظيم ولا يستهان به- ولكن أفقه من ذلك والفقيه الكامل هو الذي يعرف أرجح المصلحتين وأقل المفسدتين.
وكما نلاحظ في عصرنا الحاضر، فنحن اليوم في عصر غربة، انتشر فيه الفساد، وأهدرت المصالح.
فلا بد من بصيرة في أي أمر من الأمور؛ لنعرف ما هو أرجح المصلحتين، وأقل المفسدتين، فإن كان أمامك مفسدتان، ولا بد أن تقع إحداهما، فتتجاوز الكبرى وترتكب الأخف، فهذه هي البصيرة، وهذا هو الفقه الذي نريد أن يكون عليه الدعاة إلى الله وطلاب العلم جميعاً.
وهذا المنهج ليس خاصاً بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قال الله في الآية: عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] أو معناها على الوجه الآخر: أنا ومن اتبعني ندعو إلى الله على بصيرة.
فهذا أمر الله، ونحن أتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أن ندعو إلى الله على بصيرة؛ فإذا دعا داعٍ إلى غير الله أو على غير بصيرة من الله، فهذا ليس متبعاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كلام الله: أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] فإن كنت من أتباعه، فلا بد أن تقتفي أثره في الدعوة إلى الله، بأن تكون دعوتنا على بصيرة، وأن نكون على بصيرة من أمرنا في تعلم كتاب ربنا وسنة رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتفقه في الدين والصبر واليقين.
ثالثاً : الصفات التي يجب أن تتحقق في أتباع الأنبياء حتى تكون لهم الإمامة في الدين
فباليقين وبالصبر وبالاتباع تتحق البصيرة، ونكون على المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
أما البصيرة فهي كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن البصيرة هي أن يتعلم ويتفقه في الدين؛ حتى يصبح في قلبه من النور لرؤية الحق مثلما ترى العين المرئي".
فالبصيرة أن يصبح قلبك يرى الحق مثلما ترى عينك الشيء المرئي، وهذه درجة عظيمة؛ فليس لكل إنسان أن يزعمها أو يدعيها؛ ولهذا فعند تفسير الحكمة، في قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] يتبين لنا ذلك.
فالبصيرة هذه لا تكون إلا بالعلم، وأساسها العلم، والبصيرة أيضاً تجمع صفات كثيرة، منها: الحكمة؛ فهي إن لم تكن مرادفة للحكمة؛ فهي تشمل معنى الحكمة؛ لأن الذي يدعو إلى الله... إن دعا بالحكمة، أو بالموعظة، أو بالمجادلة، أو بالقتال؛ فكل ذلك -إذا كان على مثل ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا بد أن يكون على بصيرة؛ فتكون على بصيرة في كيفية الدعوة، وإلى أي شيء تدعو.
ألا ترون أن بعض الناس قد يدعون إلى فضائل الأعمال، وينسون الدعوة إلى التوحيد، فأين البصيرة؟! ألا ترون أن بعض الناس قد يدعو رجلاً قريباً من الخير فينفره... فيبتعد عن الخير بالمرة، فأين البصيرة؟! ألا ترى أن إنساناً قد يدعو شخصاً إلى ترك منكر، فينتج عن دعوته حصول منكر أكبر، فأين البصيرة؟!
فلو أن البصيرة موجودة، لحصلت النتائج الحسنة بإذن الله، أو قامت الحجة على من يريد الله أن يقيمها عليه من المعاندين والمستكبرين.
لكن بعض الناس إن دعا إلى طلب العلم، فقد يدعو إليه على غير بصيرة، وإن أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فقد يفعل ذلك على غير بصيرة، وقد يدعو إلى الجهاد في سبيل الله؛ ولكن على غير بصيرة، (إما إلى غير راية أو إلى راية عمِّية)، والمقصود: أنها على غير بصيرة.
وحتى التوحيد فقد يدعو إلى توحيد الله، وإلى المنهج الصحيح الذي بعث الله به رسله، ولكن على غير بصيرة.
إذاً: البصيرة أمرها عظيم، وأسأل الله أن يجعلنا وإخواننا المسلمين ممن آتاهم الله البصيرة والحكمة في الدعوة إليه، إنه على كل شيء قدير.
فلابد إذاً من الأسلوب الحسن ومن العلم، ولابد من معرفة المصلحة من المفسدة؛ ولهذا يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: "ليس الفقيه أو المتبحر الذي يقول هذا حلال وهذا حرام! -ومعرفة الحلال والحرام فقه عظيم ولا يستهان به- ولكن أفقه من ذلك والفقيه الكامل هو الذي يعرف أرجح المصلحتين وأقل المفسدتين.
وكما نلاحظ في عصرنا الحاضر، فنحن اليوم في عصر غربة، انتشر فيه الفساد، وأهدرت المصالح.
فلا بد من بصيرة في أي أمر من الأمور؛ لنعرف ما هو أرجح المصلحتين، وأقل المفسدتين، فإن كان أمامك مفسدتان، ولا بد أن تقع إحداهما، فتتجاوز الكبرى وترتكب الأخف، فهذه هي البصيرة، وهذا هو الفقه الذي نريد أن يكون عليه الدعاة إلى الله وطلاب العلم جميعاً.
وهذا المنهج ليس خاصاً بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قال الله في الآية: عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] أو معناها على الوجه الآخر: أنا ومن اتبعني ندعو إلى الله على بصيرة.
فهذا أمر الله، ونحن أتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أن ندعو إلى الله على بصيرة؛ فإذا دعا داعٍ إلى غير الله أو على غير بصيرة من الله، فهذا ليس متبعاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كلام الله: أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] فإن كنت من أتباعه، فلا بد أن تقتفي أثره في الدعوة إلى الله، بأن تكون دعوتنا على بصيرة، وأن نكون على بصيرة من أمرنا في تعلم كتاب ربنا وسنة رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتفقه في الدين والصبر واليقين.
إن الله سبحانه جعل في أتباع الأنبياء الذين يدعون إلى الله صفتين؛ إذا تحققتا كان لهم الإمامة في الدين، يقول الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فبالصبر واليقين؛ تتحقق الإمامة في الدين، ويتحقق اتباع المرسلين صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين؛ فهم كانوا الغاية في الصبر، وكانوا الغاية في اليقين، وحسبكم أن تعلموا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفارقه الصبر واليقين في كل المواقف الصعبة التي مرت به (وهو طريد في الغار يطمئن صاحبه -وأثناء الهجرة يبشر سراقة بن مالك بسواري كسرى- وهو يحفر الخندق والخوف يحيط به من كل ناحية، فيضرب بالفأس ويقول: الله أكبر! الله أكبر! ويبشر أصحابه بملك كسرى وقيصر) فلم يفارقه اليقين والصبر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبداً، وكان أصحابه مثلاً في الصبر واليقين، يقتدى بهم ويسترشد بطريقتهم، وكانوا خير حواريين لخير نبي.
فباليقين وبالصبر وبالاتباع تتحق البصيرة، ونكون على المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
ثم يقول الله: وَسُبْحَانَ اللَّهِ [يوسف:108] وكلنا نقول: سبحان الله؛ إما بعد الصلاة وإما نافلة؛ فهي من أفضل الذكر ومن الكلمات التي هي خير الكلمات وأفضلها بعد القرآن، نقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ولكن أين حقيقة هذه الكلمة من قلوبنا؟! وأين تحقيق كلمة سبحان الله في حياتنا؟! فليست هي كلمة تقال باللسان فقط، فالله لم يذكرها في آية الدعوة وفي منهج الدعوة لمجرد أنها قول باللسان؛ بل هي كلمة لها مدلولها العظيم والعميق، وخاصة عندما تأتي في منهج الدعوة إلى الله.
فإن معنى الدعوة إلى الله، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حتى يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحده لا شريك له)، فكل نبي جاء ليقول لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] وكل الأنبياء جاءوا يدعون إلى التوحيد، والتوحيد هو تنـزيه الله عن أن يكون له ند أو يعدل به أحد أو يسوى به أحد، في المحبة والإجلال والخوف والرغبة والرجاء والطاعة والإنابة والخشية وجميع أنواع العبادة.
فسبحانه أن يكون له شريك، وسبحانه أن يكون له ولد، أو أن تكون له صاحبة، أو أن يكون له نظير، أو مثيل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهذه هي غاية الدعوة إلى الله! أن ننـزه الله سبحانه عن الشريك والنظير والند والمثيل.
فمعنى سبحان الله أي: أنزه الله عما لا يليق به.
فذكر التسبيح في مقام الدعوة وفي آية الدعوة أدل وأوقع ما يكون على أن الغرض من الدعوة هو أن ينـزه الله عما لا يليق به.
فلو عرفنا الله حق معرفته ما عصاه منا أحد أبداً؛ ولكن لما لم نقدر الله حق قدره، ولم نعرف الله حق معرفته؛ وقعت هذه المعاصي والذنوب وهذه المخالفات التي ضجَّت منها الأرض والسماوات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
حقيقة التنزية:
فأين تنزيه الله؟! كم من الناس من يشرك بالله ويدعو غير الله! وكم من الناس من ينبذ كتاب الله وراء ظهره، ويتحاكم إلى القوانين البشرية وإلى الطواغيت التي وضعها طواغيت البشر! وكم من الناس رفضوا سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتبعوا آراء الرجال! وكم من الناس يعصون الله جهاراً نهاراً على علم ومعرفة بأن هذا حرام!
فكل هؤلاء لم ينزهوا الله ولم يسبحوه، حتى لو كانوا ممن يقولون: (سبحان الله) ألف مرة في اليوم؛ لكنهم في الحقيقة لم ينزهوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكذلك المعترضون على أقدار الله لم ينزهوا الله؛ إن وقع القدر وكان فيه خير لأحد من المسلمين؛ اعترض بعضهم على قدر الله لأنه لم يقع له، سبحان الله! فهذا الذي يعترض على قدر الله لا ينزه الله، فيقع الخلل في القدر كما وقع الخلل في التوحيد.
وإن كان له الخير قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78] أي: باجتهادي وجهدي -كما قال قارون وأمثاله- فأين تنزيه الله سبحانه؟! فهذا ملكه وهذا خلقه! وهذا المعترض ليس له من الأمر شيء، قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فليس لأحد الحق في أن يعترض على الله؛ ولهذا يقول الله: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:159-160] فعباد الله المخلصون والمصطفون الأخيار، هم الذين ينـزهون الله، فهم الذين يرتضون حكمه الشرعي ولا يخالفونه، ويرتضون حكمه القدري، ويصبرون عليه إن كان شراً، وإن كان خيراً حمدوا الله وأثنوا عليه، وردوا الأمر والفضل كله إلى الله، وأما ما يصفه به غيرهم فليس فيه تنزيه لله.
فالدعوة التي لا يكون هدفها أن ينـزه الله وأن يعرف الله وأن يقدر الله حق قدره.. ليست دعوة صحيحة سليمة، ولا خير فيها ولن تنتج مهما كثر الأتباع وتجمع الرعاع؛ فإن هذا ليس هو الأسلوب الصحيح ولا هو ما أمر الله به من المنهج الذي يرتضيه.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المناهج | 2597 استماع |
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية | 2574 استماع |
العبر من الحروب الصليبية | 2508 استماع |
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم | 2460 استماع |
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول | 2348 استماع |
من أعمال القلوب: (الإخلاص) | 2263 استماع |
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] | 2260 استماع |
الممتاز في شرح بيان ابن باز | 2249 استماع |
خصائص أهل السنة والجماعة | 2197 استماع |
الشباب مسئولية من؟ | 2166 استماع |