(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية


الحلقة مفرغة

الحمد لله القائل في كتابه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، الذي قال: (تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) أما بعد...

فلأهمية الموضوع ولكبر الرسالة نوجز -إن شاء الله تعالى- ما أمكن، والموضوع -في الحقيقة- هو قراءة مع شرحٍ يسير من رسالة لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، ولعموم الفائدة فهذه الرسالة في مجمل اعتقاد السلف، في الجزء الثالث من الفتاوى، وهي رسالة صغيرة في حجمها، ولكنها غنية قيّمة في معناها ومضمونها.

وهي تبتدئ من (ص278) من الجزء الثالث -كما ذكرنا- والرسالة عنون لها شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله بعنوان ''قاعدة أهل السنة والجماعة والجماعة الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم الفرقة'' أو '' قاعدة أهل السنة والجماعة '' وقد يطلق عليها: ''قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة'' والمقصود أنها ليست كتاباً مفرداً له اسم مستقل، وإنما هي قاعدة كتبها شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى في شكل رسالة.

وجدير بنا في هذا الزمن أن نقرأها، ونفهمها لأسبابٍ كثيرة:

السبب الأول: أن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى إمامٌ، وعالمٌ، وداعيةٌ، ومجاهدٌ موثوق به، ولا يشك في ذلك أحد والحمد لله، وكل أهل السنة والجماعة اليوم في هذا العالم متفقون ومجمعون على جلالته وإمامته وقدره ومكانته وكلامه حجة عندهم في هذه الأمور، وفي كل الأمور والقضايا التي تعرَّض لها رحمه الله تعالى، لا لأنه يأتي بشيءٍ من عنده، ولكن لأنه يؤصل كلامه من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع السلف، ويدلل عليه.

والسبب الآخر: هو أن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله قد عاشر قضايا وأحداثاً هي أشبه ما تكون بما نعيشه نحن اليوم، فقد عاش تلك الأحداث الدامية، التي تسلط فيها التتار على الأمة الإسلامية، وسقطت الخلافة أو ضاعت هيبتها كثيراً، وهي من قبل فاقدة القيمة، وتمزقت الأمة أشتاتاً وأحزاباً وطوائف، وتناحرت من كل جهة، فكان هناك الصليبيون والتتار، وهنالك طوائف الفرق المنتسبة لهذا الدين، وهو منها براء، كـالباطنية وقد كان لـشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله مواقف عظيمة في الرد على الباطنية وغيرهم من الرافضة، وعلماء الكلام، والفلاسفة، وله في ذلك كتب مشهورة معلومة في الرد عليها.

ومن ناحيةٍ أخرى فيما يتعلق بالتعامل -وهذا أمر مهم جداً- فالوضع الذي كانت فيه الحياة الإسلامية في زمنه رحمه الله، حيث لا يوجد خليفة قوي يضبط الأمة؛ وفي المقابل وجد أمراء أو حكام ينتحلون أو يدعون الدين وهم خارجون على أحكام الشريعة، كما هو الحال في التتار الذين كانوا يحكمون بغداد، وكان هناك أمراء الجور والظلم والفساد كما كان الحال في بلاد الشام ومصر، لكن كانوا على جهادٍ لأولئك المرتدين وأشباههم.

وهناك أيضاً الطرق وضلالاتها وما تفرع عن ذلك .

فكان شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يعيش هذه الأحداث، التي هي -كما قلت- أقرب ما تكون إلى وضعنا الحالي وعصرنا الحاضر، ولذلك فالقاعدة التي كتبها رحمه الله في التعامل مع الأمة، وكيفية تعامل أهل السنة والجماعة مع الأمة، في هذه الحالة الاستثنائية قاعدة عظيمة ومهمة؛ لأننا الآن في الحالة الاستثنائية .

والحالة الأصلية والحالة الأساس:

هي أن يكون المسلمون جميعاً أهل سنة وجماعة، وأن يكونوا جماعةً واحدة في كل أمورهم كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن هذا غير الواقع في ذلك الزمن وفي هذا الزمن، فنحن -إن شاء الله- سنستعرض هذه الرسالة بإيجاز.

أهمية الاجتماع

وقد افتتح شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى رسالته بالآيات العظيمة من سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:102-106].

فهذه الآيات جعلها في مقدمة الرسالة، ليبين أن الأصل الذي يجب أن يكون عليه المسلمون هو الاجتماع لا الفرقة، والاعتصام بالكتاب والسنة لا البدعة والشذوذ والاختلاف، فهذا هو الأصل.

ثم عقب على ذلك بالأثر المنقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، قال: ''قال ابن عباس وغيره: [[تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة]]'' فبين أهمية الاجتماع، وخطر الافتراق من خلال هذه الآيات، وكيف أن هذا الاجتماع في الدنيا على الحق، يورث بياض الوجه يوم القيامة والنعيم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكيف تورث الفرقة والبدعة والشذوذ والاختلاف تلك النهاية المخزية بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهي اسوداد الوجوه.

الخوارج فرقة خارجة عن الجماعة

ثم قال رحمه الله: ''وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخوارج: {إنهم كلاب أهل النار} وقرأ هذه الآية: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]'' ثم قال: ''قال الإمام أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه'' .

وقال شَيْخ الإِسْلامِ: ''وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفةً منها'' .

فالإمام مسلم رحمه الله سرد الروايات العشر في قتال الخوارج مرتبةً ومجموعةً ليبين ضلالها وخطرها، وفعل ذلك كثير من أئمة أهل السنة والحمد لله.

والإمام البخاري رحمه الله روى بعضاً منها، يقول: ''وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية} وفي رواية: {يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان}'' .

والخوارج معلوم من السنة ومن واقع التاريخ، وقد ذكر رحمه الله الخوارج عقب ذكر الآيات الدالة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة لحكمة سيبينها.

قال: '' والخوارج هم أول من كفَّر المسلمين، يُكفّرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله'' فهذا جانب، والجانب الآخر أنها أيضاً أول بدعة، وأول فرقة حدثت في الإسلام، ومعها قرينتها الرافضة الشيعة .

وقد افتتح شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى رسالته بالآيات العظيمة من سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:102-106].

فهذه الآيات جعلها في مقدمة الرسالة، ليبين أن الأصل الذي يجب أن يكون عليه المسلمون هو الاجتماع لا الفرقة، والاعتصام بالكتاب والسنة لا البدعة والشذوذ والاختلاف، فهذا هو الأصل.

ثم عقب على ذلك بالأثر المنقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، قال: ''قال ابن عباس وغيره: [[تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة]]'' فبين أهمية الاجتماع، وخطر الافتراق من خلال هذه الآيات، وكيف أن هذا الاجتماع في الدنيا على الحق، يورث بياض الوجه يوم القيامة والنعيم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكيف تورث الفرقة والبدعة والشذوذ والاختلاف تلك النهاية المخزية بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهي اسوداد الوجوه.

ثم قال رحمه الله: ''وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخوارج: {إنهم كلاب أهل النار} وقرأ هذه الآية: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]'' ثم قال: ''قال الإمام أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه'' .

وقال شَيْخ الإِسْلامِ: ''وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفةً منها'' .

فالإمام مسلم رحمه الله سرد الروايات العشر في قتال الخوارج مرتبةً ومجموعةً ليبين ضلالها وخطرها، وفعل ذلك كثير من أئمة أهل السنة والحمد لله.

والإمام البخاري رحمه الله روى بعضاً منها، يقول: ''وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية} وفي رواية: {يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان}'' .

والخوارج معلوم من السنة ومن واقع التاريخ، وقد ذكر رحمه الله الخوارج عقب ذكر الآيات الدالة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة لحكمة سيبينها.

قال: '' والخوارج هم أول من كفَّر المسلمين، يُكفّرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله'' فهذا جانب، والجانب الآخر أنها أيضاً أول بدعة، وأول فرقة حدثت في الإسلام، ومعها قرينتها الرافضة الشيعة .

هذه الصفات نأتي بها مفصلة .

تكفير أهل البدع لمخالفهم

يقول: '' وهذه حال أهل البدع '' فيضع رحمه الله معلماً بين أهل السنة وبين أهل البدعة في التعامل، يقول: ''وهذه حال أهل البدع، يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم فيها'' فهم الذين وضعوها، ومن خالفهم فيها كفروه، ولهذا لا توجد طائفة من طوائف أهل البدع إلا وتتفرق وتتمزق إلى طوائف وفئات أخرى، لأن الذي أباح للأول أن يؤسس بدعة، ثم يجمع الناس عليها، ويوالي ويعادي فيها، قد يوجد عند رجل آخر، فيؤسس بدعةً جديدة ثم يوالي ويعادي فيها، فَلِمَ كان حقاً للأول، وليس حقاً لمن بعده؟!

ومن هنا تفرقت الرافضة فرقاً كثيرة، وتفرقت الخوارج فرقاً كثيرة، وتفرقت الصوفية إلى طرق كثيرة، وهذه هي السبل التي نهى الله تبارك وتعالى عن اتباعها.

رحمة أهل السنة بالخلق واتباعهم الحق

يقول: ''وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله'' فلا يؤسسون من عندهم أصولهم، وإنما يتبعون كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا هم في جميع العصور جماعةٌ واحدة.

بل تجدون العجب العجاب لما ظهرت فتنة الخوارج كان الإجماع ضدها في كل البلاد، وكذلك لما ظهرت فتنة الروافض، ولما ظهرت فتنة الباطنية، أو لما ظهر القول بخلق القرآن، وأهل السنة منتشرون من الأندلس إلى خراسان إلى بلاد الهند وفي بلاد فارس وأواسط آسيا، وفي هضبة الآناضول، وفي مصر، وفي أفريقيا، وكلهم كلمتهم واحدة في هذه المسألة وفي غيرها.

فاتفقوا على كلمة واحدة رغم تباعدهم وعدم تلاقي أجسادهم؛ لأن المنبع واحد، والمشرب واحد، والمعتصم به واحد، وهذا يجعلهم أمة واحدة في جميع العصور، وفي جميع المواقف.

قال: ''فيتبعون الحق ويرحمون الخلق'' فهم يتبعون الحق الذي هو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويرحمون الخلق لأن أرحم الناس بالناس هم أهل السنة والجماعة، ومن ظن أن الأمر غير ذلك فقد ظلم نفسه، حتى عندما قاتلوا الخوارج وغيرهم، فإنما قاتلوهم للقضاء على فتنتهم، ورحمةً بالأمة من شرهم، وليهتدي من يهتدي منهم .

ولهذا فإنهم عندما يقاتلون فئةً وهي خارجة -لكنها ليست خارجة عن الدين- كما فعلوا في قتال الخوارج -مثلاً- فإنهم لا يجهزون على جريح ولا يتبعون مدبراً، ولا يقطعون سبيلاً، إنما القتال هو نفسه قتال رحمة، كما سيأتي تفصيل معاملتهم -إن شاء الله- في قتال أهل البدعة، حتى وهم يقاتلون أهل البدعة، فإنهم يعاملونهم بمعاملة شرعية منصفة فيها الرحمة.

تعامل الصحابة مع بدعة الخوارج

ثم قال رحمه الله في الحديث عن بداية السبب الثاني أو التوطئة الثانية لموضوع الفرقة، قال: ''وأول بدعةٍ حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فعاقب الطائفتين، أما الخوارج فقاتلوه فقاتلهم'' وهنا لم يغز علي رضي الله عنه الخوارج ولم يبدأهم بقتال، مع أنهم اجتمعوا على هذه البدعة، وقال لأصحابه: [[دعوهم حتى يسفكوا الدم]] وقصتهم مشهورة معروفة، فلما لقوا عبد الله بن خباب رضي الله تعالى عنه أضجعوه وذبحوه، وبقروا بطن الجارية، فحينئذٍ سفكوا الدم الحرام فاستحقوا أن يقاتلوا.

أما قبل ذلك فقد كانوا يرفعون أصواتهم بالصياح في جنبات المسجد، وهو على المنبر في الكوفة رضي الله تعالى عنه يخطب، ويقولون: لا حكم إلا لله، لا حكم إلا لله، اعتراضاً على موقف التحكيم، ومع ذلك لم يعاقبهم بشيء، بل قال: [[إن لكم علينا ألا نمنعكم مساجد الله، وألا نمنعكم مال الله]] يعني: الفيء الذي هو حظهم من بيت المال؛ فيأخذونه ولا يمنعون منه، فأعطاهم هذه الحقوق، لكن قال: [[حتى يسفكوا الدم، وإنهم لفاعلون]] فلما سفكوا الدم وتجمعوا، وأمّروا أميراً عليهم، وأصبحت لهم شوكة وولاية مستقلة عن إمارة المؤمنين قاتلهم، مع أن من حقه من أول مرة أن يقتل أو أن يقاتل، ولكن حتى وهو أمير المؤمنين -وهذا حق شرعي له- لم يسر في ابتداء قتالهم ولا في معاملتهم أثناء القتال -كما أشرنا آنفاً- إلا على وفق أصول شرعية منضبطة، وهكذا يجب أن تكون المعاملة للأمة في كل شيء.

قال: ''وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار، وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يُفضِّله علىأبي بكر وعمر حد الفرية ثمانين جلدة '' لأنه افترى عندما فضّله علىأبي بكر أو عمر .

ثم قال: ''ورُوي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: [[خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر]] ورواه عنه البخاري في صحيحه '' وهذا أمرٌ معلوم عنه رضي الله تعالى عنه وعن الشيخين، ثم ذكر وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، وبيّن أن أول بدعة حدثت في الإسلام هي بدعة الخوارج وكيف كان تعامل الصحابة معهم رغم أنهم يكفرون المسلمين.

من صفات أهل السنة أنهم لا يتركون الجمع والجماعات

قال رحمه الله: ''ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات -لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم- فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صُلّي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين'' .

وهذه قاعدة عظيمة من قواعد أهل السنة في التعامل مع الأئمة، وهي أنهم لا يدعون الجمعة والجماعة، وذلك لأن هذه الشعائر العظيمة، هي دليل اجتماع المسلمين، وقوة شوكتهم، ومهابتهم تعظم وتقع في عيون أعدائهم بقدر ما تحيا هذه الشعائر، فمن أعظم العلامات الدالة على إسلام أي مدينة أو بلدة أو عدم ذلك هو اجتماع الناس في المساجد للصلاة، وللجمعة، وللجماعة.

يقول: '' وهذه حال أهل البدع '' فيضع رحمه الله معلماً بين أهل السنة وبين أهل البدعة في التعامل، يقول: ''وهذه حال أهل البدع، يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم فيها'' فهم الذين وضعوها، ومن خالفهم فيها كفروه، ولهذا لا توجد طائفة من طوائف أهل البدع إلا وتتفرق وتتمزق إلى طوائف وفئات أخرى، لأن الذي أباح للأول أن يؤسس بدعة، ثم يجمع الناس عليها، ويوالي ويعادي فيها، قد يوجد عند رجل آخر، فيؤسس بدعةً جديدة ثم يوالي ويعادي فيها، فَلِمَ كان حقاً للأول، وليس حقاً لمن بعده؟!

ومن هنا تفرقت الرافضة فرقاً كثيرة، وتفرقت الخوارج فرقاً كثيرة، وتفرقت الصوفية إلى طرق كثيرة، وهذه هي السبل التي نهى الله تبارك وتعالى عن اتباعها.

يقول: ''وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله'' فلا يؤسسون من عندهم أصولهم، وإنما يتبعون كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا هم في جميع العصور جماعةٌ واحدة.

بل تجدون العجب العجاب لما ظهرت فتنة الخوارج كان الإجماع ضدها في كل البلاد، وكذلك لما ظهرت فتنة الروافض، ولما ظهرت فتنة الباطنية، أو لما ظهر القول بخلق القرآن، وأهل السنة منتشرون من الأندلس إلى خراسان إلى بلاد الهند وفي بلاد فارس وأواسط آسيا، وفي هضبة الآناضول، وفي مصر، وفي أفريقيا، وكلهم كلمتهم واحدة في هذه المسألة وفي غيرها.

فاتفقوا على كلمة واحدة رغم تباعدهم وعدم تلاقي أجسادهم؛ لأن المنبع واحد، والمشرب واحد، والمعتصم به واحد، وهذا يجعلهم أمة واحدة في جميع العصور، وفي جميع المواقف.

قال: ''فيتبعون الحق ويرحمون الخلق'' فهم يتبعون الحق الذي هو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويرحمون الخلق لأن أرحم الناس بالناس هم أهل السنة والجماعة، ومن ظن أن الأمر غير ذلك فقد ظلم نفسه، حتى عندما قاتلوا الخوارج وغيرهم، فإنما قاتلوهم للقضاء على فتنتهم، ورحمةً بالأمة من شرهم، وليهتدي من يهتدي منهم .

ولهذا فإنهم عندما يقاتلون فئةً وهي خارجة -لكنها ليست خارجة عن الدين- كما فعلوا في قتال الخوارج -مثلاً- فإنهم لا يجهزون على جريح ولا يتبعون مدبراً، ولا يقطعون سبيلاً، إنما القتال هو نفسه قتال رحمة، كما سيأتي تفصيل معاملتهم -إن شاء الله- في قتال أهل البدعة، حتى وهم يقاتلون أهل البدعة، فإنهم يعاملونهم بمعاملة شرعية منصفة فيها الرحمة.

ثم قال رحمه الله في الحديث عن بداية السبب الثاني أو التوطئة الثانية لموضوع الفرقة، قال: ''وأول بدعةٍ حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فعاقب الطائفتين، أما الخوارج فقاتلوه فقاتلهم'' وهنا لم يغز علي رضي الله عنه الخوارج ولم يبدأهم بقتال، مع أنهم اجتمعوا على هذه البدعة، وقال لأصحابه: [[دعوهم حتى يسفكوا الدم]] وقصتهم مشهورة معروفة، فلما لقوا عبد الله بن خباب رضي الله تعالى عنه أضجعوه وذبحوه، وبقروا بطن الجارية، فحينئذٍ سفكوا الدم الحرام فاستحقوا أن يقاتلوا.

أما قبل ذلك فقد كانوا يرفعون أصواتهم بالصياح في جنبات المسجد، وهو على المنبر في الكوفة رضي الله تعالى عنه يخطب، ويقولون: لا حكم إلا لله، لا حكم إلا لله، اعتراضاً على موقف التحكيم، ومع ذلك لم يعاقبهم بشيء، بل قال: [[إن لكم علينا ألا نمنعكم مساجد الله، وألا نمنعكم مال الله]] يعني: الفيء الذي هو حظهم من بيت المال؛ فيأخذونه ولا يمنعون منه، فأعطاهم هذه الحقوق، لكن قال: [[حتى يسفكوا الدم، وإنهم لفاعلون]] فلما سفكوا الدم وتجمعوا، وأمّروا أميراً عليهم، وأصبحت لهم شوكة وولاية مستقلة عن إمارة المؤمنين قاتلهم، مع أن من حقه من أول مرة أن يقتل أو أن يقاتل، ولكن حتى وهو أمير المؤمنين -وهذا حق شرعي له- لم يسر في ابتداء قتالهم ولا في معاملتهم أثناء القتال -كما أشرنا آنفاً- إلا على وفق أصول شرعية منضبطة، وهكذا يجب أن تكون المعاملة للأمة في كل شيء.

قال: ''وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار، وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يُفضِّله علىأبي بكر وعمر حد الفرية ثمانين جلدة '' لأنه افترى عندما فضّله علىأبي بكر أو عمر .

ثم قال: ''ورُوي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: [[خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر]] ورواه عنه البخاري في صحيحه '' وهذا أمرٌ معلوم عنه رضي الله تعالى عنه وعن الشيخين، ثم ذكر وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، وبيّن أن أول بدعة حدثت في الإسلام هي بدعة الخوارج وكيف كان تعامل الصحابة معهم رغم أنهم يكفرون المسلمين.

قال رحمه الله: ''ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات -لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم- فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صُلّي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين'' .

وهذه قاعدة عظيمة من قواعد أهل السنة في التعامل مع الأئمة، وهي أنهم لا يدعون الجمعة والجماعة، وذلك لأن هذه الشعائر العظيمة، هي دليل اجتماع المسلمين، وقوة شوكتهم، ومهابتهم تعظم وتقع في عيون أعدائهم بقدر ما تحيا هذه الشعائر، فمن أعظم العلامات الدالة على إسلام أي مدينة أو بلدة أو عدم ذلك هو اجتماع الناس في المساجد للصلاة، وللجمعة، وللجماعة.

وما سبق تقديم بين يدي موضوع معاملة الأئمة في الصلاة، وما يتعلق بالصلاة خلف مجهول الحال أو المستور، أو خلف المبتدع وما يتعلق بذلك من أحكام، فقدم له -أيضاً- بتقدمة تدل على فقهه وحكمته رحمه الله، وهي أن الفرقة أو الطائفة التي عندها هذا أصل وهو عدم حضور الجمعة والجماعات هي الرافضة، وليس أحد من أهل السنة يرضى أن يشابههم، أو أن ينتسب إليهم، أو أن يكون مثلهم في أي شيء .

وهؤلاء الرافضة -بمناسبة ذكرهم- شبهتهم في ترك الجمعة والجماعات، أن هذه العبادات لا تصح إلا خلف الإمام الحق الوصي، ولما كان الأئمة موجودين كانوا مستضعفين، ولم يكونوا حاكمين ولا ظاهرين، فمن بعد الحسن رضي الله تعالى عنه ما بقي لهم إمام ظاهر موجود، يحكم الأمة، فلما اختفى الإمام في السرداب ولم يوجد للأمة إمام إذاً تترك الأمة الجمعة والجماعة والأعياد حتى يظهر الإمام، فربطوا هذه العبادات -كشأنهم في أكثر عباداتهم- بوجود الإمام المعصوم، الذي هو الوصي الذي تم اختياره وترشيحه، أو خلافته، وإمامته من الله -كما يزعمون- ولهذا فصلاة الجمعة عند الرافضة إنما استحبها بعض أئمتهم، وقال بعضهم: إنما تصلي من أجل المصلحة حتى يجتمع الناس فقط، ولكن لا يدينون الله تعالى بها على أنها فرض عين، كما يفعل أهل السنة والجماعة.

الصلاة خلف المستور

والمقصود بقوله: '' فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة، ولا فجور، صُلِّي خلفه باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين''.

ثم أوضح ذلك فقال: ''ولم يقل أحدٌ من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره'' أما الخوارج فإنهم كانوا يمتحنون الناس حتى إنهم يتلقونهم في الطرقات، فإذا لقوا أحداً امتحنوه: ما تقول في كذا؟ ما تقول في كذا؟ فإن أعلن الولاء والبراء على حسب عقيدتهم وإلا قتل أو عوقب بأي عقاب.

ولما سيطرت المعتزلة أيضاً في دولة المأمون كانوا يمتحنون الناس؛ فامتحنوا العلماء والقضاة بل والعامة، حتى كانوا لا يعقدون لرجل على امرأة، إلا إذا أقر بأن القرآن مخلوق!! وهذا امتحان .

فهذا ليس من أصول أهل السنة والجماعة على الإطلاق، وكما قال رحمه الله: أنه لم يقل أحد من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره بحيث إنك تعلم أنه من أهل السنة في الباطن، بل هذا خلاف القاعدة، والأصل هو أن من كان من أهل السنة في الظاهر فهو منهم في الباطن، ولم نؤمر بأن نشق عن قلوب الناس.

الصلاة خلف المبتدع

يقول: ''بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي -الإمام- بدعة أو فجور، وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره'' هنا العبارة مرتبكة، والمقصود منها أنه إذا كان هناك إمام يظهر منه بدعة وفجور، وأمكن للمأموم أن يؤدي الصلاة خلف غيره: '' فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم'' أي: إذا كان الإمام مبتدعاً أو فاسقاً أو ظهر منه فجور، وأنت في بلد السنة فيه ظاهرة فتستطيع أن تدع هذا المبتدع وتصلي خلف السني، أو تدع هذا الفاجر وتصلي خلف التقي -وكل ذلك بالظاهر، والسرائر توكل وترجع إلى الله- فحكم الإنسان الذي يتهاون في هذا الأمر ويصلي خلف هذا المبتدع أو خلف هذا الفاجر أن صلاته صحيحة عند أكثر أهل العلم.

وكلامنا هنا هو في صحة الصلاة أو بطلانها، وليس في مسألة الوقوع في الإثم، فإن الذي يترك الصلاة خلف التقي أو السني مع إمكانها فإنه آثم، ولم يذكره لأنه معلوم، ولذا نقول له: لا تصل خلف المبتدع، أما ما وقع فهو صحيح مع إثمه، لتفريطه في ترك الصلاة خلف من يمكن أن يصلي خلفه ممن هو بريء من هذا.

ثم يقول: ''هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وأما -وهذه الحالة الأخرى- إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى'' هذا لو كان في بلد وليس فيه إلا جمعة واحدة والإمام فاجر أو مبتدع، قال: ''فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة '' فلا يتركها، بل يصلي خلفه، ولا تعني الصلاة خلفه الثناء عليه، بل لا تعني إقراره، بل لا تعني عدم المطالبة بتغييره، لكن المقصود الآن هو: هل يترك الجمعة والجماعة أم يصلي خلفه؟ ومع ذلك فيجب على أهل السنة أن يغيروا هذه البدعة، وأن يغيروا هذا المنكر، وأن يتعاونوا على إزالته ما أمكن، وسوف نفصل -إن شاء الله- أنواع البلاد عندما نتحدث بعد قليل.

ثم يقول: ''وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد ومالك وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم، وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب ألا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله، ولم يقل أحمد إنه لا تصح الصلاة إلا خلف من أعرف حاله'' .

فمثلاً: هناك إنسان تعرفه أنه من أهل السنة، وآخر تعرف حاله أنه من أهل البدعة، وهناك إنسان مستور لا تعرف حاله، لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة.

فهذا المستور قلنا: بالاتفاق تصح الصلاة خلفه، وأيضاً من يعلم أنه من أهل السنة فبالاتفاق تصح الصلاة خلفه، بل على استحباب أو وجوب ذلك، بحسب الظروف والأحوال، أما هذا الذي يعرف أنه مبتدع، فهذا الذي فيه التفصيل:

فالإمام أحمد رحمه الله استحب لمن سأله ألا يصلي إلا خلف من يعرف حاله، ولكن هذا في حالة كثرة الأهواء والضلالات، فهو يحثه على أن يتحرى في ذلك، وهذه المسألة منقولة عن الإمام أحمد رحمه الله على سبيل الاستحباب، ومعنى ذلك أن الصلاة لا تبطل.

مذهب المرازقة

وهنا نأتي إلى قضية تاريخية، وهو أن بعض الناس كانوا يرون أن الصلاة لا تصح، وهي الطائفة المسماة بـالمرازقة، وهي في الحقيقة فرقة صوفية، لكن كانت قريبة إلى السنة، وهم أتباع أبي عمرو بن مرزوق، وهذه الطائفة لها ذكر في التأريخ، حيث كان أبو عمرو عثمان بن مرزوق من الدعاة، ومربٍ من المربين، جمع حوله أتباعاً كثيرين، وكان يعيش في ظل الدولة الباطنية التي تسمى الفاطمية -على كفرها وضلالها- فكان لا بد للدعاة والعلماء أن يجمعوا الناس حولهم، ليبقى لـأهل السنة وجود وشوكة وقوة، فوجد مثل هؤلاء الدعاة الذي جمعوا حولهم بعض الأتباع، ومنهم أبو عمرو عثمان بن مرزوق وكان مشهوراً بالصلاح والعبادة عند الناس، فاجتمع حوله كثير من الناس، على ما في منهجه من خلل وتصوف.

والمهم أنهم اجتمعوا فكأن أبا عمرو بن مرزوق استند إلى ما نقل عن الإمام أحمد في هذا الشأن، وهو التحري خلف من يصلى خلفه، فرأى أنهم يعيشون في ظل دولة باطنية زنادقة ملاحدة، فماذا حصل؟

يقول: ''ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر، وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع؛ وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع، وظهرت في الديار المصرية، أمر أصحابه ألا يصلوا إلا خلف من يعرفونه'' .

فقال لهم: انتبهوا، هؤلاء باطنية، وأئمتهم باطنية.

وكانوا -عياذاً بالله- يقولون: من لعن وسب؛ فله كيلة وإردب، أي أنهم كانوا يتعبدون بشتم ولعن الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وكانوا من فوق المنابر يلعنون، فقالوا: كيف نصلي خلف إمام يلعن أبا بكر وعمر؟! مع أنه قد لا يلعنهم أو قد يلعنهم تقية لأن الدولة فرضت ذلك عليهم، وهذه من الفتن -نعوذ بالله- كما يقولون: فتنة عمياء، فقال لهم: لا تصلوا إلا خلف من تعرفون عقيدته، وأنه بريء من هذه البدعة، ومن هذه الضلالات.

يقول: شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: ''ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للـرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر'' .

لكن مع ذلك بقيت طائفة المرازقة على القاعدة أيام الشيخ .

وهذه مشكلة كثير من الدعوات الإسلامية مع الأسف الشديد، فما يؤصله الشيخ يبقون عليه، مع أنه قد تغيرت الأحوال وتطورت من خير إلى شر، أو من شر إلى خير، فـالمرازقة بقوا على كلام الشيخ أنهم لا يصلون حتى يعرفوا عقيدة من يصلون خلفه، بل قد يمتحنونه: ما رأيك في الصفات؟ وما رأيك في القدر؟ وما رأيك في الشيخ أبي عمرو بن مرزوق؟ وما رأيك في كذا؟ حتى يتأكدوا أن عقيدته موافقة لعقيدتهم، وسلوكه موافق لسلوكهم؛ فيصلون خلفه، فصارت بدعة منسوبة إلى السنة وإلى الإمام أحمد.

فـشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقول: الحال اختلف، فقد كان الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق أيام غلبة الباطنية الملاحدة، فلما ذهبت دولتهم وجاءت دولة السنة أيام صلاح الدين وألغى لعن الشيخين وسبهما، وظهرت شعائر السنة، انتفى ذلك الأمر، فلم يعد لهم مبرر.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2595 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2505 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2457 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2345 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2261 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2253 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2247 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2196 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2164 استماع
الشرك قديماً وحديثاً 2129 استماع