شرح أخصر المختصرات [22]


الحلقة مفرغة

قرأنا في صفة الحج متى يحرم المحلون بالحج، وحكم المبيت بمنى ليلة عرفة، ومتى يذهبون إلى عرفة، وبيان الموقف في عرفة، وكيف يصلون الظهرين، وبيان وقت الوقوف بعرفة، ومتى يدفعون إلى مزدلفة، وكيف يكون الدفع، وكيف تصلى المغرب والعشاء هناك، وما المراد بالمشعر الحرام، وماذا يفعل عنده، ومتى يدفع إلى منى، وماذا يفعل الحاج إذا بلغ محسراً، ومن أين يأخذ حصى الجمار، ومقدار الحصى، وكيف يرمي، وماذا يدعو به عند الرمي، وأعمال يوم النحر، وكيف يرتبها، ومقدار ما تأخذه المرأة من الشعر تقصيراً، وبيان التحلل الأول، ومتى يفيض الحاج إلى مكة، واستحباب الشرب من ماء زمزم والدعاء، وحكم المبيت بمنى ليالي منى، وكيف يرمي الجمرات، ومتى ينفر من تعجل في يومين، وحكم من غربت عليه الشمس في اليوم الثاني عشر قبل أن ينفر من منى، وحكم طواف الوداع، ومشروعية الوقوف بالملتزم، وما تفعل الحائض والنفساء التي سقط عنها طواف الوداع، وحكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، وبينا أن الزيارة تكون للمسجد لا للقبر، وأن السلام يكون بعد أداء صلاة تحية المسجد، وذكرنا صفة العمرة، ومن أين يحرم بها إذا كان من أهل مكة، ومتى يتحلل من العمرة.

وقد أكثر العلماء قديماً وحديثاً من الكتابة حول مناسك الحج، وبينوا ماذا يفعل الحاج في هذه المشاعر، ولا شك أن فيها شيئاً من الاختلاف بين العلماء، ولكن لكل اجتهاده، وأصح الأقوال ما وافق الدليل، والأدلة واضحة، والسنة محفوظة قولاً وفعلاً، والاختلافات التي وقعت بين الصحابة ومن بعدهم فيها مجال للاجتهاد.

فمن الاختلافات: الاختلاف في أي الأنساك أفضل؟

فالإمام أحمد يختار أن أفضل الأنساك التمتع؛ لأنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم.

والإمام مالك يختار القران.

والشافعي يختار الإفراد، وفي رواية عنه القران.

وسبب ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا، فـابن عباس يرى التمتع ويلزم الحاج به، حتى إنه يقول: من طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، فقد حل شاء أم أبى، فهو يوجب التمتع، حتى على من أحرم مفرداً،

ويسمى هذا فسخ الحج إلى العمرة، واختلفوا في حكمه: هل يجوز إذا أحرم بحج أن يفسخه ويجعله عمرة؟

في ذلك خلاف كبير، وسبب ذلك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر سبعة عشر صحابياً بالتحلل وقد كانوا مفردين، حيث لم يكن معهم هدي، وامتنع الذين معهم الهدي أن يتحللوا، فلذلك رجح بعض العلماء الفسخ، بل بعضهم يلزم به، ومنهم ابن القيم في زاد المعاد، فإنه لما ساق الأحاديث التي في الأمر بالفسخ قال: ليس لأحد عذر في تركها؛ فإنها صريحة في الأمر بالفسخ، ومع ذلك فالمسألة محتملة للأقوال، وذلك لأن أكابر الصحابة كـأبي بكر وعمر وعثمان كانوا يلزمون الناس بالإفراد، وكان عمر ينهى عن التمتع، ويأمرهم بأن يعتمروا في سفر مستقل؛ خوفاً من تعطل الحرم من الطائفين، هكذا اعتذروا عنه؛ فإنه لا يخفى عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يتحللوا،ولكن مع ذلك يقول: إذا أمرناهم بالعمرة في هذا السفر سافروا سفراً واحداً، وقضوا فيه حجاً وعمرة، واكتفوا بهذا السفر عن سفر آخر للعمرة، وتعطل البيت بقية السنة، فإذا منعوا فإنهم يقتصرون على الحج في سفرتهم، ويأتي بعضهم في شهر صفر للعمرة، وبعضهم في شهر ربيع، وبعضهم في جمادى، وبعضهم في رجب، وبعضهم في رمضان، فيبقى البيت الحرام معموراً بالزوار، هذا عذره.

ولكن إذا ثبت الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مقدم على قول كل أحد، فـابن عباس رضي الله عنهما يرى أن من أتى البيت فطاف به وسعى فقد حل، ولو لم ينوِ التحلل، فاحتجوا عليه بأن أبا بكر وعمر ينهون عن التمتع، وينهون عن العمرة مع الحج، فاشتهر عنه أنه قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر !) بمعنى: أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة على قول كل أحد.

وهناك خلافات أخرى في كثير من المناسك، ولكن إذا اتضح الدليل فالمسلم يتبع الدليل مع من كان، ولا يتعصب لمذهب من المذاهب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل

أركان الحج أربعة: إحرام، ووقوف، وطواف، وسعي.

وواجباته سبعة: إحرام مار على ميقات منه، ووقوف إلى الليل إن وقف نهاراً، ومبيت بمزدلفة إلى بعد نصفه إن وافاها قبله، وبمنى لياليها، والرمي مرتباً، وحلق أو تقصير، وطواف وداع.

وأركان العمرة ثلاثة: إحرام، وطواف، وسعي.

وواجبها اثنان: الإحرام من الحل، والحلق أو التقصير.

ومن فاته الوقوف فاته الحج وتحلل بعمرة، وهي إن لم يكن اشترط، ومن منع البيت أهدى ثم حل، فإن فقده صام عشرة أيام، ومن صد عن عرفة تحلل بعمرة ولا دم.

فصل: والأضحية سنة يكره تركها لقادر، ووقت الذبح بعد صلاة عيد أو قدرها إلى آخر ثاني التشريق، ولا يعطى جازر أجرته منها، ولا يباع جلدها ولا شيء منها، بل ينتفع به.

وأفضل هدي وأضحية إبل، ثم بقر، ثم غنم، ولا يجزئ إلا جذع ضأن أو ثني غيره، فثني إبل ما له خمس سنين، وبقر سنتان، وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة، ولا تجزئ هزيلة، وبينة عور أو عرج، ولا ذاهبة الثنايا أو أكثر أذنها أو قرنها.

والسنة نحر إبل قائمة معقولة يدها اليسرى، وذبح غيرها، ويقول: (باسم الله، اللهم هذا منك ولك). وسن أن يأكل ويهدي ويتصدق أثلاثاً مطلقاً، والحلق بعدها، وإن أكلها إلا أوقية جاز، وحرم على مريدها أخذ شيء من شعره وظفره وبشرته في العشر.

وتسن العقيقة، وهي عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، تذبح يوم السابع، فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين، ثم لا تعتبر الأسابيع، وحكمها كأضحية].

هكذا لخص الفقهاء باب الحج، وقسموه إلى ثلاثة أقسام: أركان، وواجبات، وسنن.

الأركان جمع ركن، وركن الشيء: جانبه الأقوى الذي لا يتم إلا به، أو ركن الشيء جزء ماهيته -أي: البعض منه- وباجتماع الأركان تتم الماهية، وأركان الحج أربعة: الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي.

الإحرام

الإحرام ركن بلا خلاف؛ وذلك لأنه نية النسك، وليس الإحرام هو اللباس، بل الإحرام هو النية، يعني: أن ينوي بقلبه الدخول في النسك، ثم بعد دخوله فيه يشعر بأنها حرمت عليه المحظورات، وأنه تلبس بهذه العبادة، فهو مثل الإحرام بالصلاة، ومعلوم أنه إذا أحرم بالصلاة حرم عليه الالتفات، وحرمت عليه الحركة والمشي، وحرم عليه الأكل والشرب، وحرم عليه الضحك، وحرم عليه الانصراف عن القبلة وأشباه ذلك، فكذلك نقول: إذا دخل في النسك -أي: في الحج أو العمرة- فإنها تحرم عليه هذه المحظورات، فيحرم عليه تغطية الرأس، ولبس المخيط، والتطيب، وقص الشعر، وتقليم الأظافر... إلخ، فالإحرام هو النسك، وهو أن يعزم بقلبه أنه دخل في الإحرام.

وقد تقدم جواز الإحرام قبل أن يأتي الميقات، وذكرنا أنه إذا أحرم بالحج قبل أن تدخل أشهره -كما لو أحرم في آخر رمضان بالحج، وبقي محرماً إلى يوم النحر- فإن ذلك جائز مع الكراهة.

والصحيح أنه ينعقد الإحرام قبل الميقات، وقد روي أن عبد الله بن معمر لما انتصر المسلمون في وقعة نهاوند نذر أن يحرم منها إلى مكة، فعقد الإحرام من خراسان، وجاء محرماً مسيرة أكثر من شهر، إلى أن حل إحرامه بالعمرة بعدما تحلل، وكان ذلك في عهد عثمان ، ولكن عثمان لامه لأنه شق على نفسه، وغيره كثير من الذين أحرموا قبل الميقات بمدة، وقد تقدم قول بعضهم: يحرم من دويرة أهله إن كان دون الميقات، لكن قد روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] قال: (إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك) وظاهره أنه يحرم من حين يخرج من بيته مسافراً، ولكن ابن عباس ومن قال بهذا أرادوا أن تنشئ لهما سفراً، وأن يكون سفرك من بيتك إلى الحرم لأجل الحج أو لأجل العمرة، فهذا هو الذي يكون أجره كاملاً، وأما الذي يسافر لغرض ثم يعتمر في طريقه، فهو وإن كانت عمرته مجزئة لكنها أنقص أجراً ممن لم يسافر إلا للعمرة، فالذين يسافرون لغرض كتجارة أو زيارة أو احتفال، أو لحضور مناسبة في مكة أو في جدة أو في الطائف، ثم يقولون: إذا وصلنا ذلك المكان نأخذ عمرة، نقول: عمرتهم مجزئة؛ ولكن ليست مثل عمرة الذي ما حمله على السفر إلا أداء العمرة، فهذا عمرته أكثر أجراً.

الوقوف بعرفة

الوقوف بعرفة ركن، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) وذلك لأن الحجاج يجتمعون في عرفة يوم عرفة، فالذين يفوتهم الوقوف بعرفة يفوتهم الحج، وآخره إذا طلع الفجر يوم النحر، فإذا طلع الفجر فقد فات وقت الوقوف، فمن جاء بعد ذلك فقد فاته الحج.

الطواف

الطواف ركن بلا خلاف، ودليله قول الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] والمراد: طواف الإفاضة، ويسمى طواف الزيارة، فهذا ركن.

وأما طواف القدوم فإنه سنة في حق المفرد والقارن، فيسن لهما إذا قدما، وذلك الطواف يعتبر تحية المسجد أو تحية مكة.

السعي بين الصفا والمروة

السعي بين الصفا والمروة فيه خلاف: هل هو ركن أو واجب، أو سنة؟

اختار الإمام أحمد في المشهور عنه أنه ركن، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلمِ: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) (كتبه) يعني: فرضه، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الذين قالوا: إنه واجب: إن الله تعالى نفى الجناح عمن لم يفعله، ونفي الجناح لا يدل على الركنية، وذلك في قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] وقد استشكل هذه الآية عروة رحمه الله، فقال لـعائشة : ما أرى السعي واجباً؛ لأن الله قال: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ) أي: فلا حرج عليه إذا تطوف بينهما، فكأن التقدير: لا حرج عليك إذا تطوفت، فلم يكن فيها أمر بالتطوف، وأجابت عائشة بقولها: لو كان ذلك كذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما.

وأيضاً استدل على الركنية بأن الله تعالى جعل الصفا والمروة من شعائر الله، والشعائر هي المعالم التي لها أعمال، أي: التي لها أعمال تختص بها، فكل مشعر من المشاعر له عبادة تخصه، فإن المشاعر والشعائر تنقسم إلى أقسام، فنقول -مثلاً-: عرفة مشعر من مشاعر الحج، ولكنه ليس بحرم، ومنى ومزدلفة مشعران وحرمان، ووادي محسر حرم وليس بمشعر، وادي عُرَنَةَ ليس حرماً ولا مشعراً، فهذه المشاعر لكل مشعر منها عبادة، فمشعر عرفة له عبادة، ومشعر مزدلفة له عبادة، ومشعر منى له عبادة، فكذلك مشعر الصفا والمروة لها عبادة، وعبادتها السعي بينهما.

والحكمة في السعي إحياء ما فعلته أم إسماعيل، فإنها لما نفد عليها الماء رقت على الصفا ونظرت، ثم سعت ووصلت إلى المروة، ثم نظرت.. وهكذا حتى تمت سبعة أشواط، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلأجل ذلك شرع السعي بينهما سبعة أشواط) .

وأما نفي الحرج في الآية فسببه: أن المشركين كانوا قد جعلوا صنمين على الصفا والمروة، صنم على الصفا يقال له: إساف، وعلى المروة صنم يقال لها: نائلة، فكانوا يطوفون ويتمسحون بهذين الصنمين، فلما أسلم المسلمون ظنوا أن الطواف بهما كان لأجل هذين الصنمين، فبين الله أنهما مشعران، والمشعر لابد له من عبادة، فعبادتهما هو هذا السعي، وهو عبادة لما فيه من الامتثال، ولما فيه من هذا التعب ونحوه.

هذه أدلة من يرى أن السعي ركن.

ومن يقول: السعي واجب يستدل بأن الله تعالى رفع الحرج بقوله: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ويقول: هذا لا يدل على الركنية، وإنما يدل على الوجوب، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وهو أنه واجب من الواجبات التي تجبر بدم.

ونحن نفتي من أحرم فنقول: يجب عليك ويلزمك أن تسعى، ثم إذا قدر أنه ترك السعي عجزاً أو ترك بعضه، ثم تحلل وخرج، وصعب عليه الرجوع، وفعل المحظورات؛ تساهلنا معه، وأفتيناه بأن السعي واجب، يجبر بدم؛ لمشقة الرجوع.

كثيراً ما ترد أسئلة، فيها أن أناساً سعى بعضهم أربعة أشواط ثم عجز وتحلل، أو سعى ثلاثة أشواط أو خمسة أشواط ثم عجز وتحلل ورجع إلى أهله، فمثل هذا نقول: إنه قد ألغى إحرامه، وقد فعل المحظورات، ولبس المخيط وتطيب، ووطئ أهله، وفعل كل المحظورات، فكيف نلزمه مع ذلك ونقول: ارجع لأجل أن تكمل عمرتك، وعليك فدية عن اللبس وتغطية الرأس وعن الطيب والتقليم وما أشبه ذلك؟! في ذلك شيء من المشقة، وكثيراً ما يحصل أنه يتزوج بعدما يرجع، أو تتزوج المرأة بعد أن ترجع، وربما ولد لهما أولاد، فلو قلنا: هذا عقد باطل، والأولاد ليسوا على ولادة صحيحة، ففي ذلك شيء من المشقة، فلذلك نتساهل ونقول لمن تساهل وترك السعي: اجعله كأنه من الواجبات التي تجبر بدم، وأما قبل أن يقع فإننا نلزمه بإتمامه.

الإحرام ركن بلا خلاف؛ وذلك لأنه نية النسك، وليس الإحرام هو اللباس، بل الإحرام هو النية، يعني: أن ينوي بقلبه الدخول في النسك، ثم بعد دخوله فيه يشعر بأنها حرمت عليه المحظورات، وأنه تلبس بهذه العبادة، فهو مثل الإحرام بالصلاة، ومعلوم أنه إذا أحرم بالصلاة حرم عليه الالتفات، وحرمت عليه الحركة والمشي، وحرم عليه الأكل والشرب، وحرم عليه الضحك، وحرم عليه الانصراف عن القبلة وأشباه ذلك، فكذلك نقول: إذا دخل في النسك -أي: في الحج أو العمرة- فإنها تحرم عليه هذه المحظورات، فيحرم عليه تغطية الرأس، ولبس المخيط، والتطيب، وقص الشعر، وتقليم الأظافر... إلخ، فالإحرام هو النسك، وهو أن يعزم بقلبه أنه دخل في الإحرام.

وقد تقدم جواز الإحرام قبل أن يأتي الميقات، وذكرنا أنه إذا أحرم بالحج قبل أن تدخل أشهره -كما لو أحرم في آخر رمضان بالحج، وبقي محرماً إلى يوم النحر- فإن ذلك جائز مع الكراهة.

والصحيح أنه ينعقد الإحرام قبل الميقات، وقد روي أن عبد الله بن معمر لما انتصر المسلمون في وقعة نهاوند نذر أن يحرم منها إلى مكة، فعقد الإحرام من خراسان، وجاء محرماً مسيرة أكثر من شهر، إلى أن حل إحرامه بالعمرة بعدما تحلل، وكان ذلك في عهد عثمان ، ولكن عثمان لامه لأنه شق على نفسه، وغيره كثير من الذين أحرموا قبل الميقات بمدة، وقد تقدم قول بعضهم: يحرم من دويرة أهله إن كان دون الميقات، لكن قد روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] قال: (إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك) وظاهره أنه يحرم من حين يخرج من بيته مسافراً، ولكن ابن عباس ومن قال بهذا أرادوا أن تنشئ لهما سفراً، وأن يكون سفرك من بيتك إلى الحرم لأجل الحج أو لأجل العمرة، فهذا هو الذي يكون أجره كاملاً، وأما الذي يسافر لغرض ثم يعتمر في طريقه، فهو وإن كانت عمرته مجزئة لكنها أنقص أجراً ممن لم يسافر إلا للعمرة، فالذين يسافرون لغرض كتجارة أو زيارة أو احتفال، أو لحضور مناسبة في مكة أو في جدة أو في الطائف، ثم يقولون: إذا وصلنا ذلك المكان نأخذ عمرة، نقول: عمرتهم مجزئة؛ ولكن ليست مثل عمرة الذي ما حمله على السفر إلا أداء العمرة، فهذا عمرته أكثر أجراً.

الوقوف بعرفة ركن، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) وذلك لأن الحجاج يجتمعون في عرفة يوم عرفة، فالذين يفوتهم الوقوف بعرفة يفوتهم الحج، وآخره إذا طلع الفجر يوم النحر، فإذا طلع الفجر فقد فات وقت الوقوف، فمن جاء بعد ذلك فقد فاته الحج.

الطواف ركن بلا خلاف، ودليله قول الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] والمراد: طواف الإفاضة، ويسمى طواف الزيارة، فهذا ركن.

وأما طواف القدوم فإنه سنة في حق المفرد والقارن، فيسن لهما إذا قدما، وذلك الطواف يعتبر تحية المسجد أو تحية مكة.

السعي بين الصفا والمروة فيه خلاف: هل هو ركن أو واجب، أو سنة؟

اختار الإمام أحمد في المشهور عنه أنه ركن، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلمِ: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) (كتبه) يعني: فرضه، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الذين قالوا: إنه واجب: إن الله تعالى نفى الجناح عمن لم يفعله، ونفي الجناح لا يدل على الركنية، وذلك في قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] وقد استشكل هذه الآية عروة رحمه الله، فقال لـعائشة : ما أرى السعي واجباً؛ لأن الله قال: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ) أي: فلا حرج عليه إذا تطوف بينهما، فكأن التقدير: لا حرج عليك إذا تطوفت، فلم يكن فيها أمر بالتطوف، وأجابت عائشة بقولها: لو كان ذلك كذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما.

وأيضاً استدل على الركنية بأن الله تعالى جعل الصفا والمروة من شعائر الله، والشعائر هي المعالم التي لها أعمال، أي: التي لها أعمال تختص بها، فكل مشعر من المشاعر له عبادة تخصه، فإن المشاعر والشعائر تنقسم إلى أقسام، فنقول -مثلاً-: عرفة مشعر من مشاعر الحج، ولكنه ليس بحرم، ومنى ومزدلفة مشعران وحرمان، ووادي محسر حرم وليس بمشعر، وادي عُرَنَةَ ليس حرماً ولا مشعراً، فهذه المشاعر لكل مشعر منها عبادة، فمشعر عرفة له عبادة، ومشعر مزدلفة له عبادة، ومشعر منى له عبادة، فكذلك مشعر الصفا والمروة لها عبادة، وعبادتها السعي بينهما.

والحكمة في السعي إحياء ما فعلته أم إسماعيل، فإنها لما نفد عليها الماء رقت على الصفا ونظرت، ثم سعت ووصلت إلى المروة، ثم نظرت.. وهكذا حتى تمت سبعة أشواط، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلأجل ذلك شرع السعي بينهما سبعة أشواط) .

وأما نفي الحرج في الآية فسببه: أن المشركين كانوا قد جعلوا صنمين على الصفا والمروة، صنم على الصفا يقال له: إساف، وعلى المروة صنم يقال لها: نائلة، فكانوا يطوفون ويتمسحون بهذين الصنمين، فلما أسلم المسلمون ظنوا أن الطواف بهما كان لأجل هذين الصنمين، فبين الله أنهما مشعران، والمشعر لابد له من عبادة، فعبادتهما هو هذا السعي، وهو عبادة لما فيه من الامتثال، ولما فيه من هذا التعب ونحوه.

هذه أدلة من يرى أن السعي ركن.

ومن يقول: السعي واجب يستدل بأن الله تعالى رفع الحرج بقوله: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ويقول: هذا لا يدل على الركنية، وإنما يدل على الوجوب، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وهو أنه واجب من الواجبات التي تجبر بدم.

ونحن نفتي من أحرم فنقول: يجب عليك ويلزمك أن تسعى، ثم إذا قدر أنه ترك السعي عجزاً أو ترك بعضه، ثم تحلل وخرج، وصعب عليه الرجوع، وفعل المحظورات؛ تساهلنا معه، وأفتيناه بأن السعي واجب، يجبر بدم؛ لمشقة الرجوع.

كثيراً ما ترد أسئلة، فيها أن أناساً سعى بعضهم أربعة أشواط ثم عجز وتحلل، أو سعى ثلاثة أشواط أو خمسة أشواط ثم عجز وتحلل ورجع إلى أهله، فمثل هذا نقول: إنه قد ألغى إحرامه، وقد فعل المحظورات، ولبس المخيط وتطيب، ووطئ أهله، وفعل كل المحظورات، فكيف نلزمه مع ذلك ونقول: ارجع لأجل أن تكمل عمرتك، وعليك فدية عن اللبس وتغطية الرأس وعن الطيب والتقليم وما أشبه ذلك؟! في ذلك شيء من المشقة، وكثيراً ما يحصل أنه يتزوج بعدما يرجع، أو تتزوج المرأة بعد أن ترجع، وربما ولد لهما أولاد، فلو قلنا: هذا عقد باطل، والأولاد ليسوا على ولادة صحيحة، ففي ذلك شيء من المشقة، فلذلك نتساهل ونقول لمن تساهل وترك السعي: اجعله كأنه من الواجبات التي تجبر بدم، وأما قبل أن يقع فإننا نلزمه بإتمامه.

الإحرام من الميقات

واجبات الحج سبعة:

الواجب الأول: الإحرام من الميقات.

إذا مر على الميقات وجب عليه أن يحرم منه، فإذا جاوز الميقات وأحرم بعدما جاوزه فعليه دم؛ لأنه ترك الإحرام من الميقات.

وكثيراً ما يقع السؤال عن الذين يذهبون إلى جدة، ثم يحرمون منها، فهؤلاء عليهم دم؛ حيث إنهم تجاوزوا الميقات، سواء كان سفرهم براً أو جواً، فيلزمهم أن يحرموا من الميقات، فيحرم -مثلاً- في الطائرة من الميقات، ولو تقدمه بخمس أو عشر دقائق جاز، ويحرم من كان في سيارة إذا مر بالميقات، وإذا قدر أنه تجاوز الميقات ووصل إلى جدة، ثم أراد أن يحرم؛ لزمه أن يرجع حتى يحرم من الميقات، فمن لم يرجع وأحرم بعدما جاوز الميقات فعليه دم، ولا يفيده رجوعه بعد الإحرام، فلو وصل -مثلاً- إلى الزيمة، ثم أحرم منها، ورجع بعد ما أحرم إلى السيل ما سقط عنه الدم، أما إذا رجع قبل أن يحرم فإن عليه أن يحرم من الميقات ولا دم عليه، وهكذا إذا وصلوا إلى جدة عن طريق الجو ولم يحرموا، نقول لهم: ارجعوا إلى الميقات، وإن أحرمتم من جدة فعليكم الدم لمجاوزة الميقات.

الوقوف بعرفة إلى غروب الشمساً

الواجب الثاني: الوقوف بعرفة إلى الليل إن وقف نهاراً.

قال الفقهاء: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة نهاراً، ولم يدفع حتى غربت الشمس، فجمع فيها بين نهار وليل، فالذي ينصرف قبل أن تغرب الشمس يكون قد خالف السنة، وترك واجباً، فعليه دم عن تعجله، فإذا وصل إلى عرفة -مثلاً- وقت الضحى، ثم لما وصل إليها قام فيها، ولما صلى العصر خرج منها، نقول: إن رجع في الليل -يعني: بعدما غربت الشمس- إلى عرفة، وهكذا إذا جاء عرفة في النهار من مكة قبل أن تغرب الشمس فلا شيء عليه، وأما إذا استمر في ذهابه ولم يرجع فإن عليه دم جبران، أما من لم يأت عرفة إلا في الليل فلا شيء عليه؛ لحديث عروة بن مضرس .

وهذه مسألة من المسائل الاجتهادية، وينبغي الاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

المبيت بمزدلفة

الواجب الثالث: المبيت بمزدلفة إلى بعد نصفه إن وافاها قبله.

إذا جاء الحاج إلى مزدلفة قبل نصف الليل فليس له أن ينفر منها إلا بعد انتصاف الليل، فمن نفر منها قبل نصف الليل فعليه دم جبران، وأما إذا لم يأتها إلا بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وقد ذكرنا أنه يرخص للظعن والضعفة، ولكن الرخصة إنما كانت في آخر الليل، فكان الظعن والضعفة ينفرون إذا غاب القمر، والقمر في تلك الليلة -التي هي ليلة العاشر- لا يغيب إلا قرب آخر الليل، حين يبقى ربع الليل أو أقل فيغيب، فهذا هو الذي رخص له.

وقد ذكرنا أن الرخصة ليست عامة، وإنما هي للضعفة، والناس قد تساهلوا في المبيت بمزدلفة في هذه الأزمنة.

المبيت بمنى ليالي منى

الواجب الرابع: المبيت بمنى ليالي منى، وهي:

ليلة إحدى عشرة، وليلة اثنتا عشرة لمن تعجل، وليلة ثلاثة عشر لمن لم يتعجل، والمبيت بمنى هو البقاء بها طوال الليل، وهذا هو الأصل، وبعض العلماء يرخص في الاكتفاء بمبيت نصف الليل، فنرى كثيراً من الحجاج في أول الليل يفرشون لهم سجاداً على الرصيف، ويجلسون يتحدثون، ثم إذا مكثوا خمس ساعات أو أربع ساعات ركبوا سياراتهم ودخلوا مكة، وهم مستقرون هناك، فنقول: هؤلاء ما باتوا، وأصل المبيت هو النوم ليلاً، وقد يتعللون أنهم لا يجدون مكاناً في منى، وأن منى امتلأت، والجواب أن نقول لهم: اضربوا خيامكم في أقرب مكان تجدوه، سواء من جهة مكة أو من جهة مزدلفة، ولكم رخصة في ذلك، حيث إنكم فعلتم ما استطعتم، فأما أن تستأجروا شققاً أو فللاً، وتقيمون فيها نهاركم كله، وتأتون في الليل أربع ساعات أو نحوها، ثم ترجعون فيها بقية نهاركم وبقية ليلكم؛ فما أنصفتم، هذه الأيام اسمها: أيام منى، يجلس الحجاج فيها في منى ليلهم ونهارهم؛ لأنهم في هذا المشعر، فهو مشعر من المشاعر يعمر بالذكر والتلبية قبل التحلل وبعده، كما يعمر برمي الجمار والأذكار ونحوها، فكونهم يرجعون إلى مساكنهم إذا كانوا من أهل مكة، أو إلى أماكن استأجروها وكانوا من الآفاقيين؛ فهذا فيه تساهل، ونحن نفتي هؤلاء بأنهم أخطئوا، ولكن نتسامح معهم، فلا نوجب عليهم فدية.

الرمي

الواجب الخامس: رمي الجمار مرتباً

وقد ذكرنا أنه من السنن المأثورة عن إبراهيم وإسماعيل وأم إسماعيل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وقال: (خذوا عني مناسككم) .

وترتيبه: أن يبدأ بالصغرى التي تلي مسجد الخيف، ثم بالوسطى، ثم بجمرة العقبة، ويجب أن يرمي كل واحدة منها بسبع حصيات، وأن تكون السبع متعاقبات، فلا يرميها دفعة واحدة، فلو رماها دفعة واحدة كانت عن رمية واحدة فقط، ولابد أن تكون متعاقبة.

وقت الرمي في يوم العيد النهار كله، وآخر ليلة العيد للظعن، والرمي في الليل ترخص فيه بعض المشايخ نظراً للزحام، وأما في أيام التشريق فاليوم الحادي عشر من الزوال إلى الغروب، ورخص بعض مشايخنا -أيضاً- في الرمي ليلاً، وفي اليوم الثاني عشر من تعجل يرمي قبل أن تغرب الشمس حتى يخرج إذا كان متعجلاً، وأما إذا لم يكن متعجلاً فرخصوا له أن يرمي في الليل، وأما في اليوم الثالث عشر فلا يمتد الرمي إلى ليلة أربعة عشر، بل ينتهي بغروب الشمس في اليوم الثالث عشر.

الحلق أو التقصير

الواجب السادس: الحلق أو التقصير.

وقد ذكرنا أن الحلق أفضل، وأن التقصير مجزئ، ولكن لابد أن يعم الرأس، فيدور عليه كله، وإن لم يأخذ من كل شعرة.

طواف الوداع

الواجب السابع والأخير: طواف الوداع، وهو واجب إلا أنه يسقط عن الحائض والنفساء.

هذه الواجبات التي من ترك واجباً منها فعليه دم.

واجبات الحج سبعة:

الواجب الأول: الإحرام من الميقات.

إذا مر على الميقات وجب عليه أن يحرم منه، فإذا جاوز الميقات وأحرم بعدما جاوزه فعليه دم؛ لأنه ترك الإحرام من الميقات.

وكثيراً ما يقع السؤال عن الذين يذهبون إلى جدة، ثم يحرمون منها، فهؤلاء عليهم دم؛ حيث إنهم تجاوزوا الميقات، سواء كان سفرهم براً أو جواً، فيلزمهم أن يحرموا من الميقات، فيحرم -مثلاً- في الطائرة من الميقات، ولو تقدمه بخمس أو عشر دقائق جاز، ويحرم من كان في سيارة إذا مر بالميقات، وإذا قدر أنه تجاوز الميقات ووصل إلى جدة، ثم أراد أن يحرم؛ لزمه أن يرجع حتى يحرم من الميقات، فمن لم يرجع وأحرم بعدما جاوز الميقات فعليه دم، ولا يفيده رجوعه بعد الإحرام، فلو وصل -مثلاً- إلى الزيمة، ثم أحرم منها، ورجع بعد ما أحرم إلى السيل ما سقط عنه الدم، أما إذا رجع قبل أن يحرم فإن عليه أن يحرم من الميقات ولا دم عليه، وهكذا إذا وصلوا إلى جدة عن طريق الجو ولم يحرموا، نقول لهم: ارجعوا إلى الميقات، وإن أحرمتم من جدة فعليكم الدم لمجاوزة الميقات.

الواجب الثاني: الوقوف بعرفة إلى الليل إن وقف نهاراً.

قال الفقهاء: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة نهاراً، ولم يدفع حتى غربت الشمس، فجمع فيها بين نهار وليل، فالذي ينصرف قبل أن تغرب الشمس يكون قد خالف السنة، وترك واجباً، فعليه دم عن تعجله، فإذا وصل إلى عرفة -مثلاً- وقت الضحى، ثم لما وصل إليها قام فيها، ولما صلى العصر خرج منها، نقول: إن رجع في الليل -يعني: بعدما غربت الشمس- إلى عرفة، وهكذا إذا جاء عرفة في النهار من مكة قبل أن تغرب الشمس فلا شيء عليه، وأما إذا استمر في ذهابه ولم يرجع فإن عليه دم جبران، أما من لم يأت عرفة إلا في الليل فلا شيء عليه؛ لحديث عروة بن مضرس .

وهذه مسألة من المسائل الاجتهادية، وينبغي الاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.