خطب ومحاضرات
شرح أخصر المختصرات [21]
الحلقة مفرغة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[فصل في صفة الحج والعمرة.
يسن لمحل بمكة الإحرام بالحج يوم التروية، والمبيت بمنى، فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة، وكلها موقف إلا بطن عُرَنَةَ، وجمع فيها بين الظهر والعصر تقديماً، وأكثر الدعاء مما ورد، ووقت الوقوف من فجر عرفة إلى فجر النحر، ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة، ويجمع فيها بين العشاءين تأخيراً، ويبيت بها، فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام فرقاه ووقف عنده، وحمد الله وكبر وقرأ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ.. [البقرة:198] الآيتين، ويدعو حتى يسفر، ثم يدفع إلى منى، فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر، وأخذ حصى الجمار سبعين أكبر من الحمص ودون البندق، فيرمي جمرة العقبة وحدها بسبع، يرفع يمناه حتى يرى بياض إبطه، ويكبر مع كل حصاة، ثم ينحر ويحلق أو يقصر من جميع شعره، والمرأة قدر أنملة، ثم قد حلّ له كل شيء إلا النساء، ثم يفيض إلى مكة فيطوف طواف الزيارة الذي هو ركن، ثم يسعى إن لم يكن سعى وقد حل له كل شيء.
وسن أن يشرب من زمزم لما أحب، ويتضلع منه ويدعو بما ورد، ثم يرجع فيبيت بمنى ثلاث ليال، ويرمي الجمار في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال وقبل الصلاة، ومن تعجل في يومين إن لم يخرج قبل الغروب لزمه المبيت والرمي من الغد.
وطواف الوداع واجب يفعله، ثم يقف في الملتزم داعياً بما ورد، وتدعو الحائض والنفساء على باب المسجد، وسن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه.
وصفة العمرة أن يحرم بها من بالحرم من أدنى الحل، وغيره من دويرة أهله إن كان دون ميقات وإلا فمنه، ثم يطوف ويسعى ويقصر].
الإحرام من الأبطح أو منى يوم التروية
فإذا جاؤوا -مثلاً- في اليوم الرابع أو في اليوم الخامس أنهوا عمرتهم إذا كانوا متمتعين، وبنوا لهم خياماً أو استظلوا تحت شجر وأقاموا هناك إلى اليوم الثامن، ويسمى يوم التروية، فإذا كان يوم التروية أحرموا بالحج.
لماذا سمي يوم التروية؟
لأنهم يرتوون فيه من المياه -أي: يملئون- ما معهم من القرب والمزادات التي جاؤوا بها من بلادهم، يملئونها من الماء، حيث لم يكن يوجد في تلك الأزمنة الماء في منى، ولا في مزدلفة ولا في عرفة غالباً، فسموه يوم التروية.
ولعله في القرن الثاني أو الثالث عشر وجدت المياه بعمليات كان لها تأثير، واحتيج فيها إلى أتعاب ومشقة، إلى أن أوصل الماء إلى تلك الأماكن ضمن جداول يسير فيها، ويكون فيها فتحات إلى أن يمر بالمشاعر كلها، يمر بمنى وبمزدلفة وبعرفة، هذا في القديم.
ثم في عهد الحكومة اعتنت بالمياه في تلك الأماكن، وأمنتها في أيام المناسك بواسطة الأنابيب التي امتدت وصارت في كل الأماكن، والحمد لله.
وفي يوم التروية الذين كانوا قد تحللوا يحرمون بالحج، والذين بقوا على إحرامهم فما تحللوا -كالمفرد والقارن- إذا كانوا نازلين بالأبطح يتوجهون مع الحجاج إلى منى، وفي تلك الأزمنة كانت منى خالية ليس فيها أحد إلا يوم التروية وما بعده، أما في هذه الأزمنة فالمشاهد أن الأبطح وما حوله لم يبق فيه مساكن للحجاج، بل قد امتدت المباني والعمارات إلى أن وصلت إلى منى أو تجاوزت منى من الجهات الأخرى، إلا أنه منع من البناء في المشاعر، فهذه الأماكن أصبحت مملوكة، وأصبح الحجاج الذين يأتون -حتى ولو في أول الشهر- يستقرون في منى في مخيمات لهم يبنونها من حين يأتون من أول الشهر أو من اليوم الثاني أو الرابع أو الخامس، حتى الذين يأتون في اليوم السابع أو الثامن يأتون إلى منى ويستقرون فيها هذه الأيام كلها.
فعلى هذا لا يكون ليوم التروية ميزة عن الأيام التي قبله لمن كان مفرداً أو قارناً، وأما من كان متمتعاً فإنه يحرم من منى بدل أن يكان يحرم من الأبطح؛ لأنهم في منى مستقرون.
وبعض العلماء قال: يستحب أن يحرم تحت الميزاب -يعني ميزاب الكعبة-. ولكن الصواب أنه لا حاجة إلى ذلك، وأن هذا لم يرد، وأن فيه مشقة على الناس، والميزاب لا يتسع إلا لواحد أو لاثنين، فكيف يكلف مئات الآلاف أن يذهبوا إلى تحت الميزاب فيحرمون منه، والصحابة أحرموا من رحالهم وأماكنهم التي كانوا فيها.
ثم ذكروا أنه عند هذا الإحرام يفعل مثل ما فعله عند الميقات، أي: إذا تيسر له اغتسل وتنظف وتطيب، وأخذ من شعر شاربه وأظفاره إذا خاف أنها تطول وتؤذيه، وقد ذكرنا أن هذا التنظف يفعل عند الحاجة، فإذا كانت أظافره طويلة، وكذا شعر شاربه أو عانته فإنه يتعاهدها عند الإحرام، وذكرنا أن الإحرام في تلك الأزمنة كانت تطول مدته، فيخشى أن تطول هذه الأشعار والأظفار فتؤذيه، وأما في هذه الأزمنة فإن مدة الإحرام لا تطول بالعمرة، إنما هو نصف يوم أو نحوه، فإذا لم تكن طويلة فلا حاجة إلى تعاهدها، ويقال كذلك عند الإحرام بالحج.
ولا شك أنه يستحب الاغتسال؛ لأنه من باب النظافة، وقد تقدم في الأغسال المستحبة في كتاب الغسل أنه يسن الاغتسال عند الأعمال الصالحة، فقالوا: يسن الاغتسال عند الميقات، والاغتسال عند دخول مكة، والاغتسال عند إرادة الطواف بالبيت، والاغتسال عند الإحرام بالحج، والاغتسال عند الوقوف بعرفة -أي: عند دخول الوقت-، والاغتسال للوقوف بمزدلفة، والاغتسال لدخول منى، والاغتسال لرمي الجمار، والاغتسال لطواف الإفاضة، ونحو ذلك كما تقدم في باب الغسل.
وقد عرفنا أن الحكمة في الاغتسال هي النظافة، فإذا كان البدن نظيفاً والإنسان حديث عهد بنظافة فلا حاجة إلى هذه الاغتسالات، ويمكن أنهم كانوا يستحبونها لأنهم في ذلك الوقت في شدة حر لا توجد معهم مكيفات ولا مراوح كهربائية، فيشق عليهم الوقوف في شدة الشمس، فيحتاجون إلى أن يغتسلوا ليخففوا الحرارة عليهم، فهذا هو السبب، وهو أن تلك الأماكن كانت شديدة الحر، فمنى ومزدلفة وعرفة الحر فيها شديد، والشمس فيها حارة وقت الصيف، وحتى في وقت الشتاء، فلذلك أكثر الأغسال المستحبة للمشاعر.
والحاصل أنهم يحرمون في يوم التروية كإحرامهم عند الميقات، فقبل الإحرام يصلي ركعتين إذا لم يكن في وقت نهي، وينوي بها سنة وضوء أو نحو ذلك، ويسن أن يحرموا في الضحى حتى تأتي عليهم الصلوات الخمس بمنى وهم محرمون.
المبيت بمنى
القول الثاني أنه من الواجبات التي تجبر بدم، فمن ترك المبيت بمنى يوم التروية وليلة عرفه فعليه دم؛ لأنه ترك واجباً.
والقول الثالث أنه من السنن المؤكدة، والذين جعلوه من السنن -كما هو المشهور عند أحمد ، حيث لم يذكر في الأركان ولا في الواجبات- كأنهم استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج، واستدلوا -أيضاً- بحديث عروة بن مضرس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه -يعني: بمزدلفة- ووقف معنا حتى ندفع، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه) ، وهو حديث مشهور صحيح، لكن لعله عندما لم يذكر المبيت بمنى أراد أن هذا شيء معهود ومعروف مشهور، ومع آكديته والخلاف فيه نرى كثيراً يتساهلون بهذه الليلة أو بهذا اليوم -يوم الثامن- وبالأخص المطوفون، نشاهد أنهم يأخذون حجاجهم من مساكنهم لمكة في اليوم الثامن، ويتوجهون بهم إلى عرفة، ويستقرون بعرفة اليوم الثامن وليلة التاسع واليوم التاسع إلى أن تغرب الشمس في اليوم التاسع، ثم يذهبون بهم إلى منى، وهذا تساهل، أي: ترك هذا الركن أو هذا الواجب أو هذه السنة المؤكدة التي هي الإقامة بمنى في ذلك اليوم، فننتبه إلى أنه من آكد السنن -إذا قلنا: إنه سنة- أو أنه من الواجبات.
فمنى يقيمون فيها وهم محرمون، والأعمال في ذلك اليوم هي أعمال المحرمين، فيكثرون من التلبية؛ لأنهم محرمون بالحج، وكذلك يصلون فيها الرباعية قصراً ركعتين؛ لأنهم على أهبة السفر، ولا يجمعون، بل يصلون كل صلاة في وقتها، ويأتون بما أمروا به من شعائر الحج، فمن ذلك التلبية بعد كل صلاة، فعندما ينتهون من أية صلاة يرفعون أصواتهم بالتلبية، ومن ذلك -أيضاً- كثرة الذكر والدعاء؛ لأنهم قد تلبسوا بهذا الإحرام الذي هو عمل من أعمالهم الذي جاؤوا به، فلذلك يكثرون من التلبية والدعاء والذكر.
الذهاب إلى عرفة بعد طلوع شمس يوم عرفة للوقوف بها
ثم يقفون بعرفة، وكل عرفة موقف إلا بطن عُرَنَةَ، وعرفة واسعة جداً، فهي تمتد في جهة الشمال نحو أربعة كيلو متر شمال الجبل الذي هو جبل الرحمة، ومن الجهة الجنوبية نحو اثنين أو ثلاثة كيلو متر، ومن الجهة الغربية نحو ثلاثة كيلو متر، وشرق الجبل -أيضاً- قد يصل إلى الجبال الطويلة.
واختلف في نمرة هل هي من عرفة أم لا؟
فأكثر العلماء يقولون: إنها ليست من عرفة، وذلك لأنها اختصت بهم أن اسمها نمرة.
القول الثاني -ولعله الأرجح- أنها جزء من أجزاء عرفة، وقد ورد ما يدل على ذلك، فمن ذلك قوله في حديث جابر الطويل: (فلما طلعت الشمس سار حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد بنيت بنمرة) فقوله: (أتى عرفة) يعني: دخل حدود عرفة. ولا شك أن هذا دليل على أنه وصل إليها، وتكون القبة فيها وفي جزء من أجزائها يقال له: نمرة.
وهناك حديث -أيضاً- مشهور، يقولون فيه: إنه نزل بنمرة، وهو الموقف الذي يقف فيه أو ينزل فيه الإمام في عرفة. وهذا في حديث صحيح مروي في السنن وفي المسند وغيرها.
ويدل على أنها من عرفة استثناء بطن عُرَنَةَ في قوله صلى الله عليه وسلم: (عرفة كلها موقف إلا بطن عُرَنَةَ) فعرنة -أيضاً- من عرفة، إلا ما كان من البطن -يعني مجرى الوادي- فإنه ليس من عرفة فلا يوقف فيه، وفي حديث آخر قال: (عرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة) يعني: ارتفعوا عنه. فعرنة ممتدة غرباً، فهي وراء نمرة التي فيها المسجد المشهور مسجد نمرة، فنمرة بين عرفة وعرنة، فقال: (ارفعوا عن بطن عرنة) ولم يقل: وارفعوا عن نمرة. وإنما استثنى بطن عرنة، فهو دليل على أن عرفة واسعة، ويستثنى فقط البطن -أي: الوادي- الذي هو منخفض الآن، فهذا هو الذي لا يوقف فيه، وأما ما وراءه ولو مسيرة كيلو متر أو نحوه في جهة مكة وكذلك في الجهات الأخرى فإنه موقف.
والناس يتضايقون كثيراً بسبب الحدود التي قد حددت في هذه الأزمنة، ففيها شيء من التضييق، وقد حددت من جهة الجنوب، ومن جهة الغرب، ومن جهة الشمال والشرق، فصار فيها شيء من الضيق، وجعلوها من باب الاحتياط، فيأتي الناس مبكرين -قبل يوم عرفة بخمسة أيام أو بعشرة أيام- ثم يتقاسمون تلك البقعة التي هي داخل الحدود، ويبقى بقية الناس ليس لهم أماكن، فنقول: إن عرفة واسعة، وإذا لم يجد مكاناً داخل الحدود وقف ولو بعد الحدود، كما يفعلون ذلك في منى، فيقفون وراء الحدود ولا حرج عليهم؛ لأن عرفة واسعة، ولأن هذه الحدود جعلت من باب الاحتياط، ولأنهم معذورون حيث لم يجدوا مكاناً، فلذلك يرخص لهم ولا يشددوا على أنفسهم، ولا يكلفوا أنفسهم بالدخول في داخل الحدود مع عدم الحصول على أماكن متسعة لهم.
ولا يسكنون في الوادي المنخفض فقط، فأما ما حوله فلا حرج في ذلك.
الإكثار من الدعاء والتكبير والتلبية في عرفة
ثم بعد ذلك وقف على ناقته القصواء، واستمر واقفاً عليها حتى غربت الشمس، وهو رافع يديه يدعو الله تعالى، وكان وقوفه شرق الجبل الذي يقال له: (جبل الرحمة) عند الصخرات الكبار، وقال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)، وأرسل إلى بعض الصحابة الذين كانوا في مكان بعيد، وقال لهم: (الزموا أماكنكم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم)، فأقرهم على أماكنهم رغم أنهم بعيدون من جبل الرحمة، وذلك من باب التسهيل عليهم حتى لا يزدحموا في أماكن يضايق بعضهم بعضاً.
ويوم عرفة أفضل الأيام، يجتمع فيه الحجاج بعرفة، وكلهم في حالة واحدة، قد ارتدوا هذه الأكسية التي هي أكسية الإحرام، وقد كشف الرجال رءوسهم، ولبسوا هذا اللباس الموحد الذي هو أشبه بلباس الموتى، الذي هو إزار ورداء، وكذلك قد اتحدوا على هذا اللباس، وليس هناك فرق بين الغني والفقير، وبين الصغير والكبير، وبين الشريف والوضيع، وبين الأحمر والأسود والأبيض ونحوهم، بل كلهم على حالة واحدة، وفي موقف واحد، والحكمة في ذلك: أن يشعروا بأنهم سواسية، يجمعهم دين واحد، ويعبدون رباً واحداً، ويقصدون مقصداً واحداً وهو ثواب الله تعالى ورضاه وجنته والسلامة والنجاة من عذابه، فلا جرم أمروا بأن يكثروا من الأدعية التي تتيسر لهم، وليس شرطاً أن تكون مأثورة ومنقولة، بل يدعون بما أحبوا، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم استمر يدعو رافعاً يديه، واستمر في الدعاء من الساعة الواحدة -أو قريباً منها- إلى الساعة السادسة والنصف أو السابعة وهو يدعو، فست ساعات أو نحوها وهو يدعو.
وهل نقل لنا دعاؤه كله في الست الساعات؟
ما نقل لنا، مما دل على أنه أباح لكل منهم أن يدعو لنفسه، وأن يدعو بما تيسر له في هذه الحالة، فيدعو الله تعالى ويسأله خيري الدنيا والآخرة، وكذلك يكثر من التلبية -أي: يكرر التلبية- حيناً بعد حين، وكذلك يكثر من التكبير، والمأثور: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله...) إلخ، وهكذا -أيضاً- يتلو الآيات التي فيها تمجيد الله تعالى، والثناء عليه، وذكر صفاته، مثل آخر سورة الحشر، وأول سورة الحديد، وكذلك آية الكرسي، والآيتان من آخر سورة البقرة، ونحو ذلك، ويكثر من الأدعية التي في القرآن، ويرددها، ويكثر -أيضاً- مما يحفظه من الأدعية المأثورة التي في السنة، كذلك -أيضاً- يرفع يديه، وذلك لأن رفع اليدين سبب من أسباب إجابة الدعاء كما في حديث سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) يعني: خاليتين. وثبت في حديث أنه صلى الله عليه وسلم (كان رافعاً يديه يدعو وخطام الناقة بيده اليمنى، فسقط منه الخطام)، يقول الراوي: (فرأيته رافعاً يده اليسرى وقد مد يده اليمنى ليتناول الخطام)، مما يدل على أنه استمر في رفع يديه، أي: طوال ذلك الوقوف كان رافعاً يديه، وقد عرفنا أنه من أسباب إجابة الدعاء.
كذلك -أيضاً- يكثر من التلبية؛ لأنها شعار الحج، ويكثر من التكبير وما أشبه ذلك، وفي هذه الأزمنة قد لا يتيسر لهم ركوب الدواب، وقد فاتنا أن نحج على الرواحل، ولكن حدثنا آباؤنا الذين كانوا يحجون على الإبل أن الإبل يصفونها في ذاك المكان، وأنهم من طول مقامهم يدعون ويبكون في دعائهم، وأن الإبل يسيل من أعينها الدموع -أي: تدمع في ذلك الموقف- ويشاهدون ذلك، فإما أن الله تعالى ألقى عليها الهيبة والخشوع، وإما أن هذا بسبب من الأسباب.
استحباب إظهار الحاجة والفقر إلى الله يوم عرفة
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء
كأنهم يستحبون أن يأتوا بهذا الدعاء أو بهذا الشعر لأن فيه استضعافاً بين يدي الله تعالى، ولو كان الشاعر وجهه إلى آدمي، فأنت إذا قلت: يا رب! لا حاجة إلى أن أذكر حاجتي، فأنت أعلم بحاجتي، وأنت أعلم بما أحتاجه وبما أطلبه، فأعطني حاجتي من غير سؤال، فأنا أثني عليك وأذكرك وأمدحك بما أنت أهله، فيكفيني أن أمدحك وأثني عليك، ويكفي ذلك لإعطائي حاجاتي وفي قضاء حوائجي التي أنا بحاجة إليها في دنياي وفي أخراي.
ويُسمع كثير منهم ينشدون أبياتاً -أيضاً- فيها شيء من التذلل والاستضعاف، مثل قول بعضهم:
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في نحرها والمخ من تلك العظام النحل
امنن علي بتوبة تمحو بها ما كان مني في الزمان الأول
فلا شك أن هذا موطن دعاء، وأنه الذي يباهي الله تعالى فيه بهم ملائكته، كما ورد في الحديث أن الله تعالى يقول: (يا ملائكتي! انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً، ضاحين من كل فج عميق، يدعونني، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم ووهبت مسيئهم لمحسنهم، انصرفوا مغفوراً لكم) أو كما ورد، فوصفوا أنهم شعث غبر، أي: أنهم من طول بعدهم عن التنعم والترفه صارت رءوسهم منتفشة، وصارت وجوههم مغبرة، فصاروا شعثين، فكان ذلك أقرب إلى انكسار قلوبهم وإلى رغبتهم في فضل ربهم سبحانه وتعالى.
واستطردنا هنا لأنه مما يغلط فيه كثير من الناس، ونشاهد أن الكثير في يوم عرفة كأنهم في بلادهم، يخوضون ويتكلمون فيما بينهم، ويضحكون، وليس لهم إلا أنهم عاكفون، وكأن هذا الموقف كسائر المواقف، ولا شك أن هذا خطأ، وأن الواجب عليهم أن يجعلوه يوم عبادة، لا يوم عادة، ولا يوم ضحك، ولا يوم خوض في الشيء الذي لا أهمية له ولا فائدة فيه، بل من حين يصلون صلاة الظهر إلى أن تغرب الشمس يشتغل كل فرد بنفسه، فيدعو بما تيسر من الأدعية، ويدعو بما يحفظه، وكتب الأدعية متوافرة والحمد لله، أعني الكتب التي فيها أدعية وأذكار، مثل الكلم الطيب لـابن تيمية ، والوابل الصيب -أيضاً- لـابن القيم ، والأذكار للنووي ، وغيرها من الكتب التي تذكر فيها الأدعية العامة والخاصة، ومثلها -أيضاً- كتب متأخرة، وأفضلها الذكر الذي جمعه واختاره الملك عبد العزيز، ويسمى "الورد المصفى المختار" يبدأ منه بما تيسر.
ووقت الوقوف بعرفة من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر، فمن جاء فوقف في أول النهار بعد الفجر صدق عليه أنه وقف بعرفة، ودليل هذا في حديث عروة بن مضرس قوله: (وقد وقف قبل ذلك بعرفة ساعة من ليل أو نهار) هكذا ذكر: (ساعة من ليل أو نهار) كلمة (أو نهار) تعم النهار كله، أي: من طلوع الشمس إلى غروبها. وكذلك قوله: (من ليل) تعم ليلة النحر كلها، أي: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. فمن وقف في هذا كله ولو ساعة فإنه يعتبر قد وقف بعرفة.
وقد بالغ العلماء في ذلك حتى قال بعضهم: لو مر بعرفة وهو محرم ولكنه غافل لم يشعر بأنها عرفة، سار منها حتى قطعها في ليلة النحر، أو في يوم عرفة صح وقوفه بها، حتى ولو كان نائماً أو غافلاً إذا كان قد عقد الإحرام.
وهناك قول آخر: أن وقت الوقوف من الزوال، أي: بعد زوال الشمس يكون الوقوف.
وهذا القول يستدلون عليه بأنه صلى الله عليه وسلم ما وقف إلا بعد الزوال وبعدما صلى الصلاتين، وهذا القول هو الذي نصره كثير من المتأخرين، وقالوا: من وقف بعرفة في أول النهار فلا يعتد بوقوفه إذا خرج منها قبل أن تزول الشمس، ولا يكون كأنه وقف فيها، ولا يكون قد تم حجه.
ولكن لعل القول الأول هو الأولى، أن يوم عرفة كله من طلوع الشمس إلى طلوع الفجر يوم النحر، وأن الجميع كله وقت للوقوف؛ لما ذكرنا من حديث عروة بن مضرس وغيره.
الدفع إلى مزدلفة بعد غروب الشمس
وكانت المسافة بين عرفة ومزدلفة تستغرق بسير الأقدام أو بسير الإبل ساعتين، ومع السير المتوسط ساعتين ونصف، فكانوا يسيرون سيراً سريعاً أو سيراً متوسطاً، فلما وصلوا كان قد دخل وقت العشاء؛ إذ وصلوا بعد ساعتين من غروب الشمس أو بعد ساعتين ونصف، فجمعوا بين العشاءين جمع تأخير، ولعل السبب أنهم قد طال وقوفهم، وأحبوا المبيت لطول المسافة ومشقة السير؛ لأنهم على رواحلهم من الساعة الواحدة بعد الظهر حتى الساعة التاسعة من الليل تقريباً، ولا شك أن هذا زمن طويل، فهو ثمان ساعات شقوا على أنفسهم فيها، فلما وصلوا إلى مزدلفة أناخوا رواحلهم وحطوا رحالهم، ثم صلوا العشاءين وأراحوا أنفسهم.
وفي هذه الأزمنة يحصل اختلاف عما كانوا عليه في الزمان القديم، والواقع أن بعض الناس يسيرون سيراً سريعاً من عرفة، ففي مدة أربع أو خمس دقائق يصلون إلى مزدلفة، فكيف يصلون؟ نقول: يصلون جمع تقديم، ولا يلزمهم أن يؤخروا إلى وقت العشاء؛ لأنه ورد أنهم يُصلُّون ساعة أن يَصِلُوا.
وآخرون بضد ذلك، فمن شدة الزحام قد لا يصلون إلا نصف الليل أو بعد مضي ثلث الليل أو في آخر الليل، فيصلون -أيضاً- إذا وصلوا، ويمكن أن بعضهم قد يخشون طلوع الفجر وما وصلوا، فهؤلاء يصلون في الطريق، ومن المشايخ من يقول: يصلون في الطريق إذا خشوا أن يفوت وقت الاختيار. يعني: إذا مضى نصف الليل وهم ما وصلوا فيصلون في الطريق.
وكيف يصلون والسيارات مزدحمة أمامهم وخلفهم وعن الجانبين؟
المشاهد أنهم قد يقفون في الموقف الواحد نصف ساعة أو ثلث ساعة ثم يتحركون، والمشاهد -أيضاً- أنهم في نصف الساعة يقطعون مسافة عشرة أمتار أو نحوها، فإذا وقفوا في هذه الوقفة نزلوا ذكوراً وإناثاً، والأرض واسعة، فيصلون فيها الصلاة جمعاً أو قصراً الصلاة، حتى لا يؤخروها عن وقتها.
والسائق إذا رجعوا نزل وقاد السيارة واحد غيره إلى أن يصلي مع من بقي، هذا هو الذي أفتى به مشايخنا، فالحاصل أنهم إذا أَمَّلوُا أن يصلوا قبل نصف الليل أو بعد نصف الليل بقليل -وقيل: إلى ثلثي الليل- أخروها إلى أن يصلوا، وإلا صلوها في الطريق حتى لا يفوت وقتها.
المبيت بمزدلفة
والأكثرون على أنه من الواجبات التي إذا تركت جبرت بدم.
والآن يحصل أن كثيراً يفوتهم المبيت بمزدلفة لأجل الزحام، فيتوجهون من عرفة، ولشدة الزحام قد لا يصلون إلى مزدلفة إلا بعد الصباح، فهل عليهم دم والحال هذه؟
نرى أنه لا دم عليهم، وذلك لأنهم بذلوا وسعهم وتوجهوا كما توجه غيرهم، ولم يستطيعوا فعل أكثر مما حصل، وإذا كان بعضهم أقوياء يستطيعون مواصلة السير إذا رأوا أن السير يتأخر بهم فاستطاعوا أن يواصلوا السير بأقدامهم مسيرة ساعة أو ساعة ونصف حتى يصلوا إلى مزدلفة فهو أفضل، والعجزة والنساء ونحوهم يسقط عنهم بقدر ما بذلوه من الجهد.
وفي مزدلفة يقع خطأ من كثير من الذين يتعجلون، وهو أن كثيراً منهم يجلسون فيها ساعة أو ساعة ونصفاً، ثم يسيرون إلى منى، وهذا خطأ، وكثير من الناس إذا كان نصفهم أو ثلثهم نساء ادعوا أن لهم عذراً، فيجلسون ساعة أو ساعة ونصفاً ثم يتوجهون إلى منى، ولا شك أنه قد وردت الرخصة للنساء والعجزة كما جاء: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لـ
كذلك رخص لبعض الشباب أن يذهبوا مع بعض النساء، ومنهم ابن عباس رضي الله عنه، يقول: إنه من جملة الذين أذن لهم أن ينفروا آخر الليل، ولكنه جعل يضرب أفخاذه ويقول: (أي بني! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) فدل على أنه رخص لهؤلاء، ولا تكون الرخصة عامة للناس كلهم، فيتنبه إلى أن الأصل المبيت بمزدلفة إلى الصباح، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه.
صلاة الصبح وإتيان المشعر الحرام
ويكثر من الدعاء حتى يسفر، وإذا لم يتيسر لبعد المكان فإن مزدلفة كلها موقف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف) و(جمع) هي مزدلفة، يعني أن كلاً منهم وقف في مكانه، فيصلون في أماكنهم، ويدعون الله تعالى حتى يسفروا، وكان المشركون يقفون بمزدلفة إلى أن تشرق الشمس على ثبير -الجبل المرتفع الذي يقع شرق شمال مزدلفة- فيقولون: أشرق ثبير كيما نغير. فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأفاض من مزدلفة قبل أن تشرق الشمس، أي: بعدما أسفر جداً.
السير إلى منى
فإذا وصلوا إلى وادي محسر أسرعوا رمية حجر، ووادي محسر حاجز وفاصل بين منى ومزدلفة، وليس هو من المشاعر، وقدر رمية الحجر يمكن أنه -مثلاً- عشرة أمتار، والآن قد حددوه، ولكن زعموا أنه أربعون متراً من باب الاحتياط، وإلا فهو قدر رمية حجر، أي: قدر ما يأخذ الإنسان حجراً ويرمي به. والعادة أنه إذا رمى به يمتد نحو عشرة أمتار أو خمسة عشر متراً، فهم من باب الاحتياط جعلوا له حدوداً من جهتيه.
إذاً النبي عليه الصلاة والسلام أسرع فيه السير براحلته، وذلك لأنه الوادي الذي تحسر فيه فيل أبرهة، والذي أنزل عليهم فيه الطير الأبابيل تحمل حجارة من سجيل، فهذا واد قد نزل فيه هذا العذاب، ولكن مع ذلك الناس في هذه الأزمنة لشدة زحامهم يسكنون فيه، ويكون مستقراً لكثير منهم لعدم المساكن، فيعذرون بذلك، وأيضاً لا يتيسر الإسراع فيه، وذلك لشدة الزحام، لا إسراع السيارة ولا إسراع الراجلين.
قوله: [وأخذ حصى الجمار سبعين، أكبر من الحمص ودون البندق].
حصى الجمار تؤخذ من أي مكان، ولكن كثيراً من الفقهاء ينصون على أنه يؤخذ من مزدلفة، فكانوا يأخذون من مزدلفة سبعين حصاة، سبعاً ليوم العيد، والثلاثة الأيام التي بعدها لكل يوم إحدى وعشرون، والصحيح أنه يؤخذ من كل مكان، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أخذ من مزدلفة إلا سبعاً، قال للفضل بن عباس : (ناولني سبع حصيات. يقول: فناولته حصيات مثل حصى الخذف -أو هن حصى الخذف- فقال: بمثل هذا فارموا عباد الله، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، وحصى الخذف هي الحصاة التي يجعلها بين إصبعين ثم يخذف بها، أي: يرمي بها صيداً أو نحو ذلك كالعصفور أو نحوه، وهو الذي ورد فيه أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن الخذف، وقال: إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً، ولكنها تفقأ العين وتكسر السن).
فحصى الخذف: الحصيات التي هي قدر نواة التمر أو أصغر، أو قدر حبة الفول أو قريباً منها.
والحمص هو المعروف الذي يؤكل، ويسمى القريض، والبندق نبت أكبر منه، وهو نبت شيء من الشجر عليه قشرة.
فيكون هذا مقدار الحصى التي يرمى بها.
الوصول إلى منى ورمي الجمار
والرمي قيل: إنه من سنة إبراهيم أو إسماعيل. وسببه -كما ذكر في مسند أحمد-: أن الشيطان اعترض لإبراهيم عند الجمرة الكبرى لما أراد أن يذبح ولده، فرجمه، ثم اعترض لإسماعيل عند الجمرة الوسطى فرجمه، ثم اعترض هاجر أم إسماعيل عند الجمرة الصغرى فرجمته، هكذا ورد في ذلك الحديث.
ورجمنا لهذه الحجارة المنصوبة ليس هو رجم للشيطان كما يعتقده بعض العامة، وإنما هو لتذكر عداوة الشيطان، إذا عرفنا عداوته لأبينا آدم ثم لأبينا إبراهيم فإننا نأخذ حذرنا من إغوائه لنا ومن طواعيته، ومع ذلك فإن شرعية هذا الرمي لإقامة ذكر الله، هكذا ورد في حديث عن عائشة قالت: (إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) ولأجل ذلك يكبر مع كل حصاة حال الرمي في يوم العيد وفي الأيام التي بعده، فكلما رمى حصاة كبر معها بقوله: (الله أكبر). وقيل: إنه يسمي. أي: باسم الله، الله أكبر. وبعضهم يقول: غضباً للشيطان. أو: نعوذ بالله من الشيطان. وما أشبه ذلك، ولكن التكبير هو الذي ورد.
وذكروا أنه يرفع يمناه حتى يرى بياض إبطه؛ لأنه لم يزل محرماً، فيرفع يده من تحت الرداء، فإذا ارتفعت ارتفع الرداء، فيرى بياض إبطه من شدة رفعه.
نحر الهدي
الحلق أو التقصير
والمرأة تقصر من كل ضفيرة قدر أنملة، وقد كان النساء يجعلن رءوسهن ضفائر -أي: قروناً-، فقد يكون رأسها -مثلاً- ثلاثة قرون أو خمسة أو ستة، فتمسك كل قرن وتقص منه قدر أنملة، أي: قدر خصلة من خصال الإصبع، ويكون هذا هو التقصير في حقها.
وليس على النساء حلق، وإنما عليهن التقصير، وأما الرجل فإن الحلق أفضل، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاث مرات، والمقصرين واحدة.
فإذا رمى جمرة العقبة وحلق أو قصر حل له كل شيء إلا النساء، ويسمى هذا التحلل الأول، والتحلل الأول يدخل بفعل اثنين من ثلاثة، وفي يوم العيد يفعل أربعة أشياء: الرمي، والنحر، والحلق، والطواف، ولم يعدوا النحر من أسباب التحلل؛ لأنه ليس عاماً، وكثير من الناس ليس عليهم هدي إذا كانوا مفردين، فيكون عليهم الرمي والحلق والطواف؛ ولأجل ذلك جعلت هذه الثلاثة هي أسباب التحلل، فإذا فعل اثنين منها فقد تحلل التحلل الأول، وإذا رمى وحلق بقي عليه الطواف، فإذا فعل الثلاثة حل التحلل كله، ولو بدأ بالطواف ثم بالحلق وبقي عليه الرمي فقد حل التحلل الأول، كذلك لو رمى وطاف ولم يحلق أحل له كل شيء إلا النساء، فإذا فعل الثلاثة حل له كل شيء حتى النساء.
طواف الإفاضة والسعي
وطواف الزيارة معروف أنه ركن من أركان الحج كما يأتي، وإذا كان عليه سعي فإنه يسعى، والمتمتع لا شك أن عليه سعيين: سعي مع طواف العمرة، وسعي مع طواف الحج.
وأما القارن والمفرد فليس عليهما إلا سعي واحد، فإن قدمه بعد طواف القدوم سقط عنه بعد طواف الزيارة، وإن لم يسعَ بعد طواف القدوم بقي عليه السعي، فيأتي به بعد طواف الزيارة -أي: طواف الإفاضة-، ولا يصح السعي إلا بعد طواف مشروع، ويجوز الفصل بينهما فصلاً يسيراً كنصف يوم، فلو طاف في أول النهار في الساعة السابعة صباحاً مثلاً، ولم يسع إلا في الساعة الثانية عشرة أو الثالثة عصراً أجزأه ذلك، وأما إذا أخره إلى الليل فالمشهور أنه يعيد الطواف حتى يكونا متواليين.
وهل يجوز تقديم السعي على الطواف؟
أجاز ذلك بعض المشايخ، والجمهور على أنه لا يجوز، وكان مشايخنا الأولون يشددون فيقولون: لا يجوز تقديم السعي على الطواف اقتداءً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف ثم سعى.
الشرب من ماء زمزم
وبئر زمزم هي البئر القديمة التي نبعت على عهد أم إسماعيل، وورد أن (ماء زمزم لما شرب له) يعني: إذا شربه المسلم ونوى به شفاءً أو علماً أو رزقاً أو نحو ذلك فإن الله يعطيه ما نواه، ومما ورد من الأدعية أن يقول: اللهم! اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً وشبعاً، وشفاءً من كل داء، واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك وحكمتك أو ما أشبه ذلك، يدعو بهذا أو يدعو بغيره.
المبيت بمنى ثلاث ليال
وفي أيام منى ذكر الحديث: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) ومنع من صيامها إلا لمن لم يجد الهدي كما تقدم، وفي أيام منى -أيضاً- يكثر الحجاج من الذكر والتكبير، فيكبرون بعد كل صلاة التكبير المقيد، وكان بعض الصحابة ومنهم عمر رضي الله عنه يكبرون فيها تكبيراً مطلقاً، فكان إذا كان في خيمته رفع صوته بالتكبير حتى ترتج منى تكبيراً.
رمي الجمار الثلاث أيام منى
وهذا الرمي واجب -كما سيأتي- من الواجبات، وفي هذه الأيام يرمي كل جمرة بسبع حصيات، يبدأ بالصغرى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة.
يقول: الرمي وقته من الزوال إلى غروب الشمس. هذا هو المجمع عليه، واختلفوا في الرمي ليلاً، وأجاز ذلك بعض العلماء المتأخرين، فأجازوا أن يرمي يوم العيد ليلاً إذا لم يتمكن من الرمي في النهار ولو إلى آخر الليل، وفي اليوم الحادي عشر أن يرمي ولو في آخر الليل، وأما في اليوم الثاني عشر فإن كان سوف يتعجل فإنه يرمي قبل غروب الشمس، ويخرج قبل غروب الشمس حتى لا يلزمه المبيت، وإن كان لا يتعجل فله أن يؤخر الرمي إلى الليل، وله أن يرميه طوال الليل، وأما اليوم الثالث عشر فلا يجوز تأخيره إلى ما بعد الغروب، بل يرميه قبل أن تغرب الشمس؛ لأن أيام التشريق تنتهي بغروب الشمس في اليوم الثالث عشر، وبها ينتهي أعمال الحج.
ومن تعجل في يومين خرج قبل غروب الشمس في اليوم الثاني عشر، فإن غربت عليه الشمس بعدما ركب الطريق فله أن يواصل خروجه.
مثاله: لو حمل رحله وخيمته على سيارته ثم سار، ولشدة الزحام غربت الشمس وهو لم يخرج من منى، نقول له: اخرج. فأما إذا غربت عليه الشمس ورحله ما يزال في الأرض فإننا نقول له: بت هذه الليلة، وارمِ الجمرة في اليوم الثالث عشر؛ فإنك ما تعجلت، وقد أدركتك ليلة الثالث عشر.
طواف الوداع
ولو أخر طواف الزيارة وطافه عند الخروج بالنية كفاه عن طواف الوداع، حيث صدق عليه أنه جعل آخر عهده بالبيت.
الوقوف بالملتزم بعد طواف الوداع
وعندما يخرج لا يلزمه أن يمشي القهقرى كما يفعل بعضهم، بل يمشي على حالته.
والحائض لا تدخل البيت ولكن تقف بالباب وتدعو بما تيسر، فالحائض والنفساء ممنوعتان من دخول المسجد.
زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
ولكن الصحيح أن الزيارة للمسجد، فينوي بزيارة المدينة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وذ
تذكر صفة الحج مع الاختصار، وذلك لأن الحجاج عادة يأتون ثم ينزلون بالأبطح، والأبطح وما حوله في تلك الأزمنة كان فيه متسع، ولم تمتد إليه المباني، فكان الحجاج ينزلون هناك.
فإذا جاؤوا -مثلاً- في اليوم الرابع أو في اليوم الخامس أنهوا عمرتهم إذا كانوا متمتعين، وبنوا لهم خياماً أو استظلوا تحت شجر وأقاموا هناك إلى اليوم الثامن، ويسمى يوم التروية، فإذا كان يوم التروية أحرموا بالحج.
لماذا سمي يوم التروية؟
لأنهم يرتوون فيه من المياه -أي: يملئون- ما معهم من القرب والمزادات التي جاؤوا بها من بلادهم، يملئونها من الماء، حيث لم يكن يوجد في تلك الأزمنة الماء في منى، ولا في مزدلفة ولا في عرفة غالباً، فسموه يوم التروية.
ولعله في القرن الثاني أو الثالث عشر وجدت المياه بعمليات كان لها تأثير، واحتيج فيها إلى أتعاب ومشقة، إلى أن أوصل الماء إلى تلك الأماكن ضمن جداول يسير فيها، ويكون فيها فتحات إلى أن يمر بالمشاعر كلها، يمر بمنى وبمزدلفة وبعرفة، هذا في القديم.
ثم في عهد الحكومة اعتنت بالمياه في تلك الأماكن، وأمنتها في أيام المناسك بواسطة الأنابيب التي امتدت وصارت في كل الأماكن، والحمد لله.
وفي يوم التروية الذين كانوا قد تحللوا يحرمون بالحج، والذين بقوا على إحرامهم فما تحللوا -كالمفرد والقارن- إذا كانوا نازلين بالأبطح يتوجهون مع الحجاج إلى منى، وفي تلك الأزمنة كانت منى خالية ليس فيها أحد إلا يوم التروية وما بعده، أما في هذه الأزمنة فالمشاهد أن الأبطح وما حوله لم يبق فيه مساكن للحجاج، بل قد امتدت المباني والعمارات إلى أن وصلت إلى منى أو تجاوزت منى من الجهات الأخرى، إلا أنه منع من البناء في المشاعر، فهذه الأماكن أصبحت مملوكة، وأصبح الحجاج الذين يأتون -حتى ولو في أول الشهر- يستقرون في منى في مخيمات لهم يبنونها من حين يأتون من أول الشهر أو من اليوم الثاني أو الرابع أو الخامس، حتى الذين يأتون في اليوم السابع أو الثامن يأتون إلى منى ويستقرون فيها هذه الأيام كلها.
فعلى هذا لا يكون ليوم التروية ميزة عن الأيام التي قبله لمن كان مفرداً أو قارناً، وأما من كان متمتعاً فإنه يحرم من منى بدل أن يكان يحرم من الأبطح؛ لأنهم في منى مستقرون.
وبعض العلماء قال: يستحب أن يحرم تحت الميزاب -يعني ميزاب الكعبة-. ولكن الصواب أنه لا حاجة إلى ذلك، وأن هذا لم يرد، وأن فيه مشقة على الناس، والميزاب لا يتسع إلا لواحد أو لاثنين، فكيف يكلف مئات الآلاف أن يذهبوا إلى تحت الميزاب فيحرمون منه، والصحابة أحرموا من رحالهم وأماكنهم التي كانوا فيها.
ثم ذكروا أنه عند هذا الإحرام يفعل مثل ما فعله عند الميقات، أي: إذا تيسر له اغتسل وتنظف وتطيب، وأخذ من شعر شاربه وأظفاره إذا خاف أنها تطول وتؤذيه، وقد ذكرنا أن هذا التنظف يفعل عند الحاجة، فإذا كانت أظافره طويلة، وكذا شعر شاربه أو عانته فإنه يتعاهدها عند الإحرام، وذكرنا أن الإحرام في تلك الأزمنة كانت تطول مدته، فيخشى أن تطول هذه الأشعار والأظفار فتؤذيه، وأما في هذه الأزمنة فإن مدة الإحرام لا تطول بالعمرة، إنما هو نصف يوم أو نحوه، فإذا لم تكن طويلة فلا حاجة إلى تعاهدها، ويقال كذلك عند الإحرام بالحج.
ولا شك أنه يستحب الاغتسال؛ لأنه من باب النظافة، وقد تقدم في الأغسال المستحبة في كتاب الغسل أنه يسن الاغتسال عند الأعمال الصالحة، فقالوا: يسن الاغتسال عند الميقات، والاغتسال عند دخول مكة، والاغتسال عند إرادة الطواف بالبيت، والاغتسال عند الإحرام بالحج، والاغتسال عند الوقوف بعرفة -أي: عند دخول الوقت-، والاغتسال للوقوف بمزدلفة، والاغتسال لدخول منى، والاغتسال لرمي الجمار، والاغتسال لطواف الإفاضة، ونحو ذلك كما تقدم في باب الغسل.
وقد عرفنا أن الحكمة في الاغتسال هي النظافة، فإذا كان البدن نظيفاً والإنسان حديث عهد بنظافة فلا حاجة إلى هذه الاغتسالات، ويمكن أنهم كانوا يستحبونها لأنهم في ذلك الوقت في شدة حر لا توجد معهم مكيفات ولا مراوح كهربائية، فيشق عليهم الوقوف في شدة الشمس، فيحتاجون إلى أن يغتسلوا ليخففوا الحرارة عليهم، فهذا هو السبب، وهو أن تلك الأماكن كانت شديدة الحر، فمنى ومزدلفة وعرفة الحر فيها شديد، والشمس فيها حارة وقت الصيف، وحتى في وقت الشتاء، فلذلك أكثر الأغسال المستحبة للمشاعر.
والحاصل أنهم يحرمون في يوم التروية كإحرامهم عند الميقات، فقبل الإحرام يصلي ركعتين إذا لم يكن في وقت نهي، وينوي بها سنة وضوء أو نحو ذلك، ويسن أن يحرموا في الضحى حتى تأتي عليهم الصلوات الخمس بمنى وهم محرمون.
وأما مبيتهم بمنى ليلة عرفة فقد اختلف في حكمه، والصحيح أنه مستحب ومؤكد، وذهب بعض العلماء إلى أنه ركن، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته باتوا بمنى ليلة عرفة، توجهوا إلى منى كلهم من الأبطح، ونزل بمنى كل الحجاج الذين معه، وأقاموا بمنى حتى طلعت الشمس في اليوم التاسع، ثم توجهوا إلى عرفة، وهو صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم: (خذوا عني مناسككم) يعلمهم ذلك دائماً. ولا شك أن هذا دليل على أن أفعاله التي فعلها من مشاعر الحج، فلذلك قال بعض العلماء: إن المبيت بمنى من الأركان، ولا يتم الحج إلا به.
القول الثاني أنه من الواجبات التي تجبر بدم، فمن ترك المبيت بمنى يوم التروية وليلة عرفه فعليه دم؛ لأنه ترك واجباً.
والقول الثالث أنه من السنن المؤكدة، والذين جعلوه من السنن -كما هو المشهور عند أحمد ، حيث لم يذكر في الأركان ولا في الواجبات- كأنهم استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج، واستدلوا -أيضاً- بحديث عروة بن مضرس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه -يعني: بمزدلفة- ووقف معنا حتى ندفع، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه) ، وهو حديث مشهور صحيح، لكن لعله عندما لم يذكر المبيت بمنى أراد أن هذا شيء معهود ومعروف مشهور، ومع آكديته والخلاف فيه نرى كثيراً يتساهلون بهذه الليلة أو بهذا اليوم -يوم الثامن- وبالأخص المطوفون، نشاهد أنهم يأخذون حجاجهم من مساكنهم لمكة في اليوم الثامن، ويتوجهون بهم إلى عرفة، ويستقرون بعرفة اليوم الثامن وليلة التاسع واليوم التاسع إلى أن تغرب الشمس في اليوم التاسع، ثم يذهبون بهم إلى منى، وهذا تساهل، أي: ترك هذا الركن أو هذا الواجب أو هذه السنة المؤكدة التي هي الإقامة بمنى في ذلك اليوم، فننتبه إلى أنه من آكد السنن -إذا قلنا: إنه سنة- أو أنه من الواجبات.
فمنى يقيمون فيها وهم محرمون، والأعمال في ذلك اليوم هي أعمال المحرمين، فيكثرون من التلبية؛ لأنهم محرمون بالحج، وكذلك يصلون فيها الرباعية قصراً ركعتين؛ لأنهم على أهبة السفر، ولا يجمعون، بل يصلون كل صلاة في وقتها، ويأتون بما أمروا به من شعائر الحج، فمن ذلك التلبية بعد كل صلاة، فعندما ينتهون من أية صلاة يرفعون أصواتهم بالتلبية، ومن ذلك -أيضاً- كثرة الذكر والدعاء؛ لأنهم قد تلبسوا بهذا الإحرام الذي هو عمل من أعمالهم الذي جاؤوا به، فلذلك يكثرون من التلبية والدعاء والذكر.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح أخصر المختصرات [28] | 2718 استماع |
شرح أخصر المختصرات [72] | 2608 استماع |
شرح أخصر المختصرات [87] | 2572 استماع |
شرح أخصر المختصرات [37] | 2486 استماع |
شرح أخصر المختصرات [68] | 2350 استماع |
شرح أخصر المختصرات [81] | 2341 استماع |
شرح أخصر المختصرات [58] | 2334 استماع |
شرح أخصر المختصرات [9] | 2321 استماع |
شرح أخصر المختصرات [22] | 2271 استماع |
شرح أخصر المختصرات [45] | 2265 استماع |